شِعْرِيَةُ الحَداثَةِ al7datha.doc · web viewوعندما نقف عند...

363

Upload: others

Post on 11-Feb-2020

5 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

شِعْرِيَةُ الحَداثَةِ

شِــعْرِيَةُ الحَــداثَةِ

البريد الالكتروني: [email protected] E-mail

[email protected]

موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت

www.awu-dam.org

((

عبد العزيز إبراهيم

شِــعْرِيَةُ الحَــداثَةِ

- دراســــــة -

منشورات اتحاد الكتاب العرب

دمشق - 2005

المقدمــة:

أقصد بـ(شِعْرِيَةُ الحَداثَةِ) هي الحداثة العربية التي بزغت شمسها في منتصف القرن التاسع عشر، وتتالت حلقاتها التحديثية منذ ذلك الوقت حتى أيامنا الأخيرة من القرن العشرين، حيث كثر الحديث عنها واختلف الرأي حولها. وإن انصبت هذه الآراء على أنها تنويرات غربية حاولنا أن نتجرعها على دفعات حسب زمنيتها التي تغطي سنوات قاربت المئة والخمسين مصورة ما عصف من رياح على هذه الأرض أثّرت اجتماعياً ونتجت عن تحولات مادية لعب الاقتصاد والثروة الطبيعية فيها عوامل لفرض الحضارة الغربية نتيجة تقدمها العلمي الهائل، يقابل ذلك تخلف حضاري يظهر في فقر الفكر واستلاب الحرية والإحساس بالغربة وكانت محصلة ذلك الصنيع أن فقد المواطن العربي ثقته بالمطروح في الساحة لكونه فقيراً يعوزه الصدق وهو أول ما يطلبه في قضية التحديث.

لقد دعت الحداثة إلى احترام الآخر "المتلقي"وهذا مالم تقتنع به الحداثة العربية، ليس على مستوى التنظير، بل الممارسة الفعلية في ما نكتب ونحن نزعم أننا "حداثويون" نوجه خطاباً إلى الآخر شعراً كان أم رواية...الخ. وفاتنا أن التحديث يتم من الداخل لأن عملية النهوض لن يتمكن منها إلا القائم بها، فإن كرّرنا قول الآخر فليست تلك الأقوال حداثة.

ولم نزل بعيدين عن هذه العملية،عملية التغيير نحو موكب الحداثة، فإن قيل لنا إن دراسات كثيرة ملأت الساحة، أقول إنها تنقل فكراً يترجم ما كتبه الغربيون عن حداثتهم، وإن حاولنا أن نكتب عن حداثتنا فإن اللغة الواضحة هي ما نحتاج إليها لا المصطلحات التي كثر تداولها حتى احتاج القارئ إلى معجم كي يحدد المراد منها، فكان ذلك العرض فوق مستوى التلقي لفقد صلة الفهم من الرسالة الصادرة عن الباعث (الشاعر/الكاتب) إلى القارئ (المتلقي) وتلك أزمة الحداثة إنَّك لا تفهم المقول!!!...

من هذه الأزمة النقدية حاولت أن أشارك في المقول من خلال بحوث كتبتها في السنتين الأخيرتين نُشِرَ بعضها. ارتبطت جميعها بخيط اسمه الحداثة تمثلت في مدخل وستة فصول. جمع المدخل رؤيتين: الشرقية والغربية من خلال تباين تلك الرؤية والتي تشكل جذراً للحداثة، دون أن أنسى أن الرؤية الغربية هي الأخرى قد افترعت إلى رؤيتين أدبيتين إحداهما مثالية النشأة والأصول والأخرى مادية الفلسفة ترى في الأدب انعكاساً للمادة وتكون حداثتها مختلفة عما في غرب أوروبا وأمريكا.

أما الفصول الستة فقد عرضت في الأول منها إلى لغة أهل الحداثة من خلال ما كتبه الدكتور إبراهيم السامرائي –رحمه الله- الذي مثلت كتاباته اللغوية نقداً واعياً لها. وفي الثاني وقفت عند أبعاد التجربة وأثرها في شعر الحداثة.

وفي الثالث نظرت إلى الصورة الفنية في شعر الحداثة بعد أن تجاوزوا اللغة وأغربوا في التجربة. فكانت صورهم مهشمة. وفي الرابع كانت ظاهرة الغموض مرضاً رافق شعر الحداثة حيث نأت هذه الظاهرة بالمتلقي من أن يعقد صفقة فهم مع شعراء الحداثة، فيلجأ إلى التظاهر بالفهم وتلك حالة اغتراب عاشها القارئ وهو يقرأ شعر الحداثة. وفي الخامس وقفت عند إنشاد شعر الحداثة لعلي أمكن السامع منه إنْ هو تجاوز القراءة إلى السماع. أمافي السادس فقد اتخذت مما يحدث عند شعراء الحداثة من حالات قد تكون بدايات واعية للتجديد وقد لا تكون لاسيما إذا نظرنا إلى شعر الستينات في العراق الذي شهر أصحابه سيف التمرد دون أن يكون لسيوفهم المشرعة أيُّ زاد يبرر حداثتهم. واتخذت من رفض القصيدة الأدائية شاهداً على أزمة التوصيل في هذا الشعر.

ويلاحظ في المعروض من القول، أن بعض الشواهد أو الآراء التي تطرح بين سطور الفصول قد تتكرر، وهذا أمر طبيعي لأن توظيف النص يحتاج إلى ذلك، وأذكر على سبيل المثال تعريف الحداثة، وأثر المذاهب الأدبية الغربية في الحداثة الشعرية عند الغربيين وعلاقة ذلك في أدبنا أو حداثتنا العربية من حيث التأثر والتأثير.

أما اعتمادي على التراث العربي القديم، رأياً أو شعراً فإن مَردَّ ذلك يعود إلى قناعتي أن من تنصل من جذوره فقد هويته، ومن أغلق الباب دون تطوره عاش التخلف وبَعُد عن ركب الحضارة. وهذا يعني أن الحداثة التي أُريد لها أن تكون رؤية نقدية تشكل بديلاً عن نقد أدبنا، تكون فعلاً لا يمتلك حقَّ الحياة في دراساتنا المعاصرة وفي الوقت ذاته فإن الوقوف عند النقد القديم يكون فعلاً عقيماً لا ينتج فيه إلا الخيبة وهذا ما لا نفكر به إن أردنا لأدبنا ونقدنا رؤية معاصرة تربط أدبنا المعاصر بتراثنا العظيم.

وقد يسأل المتلقي: وما قيمة ما تزعم وتيار الحداثة لا يعرف لعرباته وقفة؟... أقول إن مواجهة المثقف العربي للحداثة غير ما يواجهه من تخلف عن ركب الحضارة وامتلك فيها إرثاً ليس من السهولة بمكان أن يتجاوزه من ساق عقله مع الحداثة وقد أهمل ذاك الإرث الذي ظهر في الدراسة الأدبية عند العرب و ترك مكتبة شغلت مخطوطاتها سعة في العقل الغربي. وبالتالي فإننا إن قلنا بهذا الإرث الفكري فلا ينبغي أن نقف عنده بل نطلّ على تراث الآخر المعاصر بلغة واضحة حتى يتمكن القارئ من فهم دلالاتها وسياقاتها المعرفية من أجل خلق ثقافة "حداثوية" لأن الغموض في الطرح والإبهام في السياق يدفع بنا إلى العزوف ومن ثم البحث عن البديل تساوقاً مع سنة التقدم التي ترفض المراوحة في المكان نفسه. واختيارنا للحداثة لا بديل له.

عبد العزيز إبراهيم

العراق /الديوانية في 2/1/2004.

((

المدخلالشعرية وتباين الرؤية

(1)

تحتل الدراسات الغربية المعاصرة موقعاً متميزاً في أدبنا الحديث وتغطي أطروحاتها مساحة واسعة منه لما تعرض لـه من مقولات لا يغادرها الباحثون العرب بل يجمع أكثرهم على أنها الطريق المثلى في دراسة النصّ وتحليله وفاتهم أن ما يصلح لأدبٍ قد لا ينفع أدباً آخر.

أقول ذلك وأنا أقرأ "الشعريّة" وأجد بوناً شاسعاً بين ماكتبه الغربيون أمثال (رومان ياكوبسون) في قضايا الشعرية و(تزفيتان تودوروف) في الشعرية وبين ما يطرحه كمال أبو ديب في الشعرية، وأدونيس في الشعرية العربية وآخرون من ناحية عرض إشكالية الشعرية مفهومها ومقترحات معالجتها.

فالكاتب الغربي يرى في الشعرية متغيرات لا يستقر عندها وبالتالي تعترض سبيله ولذا يحاول ما استطاع إيجاد مخرج لهذه الأشكال ويسير على خطاه الكاتب الشرقي حديثاً يترجم مايكتبه في قضية تلتقي في العنوان ولكنها تختلف مضموناً رغم حداثتها المعاصرة وهذه القضية هي "الشعريّة".

الكاتب الغربي (رومان ياكوبسون) يقول: الشعرية يمكن تحديدها باعتبارها ذلك الفرع من اللسانيات الذي يعالج الوظيفة الشعرية في علاقاتها مع الوظائف الأخرى للّغة وتهتم الشعرية بالمعنى الواسع للكلمة بالوظيفة الشعرية لا في الشعر حسب حيث تهيمن هذه الوظيفة على الوظائف الأخرى للّغة وإنما تهتم بها أيضاً خارج الشعر حيث تعطي الأولوية لهذه الوظيفة أو تلك على حساب الوظيفة الشعرية.(1) كما يراها أن تكون عليه. ولا يختلف عنه (تزفيتان تودوروف)، الذي يدرج الشعرية ضمن العلوم التي تهتم بالخطابات –أي مجموع ما يُكتب عن الفلسفة والسياسة والدين والمنطوق اليومي، إضافة إلى السينما والمسرح- مؤكداً صلة الأدب من حيث هو خطاب متميّز بالخطابات والممارسات الرمزية الأخرى.(2).

