رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

661

Click here to load reader

Upload: cuteksa24400

Post on 27-Jul-2015

459 views

Category:

Documents


64 download

TRANSCRIPT

Page 1: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الجسد ذاكرة

... إهداء

.. حداد مالك إلى أال) الجزائر استقالل بعد أقسم الذي قسنطينة ابن

.. لغته ليست بلغة يكتب بسلطان متأثرا ومات.. البيضاء الصفحة فاغتالته

أن قرر كاتب العربية, وأول اللغة شهيد ليصبح صمته. لها وعشقاF وقهراF صمتاF يموت

... أبي وإلىF له , فيقرأ العربية يتقن "هناك" من يجد عساه أخيرا

. ... كتابه الكتاب هذا

أحالم

األول الفصل

:ما زلت أذكر قولك ذات يوم". كل ما لم يحدث الحب هو ما حدث بيننا. واألدب هو"

:يمكنني اليوم, بعد ما انتهى كل شيء أن أقول على فجيعتنا إذن فما اكبر مساحة ما لم هنيئا لألدب

.يحدث . إنها تصلح اليوم ألكثر من كتاب ...وهنيئا للحب أيضا

فما أجمل الذي حدث بيننا ... ما أجمل الذي لم .يحدث... ما أجمل الذي لن يحدث

Page 2: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

عن حياتنا قبل اليوم, كنت اعتقد أننا ال يمكن أن نكتب .إال عندما نشفى منها

أن عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم , دون .نتألم مرة أخرى

عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين, دون جنون, .حقد أيضا ودون

أيمكن هذا حقاF ؟ .نحن ال نشفى من ذاكرتنا

نكتب, ولهذا نحن نرسم, ولهذا يموت بعضنا ولهذا نحن .أيضا

أتريد قهوه ؟- عتيقة غائبا, وكأنه يطرح السؤال على يأتي صوت

.شخص غيري للحزن لم أخلعه منذ أيام معتذرا دون اعتذار, على وجه

.

...يخذلني صوتي فجأة .أجيب بإشارة من رأسي فقط

فتنسحب لتعود بعد لحظات, بصينية قهوة نحاسيه وسكريه, ومرشg لماء, كبيرة عليها إبريق، وفناجين

.الزهر, وصحن للحلويات فنجان, في مدن أخرى تقدم القهوة جاهزة في

.وضعت جواره مسبقاF معلقه وقطعة سكر .كل شيء ولكن قسنطينة مدينه تكره اإليجاز في

إنها تفرد ما عندها دائما .تماما كما تلبس كل ما تملك. .تعرف وتقول كل ما

.ولهذا كان حتى الحزن وليمه في هذه المدينة

المبعثرة أمامي , ألترك مكاناF لفنجان أجمع األوراق ..القهوة وكأنني أفسح مكانا لك

مسودات قديمة, وأخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ بعضها الحياة, أيام بعض الكلمات فقط... كي تدب فيها

Page 3: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.وتتحول من ورق إلى أيام

والذاكرة, كلمات فقط, أجتاز بها الصمت إلى الكالم ..إلى النسيان, ولكن

تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني .حبك

ة . gفكرت في غرابه هذا الطعم العذب للقهوة المر قادر على الكتابة عنك ولحظتها فقط, شعرت أنني

فأشعلت سيجارة عصبيgة, ورحت أطارد دخان الكلمات منذ سنوات, دون أن أطفئ حرائقها التي أحرقتني

.مرة فوق صفحه

للذاكرة؟ هل الورق مطفأة نترك فوقه كل مرة رماد سيجارة الحنين األخيرة ,

. .وبقايا الخيبة األخيرة

من منgا يطفئ أو يشعل اآلخر ؟ الذكر... معك ال ادري ... فقبلك لم اكتب شيئا يستحق

.فقط سأبدأ الكتابة

سأنكتب بها, وال بد أن أعثر أخيراF على الكلمات التي فمن حقي أن أختار اليوم كيف أنكتب. أنا الذي أختر

.تلك القصة

قصه كان يمكن أن ال تكون قصتي, لو لم يضعك القدر .منعطفات فصولها كل مره مصادفه, عند

من أين جاء هذا االرتباك؟

البيضاء المستطيلة, وكيف تطابقت مساحة األوراق بتلك المساحة الشاسعة البياض للوحات لم ترسم بعد..

