محاكمة الدستور والمجتمع...

214
م ت ح ي ح ص ت ل ا ب ج ر1433 ه= ى ل ا ص121 ة ي ث لا ث ع م ت ح م ل ا ى+ ن مد ل ا اق+ ف+ خ وا رب+ لغح ا ا ج+ ن ر س> ن ع بْ رُ لغ ا( و بF ا ال ل ث) د ب ع لة ل ا جامد ل ا+ اذ ب سF ا ذبF لا ا ق ب سا ل ا ي+ ف عة م ا ج+ اص رث ل ا ام/ث م لا ا راب+ ض جا م لاب ا ف م و ة+ خ س+ ن دة ث+ ر م خة ق+ ن م و عدة م عة ن لط ة ي+ ث ا ث ب ع ن ط( ذار وم ل ع ل ا ة يo ث ر لغ ا اب ب ك ل ا ة ي ع ن ط ى ل وF لا ا1425 ه=2004 ) م ر ك ش0

Upload: others

Post on 01-Jan-2020

7 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

محاكمة الدستور والمجتمع المدني

تم التصحيح رجب1433هـ= إلى ص 121

ثلاثية المجتمع المدني

عن سر نجاح الغرب وإخفاق العُرْب

( أبو بلال)عبد الله الحامدأستاذ الأدب السابق في جامعة الإمام/بالرياض

محاضرات ومقالات

نسخة مزيدة ومنقحة معدة لطبعة ثانية

(طبعت دار العلوم العربية الكتاب طبعته الأولى 1425هـ=2004م)

شــــكــــر

أشكر رفاق سفينة الجهاد السلمي،للعبور من (الحكم العضوض) إلى (الحكم الشوري)الذين انطلقوا في المملكة العربية السعودية، في أعقاب حرب الخليج الثانية، سنة 1411هـ(1990م)، الذين زودوني بملاحظاتهم على هذا الكتيب. وخاصة الذين همشوا ما لديهم من ملاحظات، على مسودته سنة 1414هـ ( 1993م )،على أن شكرهم لا يلزم منه تبعة أحد منهم عن أي شيء فيه.

-وأخص بالذكر منهم رفيق السجن والحقوق الصديق الصدوق الدكتور متروك الفالح أستاذ علم السياسة المقارن في جامعة الرياض

نواة هذا الكتاب: ثلاث محاضرات

في مناطق السعودية الثلاث

ومقالات في جريدة الحياة اللندنية

مابين عامي 1417هـ و1423هـ

فاتحة:

لماذا غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم اسم (يثرب) إلى (المدينة)، ونهى صحابته الكرام رضي الله عنهم؛ عن تسميتها بعد ذلك بالاسم القديم (يثرب)؟، وطلب منهم الهجرة من البادية إلى المدينة.

كان ذلك دلالة رمزية، إلى أن الحياة (المدنية) من نسيج الإيمان، وأنها من صلب تعاليم الشريعة، وإشارة إلى تدشين مجتمع مدني إسلامي، يهاجر أهله من طباع البادية الوحشية إلى طباع الحاضرة الراقية، وما فيها من سمو السلوك.

المقالة الأولىأساس الحكم العدل.. فكيف يضمن العدل؟

أ – سبب الإشارة:

غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم اسم (يثرب) إلى (المدينة)، ونهى صحابته الكرام رضي الله عنهم؛ عن تسميتها بعد ذلك بالاسم القديم (يثرب)؟، وطلب منهم الهجرة من البادية إلى المدينة.

كان تغيير اسم البلد دلالة رمزية واضحة محددة المفهوم ، إلى أن الحياة (المدنية) من نسيج الإيمان، وأنها من صلب تعاليم الشريعة، وإشارة إلى تدشين مجتمع مدني إسلامي، يهاجر أهله من طباع البادية الوحشية إلى طباع الحاضرة الراقية، وما فيها من سمو السلوك.

هذا المفهوم أدخله الإسلام ضمن معاني كلمات (التقوى) و(الإيمان) و(الشريعة)، وطبق في العهد النبوي والراشدي، لولا أن طباع الصحراء اغتالته، عندما انقضت على الخلافة الراشدة، وكان ينبغي لأجدادنا أن يستوعبوا أن سبب سقوط الخلافة الراشدة؛ هو هشاشة التجمعات الأهلية المدنية وبساطتها، فيكون درس سقوط الخلافة الراشدة، حادياً لهم إلى تجسيد التجمعات المدنية، بصفتها من وسائل تطبيق مبادئ الشريعة عامة، ومبدأي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و (التعاون على البر والتقوى) خاصة، فيفصّلوا نظريته، ويقيموا هياكله. ولكنهم تركوه وراءهم ظهرياً، ونسوا ما ذكروا به، فأجرى الله عليهم سننه الاجتماعية، التي لا تحابي مؤمناً، ولا تعادي كافراً.

ذلك مفتاح النهوض والاستقرار الذهبي، كسره أجدادنا وأضاعوه، وجهلنا قدره اليوم، فصار أكثر الناس جهلاً به أو حرباً عليه، هم مثقفو الدين، على الرغم من أننا أحوج ما نكون إليه:

قد تنكر العيـن ضوء الشمس من رمـد×

وينكـر الفـم طعـم المـاء من سقـم

ب - كيف يضمن عدل الدولة؟

كيف تكون الدولة عادلة؟ تصبح بإقرار الحقوق اجتماعية واقتصادية ومدنية وثقافية، للناس أفراداً وجماعات ومجتمعاً. فكيف تضمن هذه الحقوق؟ تضمن بالحكم الدستوري، الذي يقرر أن السلطة في تحقيق مقاصد الشريعة، إنما هي للأمة، كما نص إبن تيمية والرازي، لا للأمراء والفقهاء. والحيلولة دون استبداد السلطان بتوزيع عبء إدارة الدولة على ثلاثة أعمدة أو فروع: سلطة نيابية وسلطة قضائية وسلطة تنفيذية مع الفصل (المرن) بين السلطات الثلاث. ضماناً لنشوء الشورى النيابية، ونزاهة وعدالة القضاء أي (استقلال القضاء).

ما الطريق المضمون المأمون للوصول إلى هذه الغاية؟ إنها الوصفة الطبية المجربة في كل مكان وزمان: المجتمع المدني قيماً وتكتلات أهلية، وفصلاً بين سلطات الدولة الثلاث.

ما المجتمع المدني؟ ما قيمه وتكتلاته الأهلية؟ ما طبيعته؟ ما وظيفته؟ كيف تتجسد حيوية المجتمع المدني؟

يحاول البحث الاقتراب من هذه الأسئلة وتلمّس الجواب.

فهذا البحث محاولة للتعريف بمفهوم المجتمع المدني: قيماً وتجمعات أهلية (في القاعدة) وهيكلاً دستورياً (في القمة)، بصفته ضابط العلاقة الطبيعية بين الدولة والمجتمع: وبصفته جزءاً من منظومة الحكم الدستوري، التي تتكون من عناصر ضمانات حقوق الناس في الشورى الشعبية التي هي ضمان قيام السلطة النيابية والقضاء المستقل.

ومفهوم المجتمع المدني الذي نهض به الغرب؛ هو طريق التقدم في كل زمان ومكان، ومصطلح (المجتمع المدني) مصطلح غربي، وقد شاركت تجارب الأمم والحضارات في جهد تراكمي منذ عهود قديمة، في أسس صياغته الأخيرة؛ التي قد تظن إنجازاً انفردت به من الحضارة الغربية. أما المفهوم فهو مفهوم حضاري عالمي إنساني، عرفه الناس قبل الإسلام، وأقره الإسلام.

ويحاول البحث بيان أن هذا المفهوم أصيل في الثقافة العربية الإسلامية، واضح الملامح في الحقل النبوي والراشدي، وأنه من مقاصد الشريعة الكبرى.

ويحاول البحث ثالثاً التدليل على أن الإخلال به، هو المسؤول الأول عن التأزم والاحتقان السياسي والاجتماعي في الدولة العربية الإسلامية، طوال تاريخنا القديم. وأنه اليوم هو الطريق المضمون المأمون لنشوء الحكم الدستوري، وهو الآلية الوحيدة لتطبيع العلاقة بين المجتمع والدولة.

ج - أسئلة البحث وفرضياته:

في هذا البحث عدة فروض:

الأول: أن العلاقة بين الإصلاح السياسي والمجتمع المدني طردية، فكل مجتمع من دون القيم المدنية وإطارها الدستوري وتكتلاتها الأهلية لا يمكن أن يضمن فيه العدل.

الثاني: أن سبب فقدان المجتمع المدني في الدولة العربية الحديثة، إنما هو كامن في جذور الفكر السياسي والقضائي التراثي في صياغته العباسية، التي منحت ولي الأمر أعِنَّة السلطات الثلاث، قياساً على النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وهو قياس خاطئ لأنه قياس مع الفارق، وكل قياس مع الفارق فهو باطل.

فللنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من الخصوصية، ما ليس لخليفة أموي أو عباسي، ولنشوء الدولة الإسلامية الأولى، ضرورات استثنائية، بسبب حداثة تكوين الدولة لا تخفى على دارسي التاريخ والحضارة، كما وضح الكاتب في كتيب (الطريق الثالث: الدستور الإسلامي منقذاً من الحكم الصحراوي القامع المفرط بالحقوق والحريات الشرعية، والدستور العلماني المفرط بالأخلاق والهوية) وكتاب (المعايير الدولية لاستقلال القضاء في بوتقة الشريعة الإسلامية). والدولة العربية الحديثة انتماء أمين لهذه السلفية السياسية، رغم تشدقها بالحداثة الشكلية وتظاهرها بالتقدم، ولذلك أجمعت الدول العربية على الاستبداد، رغم اختلافها في كثير من الأشياء.