فالرجلان ينظران إلى الشعرية من خلال النص داخلاً فيه اللغة والنحو من جهة إضافة إلى تحليل بنية النص ونقده كما صنع (تودوروف) في كتابه. وإن لم يعرف الاستقرار وهذا ما سجله مُترجما كتابه فذكر أن البنيوية في فرنسا بالذات علاوة على ألمانيا مثلاً آخذة في التراجع والذي يبعث على الحذر أن تودوروف نفسه قد أعاد النظر في حركة النقد الجديد والموروث الشكلي ناقداً ومشككاً ومُقوِّماً وذلك في سيرته النقدية: نقد النقد واضعاً ما أسماه بـ(النقد الجوازي) بديلاً...

أمّا الرؤية الشرقية عامة والعربية خاصة فإنها تخالف الاتجاه والمنحى. فهي لم تزل عند مدار واحد لا تغادره، تركته الشعرية الغربية أو تجاوزته منذ زمن بعيد حدودها النص كما قدمنا في حين بقيت رؤية العربي إلى الشعرية حلماً للخلاص وفي هذا يقول كمال أبو ديب مانصه "الشعرية هي نزوع الإنسان الدائب إلى خلق بُعْد الممكن، الحلم الأسمى في عالمه وفي ذاته"، وهي "قدرة عميقة نادرة على استبطان الإنسان والعالم والطبيعة وآلهتها، المجتمع وصراعاته، الحضارة وسموها وعظمتها، الطبقات المسلوبة المستغلة وملحمة صراعها ضد طبقات لم تزل عبر التاريخ تمسح وجودها بالقسر والقهر والقمع وكل مافي اللغة من قافات وقيافات والإنسان في وقفته ضد الاضطهاد الديني وسلطة المرجع الأعلى إلهاً أو صنماً وإماماً أو قسيساً وسلطة الدولة"، ويعلل لماذا سلطة الدولة فيقول: لأنها "أكثر أنماط السلطة التي اخترعها الإنسان قمعاً لإنسانيته وسحقاً لنبل بشريته".(3). ونظرته إليها عموماً، ويرتدي أدونيس (علي أحمد سعيد) ثوب المؤرخ معلقاً على ذلك، فيقول: كانت السلطة تسمي جميع الذين لا يفكرون وفقاً لثقافة الخلافة بـ(أهل الأحداث) نافية عنهم بذلك انتماءهم الإسلامي وفي هذا ما يوضح كيف أن عبارتي (الأحداث) و(المحدث) اللتين وصف بهما الشعر الذي خرج على الأصول القديمة تجيئان من المعجم الديني وفيه ما يوضح كيف أن الحديث الشعري بدا للمؤسسة السائدة كمثل الخروج السياسي أو الفكري خروجاً على ثقافة الخلافة ونفياً للقديم النموذجي". ثم ينتهي إلى حكم يراه ثابتاً. فيقول: "ومن هنا نفهم كيف أنَّ الشعري في الحياة العربية امتزج دائماً بالسياسي-الديني، ولا يزال يمتزج به حتى الآن."(4). وهذا حكم مطلق!...

ولم يكن هذا الرأي يؤيده "رشيد يحياوي"، وهو يتحدث عن تطور الأنواع الأدبية التي يسميها أنماطاً فيقول: "الشعر كان أشهر أنماط الأدب العربي على أنه لم يكن مبنياً على الارتباط بنظام الحكم رغم محاولات ترويضه على ذلك الارتباط وعايش الشعر نمطاً آخر هو الخطابة وقد كانت الخطابة ذات صلة مباشرة بالدولة وأجهزتها ولكن هذه الصلة لم تدم طويلاً فمجيء الدولة العباسية والأنظمة المتعاقبة فيها نقَّص من الحاجة إلى الكلام (خطابة/شعر) لضبط الناس"(5). لاستغناء الحاكم عنها بوسائل أخرى وهو يريد أن يقول إن غلبة العنصر الأجنبي على مقدرات الخلافة العباسية أفقد الخطابة أو الشعر قدرتهما المؤثرة على الجماهير وبالتالي فإن الحاكم لا يجد فيهما وسيلة إعلام تخدم أغراضه لكونه لا يفقه العربية!...

ويحاول يحياوي أن يرسم صورة لمفهوم الشعرية عند العرب الذي يخالف التصور الأوروبي لـه فيقول: مجموعة المبادئ التي أسست عند العرب تصورهم للنمط الشعري في علاقاته الداخلية والخارجية.. ولا تحصر الشعرية في ذلك العلم الذي تحدد بدقة غير متناهية عند الشعريين الأوروبيين منذ أثارته عند ياكوبسون (أدبية الأدب وشعرية الشعر)، وبتحديد دقيق أنواعه وتصنيفاته".

إن الرؤية الغربية هي المسيطرة على أدونيس وكمال أبو ديب بالرغم من أن الأول يحاول أن يكون أكثر قرباً لفهم الشعرية العربية. فيرى أن "كتابة الشعر هي قراءة للعالم وأشيائه. وهذه القراءة هي في بعض مستوياتها، قراءة لأشياء مشحونة بالكلام ولكلام مشحون بالأشياء. وسرُّ الشعرية هو أن تظل دائماً كلاماً ضد الكلام، لكي تقدر أن تسمي العالم وأشياءه أسماء جديدة –أي تراها في ضوء جديد". وهذا الرأي ناتج عن تصورات سوريالية ويتضح ذلك في رؤيته للّغة فيقول: "اللغة هنا لا تبتكر الشيء وحده، وإنما تبتكر ذاتها فيما تبتكره. والشعر هو حيث الكلمة تتجاوز نفسها مُفْلتة من حدود حروفها، وحيث الشيء يأخذ صورة جديدة ومعنى آخر".(6). وهذا تجاوز للدلالة. أمّا ما ندعيه من قرب لفهم الشعرية العربية فسببه يعود إلى وقفته عند المجاز الذي قال عنه: "إن المجاز يُخرج الكلمات من حدودها الحقيقية، فإن العلاقات التي يقيمها بينها وبين الواقع، إنما هي علاقات احتمالية –يتعدد بها المعنى مما يولد اختلافاً في الفهم، يؤدي إلى اختلاف في الرأي وفي التقويم ومن هنا لا يتيح المجاز إعطاء جواب نهائي، لأنه في ذاته مجال لصراع التناقضات الدلالية"، وهو سمة واضحة في لغة النص العربي ثم ينتهي إلى حكم يقول: "هكذا يظل المجاز عامل توليد للأسئلة، وهو من هنا عامل قلق وإقلاق بالنسبة إلى المعرفة التي تريد أن تكون يقينية".(7). ويبقى ذلك احتمال. ويُضيف وقفة أخرى تخالف بها الشعرية العربية مثيلتها الغربية. وهذه الوقفة هي محاولته الوصول إلى جذر للحداثة الشعرية عند العرب. فيقول (8) "إن جذور الحداثة الشعرية العربية بخاصة والحداثة الكتابية بعامة، كامنة في النصّ القرآني، من حيث أن الشعرية الشفوية الجاهلية تمثل القدم الشعري وأن الدراسات القرآنية وضعت أسساً نقدية جديدة لدراسة النص، بل ابتكرت علماً للجمال جديداً ممهدة بذلك لنشوء شعرية عربية جديدة). ومثلت تلك في الوقت نفسه حداثة عصرها حفظه لنا التراث.

وعندما نقف عند كمال أبو ديب فإنه يرى أن الشعرية "حركة استقطابية، بمعنى أنها فاعلية تنتزع من سديم التجربة واللغة مادة لا متجانسة تفعل فيها عن طريق تنظيمها وترتيبها وتنسيقها حول أقطاب، وتدقيقاً حول قطبين يفصلهما بدورهما، ما أسميته مسافة التوتر. هكذا تكون الشعرية التجسيد الأسمى لخلق الثنائيات الضدية وتنسيق العالم حولها تجربة ولغة ودلالة وصوتاً وإيقاعاً". وهو هنا يلح على مسألة خلق التوتر أو الفجوة كما يسميها ويحمّل اللغة الشعرية وظيفة صنع هذه الفجوة فيقول: إن وظيفة اللغة الشعرية هي خلق الفجوة: مسافة التوتر بين اللغة وبين الإبداع الفردي، بين اللغة وبين الكلام وإعادة وضع اللغة في سياق جديد كلية".(9).

وهو بذلك لا يخرج عما يقوله موكاروفسكي "إن اللغة الشعرية دائماً تعيد إحياء موقف الإنسان من اللغة وعلاقة اللغة بالواقع وتجلو بطرق جديدة التأليف الداخلي للعلاقة اللغوية وتكشف إمكانيات جديدة لاستخدامها".

إن عدم استقرار الأوروبيين على رؤية جعلت كمال أبو ديب يقول: "إن الشعرية مفهوم متغير عبر التاريخ". ويعلل ذلك برأي "لوتمان" الذي يقول: إن كون المشابهة بين النص وبين الواقع اللا فني فضيلة، بل شرط للفن شرعها الذوق والنظرات الجمالية في القرن التاسع عشر وأنه في المراحل المبكرة كان اللا تشابه أو الفرق بين مجالي العادي الفني ما جعل الناس يتصورون نصاً من النصوص جمالياً وأن اللغة من أجل أن تصبح مادة الفن عُرِيت أولاً من مشابهتها للّغة الحياة اليومية.".(10). ولم تكن الشعرية العربية تعاني منه.