مسنده جدار مرسم كان مرسمي ؟ وما زالت

األلوان. وكيف غادرتني الحروف كما غادرتني قبلها وتحول العالم إلى جهاز تلفزيون عتيق, يبث الصور

؟ باألسود واألبيض فقط

ويعرض شريطا قديما للذاكرة, كما تعرض أفالم

Page 4: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.السينما الصامتة

أحسدهم دائماF, أولئك الرسامين الذين كانوا كنت وكأنهم, ينتقلون بين الرسم والكتابة دون جهد

ينتقلون من غرفه إلى أخرى داخلهم. كأنهم ينتقلون ..بين امرأتين دون كلفة

!كان ال بد أال أكون رجال المرأة واحدة

.األكثر بوحا واألكثر جرحا .. ها هوذا القلم إذن

ها هو ذا الذي ال يتقن المراوغة , وال يعرف كيف توضع الظالل على األشياء . وال كيف ترش األلوان

.على الجرح المعروض للفرحة

وها هي الكلمات التي حرمت منها , عارية كما أردتها ,لxمw رعشة الخوف تشلg يدي , , موجعه كما أردتها wف

وتمنعني من الكتابة؟ ، أنني استبدلت تراني أعي في هذه اللحظة فقط

.بفرشاتي سكيناF. وأن الكتابة إليك قاتله.. كحبك

ة. ارتشفت gقهوتك المرة, بمتعه مشبوهة هذه المر ابدأ, شعرت أنني على وشك أن اعثر على جمله أولى

.بها هذا الكتاب

.جمله قد تكون في تلقائية كلمات رسالة : مثال كأن أقول

أكتب إليك من مدينه ما زالت تشبهك, وأصبحت" هذه الجسور على عجل, أشبهها. ما زالت الطيور تعبر

.وأنا أصبحت جسرا آخر معلقاF هنا

..".اليوم ال تحبي الجسور بعد :أو شيئا آخر مثل

..أمام فنجان قهوة ذكرتك"

بد أن تضعي ولو مرة قطعة سكر في قهوتي . كان ال

Page 5: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ة..؟ لماذا كل هذه الصينية.. من أجل قهوة gمر."

...كان يمكن أن أقول أي شيء رسائل وبطاقات, ففي النهاية, ليست الروايات سوى

نكتبها خارج المناسبات المعلنة.. لنعلن نشرتنا . أمرنا النفسية, لمن يهمهم

ولذا أجملها, تلك التي تبدأ بجمله لم يتوقعها من وطقوسنا. وربما كان يوما سببا في كل عايش طقسنا .تقلباتنا الجوية

.كل تلك التي لم تتوقعيها . تتزاحم الجمل في ذهني ..وتمطر الذاكرة فجأة

وأشرع نافذتي ألهرب منك. فأبتلع قهوتي على عجل.والمارة إلى السماء الخريفية.. إلى الشجر والجسور

إلى مدينة أصبحت مدينتي مرة أخرى . بعدما أخذت لي .آخر هذه المرة موعدا معها لسبب

.ها هي ذي قسنطينة.. وها هو كل شيء أنت, من النافذة نفسها التي سبق أن وها أنت تدخلين gإلي

دخلت منها منذ سنوات. مع صوت المآذن نفسه, الباعة, وخطى النساء الملتحفات بالسواد, وصوت

...واألغاني القادمة من مذياع ال يتعب

يا التفاحة .. يا التفاحة ... خبريني وعالش الناس" ..".والعة بيك

.تستوقفني هذه األغنية بسذاجتها

تذكرني دون مجال . تضعني وجهاF لوجه مع الوطن للشك بأنني في مدينه عربيه فتبدو السنوات التي

.حلماF خرافياF قضيتها في باريس

هل التغزل بالفواكه ظاهره عربية؟ أم وحده التفاح زال يحمل نكهة خطيئتنا األولى, شهيg لحدgg الذي ما