الثالث: أن عجز مفهوم المجتمع المدني عن التجذر في ثقافتنا العربية، إنما هو بسبب المرض المركّب: الصحراوية الكسروية، الذي رسخ منهج التربية القمعي، في الفكر الديني والسياسي والاجتماعي.

الرابع: أن الإسلام ليس مسؤولاً عن هذا المرض، وإن توهم ذلك بعض الليبراليين من دعاة المجتمع المدني، الذين اعتبروا الصياغة العباسية للثقافة العباسية، مرآة صادقة لتوصيف الإسلام.

وفي أعطاف البحث إشارات، تثبت أن الإسلام ليس مسؤولاً عن هذا المرض، وإن توهم ذلك بعض الليبراليين من دعاة المجتمع المدني، الذين اعتبروا الصياغة العباسية للثقافة العباسية، مرآة صادقة لتوصيف الإسلام.

2=ما المجتمع المدني؟

أ - المفهوم:ما معنى تركيب: المجتمع المدني؟

المجتمع: هو ما يقابل مفهوم الدولة، فكل أمة تتكون من قاعدة هي المجتمع، وقيادة هي الدولة.

المعنى اللغوي:

المدني هنا ضد الصحراوي والبدوي، الذي لا ينضوي تحت سيادة (الدولة). وحيث إن المدنية لا تنشأ في الصحارى؛ صار المجتمع المدني نقيضاً للمجتمع الصحراوي أيضاً، ولكن هذا المعنى وإن كان ظاهراً صريحاً وأساسياً في معنى الكلمة اللغوي، فإنه غير مقصود.

المعنى الاصطلاحي:

ويقصد به ما هو من لوازم الحياة في المدائن، وهو من لوازم مجتمع المدنية، التي يتجسد فيها الرقي في وسائل المعائش والثقافة والمساكن والملابس، سواء أكان في القيم المشتركة بين الدولة والمجتمع، أم في إطار الدولة، وهو الشكل الدستوري، أم في إطار المجتمع وهو التجمعات الأهلية.

وثمة ثلاثة معان يتضمنها مصطلح «المدني»:

الأول: أن تتقرر في الثقافة السياسية والاجتماعية التي تحكم الدول على أساسها، حقوق الإنسان، التي عرفتها الطبائع بالفطرة، وأكدتها الشرائع، كحق الناس في الغذاء والكساء والسكن والتعليم والعلاج والعمل. وحقهم في الحرية السامية والكرامة والمساواة والعدالة، وسائر الحقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية ومهنية وسياسية وأن يضمنها القضاء المستقل.

الثاني: وأن تقوم العلاقة بين الحاكم والأمة على التعاقد والتراضي، بأن يستمد الحاكم سلطته من كونه (وكيلاً) عن الأمة، لا (وكيلاً) عليها، فتقوم الدولة بحفظ حريات الناس السامية وحقوقهم، في التساوي والعدالة والكرامة، ويقوم الناس بطاعتها، على هذا الأساس.

هذا المعنى يؤكد أن تكون الدولة تجسيداً لإرادة مواطنيها، وهذا هو الشرط الأول في مفهوم قيام النظام الدستوري. ليس المجتمع المدني ضد الدولة، ولكنه ضد (دولنة) المجتمع، ضد وصاية الدولة على المجتمع، ضد المقولة الشائعة: «ولي الأمر أدرى بالمصلحة» أي ضد استفراد الدولة بالقرار، والمجتمع المدني هو الذي تظهر فيه تجمعات أهلية، تعبر عن رأي المجتمع، فلا تكون الدولة أدرى بمصلحة الناس، بل يكون الناس هم الذين يقررون ما هي مصلحتهم، وتقوم الدول بتنفيذ إرادتهم.

الثالث: أن الضامن للمجتمع من الاغتيال، والضامن للدولة من الزوال، والضامن لاستمرار ثقافة الكرامة والحرية والعدالة والمساواة هو أن تبرز «تجمعات للمجتمع المدني» أهلية غير رسمية، مستقلة استقلالاً نسبياً عن الدولة.

وعند تفكيك جملة «التجمعات المدنية الأهلية» نجدها تركيباً لاجتماع ثلاثة مفاهيم:

الأول: تجمعات: أي تكتلات كالجماعات والنقابات، والجمعيات والروابط والمنتديات والأحزاب.

الثاني: المدنية: أي أنها ليست تكتلات قبلية أو أسرية عائلية أو عنصرية، تعتمد على علاقات القرابة والنسب، ولا تكتلات إقليمية، تعتمد على علاقات المجاورة في الحارة والمساكنة في القرية، إنما هي التجمعات تعتمد على التخصص والعمل، أو الرؤية الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولذلك فإن أنواع التجمعات خمسة: سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية ومهنية.

الثالث: الأهلية: أي غير الرسمية/غير الحكومية، وقد استقرت كلمة الأهلي - في اللغة العربية المعاصرة - بهذا المعنى، وكانت مصطلحاً رائجاً منذ بدايات عصر النهضة، للتعبير عن تجمعات الأهالي، ووصف التكتلات المدنية بالأهلية، لا يحدد وظيفتها بأنها غير مدنية، ولا بأنها حداثية أو تقليدية، ولكنه يحدد طبيعتها بأنها غير حكومية غير رسمية، وهو ما يجنبنا من الاضطراب والإغراب.

وعند رؤية وظيفة تجمعات المجتمع المدني الأهلية، يتبين أنها هي الآلية التي تضمن أن تكون الدولة شورية، أي أن لا تكون الدولة فاشية أو نازية (أو كسروية أو جبرية، وهما الوصفان السياسيان اللذان أطلقا على نموذج الحكم الأموي والعباسي)، الذي تحول الدولة فيه المواطنين إلى مسامير في عجلات قطارها، الذي داس الأمة، من كافة الشرائح والفئات، كما يدوس الفيل الأعمى الحشرات، وهو يترنح في الطرقات، فالمفهوم يؤكد وجود المواطنين، وهذا ما لحظه هيجل، عندما سماه (مجتمع المواطنين).

هذا المفهوم أقره الإسلام، عندما جعل الأمة هي المرجعية، وراعاه القرآن الكريم، الذي لم يخاطب الحاكم مرة واحدة، بل خاطب الأمة - بصفتها صاحبة الحل والعقد، في تنفيذ مصالحها، في ضوء مقاصد الشريعة.

وتتأسس العلاقات في المجتمع المدني على الشورى الشعبية التي لا تقوم من دون الحرية السامية التي هم أم الحقوق، وليست الشورى نظاماً سياسياً فحسب، بل هي قبل ذلك نظام اجتماعي وتربوي.

وقوة استقلال التجمعات المدنية الأهلية عن الدولة، هي الضمان لحقوق المواطنين أفراداً وجماعات. والضامن الذي يحمي الدولة من الاستبداد، الذي يسوقها في منحدر الفساد والخراب.

ب - نشأة المفهوم؟

بناء نظرية المجتمع المدني في نسق، إنما هو من إنجاز الفكر الأوروبي الحديث، وهو طوق النجاة الذي لجأ إليه الأوروبيون من أجل النجاة من أنياب (التنين أو حكم الفرد الملهم/ الوكيل (على) الأمة/ المطلق)، الذي نظَر له هوبز، إلى الحكم الدستوري الذي يجعل السلطان وكيلاً (عن) الأمة، الذي حققه الإنجليز سنة 1688م، وصاغه (جيفرسون) في إعلان الاستقلال الأمريكي سنة 1776م.

ونادت به الثورة الفرنسية سنة 1789م. حيث ظهرت مصطلحات الحداثة السياسية، مثل الدستور والشعب والأمة وحقوق الإنسان والقانون، والمواطنة والانتخاب، والمساواة والحرية والعدالة والكرامة، والحقوق الطبيعية، وسيادة الأمة والفصل بين السلطات الثلاث: عبر المصطلحات الثلاثة: السلطة التنفيذية واستقلال القضاء، ومجلس النواب وهذه المفاهيم ومصطلحاتها صارت كمعالم الطريق لمفهوم المجتمع المدني (أنظر محمد جمال باروت: المجتمع المدني 7-5).

ج – المصطلح دخيل فهل المفهوم كذلك؟

و(المصطلح) دخيل على ثقافتنا العربية الإسلامية المعاصرة، فهل المفهوم أيضاً دخيل؟ هذا ما يراه بعض الباحثين (كالحبيب الجنحاني: مجلة عالم الفكر الكويتية: يناير 1999م: صفحة 27).

ويرى آخرون - وهو ما يؤيده كاتب السطور - كأحمد شكر الصبيحي، أن المفهوم ليس دخيلاً على ثقافتنا، بل موجود في ثقافتنا العربية والإسلامية، منذ أن سمى النبي صلى الله عليه وسلم (يثرب) بـ (المدينة). وفي تغيير الاسم إلى (المدينة) دلالة رمزية على الربط بين الإسلام ومفهوم المجتمع المدني، ولأن الشورى الملزمة (إجراءً أو نتيجة) من أصول الدين القطعية، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان نموذجياً في المشاورة، وإيجاب الشورى اعتراف بالتعددية، والشورى من قواعد الحياة الاجتماعية المسلمة، ولذلك نزلت آية (وأمرهم شُورى بينهم( بمكة، تأكيداً لاشتراط الروح الشورية في (الجماعة) المؤمنة، قبل قيام (الدولة) المؤمنة.