إنَّ الرؤية العربية للشعرية لم تكن واحدة في تناولها فقد نظر إليها أدونيس من خلال مواقف تمثلت في الشفوية الجاهلية –كما سمّاها-والفضاء القرآني والفكر ثم الحداثة ولكنه لم يخرج عن سورياليته في هذه الدوائر.ولم تكن رؤية كمال أبو ديب إلا دراسة اللغة والشعر من خلال الإيقاع والمسافة المفترضة الفاصلة التي شغلته ألا وهي مسافة التوتر أو الفجوة. وخالفهما رشيد يحياوي الذي نظر إلى الشعرية من خلال تطور الأنواع الأدبية ولذا درس النوع الشعري وأنساقه وأغراضه. وهذه الرؤية تخالف مدخل الأوروبي إلى الشعرية رغم تأثر النظرة الشرقية بالنقدية الغربية وهذا يعود إلى تكوينات أو منطلقات الأدب في الغرب عنه عند العرب ولعل خير من التفت إلى هذا الاختلاف هو جرجي زيدان في كتابه (تأريخ آداب اللغة العربية)فقال ما نصه: "إن علم الأدب الذي يعنيه الإفرنج يفضي إلى الإجادة في فني المنثور والمنظوم مثل علم الأدب عند العرب؛ لكنه يشتمل أيضاً على روح انتقادية هي المراد الأصلي من علم الأدب عندهم لا العبارة أو الأسلوب. وإنما يريدون تلك الروح التي ينتقد بها الكاتب أو الشاعر مايقع عليه نظره من الحوادث الطبيعية أو ينتبه عليه من أماكن النقص في الأمة أو رجالها أو ملوكها، فينتقد أو يصفه بأسلوب انتقادي شعري... وكتابهم إنما يتفاضلون في أسلوب ذلك الانتقاد... بقطع النظر عما يرجوه من الكسب أو الاسترضاء".

وهذا النص يشكل منطلقاً للشعرية الغربية التي تختلف عن الشرقية التي يقول عنها جرجي زيدان في النص نفسه: "وهذا نادر في أدباء العرب –يقصد روح الانتقاد- لانصراف قرائحهم في صدر دولتهم إلى إرضاء الخلفاء أو الأمراء من مدح أو هجاء على ماكانت تقتضيه الأحزاب السياسية أو يشيبون بما يطرب الخليفة أو الأمير لأنه على رضاه يتوقف رزقهم"(11), ويعني هذا التكسب في الشعر. ثم يحدد المراد بـ(روح الانتقاد) فيقول: "فهم يريدون ما فعله شكسبير ودانتي وهوجو وروسو وفولتير وغيرهم ممن ألف القصص للمطالعة أو التمثيل أو القصائد أو المقالات في تصوير الحقائق وانتقادهم واستخراج العبرة منها بأسلوب شعري يؤثر في النفس". ويقارن ذلك بالأدب العربي فيقول: "والعرب قلما فعلوا ذلك في النظم أو النثر، إلا نحو ما يؤخذ من كتاب كليلة ودِمنة وأمثاله وهو تلميحي وليس عربي الأصل. وقد ألفوا قصة عنترة مثلاً، صوروا بها حالة الاجتماع في الجاهلية. وصوروا في "ألف ليلة وليلة" حالة الاجتماع في عصر الرخاء والحضارة، لكنهم لم يضعوا ذلك في شكل انتقادي ولا نبهوا على مكانة العبرة فيه". ويكون موقف القارئ أو المتلقي إخبارياً، أي لا دور لـه في ما يقرأ فيقول: "وإن كان القارئ يتأثر في المطالعة، فيساق من نفسه إلى استحسان بعض ما صوّر هناك من مناقب فيقلدها، إلا أنه غير مقصود في التأليف"، ولكنه يستدرك قائلاً: وهذا النقص ليس خاصاً بالعرب بل هو يشمل أكثر الشرقيين".

أما غيره فكان أبو القاسم الشابي الذي تجاوز الروح الانتقادية التي نبّه عليها جرجي زيدان بل أضاف واصفاً إياها بالحسية أو الشكلية حيث لا تغور في الأعماق كالنضرة الغربية حيث تنفذ إلى جوهر الأشياء فيقول في كتابه "الخيال الشعري عند العرب".(12). إنَّ الروح العربية –كما تعلن عن نفسها في الشعر القديم- حسيّة لا تنظر إلى الأشياء كما تنظر إليها الروح الغربية في عمق وتؤدة وسكون.. فهي لا تنفذ إلى جوهر الأشياء وصميم الحقائق وإنما هَمّها أن تنصرف إلى الشكل واللون والقالب، أو ماهو إلى ظواهر الأشياء من دخائلها". وهذا يعني أن يجرَّد الشعرية العربية من الخيال ولم يكن هذا الرأي إلا صدى لأقوال المستشرقين الأوروبيين الذين حاولوا أن يزرعوا وهماً في نفوسنا بأننا لا نملك سعة في الخيال ولا قدرة لشعريتنا على خلق الصورة الشعرية الرائعة، وفاتهم أنَّ القصائد العربية القديمة أبدعت صوراً فنية أساسها الخيال، فإن اتجهت إلى تشبيهات حسيّة فإن ذلك يقرب تصور المتلقي للأشياء من خلال طرفي جملة البلاغة العربية (المشبه+المشبه به)ومن الذين التفتوا إلى ذلك ابن الأثير (ت/637هـ)، في مثله السائر (13)، فقال: "اعلم أنه لا يخلو تشبيه الشيئين أحدهما بالآخر من أربعة أقسام: (1) إما تشبيه معنى بمعنى، (2)، وإما تشبيه صورة بصورة، (3) وإما تشبيه معنى بصورة.(4) وإما تشبيه صورة بمعنى. ويستشهد بآي من القرآن الكريم على القسم الثاني في قوله تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف عِينٌ، كأنهنَّ بيض مكنون(، الصافات /48-49. وعلى القسم الثالث في قوله تعالى:(والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة(. النور/39.

وقد وَضّحَ حازم القرطاجني (ت/684هـ)، في المنهاج ذلك فقال(14): وإذا خيّل لك الشيء بالأقاويل المحاكية لـه فالمقصود محاكاة ماهو عليه من حس أو قبح بأقاويل تخيل لواحقه وأغراضه: فإذا حوكي الشيء بصفاته أو ماهو مثال لصفاته تصوّر بما يرجع إليه... واستدلّ عليه بما هو خارج عنه. ومحصول الأقاويل الشعرية تصوير الأشياء الحاصلة في الوجود وتمثيلها في الأذهان على ماهي عليه".

وهذا ما دفع بـ(كارل بروكلمان) ت/1956م إلى القول (15): وكان الشاعر العربي يصنع مجده، ويجذب الأنظار إليه بالملاحظة الصائبة أو التشبيه القوي". ويكون مجال ذلك الخيال أو التصوير في البيت الشعري أو القصيدة عموماً. وكان هدفه من كل ذلك هو التأثير على مستمعيه وإن أغرب في تشبيهاته بأن ينتقي الصور التي لا تتبادر إلى الأذهان –وصنيعه هذا قمة الخيال والغور في الأشياء وبذلك تكون انطلاقته في بعض الأحيان من التشبيهات الحسيّة إلى اللا حسيّة أما إذا أريد بالنظرة النافذة، الرؤية الفلسفية الخاصة بالشاعر، فإن شعراء الغرب أنفسهم يتفاوتون بتلك الرؤية على مدى عصورهم الأدبية.

وما أقف عنده أن الشعرية كمدخل لدراسة الأدب عموماً والشعر على وجه الخصوص تختلف مفهوماً عمّا يطرحه الأوروبي رؤية ومنهجاً عنه عندما يعرض لها الباحث العربي لتباين الأصول المكونة لشعرية أدبه ولكن ذلك لا ينبغي أن يفسر على أنه غلق الباب أمام رياح التأثر والتأثير، أو منح لزادٍ جديدٍ نغذي به أدبنا بل العكس من هذا لأن متغيرات الحضارة تدخل سواء رغبنا أم لم نرغب ولكن أن نقلد الآخرين في رؤيتهم أو نسلك الطريق ذاتها فذاك لا يكون تطوراً وإنما تبعية لا تخلق أدباً.

***

هوامش الدراسة ومصادرها:

(1)–رومان ياكوبسون/قضايا الشعرية/35 ترجمة محمد الولي-مبارك حنون. دار توبقال-المغرب 1988.

(2)-تزفيتان تودوروف/الشعرية/6 ترجمة: شكري المبخوت-رجاء سلامة.دار توبقال-المغرب 1987.

(3)-كمال أبو ديب/في الشعرية/143 مؤسسة الأبحاث العربية-بيروت 1987م.

(4)-أدونيس/الشعرية العربية/80 دار العودة بيروت 1985م.

(5)-رشيد يحياوي/الشعرية العربية/129، مطبوعات أفريقيا الشرق. الدار البيضاء.المغرب.

(6)-أدونيس/الشعرية القريبة/78.

(7)-المصدر نفسه/75.

(8)-نفسه/50.

(9)-كمال أبو ديب/في الشعرية/74.

(10)-المصدر نفسه/127.

(11)-جرجي زيدان/تأريخ آداب اللغة العربية، مج1- ج2/587. دار مكتبة الحياة-بيروت.

(12)-ينظر أساليب الشعرية المعاصرة/د.صلاح فضل. دار الآداب.بيروت 1995، ص 38.

(13)-ابن الأثير/المثل السائر/2/136 تحق:د.أحمد الحوفي. منشورات دار الرفاعي بالرياض 1983.

(14)-حازم القرطاجني/منهاج البلغاء/120.تحق:ابن الخوجة. دار الكتب الشرقية، تونس 1966م.

(15)- بروكلمان /تأريخ الأدب العربي 1/57. ترجمة: د.عبد الحليم النجار، دار المعارف، القاهرة 1977م.