.التغنgي به، في أكثر من بلد عربي

وماذا لو كنت تفاحه؟

Page 6: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.ال لم تكوني تفاحه

أغرتني بأكل التفاح ال أكثر. كنت كنت المرأة التي أن تمارسين معي فطرياF لعبة حواء . ولم يكن بإمكاني

أتنكر ألكثر من رجل يسكنني, ألكون معك أنت بالذات !في حماقة آدم

سي خالد..واش راك اليوم ..؟ أهال-

.يسلgم عليg الجار, تسلgقت نظراته طوابق حزني .وفاجأه وقوفي الصباحي, خلف شرفة للذهول

المتجهة نحو المسجد أتابع في نظرة غائبة, خطواته المجاور . وما يليها من خطوات, لمارة آخرين, بعضها

عجلى, متجهة جميعها نحو المكان كسلى, وأخرى .نفسه

.الوطن كله ذاهب للصالة

.والمذياع يمجد أكل التفاحة

مقابال وأكثر من جهاز هوائي على السطوح, يقف المآذن يرصد القنوات األجنبية، التي تقدم لك كل ليله

أكثر من طريقه _عصريه_ ألكل, على شاشة تلفزيونك !التفاح

.أكتفي بابتالع ريقي فقط لم أكن أحب الفواكه. وال كان أمر التفاح في الواقع

.يعنيني بالتحديد

وما ذنبي إن جاءني حبك في شكل. كنت أحبك أنتخطيئة؟

.كيف أنت.. يسألني جار ويمضي للصالة فيجيب لساني بكلمات مقتضبة، ويمضي في السؤال

. عنككيف أنا؟

Page 7: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

فعلته بي سيدتي.. فكيف أنتx ؟ أنا ما تدريجيا , يا امرأة كساها حنيني جنوناF، وإذا بها تأخذ

.مالمح مدينه وتضاريس وطن

وكأنني اسكن, وإذا بي اسكنها في غفلة من الزمن .غرف ذاكرتي المغلقة من سنين

كيف حالك؟ .وراثيا كل موسم يا شجرة توت تلبس الحداد

....يا قسنطينية األثواب واألحزان واألحباب .. يا قسنطينية الحب ... واألفراح

.أجيبي أين تكونين اآلن؟

...ها هي ذي قسنطينه باردة األطراف واألقدام. محمومة الشفاه, مجنونة

.األطوار !تشبهينها اليوم أيضا ... لو تدرين ها هي ذي .. كم

!.دعيني أغلق النافذة:يقول كان مارسيل بانيول

د على اعتبار األشياء العادية .. أشياء يمكن أن" gتعو Fتحدث أيضا. "

أليس الموت في النهاية شيئا عاديا. تماما كالميالد, والمرض, والشيخوخة, والغربة, والحب, والزاج

والجنون, وأشياء أخرى ؟

العادية التي نتوقعها فوق فما أطول قائمة األشياء العادة, حتى تحدث. والتي نعتقد أنها ال تحدث سوى

وأن الحياة لسبب أو آلخر ستوفر علينا كثيرا, لآلخرين .منها, حتى نجد أنفسنا يوما أمامها

عندما ابحث في حياتي اليوم, أجد أن لقائي بك هو للعادة حقاF. الشيء الوحيد الذي الشيء الوحيد الخارق

. ألن)ني gكنت لم أكن ألتنبأ به، أو أتوقع عواقبه علي اجهل وقتها أن األشياء غير العادية, قد تجر معها أيضا

.كثيرا من األشياء العادية

....ورغم ذلك

Page 8: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ما زلت أتساءل بعد كل هذه السنوات, أين أضع حبك؟ اليوم

أفي خانة األشياء العادية التي قد تحدث لنا يوما كأيةأو نوبة جنون؟.. وعكه صحية أو زلة قدم

أم .. أضعه حيث بدأ يوماF؟

كوكب, لم يتوقع كشيء خارق للعادة, كهدية من وجوده الفلكيون. أو زلزال لم تتنبأ به أية أجهزة