وتقرير الشورى إقرار بالتعددية والحوارية والسلمية معاً، والإسلام أول شريعة سماوية أرست حرية الاعتقاد، ودافعت عنها وحمتها.

ونصوصه في ذلك كلية قطعية، أي من أصول الدين، الذي لا يدخلها نسخ ولا يتسع المجال لبيان الأدلة التي أفضت فيها في كتيب (مقاصد الإسلام وكلياته الكبرى)، على أن العدالة والحرية والاحتساب والسلمية والشورى، من أصول الدين القطعية الكبرى.

ولا يتصور أن الإسلام يقر الحرية في أمور العقيدة، ثم يقرر الجبر والإكراه في أمور السياسة، ولكن الإسلام قرر مبادئ، وبدأ النبي والخلفاء الراشدون، في تطبيقها، ولكن فترة رشد الحكومة في العصر الراشدي كانت محدودة، لم تتح مجالاً لظهور تجمعات المجتمع المدني الأهلية، (انظر مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي: 46-43)، وانظر (أبو علي ياسين: عالم الفكر السابق: 45).

د-لماذا لم تترسخ وسائل المفهوم:

قصرت فترة الخلافة الراشدة، بسبب انقضاض روح المجتمع القبلي، على الخلافة الراشدة، ثم ما زاوج المجتمع القبلي من روح الحكم الجبري الكسروي، فلم تتهيأ التربة لنمو نظرياتها، وظهور هياكلها، لكي تكون أنماطاً يحتذيها اللاحقون. ولمزيد من شرح هذه الفكرة يمكن القارئ الرجوع إلى كتبيب (هل نكف علم السياسة عن ما شجر بين الصحابة؟)

ولم يجد الفكر الإسلامي تطبيقات كافية لبلورة نظرية متماسكة، ومن المهم دائماً أن لا نخلط بين الإسلام نصاً في صريح التنزيل، وتطبيقاً في العهد النبوي والراشدي الكريم، وبين ما أنتجه فقهاء العصر العباسي، في ظلال حكم الجبر والقمع العضوض، من آراء واجتهادات وتوصيف، فهذا رأي واجتهاد وتأويل شابه التحريف، وذلك وحي من عليم خبير، وتطبيقات من أكثر الأجيال معرفة بالدين وقد أوضحت مزيداً عن هذه الفكرة في كتيب (الأمراض الوراثية في الفكر الإسلامي الحديث).

أجل لم تبلور الصياغة العباسية لثقافتنا العربية الإسلامية هذا المفهوم، فثمة ضبابية تكتنف هذا المفهوم، ومن تجلياتها عدم وجود مصطلح لغوي موحد (كما ذكر أبو علي ياسين: 45).

لكن عدم شيوع المفهوم ولا تحديد عناصره وعدم ظهور تكتلاته، في أنماط راسخة في الأعراف الاجتماعية، لا يعني أن الإسلام لم يتبن مبادئ المفهوم، فضلاً عن أن يتصور أن المفهوم لا ينسجم مع الشريعة الإسلامية.

أجل التجمعات المدنية الأهلية وقيم المجتمع المدني كحقوق الإنسان والديمقراطية، والحرية، والعدالة والمساواة وأطرها السياسية ووسائل تحقيقها: كالدستور والفصل بين السلطات الثلاث، واستقلال القضاء؛ إنما هي مجموعة مفاهيم أنتجها في صياغتها النهائية الغرب، ولكنها مفاهيم إنسانية، موجودة الجذور في أي ثقافة ذات حضارة، ويمكن اليوم لأي ثقافة أن تستدخل المصطلحات الغربية ضمن منظومتها، وأن تزيد فيها وتعدل وتصهر وتفرز، حتى تتناسب مع خصوصيتها.

على كل حال فإن هذه القيم والإجراءات والهياكل؛ من صوالح الأخلاق التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لإتمامها لا لإلغائها، من أجل ذلك نرى مبادئها موجودة في القرآن والسنة.

وقد حاولت ذلك في عدد من الكتيبات منها (الكلمة أقوى من الرصاصة) ، و(للإصلاح هدف ومنهاج)، و(المشكلة والحل)، و(الاستبداد والشورى).

هـ-نحو مجتمع مدني إسلامي:

ومن الضروري تأسيس المفهوم وتأصيله، بصورة تنسجم مع منظومتنا الإسلامية، ليدرك الناس أن الدستور والمجتمع المدني الإسلامي، ليس بدعة ولا علمنة، بل ولا من المصالح المرسلة، بل هو العودة الرشيدة إلى السنة، وهو طوق النجاة، من مفهوم المجتمع المدني والدستور العلماني، الذي يفرط بالأخلاق والهوية، ومن الحكم العربي (الكسروي أو الدكتاتوري الصحراوي)، الذي يقمع الحقوق كالعدل والشورى والتعاون والحرية السامية، فتجديد الإسلام من الداخل، إنما يكون بالتأسيس على النص القرآني والنبوي، والتطبيق النبوي والراشدي.

وهو حجة على الفقهاء المحافظين، وعلى المتفرنجين والمستغربين معاً، على الذين يظنون أن صيدلية الفقهاء الأقدمين، كافية للإجابة عن تحديات العصر الحديث، وعلى المستغربين الذين يظنون أن الإسلام غير قادر على سك فقه التقدم السياسي والمدني.

وفي تقدير الكاتب أن من المناسب أن نتذكّر أننا نحن العرب والمسلمين؛ لسنا أمة لقيطة على المستوى الحضاري، من دون هوية وثقافة عريضة، وأنه ينبغي لنا تأصيل قيم المفهوم؛ في بوتقة الشريعة الإسلامية، بتحرير مفاهيمه الإنسانية، لكي لا تنحبس بخصوصية نشأته الأوروبية، وبصورة تحرره من ظلال صياغته عند كثير من العلمانيين اللائكيين، الذين اتخذوه أداة لنشر العلمنة والتغريب، ولضرب الاتجاهات الإسلامية، التي وصموها بقيم المجتمع المتخلف.

3=من قيم المجتمع الوحشي إلى قيم المجتمع الفطري

أ-النقلة من قيم المجتمع الوحشي والبدوي:

خلق الله آدم عليه السلام، وعلمه الأسماء، فأدرك بنو آدم بالفطرة محاسن الأخلاق ومساوئها، كما دلت قصة ابني آدم، وتعلم الإنسان بالفطرة والخبرة معا، كيف يحافظ على شروط الحياة الطيبة.

بيد أن الناس في تفرقهم في الأقاليم، وبأسباب الجوع والهجرة والحروب؛ قد ينتكسون إلى طبائع الحيوان والوحوش، كما دل استقراء حيوات الأمم المتوحشة والطوطمية، فيرتكسون في طبائع المجتمع الوحشي.

عند ما يقال مجتمع مدني، فذلك يعني أن هذا المجتمع، تجاوز طور المجتمع الحيواني، الذي تحكمه الغرائز والشهوات، التي تنفر منها الفطرة الإنسانية، من ما يمتاز به البشر عن البهائم، إن البهائم والبشر يشتركون في الحاجة إلى الطعام، والنكاح والمأوى. ويمتاز الإنسان بسمو الروح ومحاسن الأخلاق.

ويعني أيضا أن هذا المجتمع وتجاوز عادات المجتمع البدوي، وسمت سكان الصحاري وشواهق الجبال، المقفرة، المنعزلة عن المدائن، التي يحكمها الجهل والوحشية والقسوة والهمجية في التعامل، والعنصرية والتعصب القبلي: الذي يقول: نموذجه أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وإبن عمي على الغريب والذي يحكمه كره الصناعة، وكره العمل المنظم، الذي يجسده أيضاً قول الشاعر الجاهلي:

ومن ربى الجحاش فإن فينا × قنا سلبا وأفراساً حسانا

ب-من القروي إلى المدني:

وذلك يعني أيضا أن هذا المجتمع تجاوز طور عادات المجتمع القروي والحضري البسيط، حيث يتعامل الناس تعاملات بسيطة أغلبها يقوم على المقايضة، ويكون لهم من الأخلاق الصالحة قدر كاف، وفي اجتماعهم ينشأ تعارض المصالح والاختلاف، فيضطرون إلى إقامة من يحكم بينهم بالإنصاف.

المجتمع المدني البسيط يلتزم الناس بالفضائل الإنسانية، التى أوحاها الله لهم في الطبائع، وهدتهم إليها التجارب، وأكدتها وتممتها الشرائع السماوية،سواء في جانب الحفاظ على الأسرة التي هي نواة أي جماعة بشرية، أو الحفاظ على الجماعة، التي هي نواة أي تجمع بشري، و الحفاظ على الدولة، التي هي أساس كل أمة متحضرة تحضرا بسيطا أو مركبا.

الشرائع السماوية جاءت لتقرير الرقي المدني، سواء كان بسيطا أم مركبا، ولكنها فصلت جوانب المجتمع المدني المبسط، وأجملت جوانب المجتمع المركب، ومن خلال نشوئها في مجتمعات مدنية بسيطة، لم يحتج التطبيق إلى التركيز على قيم المجتمع المدني المركب، فلما ظهر المجتمع المدني المركب، في العصر الأموي، لم يستطع الفقهاء تفصيل جوانب المجتمع المدني المركب، وهذا هو سبب قصور منهج فقه الكتاب والسنة، وتقصيره عن ترسيخ قيم وإجراءات المجتمع المدني المركب في الإسلام.

ج-أهم قيم المجتمع المدني البسيط:

وأهم قيم المجتمع المدني المبسط؛ هي أخلاق الاستقامة والأمانة ، كالصدق و العفة وترك المسكرات والعدالة والإنصاف،والوفاء بالعهد والوعد والأمانة.