***

(2)

في هذه الحداثة لا يقف التباين في الرؤية بين شرقية وأخرى غربيّة بل يتعداه إلى تباين في هذه الرؤية في الآداب الغربية ذاتها، حيث نجد أمامنا نظريتين إحداهما مثالية الفلسفة، والأخرى مادية. وهذا يعني أنْ لا تكون هناك نظرية دون مسألة مختلف حولها. وهو ما يخلق أشكالاً في الدراسة عند تناول قضية يطلق عليها "الأدب" حيث وقف الغربي منها موقفاً متشدداً. لمن يحاول أن يسأله تعريفاً بالرغم من وضوح الرؤية للأدب عند الأوروبيين فيقول: (دبليو.دبليو. روبسون)، في كتابه: (تعريف الأدب)(1): "مَنْ طلب تعريفاً للأدب ربما ابتغى أموراً مختلفة. ربما ابتغى صيغة مقتضبة لما سبق لـه معرفته، كالتي توجد في القاموس. أو ابتغي لمحة خاطفة ذكية، تتمحص جانباً مألوفاً لتجربتنا بطريقة غير معهودة أو ربما كان فيلسوفاً، يلتمس الظروف الضرورية والمؤاتية لاستخدام هذه الكلمة (الأدب)، أو مؤرخ فكر يهتم بتقصي التحويرات عن معناها منذ العصور اليونانية –الرومانية.". وحاول ابن خلدون (1332-1406م)، أن يُعرِّف به ناظراً إليه عِلماً فيقول (2): "هذا العلم لا موضوع لـه يُنظر في إِثبات عوارضه أو نفيها وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة من شعر عالي الطبقة وسجع متساوٍ في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية.".

وهذا التعريف لا يتفق معه الأب أنستاس ماري الكرملي (1866-1947م). الذي يرى أن لفظة الأدب ليست من كلام العرب بل هي من الدخيل فيه يرجعها إلى اليونانية فيقول(3): "ليس لمادة أدب نسب في اللغات السامية، ومن ثم ليست عربية الأصل. وسبق اليونان سائر الأمم إلى وضع ما يختص بالأدب وقوانينه والأديب وصفاته لإمعانهم في الحضارة والعلوم العقلية واللسانية.". وهو هنا يأخذ أصل اللفظة أو دلالاتها الأولى، أما ما يحدث لها من تطور دلالي بعد ذلك فلا يعنيه وهو يبني معجمه اللغوي ولم تكن اللفظة في العربية في تطور دلالتها بعيدة عما حدث لها في اللغات الأوروبية حيث جمعت العلوم الاجتماعية والتربية في دائرتها، ولم يتمّ فصل تلك العلوم إلا في زمن متأخر وهذا ما دعا الكاتب (روبنسون) إلى القول: "فقد ذاعت فكرة واجهتها عند النقاد الناطقين بالفرنسية والإنكليزية على حدٍ سواء، تقول إن الأدب بهذا المعنى التبجيلي مفهوم حديث نسبياً، اخترعته البرجوازية في أواخر القرن التاسع عشر.).(4). وبالطبع يرفض هذه الفكرة مثلما يشك بصحة الدراسات اللسانية فيقول: (5). "وقد بذل اللغويون جهداً كبيراً في محاولة تعريف الاستعمال الأدبي للغة. –تكفي الإشارة إلى رومان جاكبسون فقط- ولو كان الوصول إلى هذا التعريف ممكناً لما كانت هناك مشكلة، ولعُرِّف العمل الأدبي على أنه نصّ مكتوب بلغة أدبية". فإذا رجعنا إلى الأصل اليوناني –كما يرى العلامة الكرملي- نجده (éduepés) وهو: "كلمة مركبة من حرفين من (édus) أي طيب وعذب ولذيذ، ومن (epos) أي كلام ومنطق وخطاب. فيكون محصل المعنى الحديث الطيب"(6). أو الخطاب العذب.

هذا الاختلاف أو عدم الاتفاق الحادث قد لا يجد مكاناً لـه في الأًصول اليونانية وما حدث كان بعد تلك الحضارة التي ابتكرت سبلاً لتحديد المقصود من الأدب صدر عن رؤية فلسفية عبرت عن حياتها الاجتماعية والثقافية كان لها الأثر الكبير في تمرير وجهة نظرها حول نشأة الأدب وظهور الأنواع فيه دون أن تغادر ماطرحه الإغريق في هذه القضية ولكن ذلك لا يعني الوقوف عند المطروح بل طوّرت الدراسات الأدبية هذه الأنواع بما أضافته العصور اللاحقة بعد الإغريق، وإن لم تتفق في المعيار الذي تعبر فيه عن المنطلق النظري للأدب.

إن صدور كتاب (نظرية الأدب) من قبل (اوستن وارين) و(رينيه ويليك) في (1948م)، وكتاب بالعنوان نفسه(نظرية الأدب) من قبل مجموعة من الباحثين السوفييت بعد ذلك قد وضّح لنا أن هناك معيارين ينطلق منهما أصحاب كل كتاب ليعبروا عن رؤيتهم الفلسفية في النشأة والنوع.

1-1

ينفي مؤلفا كتاب "نظرية الأدب" وارين –ويليك. أن تكون اللغة في الأدب ذات بعد دلالي لا تخرج عنه. فهي لغة ناقلة ومؤثرة في الوقت نفسه فيقولان:"إن اللغة الأدبية بعيدة كل البعد عن أن تكون دلالية فقط. إذ أن لها جانبها التعبيري، فهي تنقل لهجة المتحدث أو الكاتب وموقفه. كما أنها لا تقتصر فقط على تقرير ما يقال أو التعبير عنه، وإنما تريد أيضاً أن تؤثر في موقف القارئ، أن تقنعه، وأن تُغيّرهُ في النهاية"(7). ثم يفرقان بين هذه اللغة الأدبية واللغة العلمية فيقولان: "وثمة تمييز أكثر أهمية بين لغتي الأدب والعلم: ففي الأولى تشديد على الإشارة نفسها، على الرمز الصوتي للكلمة، وقد وضعت جميع أنواع الصنعة لتلفت النظر إليه، كالوزن والسجع ونماذج الصوت.". وبالمقابل فإن اللغة الأدبية لا تلتقي اللغة اليومية وإن كانت وسيلة اتصال بين المتحدثين بها لأن: "ليس في اللغة اليومية وعي بالإشارات ذاتها إلا نادراً، ومع ذلك فإن مثل هذا الوعي يظهر فعلاً في الرمز الصوتي للأسماء أو الأعمال أو التوريات".(8). وإن التقت هذه اللغة اليومية، اللغة الأدبية في مسألة التأثير، ذلك(أن اللغة اليومية تريد أن تصل إلى نتيجة وأن تؤثر في الأعمال والمواقف.". وإن لم يكن ذلك يمثل هدفاً فقد تكون: "ثرثرة البالغين الاجتماعية التي لا معنى لها". مثالاً ولا يمكن أن نعتبرها اتصالاً. ولنا في قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاما( مريم/62. شاهد على أن (اللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته)(9).

إن البحث في الأدب على وفق السؤال: ما الأدب؟.. يضعنا أمام أربعة آراء تدفعنا إلى استنتاجات تكون ناتجة عن هذه الآراء "ففريق يعتبر الأدب بصورة رئيسة نتاج الفرد الخالق، ومن ثم يستنتج أن الأدب يجب أن يبحث بشكل رئيس من خلال سيرة الكاتب ونفسيته. وفريق آخر يبحث عن العوامل الرئيسة المحددة للإبداع الفني في المؤسسات المعيشية للإنسان في الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وفريق ثالث قريب منه يبحث بشكل واسع عن الشرح السببي للأدب في الابتكارات الجماعية للعقل البشري، نحو تأريخ الأفكار واللاهوت وبقية الفنون. وأخيراً هناك فريق من الدارسين يسعون إلى شرح التأريخ الأدبي بمصطلحات روح العصر.".(10).

هذه الآراء تقع في دائرة الدراسة الخارجية التي (قد تسعى إلى تفسير الأدب في ضوء سياقه الاجتماعي، فإنها تغدو في معظم الحالات شرحاً تعليلياً). قد يبعده عن أصوله أو طبيعته ولهذا فإن المؤلفين ينبهان على أن "طبيعة الأدب تبرز كأوضح ماتكون حين يرد إلى نواحيه الأصلية فمن الجلي أن مركز الفن الأدبي يقع في الأنواع الأدبية التقليدية من شعر غنائي وملاحم ودراما. والمرجع فيها كلها عالم الحكاية والمخيلة."(11)، فيكون المعيار الذي ينطلق منه صاحبا نظرية الأدب في الغرب هو الخيال أو التخيل ويوضحان ذلك بقولهما: "إذا أقررنا أن "التخييل" أو "الاختراع" أو "التخييل" هو السمة المميزة للأدب فإننا نفكر على هذا الأساس في الأدب ضمن حدود هومر، دانتي، شكسبير، بلزاك، كيتس، وليس في حدود شيشرون أو مونتين أو أمرسون.". ويقصدان بذلك الأنواع الأدبية التي سبق ذكرها "الملحمة والشعر الغنائي والدراما". وتضاف إلى هذه الأنواع الرواية وقد خرّجا منها الخطابة والمقالة الاجتماعية والتربوية والفلسفية. ولكن هذا الترسيم لحدود الأنواع قد يواجه بأنواع تدخل فيها الأسطورة التي تشكل في أصلها حكاية خيالية وهذا ما يُوقع المصنفين في زاوية ضيقة حاولا التخلص منها بالاعتراف فقالا: "توجد حالات بين بين؛ فمؤلفات مثل "جمهورية أفلاطون" يصعب التنكر لها، على الأقل في سردها للأساطير العظمى، وفي ما تحتويه من مقاطع قوامها "التخييل" و"الاختراع" وإن كانت في الوقت ذاته عملاً فلسفياً."(12).

وإذا تجاوزنا هذا الإشكال فإن ما يؤخذ عليهما هو عدم التفريق بين التخيل والخيال حيث نبّه على ذلك روبنسون فقال: (13): "أود الاعتراض على ويلك ووارين لإقرانهما التخيل بالخيال.. ,قد استعملا الخيال بمعناه الاعتيادي الشائع كما في قولنا:"لا شيء هناك، إنه مجرد خيال منك". وعذره في ذلك "أن الخيال كلمة تنطوي على غموض وقوة في الإيحاء لذا لا يصلح ذكرها في تعريف وصفي". ويستشهد برأي الفيلسوف الإيطالي (توما الإكويني/1225-1274م). الذي ميّزها من الخيال والتي وزعها الناقد على (آ،ب،ج،د).