.للهزات األرضية.أكنتx زلة قدم .. أم زلة قدر ؟

مقنعه لحدث أقلgب جريدة الصباح بحثا عن أجوبة ."عادي" غيgر مسار حياتي وجاء بي إلى هنا

هذه األعوام , فيعلق الوطن أتصفح تعاستنا بعد كل .حبراF أسود بيدي

تصفحتها وإن كان هناك صحف يجب أن تغسل يديك إن ليس للسبب نفسه في كل مرة. فهنالك واحده تترك

.أكثر تألقا تنقل عفونتها إليك حبرها عليك .. وأخرى

جرائدنا أألنg الجرائد تشبه دائما أصحابها, تبدو لي وكأنها تستيقظ كل يوم مثلنا, بمالمح متعبه وبوجه

ونزلت به إلى الشارع. غير صباحي غسلته على عجل، هكذا دون أن تكلف نفسها مشقة تصفيف شعرها, أو

.مناسبة.. أو إغرائنا بابتسامة وضع ربطة عنق

.1988أكتوبر 25 عناوين كبرى.. كثير من الحبر األسود. كثير من الدم.

.الحياء وقليل من هناك جرائد تبيعك نفس صور الصفحة األولى.. ببدلة

.جديدة كل مره هنالك جرائد.. تبيعك نفس األكاذيب بطريقة أقل ذكاء

ة gكل مر.... أخرى، تبيعك تذكرة للهروب من الوطن.. ال وهنالك

.غير

Page 9: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الجريدة إذن.. وما دام ذلك لم يعد ممكنا, فألغلق .وألذهب لغسل يدي

ذلك آخر مره استوقفتني فيها صحيفة جزائرية, كان منذ شهرين تقريبا. عندما كنت أتصفح عن طريق

نصف صفحه المصادفة, وإذا بصورتك تفاجئني على بأكملها, مرفقه بحوار صحافي بمناسبة صدور كتاب

.جديد لك

ر نظري أمام ذلك اإلطار الذي كان يحتويك. يومها wwww(تسم أقرأك مرتبكاF، وعبثا رحت أفكg رموز كالمك . كنت

متلعثماF, على عجل. وكأنني أنا الذي كنت أتحدث إليك التي كنت تتحدثين لآلخرين, عن عني, ولست أنت

.قصة ربما لم تكن قصتنا ذلك اليوم! كيف لم أتوقع أي موعد عجيب كان موعدنا

بعد تلك السنوات أن تحجزي لي موعدا على ورق بين .مجلة ال اقرأها عادة صفحتين, في

إنgه قانون الحماقات، أليس كذلك؟ أن أشتري مصادفة مجلة لم أتعوgد شراءها، فقط ألقلب حياتي رأساF على

gعقبوأين العجب؟

تكوني امرأة من ورق. تحب وتكره على ورق. ألمة gقلم وتهجر وتعود على ورق. وتقتل وتحيي بجر.

فكيف ال أرتبك وأنا أقرأك. وكيف ال تعود تلك الرعشة جسدي، وتزيد من خفقان قلبي، المكهربة لتسري في

.وكأنني كنت أمامك، ولست أمام صورة لك

كثيراF بعدها، وأنا أعود بين الحين واآلخر لتلك تساءلت أنا الذي الصورة، كيف عدتx هكذا لتتربصي بي،

تحاشيت كل الطرق المؤدية إليك؟

يلتئم. وكاد القلب كيف عدت.. بعدما كاد الجرح أن المؤثث بذكراك أن يفرغ منك شيئاF فشيئاF وأنت

، وتمضين فجأة لتسكني قلباF تجمعين حقائب gالحب .آخر

Page 10: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..غادرت قلبي إذن مدينة جاءها في زيارة سياحية منظمة. كما يغادر سائح

كلg شيء موقوت فيها مسبقاF، حتى ساعة الرحيل، ومحجوز فيها مسبقاF، حتى المعالم السياحية التي

سيشاهدها، وعنوان سيزورها، واسم المسرحية التي.المحالت التي سيشتري منها هدايا للذكرى