ومن ذلك عفة اليد عن أكل السحت والربا والغلول، وسائر أنواع المال الحرام، مهما كان طريقه، كالرشوة والمحسوبية والمحاباة،ولا سيما أموال الأيتام والقاصرين والضعاف. وعفة النفس عن الغش والجشع والخديعة والخيانة.

ومن ذلك آداب القول، كقول الحق والتثبت، ومن لوازم ذلك عفة اللسان عن الفحش والشتم والسباب، وشهادة الزور واليمين الغموس والغيبة والنميمة والنفاق،وعن الخوض في أعراض الناس، ولاسيما المحصنات الغافلات، وعن الطعن في الأنساب والسباب،وكتمان السر والستر على المخطئين, وتوجيه الناس بالحكمة والموعظة الحسنة.

ومن ذلك كف الأذى عن الناس، من قتل وضرب وتعذيب, وعجرفة وغطرسة، وشكر المحسنين على المعروف والإحسان ومكافأتهم، والاعتراف بالخطأ والاعتذار، والبعد عن الترف والبطر والرياء، وعن التصنع والنفاق.

ومن ذلك الالتزام بسنن الفطرة والبعد عن تغيير سنن الفطرة كتشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال. والحياء وستر العورة وحجاب المرأة، والبعد عن الاختلاط المحظور والتبرج، ومن ذلك استقلال هوية الأفراد والجماعت، وترك التشبه بالأمم الأخرى في طقوسها وخصوصياتها ومباذلها.

د-الشرائع لا تكلف الناس إلا بما تدركه وتألفه الطبائع:

وفي المجتمع المدني يزداد انحراف الناس عن الفطرة السوية، ومن أجل ذلك جاءت النبوات في المجتمعات، التي هي فوق المجتمع البدوي، قال تعالى: "وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً"، فالأنبياء لا يكادون يبعثون إلا في المدن.

فتأتي النبوات بتأكيد القيم المدنية، كالعدل والإحسان فالشريعة جاءت، كما يقول الدهلوي "لإصلاح ما عندهم، ولا تكلفهم بما لا يعرفونه أصلاً، ونظيره قوله تعالى "قرآناً عربياً لعلكم تعلقون". (حجة الله البالغة:280).

فتأتي الشرائع بتهذيب النفوس، لترتفع عن درجة البهائم إلى مستوى الأوادم المكرمين، كما تأتي لتهذيب النفوس، لترتفع من الملأ الأسفل ملأ الشياطين، إلى الملأ الأعلى، ملأ الملائكة، وهذه وظيفة النظام الروحي المباشر، في الإسلام، ويأتي في إطار التشبه بالملائكة الحرص على النظافة والصلاة والأكل باليمين.

وفي تحقيق هذه الركائز، معا يقوم الناس بخلافة الله في الأرض بالسعي والاكتساب، من أجل توفير العمل والسكنى والطعام والشراب واللباس، وما يلزم لاجتماع الناس من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب والعادات.(انظر تأصيلها في مبحث المنهج، وتأسيسها في مبحث أصول الشريعة وتفصيلها في مبحث المقاصد من كتاب:جناحان حلق بهما الإسلام).

هـ-_مالذي نركز عليه في هذا المقام:

تشتد حاجة المجتمع المدني إلى التركيز قيم أخرى كالنظافة، والشجاعة والسماحة والكرم، فتشتد حاجة الناس إلى إتقان النظافة، لأن كثرة الناس وإزدحامهم في المدن يؤدي إلى كثرة الأوبئة، لا يكفي فيه المستوى القروي من النظافة.

لكننا لن نضع النظافة-في سمات المجتمع المدني- لأننا لا نذكر كل سمات المجتمع المدني البسيط، لأن هذا البحث ليس في علن الاجتماع؛ إنما نركز على ما يغفل عنه أكثر الناس، أو نحتاج إليه في ربط قيم فرعية، أو بناء وسائله على مقاصده، كما سيأتي في الفصول التالية.

4=قيم البقاء أو قيم المجتمع المدني البسيط

أ- الحفاظ على الحياة والأسرة والعرض والدين والمال:

هذه القيم يمكن أن نسميها قيم (المجتمع المدني المبسط) أو قيم (البقاء): وما فيه بقاء حياة الناس، وهو من ما اهتدت إليه البشر بالفطرة، من حاجات الطعام والشراب، والكساء والمنزل، وقيام منظومة الأخلاق والتعامل، على ما أدركته البشرية بالتجارب من وحي الطبائع، وما أقرته الشرائع، بمراعاة الفضائل في كل ملة وأمة، كالعدل والبر والاكتساب وقداسة الزواج والعفة وحرمة الظلم والسرقة والغصب والكذب والزنا والفجور والخمر، ويمكن من باب التبسيط -لا الحصر-أن نبلورها بركائز عشر:

الحفاظ على سلامة الحياة، وما تحتاجه النفس الإنسانية من طعام وشربت وكساء ومأوى، ومعاقبة من يعتدي عليها بالقصاص من القاتل.

وقيام الناس باكتساب معاشهم، وصون أموالهم، وكبح الاعتداء عليها كالسرقة والغش والغصب والظلم والقتل، وتعلم الآداب الصالحة للعيش، كآداب الأكل والشرب والاجتماع والتعامل، وسائر الأخلاق الحميدة، كالصبر والتحمل، والشجاعة والكرم.

الحفاظ على الأسرة، باعتبارها الركيزة الأولى في أي مجتمع إنساني طبيعي، ووضع كوابح عن كل من ما يخل بالأعراض والإنسال، كالزنا والشذوذ الجنسي.

وحفظ دين الإنسان، وإقامة شعائر الدين، مادامت شعائر دينه لا تخل بما دلت عليه الفطرة، فلا تبيح شذوذا جنسيا أو زنا، أو قتلا أو عنصرية. ومن أجل ذلك جاءت القيم المدنية مرتبطة بالقيم الروحية في القرآن الكريم، فالقرآن يركز على أن قيام المؤمن بواجباته الروحية، يزيد أعصابه قوة ومرونة وثباتاً. قال تعالى: "ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة، ثم نزعناها منة إنه ليئوس كفور، ولئن أذقناه نعماء من بعد ضراء مسته، ليقولن ذهب السيئات عني، وإنه لفرح فخور، إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير (هود 9 – 11).

ب- الحفاظ على أخلاق الفطرة العدل والمساواة:

لكل مجتمع مدني قيم لا يمكن العيش من دونها، سواء أكان مدنيا مدنية (في طورها البسيط)، أم مدنيا في طور المدنية المعقد المركب.وهي من باب التقريب نقسمها إلى مقاصد ووسائل، لأن كثيرا منا يدرك المقاصد، ولكنه لا يدرك أن لهذه المقاصد وسائل، وأن تعطيل الوسائل يفضي إلى تعطيل المقاصد، وعندما نقول :عشرية؛ لانقصد العدد المحدد، ولا نقصد الحصر المانع الجامع، بل المقاربة والتبسيط والتركيز على الأخطاء الشائعة، والعناصر المهمة.

ومجمل ذلك ما حاولنا تقريبه بالتقسيم والترقيم و(وليس المقصود بالعدد والترقيم الحصر الرياضي، بل التقريب الوجداني) وهي حقوق البشر المؤكدة في كل أمة وملة: وليس في البديهيات الإنسانية قولان،

فالالتزام بأخلاق الفطرة هو أساس المدنية:

بالحفاظ على الأسرة، والعرض والدين والمال والنفس، باعتبارها الركيزة الأولى في أي مجتمع إنساني طبيعي.

ومقتضى أخلاق الفطرة هو العدل، كما نص ابن تيمية،

وحوضه الدلالي ولوازمه كالاستقامة والأمانة :

ومن أخلاق الاستقامة، كالصدق و العفة وترك المسكرات والعدالة والإنصاف،والوفاء بالعهد والوعد والأمانة.

ومن ذلك عفة اليد عن أكل السحت والربا والغلول، وسائر أنواع المال الحرام، مهما كان طريقه، كالرشوة والمحسوبية والمحاباة،و لاسيما أموال الأيتام والقاصرين والضعاف. وعفة النفس عن الغش والجشع والخديعة والخيانة.

ومن ذلك آداب القول، كقول الحق والتثبت.

ومن ذلك كف الأذى عن الناس، من قتل وضرب وتعذيب, وعجرفة وغطرسة، وشكر المحسنين على المعروف والإحسان ومكافأتهم، والاعتراف بالخطأ والاعتذار، والبعد عن الترف والبطر والرياء، وعن التصنع والنفاق.

ومن ذلك التوازن في الأمور، من دون إسراف ولا تقتير، ولا إفراط ولا تفريط. ومن ذلك قيم النظافة وحسن المظهر، كنظافة الجسد والثوب والطريق والبلد. ومن ذلك حفظ الوقت وإتقان العمل، والإنجاز، والقيام بالواجبات الفرديةوالأسرية والاجتماعية.

أن الأمم والدول, إنما أساس قوتها وضعفها هي ثنائية (العدل و الطغيان لا ثنائية (الكفر والإيمان) وأن الحكم يدوم مع العدل ولو كان كافراً, ويزول مع المظالم ولو كان إسلامياً, كما نص ابن تيمية والغساني. وكل مصلحة كبرى للأمة داخلة في أصول الدين الكبرى, وكل مفسدة كبرى للأمة, فإنما هي من المعاصي الكبرى, كما دلل الشاطبي على مقاصد الشريعة، فكل وسيلة تضمن العدل والشورى فهي مشروعة كتوزيع السلطات وإجراءات استقلال القضاء والتجمعات الأهلية المدنية وكل وسيلة تخل بهما فهي مفسدة منهي عنها.