فقال (14): "النوع (أ) هو المعنى العادي والشائع للخيال، الذي لا يهمنا ولنترك إلى كولريج وأتباعه النوع (د)، وهو الخيال الخلاق والمقدس. النوعان (ب) و(ج) هما الأسهل تمييزاً والأكثر صلة بالموضوع.". ثم يعلل لماذا كان النوعان (ب-ج)، لهما صلة بالخيال الأدبي، فيقول:"يصور النوع (ب) شيئاً لم تره قط، إنما يُدرك فقط كوجود محتمل. والنوع (ج) هو الخيال الذي يرى ويسمع على حد سواء.وبوضوح فإن النوع (ب) فقط من بين هذه الأنواع، هو الذي يشمل فكرة الرواية، ولو أنه يمكن أن يكون الخاصية التي يتميز بها المخترع المبدع في كل مجال".

وإذا ترك الناقد روبنسون النوع (د) للشاعر الإنكليزي كولريج ووصفه بالخلاق أو المقدس، فإن (صموئيل تيلر كولريج/1772-1834م). قد (ابتكر نظرية فلسفية للأدب تختلف عن النظرية الشائعة في القرن الثامن عشر،إذ يعتبر الخيال من أهم عناصر الأدب، بل الحياة نفسها. وهو يميز فوق ذلك بين الخيال أو التصور، والمفهوم الرومانسي للكلمة التي تعني عمق الإدراك والإحساس واعتبر كولريج أن الخيال هو "العقل" في أرقى مراحل الصهر والتوحيد.)(15).

ويوضح الشريف الجرجاني (1340-1413م). في تعريفاته (16) المراد بـ"الخيال" فيقول: "هو قوة تحفظ ما يدركه الحسّ المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة بحيث يشاهدها الحسّ المشترك كلّما التفت إليها، فهو خزانة للحسّ المشترك ومحله مؤخرة البطن الأول من الدماغ". وتعريفه يقف عند المصطلح ولا يغادره إلى مشتقات المادة، ولكن في المعاجم الحديثة نتوصل إلى أن التخيّل يطابق معنى الخيال فيقول دوزي في معجمه.(17): "تخيّل: خيال خلاق، مخيلة مبدعة"، وهذا ما يرفضه روبنسون بقوله (18): "التخيل والخيال والمقابلة بينهما تقلقني لكونها تشير ضمناً إلى عدم وجود فرق كبير بين هذين المصطلحين.". في كتاب نظرية الأدب لـ(ويلك-و-وارين)، ولذا تراه ينظر إلى الأدب من خلال التخيل لأن التخيل يقترب في الأعمال الأدبية من الحقيقة ويضرب مثلاً في حوار جرى في إحدى الروايات فيقول:"يتكلم أحد الشخصيات مع صديق لـه فيثني على رواية "الأبله" لـ"دوستيفسكي" ويقول الصديق إنه لم يقرأها ويسأل: "أهي تخيل؟.. فتجيب الشخصية، أنها الحقيقة"(19). ويفرّق في هذه الحقيقة كواقع، والحقيقة كرؤية أدبية فيقول:(إننا نستطيع صياغة الفرق بين الحقيقتين بقولنا (الحقيقة عن) والمقصود الحقيقة بمعنى الواقع –و(الحقيقة إلى) التي لها معنى أوسع وأعمق.. وهي التي تمزج الحقيقة مع التخيل) بعيداً عن الاستعمال اليومي لها. ولذا قيل: "إنَّ واقعية عمل تخيلي –ونعني بها إيهامه لنا بالواقعية وكذلك تأثيره في القارئ بوصفه مطالعة مقنعة في شؤون الحياة –ليست بالضرورة ولا بالأولوية واقعية ظرف من الظروف أو تفصيل من تفصيلات الحياة أو روتين مبتذل شائع.".(20)، ولعل أقرب شاهد ماقيل هو السيرة الذاتية فقد: "كشف لنا علماء الأدب وكتاب السير كم من تخيل هو في الواقع سيرة ذاتية وكشف (بروست) كم من سيرة ذاتية تخيل. إن الفارق التقليدي بين الذاكرة والخيال يصبح أمراً معقداً عند تطبيقه على رجل يروي قصة حياته."(21)

1-2

إن المعيار الذي اعتمده مؤلفا نظرية الأدب يدفع بنا إلى محاكمته من خلال التطبيق على القضايا ذات المساس بالأدب وأولها قضية الأنواع الأدبية وكيف نظرا إليها من خلال معيار التخيل أو الخيال وهما يؤكدان (أن المحور الأساس للفن الأدبي هو الأنواع الأدبية التقليدية من شعر وجداني، شعر ملحمي، ومسرحية.. في كل هذه الأنواع تكون الإشارة إلى عالم التخيل، عالم الخيال)(22).؟..

دخل المؤلفان إلى تثبيت ما ذهبا إليه من خلال نفي واقعية العمل الأدبي إذا أراد القارئ أن يحاكم النص الأدبي من باب المنطق فقالا: "النصوص التقريرية في رواية أو قصيدة أو مسرحية ليست صحيحة بحرفيتها، فهي ليست بيانات منطقية".(13), وشاهدهما إلى ذلك أن "ثمة فرق مركزي هام بين نص تقريري نجده في رواية تأريخية أو رواية لبلزاك يبدو أنها تتضمن معلومات عن أحداث فعلية، والمعلومات ذاتها حين تظهر في كتاب تأريخ أو علم اجتماع". والقصد من ذلك أن المعلومات التي تندرج في الرواية حتى وإن كانت تأريخية تخضع في السرد إلى الفن الروائي وما تتطلبه الشخصيات في صراعاتها وبالتالي فإن"شخصية ما في رواية تختلف عن شخصية تأريخية أو شخصية موجودة في الحياة الواقعية. فالشخصية في الرواية إنما تتألف فقط من الجمل التي تصفها أو التي وضعها المؤلف على لسانها. وليس لتلك الشخصية ماض أو مستقبل، وليس لها أحياناً حياة مستمرة.". ولا تختلف الحال "في الشعر الغنائي الذاتي حيث نجد أن "أنا" الشاعر هي "أنا" وهمية دراماتية" لا تطابق الواقع الحياتي للشاعر وإن بذل جهداً من أجل خلقها في قصيدته، لأن عالم التخيل يخضع إلى مواصفات تنأى بها عن الواقع الحياتي.

وبالمقابل فإنهما يخرجان الخطابة والفلسفة والمنشورات السياسية وإن اتسمت بأسلوبها وتحليلها الجمالي، عذرهم إلى ذلك أنها وإن (تطرح مشكلات تتصل بالتحليل الجمالي، الأسلوب والتأليف، وهي مشكلات مشابهة أو مطابقة للمشكلات التي يقدمها الأدب إلاَّ أنها خالية من الصفة المركزية وهي: "التخيل"(24)، والقاعدة المتبعة أن "التصنيف بحسب الاعتبار الفني يجب أن يتميز عن التقييم". وبذلك يدخل المؤلفان الأعمال الأدبية بغض النظر عن مستواها في معيار التخيل. فيقولان: "وعلى هذا الأساس سيتضمن هذا المفهوم كل أنواع التخيلات، بما فيها أسوأ الروايات وأسوأ القصائد وأسوأ المسرحيات.".

وأمام معيارية المؤلفين تقف نظرية كروتشه "التي تركز كل المشكلات الجمالية على فعل الحدس الذي يتطابق مع التعبير بشكل غامض. فكروتشه يؤكد عدم وجود طرز للتعبير ويشجب أية محاولة لتصنيف الفنون تصنيفاً جمالياً باعتبارها محاولة بطالة. وهكذا يرفض كل تمييز بين الأنواع الأدبية".(25).

ومرد هذه النظرية أن في "نظام كروتشه الذي يقوم كلياً على المذهب الأحادي، لا يمكن وضع أي تفريق بين حالة الذهن والتعبير اللغوي". ويسوقه ذلك إلى أن "يرفض على الدوام صحة كل التطبيقات الأسلوبية والبلاغية، كما يرفض التفريق بين الأسلوب والشكل، الشكل والمضمون، كما يرفض كل تمييز بين الكلمة والروح وبين التعبير والحدس".

يَردّ المؤلفان على رأي كروتشه بالقول: "تؤدي هذه السلسلة من التطابقات لدى كروتشه إلى شلل نظري: فالاستبصار الصحيح بالبداهة في تضمينات العملية الشعرية يطوح به إلى درجة من البعد يصبح معها أي تمييز أمراً مستحيلاً. ويبدو أن العملية والعمل، الشكل والمضمون، التعبير والأسلوب. يجب أن تبقى منفصلة، معلقة في الهواء، بشكل غريب ومشروط إلى أن نصل إلى الوحدة النهائية."(26).

لم تكن نظرية كروتشه (بنديتو/1866-1952م)، في رفضه للأنواع الأدبية إلا ترجمة لفلسفته التي ينزع فيها "إلى مثالية هيجل، فقال إنَّ جوهر الكون أفكار مجردة. والفكرة المجردة عنده هي التي تشتمل الوجود كله كالكم والكيف والتطور. فللكون روح هو وحده الحق، وما التأريخ إلا ذلك الروح متحركاً في صور من الحقائق الفعلية التي ترتبط بالروابط السببية". وهذه الرؤية الفلسفية جعلته ينظر إلى الفن على أنه واسطة فيرى: "أن الفن يدنينا من الجوهر الكلي الشامل المتمثل في الجزئيات. وأساس الفن هو القدرة على تكوين الصورة الذهنية، فمتى تصور الفنان بذهنه صورة تعبر عن موضوعه فقد تمت لـه الفاعلية الفنية. وأما إبراز الصورة فعملية صناعية ومهارة يدوية".(27).