إلى هذا الحد؟ فهل كانت رحلتك مضجرة.ها أنا أمام نسخة منك، مدهوش مرتبك، وكأنني أمامك

تسريحتك الجديدة. شعرك القصير الذي كان تفاجئنيبه؟ شاالF يلف وحشة ليلي.. ماذا تراك فعلت

أتوقف طويالF عند عينيك. أبحث فيهما عن ذكرى.أمامك هزيمتي األولى

ذات يوم.. لم يكن أجمل من عينيك سوى عينيك. فما!بهما أشقاني وما أسعدني

هل تغيرت عيناك أيضاF.. أم أن نظرتي هي التي عن بصمات جنوني تغيرت؟ أواصل البحث في وجهك

السابق. أكاد ال أعرف شفاهك وال ابتسامتك وحمرتك.الجديدة

كيف حدث يوماF.. أن وجدت فيك شبهاF بأمي. كيف العنابي، وتعجنين بهذه األيدي تصورتك تلبسين ثوبها

ذات األظافر المطلية الطويلة، تلك الكسرة التيمذاقها منذ سنين؟ افتقدت

!أيg جنون كان لك.. وأية حماقةFر الزواج حقاgمالمحك وضحكتك الطفولية، هل هل غي

الغجرية؟ غيgر ذاكرتك أيضاF، ومذاق شفاهك وسمرتك

وهل أنساك ذلك "النبي المفلس" الذي سرقوا منه طريقه إليك.. فجاءك بالوصية الوصايا العشر وهو في

.الحادية عشرة فقط

الردgة. لقد اخترت ها أنت ذي أمامي، تلبسين ثوبFآخر لم أعد أعرفه. وجها Fآخر. ولبست وجها Fطريقا

نصادفه في المجالت واإلعالنات، لتلك كذلك الذي

Page 11: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

قد النساء الواجهة، المعدات مسبقاF لبيع شيء ما،.يكون معجون أسنان، أو مرهماF ضد التجاعيد

لتروgجي لبضاعة في أم تراك لبست هذا القناع، فقط شكل كتاب، أسميتها "منعطف النسيان" بضاعة قد

وذاكرة جرحي؟.. تكون قصتي معك

وقد تكون آخر طريقه وجدتها لقتلي اليوم من جديد, .بصماتك على عنقي دون أن تتركي

يومها تذكرت حديثاF قديماF لنا . عندما سألتك مرة لماذا .اخترتx الرواية بالذات. وإذا بجوابك يدهشني

الصدق فيها من قلت يومها بابتسامة لم أدرك نسبة:نسبة التحايل

وأتخلص.. كان ال بد أن أضع شيئا من الترتيب داخلي" من بعض األثاث القديم . إن) أعماقنا أيضا في حاجة

وال يمكن أن أبقي نوافذي إلى نفض كأيg بيت نسكنه ..مغلقه هكذا على أكثر من جثة

لنقتل األبطال ال غير, وننتهي من إننا نكتب الروايات فكلما. األشخاص الذين أصبح وجودهم عبئاF على حياتنا ..." .كتبنا عنهم فرغنا منهم... وامتألنا بهواء نظيف

:من الصمت وأضفت بعد شيء

في الحقيقة كل رواية ناجحة, هي جريمة ما نرتكبها" وربما تجاه شخص ما, على مرأى من. تجاه ذاكرة ما

الجميع بكاتم صوت. ووحده يدري أن) تلك الكلمةهة إليه gالرصاصة كانت موج

... بد والروايات الفاشلة, ليست سوى جرائم فاشلة, ال

أن تسحب من أصحابها رخصة حمل القلم, بحجة أنهم يقتلون خطأ بها أيg ال يحسنون استعمال الكلمات, وقد

احد .. بمن في ذلك أنفسهم , بعدما يكونون قد قتلواF ... القراء !".ضجرا

كيف لم تثر نزعتك الساديgة شكوكي يومها .. وكيف لم

Page 12: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

جرائمك التي تلت ذلك اليوم, والتي جربت أتوقع كلفيها أسلحتك األخرى؟

يومها انك قد توجهين يوما رصاصك لم أكن أتوقع .نحوي

انبهاري اآلخر ولذا ضحكت لكالمك, وربما بدأ يومها بك. فنحن ال نقاوم, في هذه الحاالت , جنون اإلعجاب