فالناس في الوطن الواحد سواسية كأسنان المشط، لافرق في الحقوق والواجبات العامة، بين غني وفقير، ولا مغمور وشهير، ولا رئيس ولا مرءوس.

ومن لوازم ذلك عفة اللسان عن الفحش والشتم والسباب، وشهادة الزور واليمين الغموس والغيبة والنميمة والنفاق،وعن الخوض في أعراض الناس، ولاسيما المحصنات الغافلات، وعن الطعن في الأنساب والسباب،وكتمان السر والستر على المخطئين, وتوجيه الناس بالحكمة والموعظة الحسنة. الكرامة والمساواة الناس فبالروح الإنسانية؛ تكون رعاية الحقوق الطبيعية والإنسانية، للأقليات والجماعات، التي تعيش في ظل الحضارة الإسلامية، على أساس العدالة والمساواة ، في الحقوق والواجبات العامةوحسم الالتزام الخلاف الاجتماعي.

فالمجتمع يتكون من أفراد, وكل فرد مستقل الشخصية, لا يجوز له "أن يحتقر نفسه" كما نص الحديث الصحيح, ولا يجوز له أن يكون "إمعة", كما نص أيضاً الحديث الصحيح, وكل دولة تمتهن كرامة المواطنين أفراداً أو جماعات, متذرعة بكرامة الوطن أو المجتمع أو الأمة, لا تقيم مجتمعاً ولا وطناً، بل تبني قلعة مغلقة، يعيش الفرد فيها كسن في دولاب، محكوماً بضرورات الطعام والشراب كالبهائم والدواب, لا فرداً مستقل الشخصية ذا حقوق وكرامة, وعلامة الدولة القمعية غياب قيم المجتمع المدني وجماعاته الأهلية.

ومن ذلك واستقلال الذات الجماعية: بالالتزام بسنن الفطرة والبعد عن تغيير سنن الفطرة كتشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال. والحياء وستر العورة وحجاب المرأة، والبعد عن الاختلاط المحظور والتبرج، ومن ذلك استقلال هوية الأفراد والجماعت، وترك التشبه بالأمم الأخرى في طقوسها وخصوصياتها ومباذلها.

. وبذلك تكون المحافظة على صحة العقل والوجدان ومن لوازمها بناء أخلاق القوة واستقلال الشخصية، والبعد عن سمات الإمعية، وعلو الهمة وعزة النفس والكرامة، والصبر على الحق والشجاعة، والإقدام، والبعد عن الترف والتخنث والرخاوة والفراغ والأمل والتفاؤل.

ج-قيم التعايش:التكافل المالي والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون في المصالح العامة:

بتقديم المصلحة العامة على الخاصة والسعي في المصالح العامة والشهامة، ومن لوازمه الإيثار والتراحم و والسعي في المصالح العامة: من أخلاق الإيثار والتضحية، ونكران الذات

ومن ذلك التواصل الاجتماعي كبر الوالدين وصلة الأرحام وإكرام الصديق والضيف والجار،والكرم من دون إسراف، والعفو والصفح والتسامح، والرفق واللين.

ومن ذلك أخلاق المرونة، كاللين ولين الجانب والتواضع والعطف والرفق والسماحة والعطف والتسامح، واللطف.

ومن ذلك المروءة كإغاثة الملهوف وعون المحتاج والضعيف، وإقراض المحتاج وإنظار المعسر، والصدقة والزكاة. ومن أجل ذلك جاء قرن الزكاة بالصلاة، في مواضع كثيرة في القرآن،كقوله تعالى"الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، ومن ما رزقناهم ينفقون"

ومن ذلك الاحتساب على الخاص والعام، و رأس سنامه، وأساسه الغيرة على الجماعة، والتناصح بالمعروف والتناهي عن المنكر ، ونكران الذات، والتنادي إلى البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان.وأطر الباغي على العدل أطراً. وقصره عن الشر قصرا.وهي أساس التنادي إلى البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان.

التناصح بالمعروف والتناهي عن المنكر، و الغيرة على الجماعة، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة، ونكران الذات، هو أساس التعاون على البر والتقوى، وهو جار على كل شعب الإيمان السوابق، وهو سنام الأخلاق التي لا يقوم كيان الجماعة والأمة والدولة من دونها، التي بها يعمر حصن الأمة من داخله، ويذاد عنه العدوان من خارجه، وقد اختصها الدين باسم الجهاد، لأنها تتسم بسمتين:

السمةالأولى أنها تقوم على إيثار الآخرين على النفس وعلى نكران الذات، وعلى السعي في المصالح العامة، الذي لا تداخله حظوظ النفس العاجلة.

السمة الثانية: أن فيها فوق ذلك تضحية بحظوظ النفس كالمال والمنصب والشهرة والراحة، وأحيانا تضحية بالنفس والنفيس معا، كالتعاون على كل بر وتقوى، في كل مجال اجتماعي وسياسي، كالمطالبة بالحقوق، ولاسيما الحقوق العامة، والانتصار عند البغي، والدفاع عن المظلومين والمضطهدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأطر الجائر والظالم على الحق أطرا، وقصره على الحق قصرا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان، والاحتساب على السلطة، ودفع الظلم والجور والفساد في الأرض، بالقصاص من القاتل وعقوبة السارق والباغي والظالم والمرتشي، وعقاب الزاني وشارب الخمر، وكل من يضر بمصلحة الجماعة.

ومن ذلك التربية على هذه الفضائل، بتزكية العقول والنفوس وتربيتها، ووضع كوابح لكل ما يخل بالعقول كتحريم الخمور.

5=قيم المجتمع المدني المركب

أ-مفهوم المجتمع المدني المركب:

عندما نصف أي مجتمع بأنه مدني مركب فذلك يعني أن المجتمع تعقد وتكاثر وأصبح مركبا غير بسيط فوصل إلى الطور الثالث (المجتمع المدني) هو الذي هو (الارتفاق الرابع) حسب تصنيف (العلامة ولي الله الدهلوي المحدث الهندي)، وهو طور يمتاز بكثرة الناس، وكثرة تعاملاتهم واختلاطهم، وتطور وسائل المعاش، وسائل تدبير المنزل، وتعقد طبيعة التعاملات، فيحتاج الناس إلى وسائل سياسة المدائن الكبرى، التي تناسب كثرة الناس وكثرة المدن وكثرة الخصومات.

المجتمع المدني المركب، يمتاز بكثرة الناس وازدحامهم، وتعدد أجناسهم، وتعدد مصادر العيش ووسائله، وطبيعة إدارة الدولة: جيشا وأمنا داخليا وقضاءا وخدمات. لا يحتاج أهله إلى قيم أخلاقية جديدة، لا يعرفها الناس أصلا، في المجتمع المدني البسيط.

إنما يحتاجون إلى التركيز على بعض قيم المجتمع المدني البسيط، وتفعيلها أو وضع وسائل جديدة،أو ،.فتتطلب حياة أهل المجتمع المدني المركب ترسيخ عادات وأعراف وأنماط من السلوك جديدة. ناشئة عن طبيعة المدن والدول الكبرى.

وتتطلب الحياة في المدن، صفات جديدة، تأكيداً على صفات فطرية عرفت في المجتمع الحضري والقروي، فصفات الشجاعة والصبر والكرم والتسامح، والعدالة صفات ضرورية. ولكن في المجتمع المدني، تزداد الحاجة، إلى التركيز على العدالة والإنصاف والتسامح عند الاختلاف، لكثرة التظالم و التخاصم، وتحتاج إلى صفة التعايش مع المخالفين لنا في الرأي والمذهب والعادات والأعراق واللغات، وتحتاج إلى التركيز على رجاحة العقل لكثرة التوترات.

كما تشتد حاجة المجتمع المدني إلى التركيز على قيم التواضع عند التنافس، و إلى التركيز على المبادرة والابتكار، والحيوية، وحفظ الوقت والمال.

وتحتاج أيضاً إلى التركيز على عنصر المشاورة، ليكون الناس راضين في حياتهم، لكي يختاروا الرأي الثاقب عندما يتدبرون أمراً، ولكي يحسنوا تقرير مصالحهم، ومن ثم لا يمكن مشاورتهم كلهم، في المدائن الكبرى، وذلك يدعو إلى ظهور أولي الرأي والتدبير الثاقب فيهم، وإلى حاجة أولي الرأي الثاقب، إلى أن يطيعهم الناس في ما يشيرون به. وحاجة الناس إلى ذوي الرأي الثاقب في إصلاح أحوالهم. كما أنهم بحاجة إلى التكتل والتعاون في سبيل ما هو مصلحة عامة.

كما أنهم لكثرتهم واختلافهم، وتفرقهم في صنائعهم ومعاشهم، عرضة لاستبداد السلطة. لأن استبداد السلطان لا يوجد في المجتمعات الصغيرة، حيث الحياة الفطرية، وحيث إمكان اجتماع كل أهل القرية في مكان واحد، لنقاش أمر يهمهم ومطالبة الحاكم به. ومن ثم تأتي الحاجة إلى قيم جديدة، والتركيز على قيم قديمة في المجتمع البدوي القروي، عند الطور المدني. (أنظر حجة الله البالغة: للمحدث الهندي ولي الله الدهلوي) فما هي القيم التي ينبغي التركيز عليها عندما نعيش في مجتمع المدائن الكبرى، التي لا بد لها من سياسة، تختلف عن سياسة المجتمعات البسيطة والفردية والريفية.