1-3

يعتبر مؤلفا نظرية الأدب أن الرواية تأريخ تخييلي ولذا تراهما يقولان: "على من يقص قصة أن يعتني بما يحدث، وليس بالنتيجة فقط...فقد يرى المرء أن الفعل عبر الزمان يبدو لهم غير واقعي. فهم لا يستطيعون أن يروا التأريخ وكأنه حقيقة واقعة".(28). والعلة في ذلك –على رأيهما- أن الرواية (نشأت من الأشكال السردية غير الخيالية-الرسالة، اليوميات، المذكرات أو السير، تأريخ الأخبار أو التأريخ بشكل عام، ولنقل إنها تطورت عن الوثائق أما من الناحية الأسلوبية فهي تلح على التفصيلات التمثيلية، على "المحاكاة" بمعناها الضيق."(29). وفي هذا يقول السير والتر سكوت (1771-1832م):"أفضل تمييز ملحوظ بين سرد واقعي وسرد قصصي هو أن الأول غامض من جهة الأسباب البعيدة للحوادث التي يقصها، بينما في الثاني يكون من بعض ما يترتب على الكاتب أن يعلل كل شيء."(30)، وهذا التعليل ما يوقع القارئ في الوهم الذي نبّه عليه جي دي موبسان(1850-1893م). –الروائي الفرنسي-بقوله:"إن الغرض الأساسي للكاتب الواقعي أن يجمع الحقائق بطريقة تجعله قادراً على إعطاء وهم بالحقيقة".(31). مع علمنا "أن الشيء الذي في بالهم ليس الحقيقة الحرفية، بل شيئاً يشبه الحياة شيئاً محتملاً". وهذا يدخلنا في قضية صدق الرواية، فلا ينبغي أن ينظر إليه على أنه صدق حرفي فلو "اعتمد على ذلك لكان من الصعب التمييز بين تخيلات الكاتب والكذب المباشر، حتى دفع بعضهم إلى وصف الرواية بأنها خيال متنكر كحقيقة"(32). إذا تمكن الروائي من أن يوظف مخيلته في خلق صورة حسية ولكن ذلك لا يكون ثابتاً بل يفعله بصورة عرضية "وقد لا يقترح الكاتب صورة بصرية على الإطلاق، حتى عندما يصور شخصية قصصية. وقلما نعثر على صورة بصرية لأي من أشخاص دوستيفسكي –على سبيل المثال- في حين أننا نتعلم معرفة حالاتهم العقلية ودوافعهم وتقديراتهم ومواقفهم ورغباتهم معرفة كاملة تماماً".(33).دون أن ننسى أن الناس يختلفون اختلافاً شديداً في درجة تبصرهم.

1-4

يربط (وارين-و-ويليك) المخيلة بعلم النفس والدراسة الأدبية فيقولان (34): "ففي علم النفس تعني كلمة (صورة) إعادة إنتاج عقلية، ذكرى لتجربة عاطفية أو إدراكية غابرة، ليست بالضرورة بصرية". وهذا يعني أن عملية التخيل قد تتوصل إلى الصورة بما يمكن أن نطلق عليه بالسمعية التي تساهم في عملية الإنتاج حيث يكون للأسطورة صورة مسبقة رسمتها المخيلة قبل أن تحولها إلى صورة بصرية لاسيما أن المخيلة في عملها تجمع بين الثبوتية والحركية "الدينامية". وهذا ما دفع بالعرب إلى اعتبار المخيلة فِراسة. و صارت القضايا التخييلية براهين تستنتج منها.(35). وقُدِّم السمع على البصر في القرآن الكريم فقال عزَّ وجلَّ: (إنّا خَلقنا الإنسان من نُطفةٍ أَمشاجٍ نبتليهِ فجَعلناهُ سَميعاً بصيراً(. الدهر/2 فتكون نظرتنا إلى المخيلة من خلال الأسطورة باعتبارها رواية شفوية والصورة باعتبارها رؤية بصرية.

1-الأسطورة: يرى المؤلفان أنها (شيء سردي، قصة في مقابل الحوار الديالكتيكي (الجدلي)، الشرح، كما أنها أيضاً الحدسي وغير العقلي في مقابل ماهو فلسفة منهجية)(36). وقد اعتبرها (ماكس مولر /1823-1900م). (تحريفات لغوية)، وثمة تفسير يرى أن (الأسطورة ابتكرت للإبانة عن الحقيقة في لغة مجازية.).(37). وبذلك صار مفهومها (مثل مفهوم الشعر،هو نوع من الحقيقة أو معادل للحقيقة، ليس منافساً للحقيقة العلمية أو التأريخية بل رافداً لها)(38)، بعد أن كان لها معنى سلبي هو "التخيل" أي أنها غير صحيحة علمياً أو فلسفياً في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وحدث التحول بعدهما حيث (استغلت الأساطير في الأدب سواء منها المستعار من الديانات القديمة أو التي أعاد الكاتب صياغتها لتلائم موضوعه.).(39).

2-الصورة: يرى حازم القرطاجني (ت/1285م)، أن: "المعاني هي الصورة الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء لـه وجود خارج الذهن، فإنه إذا أدرك حصلت لـه صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه".(40). وقال عنها: (آي.ا.ريتشاردز): "إنَّ مايعطي الصورة فاعليتها ليس حيويتها كصورة بقدر ميزتها كحادثة ذهنية ترتبط نوعياً بالإحساس".(41). ولم يعرفها الشاعر الأمريكي (عزرا بوند) بأنها (تمثيل مرسوم، بل عرّفها بأنها: تلك الّتي تقدم عقدة فكرية وعاطفية في برهة من الزمن).

ويحدد القرطاجني العلاقة بين الصورة والخيال فيقول: "ولاقتباس المعاني واستثارتها طريقان: "أحدهما تقتبس منه لمجرد الخيال وبحث الفكر، والثاني تقتبس منه بسبب زائد على الخيال والفكر. فالأول يكون بالقوة الشاعرة بأنحاء اقتباس المعاني وملاحظة الوجوه التي منها تلتئم، ويحصل لها ذلك بقوة التخيّل. والثاني هو ما استند فيه بحث الفكر إلى كلام جرى في نظم أو نثر.. بما يسوغ لـه معه إيراد ذلك الكلام أو بعضه.. فيحاكيه به أو يحيل به عليه."(42).

أما عن كنهها فإن مؤلفي نظرية الأدب يقولان:"الصورة البصرية إحساس أو إدراك حسي، لكنها أيضاً تنوب عن أو تشير إلى شيء غير مرئي، شيء داخلي ويمكن أن تكون تقديماً أو تمثيلاً في وقت واحد. فقد توجد الصورة كوصف أو كمجاز بحسب ما تراها عين العقل".(43).ويمكن اعتبار الرمز صورة.

1-5

حَدّد أرسطو وظيفة الأدب في كتابه"فن الشعر" بأنه يحدث التطهير فقال:"التراجيديا هي محاكاة لفعل جاد تام في ذاته لـه طول معين في لغة ممتعة لأنها مشفوعة بكل نوع من أنواع التزين الفني. كل نوع منها يمكن أن يرد على انفراد في أجزاء المسرحية، وتتم هذه المحاكاة في شكل، درامي، لا في شكل سردي، وبأحداث تثير الشفقة والخوف وبذلك يحدث التطهير.".(44). وإن اختلف الشرّاح في تفسير هذا المصطلح.(45). حتى قال بعضهم إنَّ وظيفة الأدب (هي أن يخلصنا –كتّاباً وقرّاءً –من عناء الانفعالات). (46).ولكن آخرين حصروا هذه الوظيفة بالمعرفة عن طريق اكتشاف الحقيقة. وردَّ على من يرى ذلك (أن الحقيقة في الأدب هي ذات الحقيقة خارج الأدب، أي أنها حقيقة نظامية ويمكن اتباعها علناً)، وبالتالي فلا قدرة للوصول إليها إذ (ليس لدى الروائي طريق سحري مختصر إلى حالة المعرفة القائمة في العلوم الاجتماعية المؤدية إلى الحقيقة التي أساسها يجري اختبار عالمه –واقعة المتخيل)، وأكد الشاعر ماكس ايستمان قائلاً:(إن الكاتب الخيالي. والشاعر بخاصة –يسيء فهم نفسه إذا ظنَّ أن مهمته الرئيسة هي اكتشاف المعرفة وإيصالها. إنَّ وظيفته الفعلية هي أن يجعلنا ندرك ما نرى ونتخيل ما سبق أن عرفناه سواء بشكل تصوري أو عملي.".(47). ولم يقنع هذا الرأي من يحمّل الكاتب مسؤولية وعذره في ذلك أن (الكاتب ليس مكتشفاً للحقيقة بل هو الذي يمدنا ويقنعنا بها).(48). ووجد بعضهم أن القيم الجمالية هي ما يبحث عنه الإنسان في الأدب، ومن هؤلاء كان (أوسكار وايلد) الذي يدعو إلى اكتشاف صفات جمالية جديدة في العمل الفني باعتبار أن الفن صنعة أو عمل تخيّل لا شأن لـه بعالم الانفعالات البشرية، وهذه النظرة دعت إلى أن يكون الفن للفن. وهذا مادعا جورجي بليخانوف (1857-1918م)، الاشتراكي الروسي إلى مهاجمتها بقوله: "إن مذهب الفن للفن يتقدم حين يشعر الفنانون بتناقض يائس بين أهدافهم وأهداف المجتمع الذي ينتمون إليه، ولابدَّ أن الفنانين إذ ذاك يناصبون مجتمعهم ألد العداء، ولا يرون بارقة أمل لتغييره.".(49). وكان البديل لهذه الدعوة أن ظهرت الواقعية الاشتراكية في روسيا بعد ثورة 1917 تنطلق من أن الأدب للمجتمع أو الشعب.

أما الرأي الذي يذهب إليه (وارين-و-ويليك)، فهو تأييد من نظر إلى وظيفة الأدب على أنه مجال دفاعي فقالا: "وقد أحسن المنظرون صنيعاً حين أطلقوا اصطلاح "الوظيفة" على جميع المجال الدفاعي. وبهذا الاستعمال للفظة نقول إن للشعر عدة وظائف ممكنة. إن وظيفته الأولى والرئيسة هي أن يكون أميناً لطبيعته.".(50)، هذه الطبيعة التي قالا عنها: "لابدَّ أن تكون طبيعة الأدب ووظيفته متلازمتين. فاستعمال الشعر ينتج من طبيعته:"فكل موضوع أو صنف من الموضوعات يستعمل كأحسن ما يكون الاستعمال وأعقله حين يستعمل لما وضع لـه أساساً، ويكتسب استعمالاً ثانوياً حين تضمر وظيفته الرئيسة فقط.".(51).