!بقاتلنا

:ورغم ذلك أبديت لك دهشتي . قلت

الكاتب في أن يعيش كنت اعتقد أن الرواية طريقه_ مرة ثانيه قصه أحبها.. وطريقته في منح الخلود لمن

.أحب

وكأنg كالمي فاجأك فقلت وكأنك تكتشفين شيئا لم: تحسبي له حسابا

وربما كان صحيحا أيضا, فنحن في النهاية ال نقتل- ذلك خلودا سوى من أحببنا. ونمنحهم تعويضا عن!أدبيا . إنها صفقه عادلة . أليس كذلك؟

عادله ؟

الطغاة في عدلهم أو ظلمهم؟ ومن يناقش من يناقش اللهب . نيرون يوم احرق روما حباF لها, وعشقاF لشهوة

وأنت, أما كنت مثله امرأة تحترف العشق والحرائقبالتساوي؟

لحظتها تتنبgأين بنهايتي القريبة، وتواسينني أكنت...مسبقا على فجيعتي

تتالعبين بالكلمات كعادتك, و وتتفرجين على أم كنتF باندهاشي ا gوتسعدين سر , gالدائم أمامك, وقعها علي

وانبهاري بقدرتك المذهلة, في خلق لغة على قياس .تناقضك

Page 13: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

...االحتماالت كانت ممكنه كل

فربما كنت أنا ضحية روايتك هذه, والجثة التي حكمت عليها بالخلود, وقررت أن تحنطيها بالكلمات...

.كالعادة

فقط, ومراوغتك التي تشبه و ربما كنت ضحية وهمي الصدق. فوحدك تعرفين في النهاية الجواب على كل

التي ظلت تطاردني, بعناد الذي يبحث عن تلك األسئلة .الحقيقة دون جدوى

الكتاب؟ متى كتبتx ذلك

أقبل زواجك أم بعده؟ أقبل رحيل زياد .. أم بعده؟ كتبته عنه؟ أكتبته لتقتليني به.. أم أكتبته عني .. أم

لتحييه هو ؟ معاF بكتاب واحد... كما لم لتنتهي منgا معاF، وتقتلينا

تركتنا معاF من أجل رجل واحد ؟

FF عندما قرأت ذلك الخبر منذ شهرين,. لم أتوقع إطالقا, ليصبح كتابك أن تعودي فجأة بذلك الحضور الملح�

.محور تفكيري, ودائرة مغلقه أدور فيها وحدي

الذي حدث, أن اذهب فال كان ممكنا يومها بعد كل للبحث عنه في المكتبات , ألشتري قصتي من بائع

وال كان ممكنا أيضا أن أتجاهله. مقابل ورقه نقدية وأواصل حياتي وكأنني لم اسمع به , وكأن أمره ال

.يعنيني تماما

الم أكن متحرقا إلى قراءة بقية القصة؟

انتهت في غفلة مني , دون أن أعرف قصتك التي بعدما, فصولها األخيرة. تلك التي كنت شاهدها الغائب

كنت شاهدها األول. أنا الذي كنت,. حسب قانون دائما في قصة لم الحماقات نفسه. الشاهد والشهيد

.يكن فيها من مكان سوى لبطل واحد

Page 14: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

يعد بإمكاني اليوم أن أقرأه. ها هوذا كتابك أمامي.. لم فتركته هنا على طاولتي مغلقا كلغز, يتربص بي

موقوتة, أستعين بحضوره الصامت لتفجير كقنبلة .منجم الكلمات داخلي ... واستفزاز الذاكرة

كل شيء فيه يستفزني اليوم .. عنوانه الذي اخترته وابتسامتك التي تتجاهل حزني ... بمراوغه واضحة