ب- مفهوم المدنية بين شرائع الوحي وشرائع الرأي: الخلافة في الأرض:

من القواعد القطعية في الشريعة أن الإسلام نظام كلي ، يكفل سعادة البشر وراحتهم في الدنيا والآخرة معا ، أفراداً وجماعات ومجتمعات ، وأن من عمل بهذا النظام من دون تحريف ولا إخلال ، فإنه يؤتى في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة . وقد نص على ذلك فقهاء عديدون كابن تيمية وابن القيم ، والشاطبي أكثرهم تفصيلاً لهذه المسألة .

إن حياة المجتمع الإسلامي لا تكون إلا في إطار المجتمع المدني-سواء كان بسيطا، يركز على صفات الـ( بقاء ) أم مركبا يضيف إليها التركيز على صفات الـ( ارتقاءاً).

و يقوم مفهوم المدنية في الإسلام على عمودين :

الأول القيم المدنية : وهي القيم المعروف ضرورتها في كل أمة وملة ، عرفها البشر بما وهبهم الله من التجارب والطبائع ، وإنما جاءت الشرائع للتذكير بها وتهذيبها من الانحراف ، كنظام الأسرة وقدسية الزواج ، والعفة والأمانة والوفاء بالعهد ، والبر والشفقة والصدقة والزكاة ، وطرق اكتساب العيش المشروعة ، والعدل في النفقة وقسمة المال والإدارة والصدق .

وهي القيم التي يرتقي بها الناس من عالم الوحوش والبداوة إلى عالم المدنية والحضارة ، وكما حفها الإسلام بالترغيب والحض ، وضع من الزواجر، سياجاً للحفاظ عليها ، فحرم الظلم والاستبداد ، والزنا واللواط والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، كالغش والغدر والسرقة والاغتصاب ، والخيانة والكذب والقسوة ، والعدوان والقتل ، وكل ما يخل بالإرادة والعقل ، كالخمر والمخدرات ، وكما أحال القرآن معرفة الفضائل إلى العرف الاجتماعي الجاري في الفطر السليمة ، فسماها (المعروف) أحال معرفة الرذائل إلى الفطر السليمة أيضا ، فسماها (المنكر) . كما أشار إلى ذلك عديد من المفسرين .

الثاني القيم الروحية : التي يرتقي بها الناس من عالم الشياطين والبهائم ، إلى عالم الملائكة ، فتطمئن قلوبهم بذكر الله ، وتنتهي عن الفحشاء والمنكر ، وتطيب حياتهم بعمل الصالحات ، كالصلاة والذكر والدعاء ، والصيام والحج ، وعلى التواصي بهاتين المنظومتين ، يتميز المجتمع الإسلامي بطيب الحياة وسعادتها ، في الدنيا والآخرة معاً ، وكلاهما من العبادة التي أمر الله بها عباده ، في قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، فالعبادة كما قال ابن تيمية : " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه " ، وكل ما فيه مصالح للأمة ، فهو من الدين ، فإن ترتبت عليه مصالح كبرى فهو من أصول الدين ، وكل ما ترتب عليه مضار للأمة فهو من الفجور ، فإن كانت المفاسد كبرى ، فهو من كبائر الذنوب . كم نص الشاطبي وغيره ، وهذا وذاك أساس الاستخلاف ، خلافة الناس ربهم في الأرض .

ولتوضيح الفرق بين شروط المجتمع المدني-حسب ما وصفته الشرائع السماوية- نقسم العقيدة الإسلامية شطرين:

الشطر الأول:قيم روحية

الشطر الثاني من العقيدة: القيم المدنية. وهي العمومي من الإسلام، الذي به قوام حياة الناس أفرادا وجماعات ومجتمعات وحكومات.وقد دللت على ثنائية التقسيم (في مبحث أصول العقيدة من كتاب:جناحان حلق بهما الإسلام).

6=المجتمع المدني المركب

من خلال سمات خمس

أ=المبادئ (المقاصد) الخمسة/ المبدأ الأول الحرية

لكل مجتمع تجاوز دور المجتمع البسيط إلى المركب؛ قيم وأعراف تفرضها طبيعة ازدحام الناس وتكاثرهم في المدن، ولنأخذ مثلا لذلك: النظافة، فهي عادة يحتاج إليها المجتمع المدني البسيط والمراكب، ولكن المركب إليها أحوج،لكثرة الأوبئة في المدن.

وهناك طبائع فطرية في البشر، ولكن يجري انتقاصها في مجتمع المدائن، فتحتاج إلى إبراز، من أجل أن يتضح أن وظيفة الدولة ليست قمع الطبائع بل تنظيمها، كالحرية التي تعمل الدول المستبدة على سلبها، متذرعة بضبط الأمن.

عندما نقول :عشرية؛ لانقصد العدد المحدد، ولا نقصد الحصر المانع الجامع، بل المقاربة والتبسيط والتركيز على الأخطاء الشائعة، والعناصر المهمة، في التقسيم والترقيم و(وليس المقصود بالعدد والترقيم الحصر الرياضي، بل التقريب الوجداني)ونصفها بعشرية،من باب التقريب، نقسمها إلى مقاصد ووسائل، لأن كثيرا منا يدرك المقاصد، ولكنه لا يدرك أن لهذه المقاصد وسائل، وأن تعطيل الوسائل يفضي إلى تعطيل المقاصد.

ولا نقصد أن هذه القيم غير موجودة في المجتمع المدني البسيط، بل إنها قد تكون موجودة في المجتمع الفطري، ولكن المجتمع المدني الكسروي يفرط فيها، و هو إليها أحوج، كالحرية، فهي أم الحقوق الفطري، ولكن في مجتمع المدائن الكبرى، قد يجري انتهاكها.

الحريات السامية في التفكير والتعبير والاجتماع والتجمع. حرية التفكير والتعبير والتجمع المسئولة في إطار الشريعة,

ومقتضى ذلك أيضا أنه لا يجوز للحاكم أن يلزم الناس برأيه، في أي مسألة فيها خلاف معتبر. ومقتضاه أيضا أنه لا يجوز منع الناس ولاسيما المفكرين والمثقفين من إبداء آرائهم ونشرها، ما دامت في إطار النصوص الشرعية القطعية، كما جسد هذه القاعدة الخليفة عمر بن عبد العزيز في تصرفاته، عندما ولى بعض الفقهاء المبتدعين مفاتيح بيت المال، من الذين عذبهم بنو أمية وقتلوهم باسم الدفاع عن السنة!!.

وحرية التفكير والتعبير والتجمع المسئولة في إطار الشريعة, من أركان العقيدة الإسلامية، ومقتضاها مشروعية قيام الناس بمبادرات جماعية حرة, للتعبير عن قضايا أو مصالح أو مشاعر مشتركة.

ب= التسامح

ومن لوازم مبدأ الحرية السامية، التسامح والتآلف والروح الإنسانية ، والروح الشورية وقبول الاختلاف والإنصاف والائتلاف عن الخلاف.

وكما طبق هذه القاعدة أيضا الإمام احمد، عندما انتصر على خصومه في عهد المتوكل، وكف المتوكل عن التنكيل بالمعتزلة، فكانوا يقولون: قدرنا على أحمد فآذيناه، وقدر علينا فكف عنا (انظر السنة للخلال).

وكما طبق هذه القاعدة أيضا الإمام ابن تيمية، عندما انتصر على خصومه في عهد الناصر ابن قلاوون، وكف الناصر عن التنكيل بالقضاة والفقهاء الذين تواطأوا على سجنه وقال للناصر: "إن قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم" فقال له السلطان: "إنهم آذوك وأرادوا قتلك مراراً" فقال: "من آذاني فهو في حل". حتى قال ابن مخلوف احد هؤلاء فقهاء القمع "ما رأينا كابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا" (تاريخ ابن كثير: أحداث سنة 709هـ).

ومبدأ التسامح والتآلف. أن تسود بين الناس قيم التعاش الاجتماعي, كالتسامح والاعتراف بالآخر الموجود في الوطن, والتكافل والتعاون, وقبول الاختلاف والالتزام بحل الخلاف بأسلوب سلمى, وهذا مايعبر عنه بـ(السلمية), وحاصل ذلك أن يلتزم الناس جميعاً, افراداً وجماعات بالروح السلمية أي بحل أي خلاف بالتشاور والتحاور، فيصبح الصراع الرمزي ,هو القاعدة المهيمنة, عند الاختلاف , ويحل محل الصراع المادي.

ج= التعددية:

التي تقوم على أن تكون قرارات الأمة مبنية على رأي الأكثرية، مع ضمان حقوق الأقلية، وهو مبدأ يضم شمل قيم عدبدة،كالحوارية والتعايش كقبول بالتعددية المبنية على عدم تحكم الأقلية بالأكثرية، والاحتكام في القرارات إلى معيار الأغلبية، مع التوافق الاجتماعي وحفظ حقوق الأقلية.

والكتاب والسنة قررا حرية الأفراد والجماعات, وأقرا التعددية الثقافية والاجتماعية والمذهبية, ورفضا تكفير أهل القبلة أو قمعهم, وأدانا النيل من حقوق الأقليات, ونموذج تطبيق ذلك جسده الخلفاء الراشدون, كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه, ولاسيما في اعترافه بحقوق الخوارج, وهم أكثر أهل القبلة غلواً, كما ذكر أحمد بن حنبل رحمنا الله وإياه. وكما جسد ذلك عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن الزبير في تعاملهما أيضا مع الخوارج، ومقتضى ذلك الأخذ برأي الجمهور أو الأكثرية, مع حفظ حقوق الأقليات وهذا ما يعبر عنه بـ(التعددية).