هذه الرؤية لا تبتعد عما دعت إليه الفلسفة الإغريقية. وهما يبنيان كتابهما ولذا تراهما يقولان: (إنَّ الفنَّ إذا لم يكن حقيقة فهو كذب كما دعاه أفلاطون بعنف. إن الأدب الخيالي "تخيّل"، "محاكاة للحياة"، فنية لفظية. على أن عكس التخييل ليس الحقيقة بل الواقعة أو الوجود الزماني و المكاني. إن الواقعة أغرب من الاحتمالات الذي يجب أن يتعامل به الفن).(52).

2-1

تناول ستة باحثين من الروس (السوفييت) نظرية الأدب مشاركة في هذا الكتاب الذي قال مترجمه د.جميل نصيف التكريتي في هوامش القسم الثالث ما نصه: "يتألف سفر (نظرية الأدب) الذي يجد القارئ قسماً منه بين يديه، في أصله الروسي من ثلاثة مجلدات ضخمة. أنجزنا حتى الآن (1980م)، ترجمة المجلد الثاني منها، على أمل مواصلة ترجمة الأجزاء الأخرى من الكتاب".(53), وهذا يعني أن نظرة السوفييت للأدب بالنسبة لنا غير كاملة وإن غطى هذا المجلد موضوعات هامة هي: الأنواع الأدبية، والأدب القصصي الشعبي والرواية والشعر الغنائي فضلاً عن الدراما، درست هذه الموضوعات على وفق منهج تأريخي بدأ من الإغريق وانتهى إلى العصر الحديث لمعالجة القضايا التي تخص الشكل(54). ولا نحتاج إلى عناء فكري كي نحدد النظرية التي استند إليها هؤلاء الباحثون فقال أولهم وهو (يا.إي.ايلسبورغ)، في المدخل: "وبالاعتماد على النظرية الماركسية –اللينينية فقد يصبح بالإمكان فهم تأريخ الأدب فهماً صحيحاً، وذلك على اعتباره عملية، وخلال مجرى هذه العملية تبرز القوانين العامة للتطور الأدبي، والأنواع الأدبية مع أصنافها التي تدرس من خلال صلتها العضوية بمضامينها، تبرز عبر فرديات الكتّاب الإبداعية الفريدة من نوعها والمتكونة بصورة حرة، وعبر أساليب هؤلاء الكتاب. ويشكل التحليل (اللينيني: أفكار الحتمية التأريخية ودور الفرد في التأريخ أساساً طبيعياً لمثل هذا الفهم".(55). وهذا يعني أننا أمام تسليم مطلق بما يأتي دون أن نعترض أو نرفض هذه (الحتمية التأريخية) ولا يخرج دور الكاتب في الأدب عن الأداة التي ترجمت الواقع بأسلوبها إلى نوع أدبي.

فإذا حاولنا أن نقف على المعيار الذي نظر من خلاله هؤلاء الباحثون وكيف درسوا نظرية الأدب؟.. كان جوابهم "تدرس نظرية الأدب الماركسية-اللينينية. وهي تنطلق من نظرية الانعكاس..".(56). والسؤال: ماهي هذه النظرية؟...

"نظرية الانعكاس(57): نظرية مادية ديالكتيكية للمعرفة طورها لينين، وهي تنطلق من مفهوم يقول: "إن المادة والطبيعة توجدان بصورة مستقلة عن الوعي الإنساني وعن التفكير والمشاعر. فقد كتب لينين يقول: إنَّ مشاعرنا ووعينا ليست أكثر من صورة للعالم الخارجي، ومفهوم أن أي تصوير لا يمكن أن يتم من دون الشيء المصوَّر (بفتح الواو) إلا أن هذا الشيء المصوَّر يوجد بصورة مستقلة عن المصوِّر (بكسر الواو). وتتسم عملية انعكاس العالم الخارجي بواسطة وعي الإنسان بطابع ديالكتيكي. فينتقل الإنسان عن طرائق معالجة المعطيات الملموسة من الأشكال الأولية لانعكاس الواقع-مشاعر انطباعات –إلى التعميمات، أي إلى صياغة المفاهيم العلمية والقوانين والمقولات. الخ..".

وتقاس القيمة الجمالية للعمل الفني بالوعي الاجتماعي الذي يرتبط بالواقع. وفي هذا قالوا: (في ضوء نظرية الانعكاس الماركسية اللينينية فإن الوعي الجمالي-كشكل من أشكال الوعي الاجتماعي-هو في الوقت نفسه انعكاس نوعي للوعي. وبالتالي فإن الأحاسيس الجمالية والأذواق والمثل والنظريات". كل ذلك أشكال متنوعة للإدراك الجمالي للواقع.).

أما الدور الذي يمارسه الفرد، فإن ممارسته تكون جزءاً لا ينفصم من الواقع الاجتماعي.. ولهذا قالوا: "يعتبر الواقع الموضوعي الذي تعاد صياغته بواسطة الإنسان من خلال عملية الممارسة الاجتماعية والتأريخية مصدراً لظهور وتطور الأشكال آنفة الذكر. وتعتبر الممارسة هدف هذه الأشكال في وقت واحد. ويعتبر الإدراك الجمالي، شأنه شأن الانعكاس العلمي للواقع عملية نشيطة ومتناقضة ديالكتيكياً. وتتحقق هنا في الشكل النوعي، حركة من التأمل المحسوس إلى التعميمات. وليس التعميم الفني إلا جانباً واحداً من الجوانب المتنوعة لمثل هذا التعميم.". وبذلك تكون هذه الممارسة لدور الفنان –الكاتب-آلية من الصعب التمييز بين الأفراد من ناحية الإبداع.

2-2

إنَّ أول القضايا التي طرحت في الكتاب هو قضية الأنواع الأدبية واصطلح عليها اسم (الأشكال الأدبية)، ولذا ترى الكتاب السوفييت قد وجَّهوا همهم إلى مهاجمة نظرية الأدب عندالغربيين قبل أن يتحدثوا عن هذه القضية.

يقول (يا.إي.ايلسبورغ)(58): "إنَّ الفهم التأريخي للعلاقات المتبادلة بالذات بين القوانين العامة لتطور الأدب، وبين الخاصية الفردية –الفريدة للإبداع الفني، هذا الفهم يعتبر حجر عثرة لنظرية الأدب البرجوازية". ويعلل ذلك قائلاً: "لما كان الإبداع الفني يعتبر في نظر الغالبية العظمى للمنظرين البرجوازيين، يعتبر بشكل أو بآخر ومن هذه الناحية أو تلك، شيئاً لا يمكن إدراكه إدراكاً علمياً، فإن هؤلاء المنظرين غير مستعدين للربط بين الكاتب وهذه القوانين العامة التي تستطيع أن تعكس الواقع المتطور تأريخياً.". ولذا لا يجد الباحثُ نفسُهُ فاصلاً بين شكل العمل الأدبي ومضمونه فيقول: "إنَّ أسلوب العمل الأدبي، خصوصاً شكله الصنفي، الأسلوب حتم المضمون ظهوره وأنجز معه جنباً إلى جنب استناداً إلى طريقة الكاتب وعقيدته، هذا الأسلوب مرتبط عبر هذه الواسطة، بالحياة نفسها،وبالواقع التأريخي.". وهو في هذا النقد يرى أن الآداب الغربية اهتمت في نظرية تطور الأنواع الأدبية بالشكل على حساب المضمون، فيقول: "تحاول نظرية الأدب البرجوازية دون أن تستطيع ولا أن ترغب في أن ترى في الأنواع والأصناف أشكالاً غنية المضمون ومتغيرة تأريخياً، تحاول أن تقيم جداراً لا يمكن اختراقه بين عملية تطور هذه الأنواع والأصناف وبين صراع الإيديولوجيات، وبهذه الطريقة نفسها يقدمون خدمة لآيديولوجية البرجوازية بالذات". وينتهي إلى قاعدة نقدية في محاكمة الأنواع الأدبية هي أنه: "لا يمكن فهم الشكل الصنفي بعيداً عن جذوره الحياتية، وعن الصراع الفكري للعصر، وعن مضمون وأسلوب إبداع كاتب بعينه، وعن التقاليد الأدبية.".(59).

هذا التركيز على المضمون عند الكتّاب السوفييت يقابله الاهتمام بالشكل عند أقرانهم من الأدباء الغربيين، دعت بهؤلاء (السوفييت) إلى القول: "إنَّ المضمون الأدبي الذي استدعته المتطلبات الحياتية نفسها، قد بحث لنفسه عن شكل خاص بنوع أدبي غني بمضمونه يتناسب وهذه المتطلبات. أمَّا الأنواع الأدبية فهي بمثابة تلك المسالك الأساسية لتطوّر الأشكال ذات المضامين الفنية، هذه الأشكال الخاصة بالوعي الفني عند البشرية"(60).

ويستشهد الباحث بملاحظات للكاتب السوفييتي (إي. بيخير) في مجال تطور الأنواع الأدبية بالظهور أو الموت، فيذكر أن "الأشكال المختلطة في الأدب لم يتواصل وجودها طويلاً في أي وقت من الأوقات... فالنوع الأدبي سرعان ما يؤكد وجوده وينتصر بالمحافظة على جوهره. إن الأشكال المختلطة لم تطبع بنفسها الأدب بصورة جوهرية في أي وقت من الأوقات، غير أنه يجري مع ذلك، تشكيل وقيام أصناف أدبية جديدة، في الوقت نفسه تفقد فيه مجموعة من تلك الأصناف التي كان لها وجود واضح قبل ذلك ـ قيمتها أو تصبح لها أهمية من الدرجة الثانية. ومن هنا فإن تغيّر الأنواع الأدبية لا يتم عن طريق الخلط بين عدد معيّن منها، بل نتيجة فقدانها لأهميتها ونتيجة لظهور أصناف أخرى"(61).