والتعددية شرط لتآلف المجتمع، لأن أفراد الأقليات التي تعيش في ظل الحضارة الإسلامية مواطنون أنداد، لهم مثل ما لغيرهم، وعليهم مثل ما على غيرهم، وهذا معنى ذمة اللَّه ورسوله والمسلمين، وعهده لهم.

التعددية فكرية واجتماعية وثقافية، هي مقتضى المساواة بين الناس.

ومشروعية قيام الناس بمبادرات جماعية حرة, للتعبير عن قضايا أو مصالح أو مشاعر مشتركة,

فمن وأد التعددية، فهو لا يجسد مفهوم الحكم بما أنزل الله، فما أنزل الله يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، ومن تطبيقات حكام العدل والشورى الراشدين، ومن أستن بسننهم. وهو-تلقائيا- غير سلفي، ولا علاقة له بمنهج السلف الصالح، ولا علاقة له بمنهج أهل السنة والجماعة السلفية الصافية تسامح وتعايش وإصلاح سياسي أولاً ، إنما هو من أدعياء السلفية. (انظر لمزيد من التفصيل والتدليل مبحث : الحرية والتعددية والشورى والتجمع المدني الأهلي هي ضمانات العدل والمساواة والكرامة في الإسلام‘من كتاب من قص جناحي الإسلام) . وهذا يستدعى الخروج من ضيق نموذج الدولة المذهبية والقبلية والطائفية, إلى نموذج الدولة الإسلامية السمحة، التي تؤمن بتعددية أهل القبلة، كما جسده النموذج القديم الخلفاء الراشدون، في تعاملهم مع الأقليات غير الإسلامية أو مع الفرق الإسلامية.

د=المواطنة أساس الحقوق:

ومقتضى ذلك أن المواطنة أساس الحقوق والواجبات : كل من في الوطن متساوون في الحقوق والواجبات, أمام قانون الشريعة السمحة، في تطبيقاتها الراشدية، التي تقر التعددية والحرية السامية, وكل مواطن عليه واجبات, ومقابل ذلك له حقوق, وهذا ما أوضحته وثيقة المدينة، عندما جعل النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين واليهود أمة، من دون سائر الناس.

ومعنى ذلك المساواة بين الناس، في الحقوق والواجبات، على اختلاف مناطقهم ومنابتهم وألوانهم ومذاهبهم. المواطنة أساس الحقوق والواجبات : كل من في الوطن متساوون في الحقوق والواجبات, أمام قانون الشريعة السمحة، في تطبيقاتها الراشدية، التي تقر التعددية والحرية السامية, وكل مواطن عليه واجبات, ومقابل ذلك له حقوق, والعدالة الاجتماعية والاقتصادية, تفرض اعتدالاً في توزيع القوة والإدارة والثروة, وتكافؤا في فرص العمل والإدارة والتجارة, بحيث لا يبلغ أي من المواطنين حدا من الفقر أو القهر, يضطرهم إلى يتنازلوا عن كرامتهم لمواطن آخر, لأنه غني أو قوي, لكي لا يشتري ضمائرهم وكرامتهم.

فالقوة مالية أو مادية أو معنوية، تفضي حتماً إلى الطغيان, كما هو معروف في تاريخ الأمم والشعوب، وكما دل الكتاب والسنة قال تعالى "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" والحقوق والحريات السامية، والمساواة أمام القضاء والقانون والعمل العام، فرائض شرعية، والحرية السامية هي أم الحقوق، يجب على الدولة صيانتها كما هو تطبيق الخلفاء الراشدين, كعمر بن الخطاب, رضي الله عنه, في مواقف معروفة, منها: أن ابناً لعمرو بن لعاص ضرب مواطناً قبطياً مسيحياً، اعتدادا بإمارة أبيه, فاستدعى الخليفة الوالي عمرو بن العاص وابنه المعتدي, وأدبهما على مرأي ومسمع من الناس, وقال لعمرو الكلمة الشهيرة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"؟.

وهذا يستدعى الخروج من ضيق نموذج الدولة المذهبية والقبلية والطائفية, إلى نموذج الدولة الإسلامية السمحة، التي تؤمن بتعددية أهل القبلة، كما جسده النموذج القديم الخلفاء الراشدون، في تعاملهم مع الأقليات غير الإسلامية أو مع الفرق الإسلامية.

هـ= الخامسة: العدل والمساواة

7=الحكم الشوري أساس عجلتي مركبة الحضارة:العدل والعمارة

أ= التجمع المدني

هو وسيلة تجسيد قوامة الأمة على الجكومة:

وهو أبرز سمات الأمم القوية المتحضرة، ولذلك أدمجت قيم الحضارة والتقدم تحت عنوانه، كما سمي كتاب حماسة أبي تمام-وهوكتاب مختارات شعرية عام- بأكبر أبوابه(باب الحماسة)، وأبرز وظائفه الاحتساب على الحكومة،مراقبة ومحاسبة، واتخاذ ما يلزم لذلك من عرفاء الناس، الذين تقدمهم الأمة، لما ليهم من صفات القيادة والنبل.وأهم اجراءاته :تعدد التجمعات الأهلية المدنية، وتعد التجمعات المدنية الأهلية، أرقي أشكال المدنية، ولا تصل إليها الأمم الصحراوية والزراعية، إلا بعد جهد جهيد.

ب= "وأمرهم شورى بينهم"

بأن تكون الشورى (نظاما) للإمة،تربويا وأسريا واجتماعيا وسياسيا. الشورى نظاما:بناء على أن العدالة أساس الحكم, وأن شجرة العدل, لا تنمو إلا في ظلال الشورى وأن العدل لا بد له من حارس هو الشورى، تصبح الشورى, عند جدولتها في المركز الثاني بعد التوحيد، على مستوى الجماعة والدولة، ويصبح الفرق بين الحكم الإسلامي واللا إسلامي هو الشورى الشعبية الملزمة. والشورى الجماعية ملزمة, حتى ولو كان رأي الناس خطأ, كما طبق النبي صلى الله عليه وسلم. ولاسيما في عزوة أحد، وكما قرر جمهور الفقهاء، كما نقل ذلك النووي في شرح صحيح مسلم.

ج= التعاون على الببر والتقوى من خلال جمعيات مدنية والاحتساب السياسي والاجتماعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

د:الالتزام بالأسلوب السلمي في حل أي صراع داخل الأمة:

(أي قصر الأمر بالمعروف على اللسان، والتجمعات الأهلية). وتجنب مثيرات الفتن والفرقة، والالتزام بحل الخلاف بين أفراد المجتمع وجماعاته الصراع الرمزي السلمي وعدم تجاوزه إلى الصراع المادي الدموي. ومقتضاه أن تسود بين الناس قيم التعايش الاجتماعي, كالتسامح والاعتراف بالآخر الموجود في الوطن, والتكافل والتعاون, وقبول الاختلاف والالتزام بحل الخلاف بأسلوب سلمى, وهذا مايعبر عنه بـ(السلمية), وحاصل ذلك أن يلتزم الناس جميعاً, افراداً وجماعات بالروح السلمية أي بحل أي خلاف بالتشاور والتحاور، فيصبح الصراع الرمزي ,هو القاعدة المهيمنة, عند الاختلاف , ويحل محل الصراع المادي.

سل السلاح لحل الخلافات السياسية والاجتماعية، محظور في الإسلام، سواء كان الذي يرفع السلاح فريق من المجتمع، يريد أن يصلح الحكومة، أو الحكومة لكي تجبر الناس على تصرف أو سلوك، أو فريق اجتماعي يرفع السلاح على فريق آخر.من أجل ذلك اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم، اسل السلاح لحسم الخلاف السياسي كفرا، فقال:لاترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض"

ومقتضى مبدأ الالتزام بحل أي خلاف سياسي أو اجتماعي، بالأسلوب السلمي أنه لا يجوز للقيادة أن تحكم المجتمع بالعنف المادي, فالعنف المادي أداة للسيطرة مرفوضة، سواء كانت للبقاء في السلطة, أم للوصول أليها,

لأن القوة العسكرية والبوليسية لا تصنع حقاً ولا أمناً، فضلاً عن أن تصونهما, لأن الحق والأمن المكتسب عن طريق قوة الجبر والقمع, يتلاشى بتلاشي قوة الجبر، وقوة الجبر تحمل بطبيعتها جنين فنائها، لأنها كدودة القز تنسج حولها، ما يخنق أنفاسها, وما يتوصل إليه بالعنف, ينتزع أيضاً بالعنف, لأن كل حكم مهما قوي وبطش لن يستقر ولن يستمر, ما دامت وسيلة بقائه أو أمنه هي أضلاع مثلث القمع في الدولة الجبرية: بوليساً وتربية و قضاءاً إنما هو سريع الاختلال.

لماذا ؟ لأنه مولد طبيعي للعنف الاجتماعي والسياسي, فيصبح المجتمع لهوة في شقى طاحونة شق العنف الحكومي وشق العنف الأهلي المضاد, إن القمع منهج متى استخدمته الدولة ضد مواطنيها, أدى إلى تلاشيها, يمكن صياغة هذا المبدأ بالعبارة التالية: (القمع وفيٌ لمنهجه, وليس حليفاً ولا وفيا لمنتجه) إن من يعود أبناءه على استخدام المسدس، دون أن يربيهم على التسامح, يمكن أن نجد أحد الأولاد قد صوب المسدس إلى رأس الأب في أي خلاف، كما قال الشاعر:

وخلتهم سهاماً صائبات × فكانوها، ولكن في فؤادي

حصر حل أي خلاف سياسي أو اجتماعي بالسلم والحوار، لكي لا يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، كما حذر الحديث الشريف. وترسيخ مبدأ السلمية في حل أي نزاع اجتماعي أو سياسي، ورفض أسلوب العنف طريقا إلى الحكم أو للتمسك به.

هـ=تتجسد صورة المبادئ والوسائل بإنشاء الدولة المدنية المنظمة:

بالتنظيم تمتاز الأمم المتمدينة، عن الأمم في طورها البسيط، وذلك يتطلب تنظيم التجارة والصناعة والزراعة، ووسائل العيش والسكن والإقامة والسفر، والصحة والغذاء والمرور.

وضع تنظيمات وإجراءات كافية، لتنظيم الحباة السياسية في هرم الدولة تجسد المهوم الشوري للحكم، ولا يمكن تطبيق المفهوم الشوري للحكم؛ إلا تنظيم إدارة الدولة بإجراءات تسمى الدستور. وأبرز اجراءات التنظيم في القيادة:توزيع السلطة، وفصل القضاء عن السلطان، وقيام مجلس لأهل الحل والعقد،وتقسيم التعليم إلى مراحل،والقضاء إلى درجات واختصاصات،

والروح المدنية تفضي إلى الجدية والروح العملية، واستقلال الذات الفردية غير الإمعية، التي يقوم بها السعي في سبيل المصالح العامة وتحقيق مصادر القوة مدنية وتقنية وصناعية وعسكرية.

وللدولة ثلاث وظائف محددة: خادمة تسعى لمصالح عموم الناس، وحارسة للبلدان من العدوان الخارجي، ومن الانفلات الداخلي،وقاضية عند تنازعهم تعيد للمظلوم حقه من ظالمه.

وجوهر صفات الدولة العادلة، ولذلك تناقلت الشعوب-على اختلاف نحلها وألسنتها- العدل أساس الحكم.

8=المجتمع المدني نقيضاً للصحراوي

أ - الهجرة من صحراء القبيلة إلى المدينة:

المجتمع المدني في معناه اللغوي؛ منسوب إلى المدينة، فهو نقيض المجتمعات الطبيعية أو الفطرية، التي يقوم الأفراد فيها بأخذ حقوقهم بأيديهم، فيكثر تخاصمهم وتحاربهم، كما كان الجاهليون وعرب البادية. ولكن الناس يتعلمون بالخبرة، أن أخذ كل إنسان حقه بيده؛ مدعاة للفوضى والتشاحن والتصارع الدموي، لأن أخلاق الأنانية في الأفراد، تدفع كلاً منهم إلى إغفال مصالح الآخرين، فيجرهم هذا إلى الاحتراب، ولا منجاة لهم إلا بقيام مجتمع المدينة، الذي تبرز فيه الدولة، فلتنظيم أمورهم وحسم سبل التنازع، لا بدّ أن يوكلوا حسم التنازع للدولة.

المفهوم اللغوي للمجتمع المدني هو مجتمع المدينة، الذي يناقض مجتمعات القبيلة والطائفة، ففي مجتمع القبيلة يصبح الولاء للقبيلة، وتصبح القبيلة هي الدولة، ويصبح زعيم القبيلة هو أب الجماعة، يمارس صلاحياته بالوصاية على الجماعة، كما يمارسها رب الأسرة وسيد العشيرة.

وبذلك تصبح لهذه القبيلة السيادة على من هو أضعف منها من القبائل. ويصبح أفرادها هم النبلاء المستحقون السيادة والريادة، وكأنما جبلت دون غيرها على الحكمة والقيادة، وجبل غيرها من القبائل على الجهل والانقياد.

وفي مجتمع المدنية تتعقد العلاقات، وتتقاطع المصالح، وتتعارض الرغبات، وينتقل الناس من الإدارة الطبيعية الساذجة، إلى الإدارة الصناعية المرتبة، وينتقلون من نظام الاقتصاد البدائي، القائم على المقايضة، إلى نظام الاقتصاد المعقد القائم على النقود.

والإنسان في المدينة لا يتنازل عن حقوقه الطبيعية ولا سيما في الحرية السامية والمساواة، ولكنه يتنازل في الدفاع عنها، لقانون عادل وقضاء ثابت صارم.

وبذلك يصبح المجتمع المدني أفضل من المجتمع الطبيعي الفطري، كما بين (لوك) و(روسو) و(ديدرو)، ونحوهم من مفكري الغرب. هذه حقيقة إنسانية، في سنن الله الاجتماعية، ومن أجل ذلك أدخل الإسلام مفهوم المجتمع المدني؛ في نسيج الإيمان، وطبعه ببصمات دينية، فحذر الإسلام تحذيراً كثيراً من الروح البدوية، وهاجم النزعة الصحراوية، واعتبر الأعراب أشد كفراً ونفاقاً، لأنهم يفتقرون إلى السمو المدني، الذي يقوم على العدل والإنصاف، واحترام حقوق الآخرين، والإذعان للقانون العادل.

ولتغيير اسم (يثرب) إلى (المدينة) المنورة؛ دلالة رمزية عميقة على هذا الاتجاه.

وهناك نصوص ووقائع عديدة – حسب دليل الاستقراء- تدل دلالة قطعية، على أن الإسلام حارب البداوة ونظام قيمها (الوحشي)، كالأنانية والعدوانية ووأد البنات، وسك لمحاربتها مصطلحات دينية سلبية، كالجهل والفسق والجاهلية والكفر. (انظر لتفصيل ذلك: بحث مقاصد الإسلام الكلية في كتيب :جناحان حلق بهما الإسلام).

ب - كيف تنجي الروح المدنية من الصراع المادي:

الناس في الصحراء أقرب إلى طبائع الوحوش؛ تشيع فيهم الأنانية والأثرة، ويجهل الفرد منهم الحد الفاصل بين حقه وحق الآخرين، فيعتدي بعضهم على بعض، وعندما يختلفون حول مرعى أو ماء؛ لا يحتاجون إلى من يفتيهم من المحق والمبطل، بل يفتي كل منهم نفسه، ويأخذ ما اعتبره حقه بيده، فينزلقون تلقائياً إلى صراع دموي، كما نجد في المجتمع الجاهلي وعند عرب الصحراء، وقد يتفاقم هذا الصراع الفردي إلى صراع قبلي فظيع، يتفانى فيه الناس، من أجل قطعة أرض أو سلامة عرض، كما نرى في حرب داحس والغبراء والبسوس.

من أجل ذلك يحتاجون إلى ثلاثة أمور لا بدّ منها لدرء التنازع:

الأول: إقرار قانون عادل ثابت يتعارفون عليه، يعتبر مقياساً للحق والباطل، ومرجعاً للفصل في الخصومات التي تنشأ بينهم.

الثاني: قضاء عادل غير متحيز يطبق أحكام ذاك القانون على الوقائع، فيفصل في الخصومات والتنازع. ثم ينفذ ما أصدر من أحكام، كي لا يدفعهم الحقد والثأر والأثرة، إلى الاعتداء على حقوق الآخرين.

الثالث: سلطة مادية تقوم بإدارة أمن الناس الداخلي والخارجي. كما يقول لوك: «فالحكم المدني هو العلاج الأصيل لآفات الطور الطبيعي، وهي آفات جسيمة حقاً في تلك القضايا، التي يكون المرء فيها خصماً وحكماً في وقت واحد» (انظر باروت: 23).

ج-الحقوق الأساسية للبشر من أصول الشريعة:

يمكن تحديد الحقوق الأساسية للمواطنين بأنها بضع عشرة: العدالة والمساواة والشورية ( المشاركة الشعبية في القرار السياسي ) والحرية والتعددية والكرامة والالتزام بالروح السلمية وحل الخلافات بالحوار، والتعلم ، والأمن، ، وقيام الحكم على رأي الأكثرية، مع ضمان حقوق ألأقلية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى ، والتراحم ، وسائر حقوق الإنسان التي عرفها البشر بالطبيعة ، وأقرتها الشريعة ؛ قبل تنادي الأمم الحديثة إليها .

هذه الحقوق أساسية للمواطنين ، فهي إذن من أصول الدين في شطر الشريعة المدني ، وقد صرحت بها النصوص ، ولا سيما في الآيات المكية ، وما صرحت به النصوص في الآيات المكية يمتاز بأمرين :

الأول : أنه من أصول الدين .

الثاني أنه لا يدخله نسخ ، وإنما قد يتخلله التخصيص والتفصيل كالزكاة في شطر الشريعة المدني ، والصلاة في شطر الشريعة الروحي . وهذه قطعا من أصول الدين، ولو أسقطتها كتب العقيدة العباسة وهمشتها، ولتأصيل ذلك يمكن القارئ الاطلاع على كتاب"جناحان حلق بهما الإسلام: العدل والحرية".

عندما نفصل فقرات العقيدة في الجانب المدني عامة والسياسي خاصة، لا بد أن نكون معتمدين على صريح نصوص الكتاب والسنة، مستعينين- في فهم ماهو غير صريح أو مفصل- بحقائق السياسة والاجتماع والحضارة والتاريخ، ومستشهدين بمواقف عموم الفقهاء الأمويين الأحرار، الذين قاوموا المافيا السياسية، ومعتضدين بآراء الفقهاء الأحرار(النوادر) من سلف الأمة في العهد العباسي، كابن تيمية وابن عطية والنووي والشاطبي، ومستشهدين بنظريات فقهاء السلفية المدنية،كالأفغاني والكواكبي وخير الدين التونسي ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، والمودودي وسيدقطب والشيخ محمد الغزالي.

د– ثلاثية المجتمع المدني:

لذلك لا يمكن فصل مفهوم المجتمع المدني عن مفهوم ا