وإذا اهتمّت دراسات الباحثين السوفييت بالنظرية الأدبية من خلال تركيزها على المضمون وهي تدرس الأنواع الأدبية، فإنها رفضت المدارس التي جاءت بها الأدبية الغربية، وهي تهتم بالشكل، فقالت: "إن المدارس الجديدة التي أخذت على عاتقها إيجاد علم جديد حول الأدب قد استندت في الوقت نفسه، وفي حالات غير قليلة، إلى التيارات الشكلية التي ظهرت في القرن العشرين، كالمستقبلية والنثر التزييني والدادائية والتخييلية والبنيوية، كما استندت إلى حد ما حتّى على مدرسة تيار الوعي، وعلى الإجماعية وغيرها. ولهذا السبب فبدلاً من أن نحصل على نظرية علمية للشكل، حصلنا على نظرية شكلية مضادة للعلم، مدعوة إلى تفسير وتبرير أعمال المدارس الشكلية قبل القيام بدراسة حقيقية لطبيعة الشكل الفني"(62).

وتبقى تقسيمات الأنواع الأدبية كما يراها السوفييت والتي مال "عدد من الباحثين إلى تقسيمها إلى ثلاثة أنواع هي: الأدب القصصي والشعر الغنائي والأدب الدرامي. ولكل نوع من هذه الأنواع أصنافه المعروفة في هذه الحقبة من تطوره أو تلك، فأصناف الأدب القصصي اليوم هي: الرواية التي تعتبر ملحمة العصر الحديث. والقصة القصيرة. أمَّا أصناف الدراما فهي: المأساة والملهاة والميلودراما والمهزلة..."(63).

وهذه التقسيمات تدرس من خلال نظرية الانعكاس باعتبارها "أشكالاً غنية المضمون من زاوية وجودها التأريخي الملموس وشرطيتها الحياتية وبارتباطها بالصراع الإيديولوجي الاجتماعي للعصر"(64)، وبذلك بَعُدَت عن المحاكاة الإغريقية التي قال بها أرسطو: "إن الشعر الملحمي والتراجيدي وكذلك الكوميدي وفن تأليف الديثرامبيات (مقطوعة شعرية دينية)... كل ذلك أشكال من المحاكاة..."(65).

يُنبّه (إي. م. ميليتينسكي) على أمر يراه خطأً، حيث يرفض أن تكون عبادة الآلهة أو الطقوس الدينية سبباً لنشأة الملحمة فيقول(66): "إن العيب المبدئي الأساسي الذي يعاني منه الميثولوجيون يتمثل في محاولة العودة بتكوين الأدب الملحمي ككل ـ كظاهرة فنية ـ إلى الطقس الديني أو إلى العبادة". ويرى الصواب أنَّ القصص البدائي الشعبي كانت سابقة لهذه العبادة فيقول: "وإذا كان لتقاليد الأدب القصصي الميثولوجي أن تؤدي دوراً معلوماً في صياغة الأدب الملحمي ـ البطولي، فقد كان هذا الدور من نصيب الأدب القصصي البدائي الشعبي الذي يمكن اعتباره سابقاً للدين والذي كان عليه أن يختار بين أحد أمرين: التطور باتجاه الميثولوجيا الدينية أو قصص الأسلاف الأوائل حول الإله المتوفى والمنبعث، فهي أقل قدماً من القصص الشعبي". وهم بذلك يخالفون طروحات الإغريق القدماء التي تؤكد أنَّ هذا الرأي المرفوض هو في أصله إغريقي حيث يقول أرسطو(67): "لقد نشأت التراجيديا في الأصل ـ شأنها في ذلك شأن الكوميديا ـ نشأة ارتجالية. فالتراجيديا نشأت على يدي قادة الديثرامب، بينما ترجع نشأة الكوميديا إلى قادة الأناشيد الإحليلية"، وهذا يعني أن "التراجيديا ترجع في أصلها إلى مرتجلات قادة جوقات الأناشيد الديثرامبية (الدينية) التي كانت تؤدي في عيد الإله ديونيسوس، بينما ترجع نشأة الكوميديا إلى مرتجلات قادة الأغنيات والرقصات الإحليلية، التي كانت تؤدى في الأحفال التي كانت تقام للإله نفسه"(68).

وعلى ضوء نظرية الانعكاس فإن تطور النوع الأدبي أو الأدب الملحمي يخضع إلى حقبة تأريخية حتّى يتكوّن ويستند (ميليتينسكي) إلى رؤية كارل ماركس حيث يقول(69): "يعتقد كارل ماركس أن الأدب الملحمي يكون في شكله الكلاسيكي، عصراً كاملاً في التأريخ العالمي. ومع ذلك فإن هذا الأدب مرتبط بمرحلة واطئة نسبياً من مراحل التطوّر الفني. وهو يزدهر في الحقبة التي تسبق بدء الإنتاج الفني بذاته".

ولما كان النوع الأدبي (الملحمة) خاضعاً بعد ظهوره إلى ازدهار ومن ثمَّ انحطاطه فإن المعيار الذي يُبنى عليه الازدهار يكون متعاكساً مع الواقع الحياتي والاجتماعي للناس عندما يعيشون الاضطهاد فيضرب مثلاً (بالأدب الملحمي للسلاف الجنوبيين بصورة مباشرة عصر الاضطهاد التركي في منطقة البلقان... حيث يجري إبراز الدولة الصربية التي حطّمها الأتراك وفيها تعتبر معركة ملحمية دار حولها الجزء الأكثر قدماً من الأدب الملحمي الصربي"(70)، وبالوقت نفسه فإن الأتراك المضطهدين للسلافيين لا يمتلكون هذا الأدب الملحمي ولهذا يقول: (أما الأتراك أنفسهم فيستمرون عن كونهم المضطهدين الحقيقيين للسلافيين الجنوبيين في حقبة تكوين الأدب الملحمي ووجوده الحياتي الطويل. ولهذا السبب حُرِم الأتراك من الملامح الميثولوجية) فيكون الأدب الملحمي على وفق هذه القاعدة حالة تعويض أسطورية عمَّا لحق بالقوم من هزيمة ولا يحتاج المنتصر إلى الأسطورة لأنَّ الواقع الذي يفرضه قد صنعه, وبذلك تنتبه على أن الملاحم ، وإن كانت على وفق نظرية الانعكاس حالة التعويض لكنها في الواقع وهم لذيذ يُقنع الشعب المهزوم أو المضطهد بالانتصار. كما يسميها أصحاب علم النفس.

أمَّا حالة التقهقر التي تعيشها الملحمة فهي على رأي (ف. ف. كوزينوف) الذي يقول: "في عصر ازدهار نظام الدولة ونضجه يتقهقر الأدب الملحمي البطولي إلى المواقع الخلفية، وفي مثل هذا الوقت تتطور الاستيتيكية نفسها بروح البطولة، وذلك من خلال شكل آخر هو الشكل الدراماتيكي، وهذا ما حدث في بلاد الإغريق خلال عصر الدولة الأثينية، هذا العصر الذي أوجد أسمى أشكال الدراما، وهذا ما حصل كذلك في أوروبا الغربية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر..."(71)، وإن استدرك على ذلك بقوله: "إن هذا لا يعني قطعاً أن الأدب الملحمي يختفي تماماً، كل ما في الأمر أنه لم يعد يستطيع الظهور في ذلك الشكل الكلاسيكي الخاص به والذي جعل منه نوعاً أدبياً سامياً".

إن التناقض الذي يقع فيه الباحث كوزينوف وهو يقول: "إن الملحمة العظيمة الوحيدة في القرن السابع عشر، وهي ملحمة ملتون، كانت ثمرة من ثمار بيئة بطولية حقاً لواحدة من طلائع الثورات الديمقراطية ـ البرجوازية"(72) يدفع بنا إلى التنبيه على الآتي:

1 ـ جعل الباحث القهر والاضطهاد القومي الذي يلحق بالشعب دافعاً لخلق الملحمة البطولية. ولما كان (جون ملتون/1608-1674م) شاعراً إنكليزياً لم يعش شعبه ما اشترطه لخلقها، يصبح غير مهم في تعليل ظهورها أو استمرارها حتّى هذا القرن.

2 ـ إن القرن السابع عشر الميلادي لم تتكوّن فيه الطلائع البرجوازية، وإنما لم يزل في عصر الإقطاع وبداية العصر الحديث في أوروبا الذي مهّد لذلك الطلوع.

3 ـ إن الملحمة التي أشار إليها الباحث هي "الفردوس المفقود"، وقد نشرها 1667م، ثمَّ أتبعها بأخرى هي "الفردوس المستعاد" 1671م، "والأولى تحكي قصة تمرّد الشيطان ضد الآلهة وخروج آدم وحواء من الجنة، وأراد بها أن يبرّر الأحكام الإلهية للبشر. وفي الثانية يحكي قصة إغراء المسيح"(73).

4 ـ إن آثار ملتون تمثّل العصر البيوريتاني (عصر التطهير الديني) وهو "مذهب يعتنقه البروتستانت الأمريكيون والإنجليز الذين يعتقدون بمزيج خاص من الأفكار الاجتماعية والسياسية والأخلاقية واللاهوتية"(74)، ولا تختلف هذه الملحمة في توجهها الديني عن الكوميديا الإلهية لدانتي (1265-1321م) التي قال عنها: "لقد كمنت في أساس هذا البناء الملحمي الضخم ميثولوجيا المسيحية، هذه الميثولوجيا التي تتميّز مبدئياً عن الحضارات الميثولوجية القديمة، إنها تدفع إلى المقدمة لا بالقوى والخصائص المادية للإنسان بل الروحية منها"(75)، وهي على هذا النهج لا تخرج عن قصائد طوال قلّدت الملاحم القديمة، الإغريقية واللاتينية من بعد ذلك.

2 ـ 4

يعتبر (ف. ف. كوزينوف) أن الرواية هي ملحمة العصر الحديث فيقول: "على أثر موت الأدب الملحمي في أوروبا عصر النهضة، قام