ونظرتك المحايدة التي تعاملني وكأنني قارىء, ال .الكثير عنك يعرف

.كل شيء.. حتى اسمك فهو مازال, وربما كان اسمك األكثر استفزازا لي

يقفز إلى الذاكرة قبل أن تقفز حروفه المميزة إلى .العين

الذي .. ال ي�قرأ وإنما ي�سمع كموسيقى ت�عزف اسمك.واحد على آلة واحدة من أجل مستمع

كيف لي أن أقرأه بحياد, وهو فصل من قصة مدهشهالذي تقاطع يوما؟ كتبتها الصدفة, وكتبها قدرنا

.يقول تعليق على ظهر كتابك إنه حدث أدبي أضع عليه حزمة من األوراق التي سودتها وأقول وأنا

..في لحظة هذيان تصمت إلى األبد أيها الرجل . حان لك أن تكتب.. أو"

!"فما أعجب ما يحدث هذه األيام

البرد الموقف, ويزحف ليل قسنطينة وفجأة.. يحسم غطاءه, وانزلق نحوي من نافذة للوحشة. فأعيد للقلم

.بدوري تحت غطاء الوحدة

مذ أدركت أن لكل مدينة� الليل الذي تستحق, الليل الذي يشبهها والذي وحده يفضحها, ويعري في العتمة

أتحاشى النظر ليال من ما تخفيه في النهار, قررت أن . هذه النافذة

وتفضح, كل المدن تمارس التعري ليال دون علمها .للغرباء أسرارها , حتى عندما ال تقول شيئا

Page 15: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.أبوابها وحتى عندما توصد وألن المدن كالنساء, يحدث لبعضهن أن يجعلننا

...نستعجل قدوم الصباح. ولكن

"soirs, soirs.que de soirs pour un seul matin"..

هذا البيت للشاعر "هنري ميشو" ورحت كيف تذكرت ..اردده على نفسي بأكثر من لغة

"أمسيات كم من مساء لصباح واحد .. أمسيات"

كنت كيف تذكرته, ومتى تراني حفظته؟ .. تراني أتوقع منذ سنين أمسيات بائسة كهذه, لن يكون لها

سوى صباح واحد ؟

بعض الشيء في ذاكرتي عن القصيدة التي اخذ أنقب" ..منها هذا البيت, وإذا بعنوانها "الشيخوخة

فيخيفني اكتشافي فجأة وكأنني أكتشف معه مالمح الشيخوخة هكذا نحونا حقاF وجهي الجديدة. فهل تزحف

بليل طويل واحد. وبعتمة داخليه تجعلنا نتمهل في كلونسير ببطء, دون اتجاه محدد؟, شيء

أيكون الملل والضياع والرتابة جزءا من مواصفاتالشيخوخة أم من مواصفات هذه المدينة ؟

الوطن بأكمله تراني أنا الذي ادخل الشخوخة.. أم ترى هو الذي يدخل اليوم سن اليأس الجماعي؟

القدرة الخارقة, على جعلنا أليس هو الذي يملك هذه نكبر ونهرم في بضعة اشهر, وأحيانا في بضعة أسابيع

؟ فقط قبل اليوم لم أكن اشعر بثقل السنين, كان حبgك

التي ال شبابي, وكان مرسمي طاقتي الشمسية تنضب, وكانت باريس مدينه أنيقة, يخجل الواحد أن

ولكنهم طاردوني حتى . يهمل مظهره في حضرتها

Page 16: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

مربع غربتي, وأطفأوا شعلة جنوني ... وجاؤوا بي .حتى هنا

اآلن نحن نقف جميعا على بركان الوطن الذي ينفجر , أن نتوحد مع الجمر المتطاير ولم يعد في وسعنا , إال

من فوهته, وننسى نارنا الصغيرة... اليوم ال شيء كل تلك األناقة واللياقة. الوطن نفسه أصبح ال يستحق

!يخجل أن يبدو أمامنا في وضع غير الئق

ال أصعب من أن تبدأ الكتابة, في العمر الذي يكون فيه.قول كل شيء اآلخرون قد انتهوا من

الكتابة ما بعد الخمسين ألول مرة ... شيء شهواني.المراهقة وجنوني شبيه بعودة

شيء مثير وأحمق , شبيه بعالقة حب بين رجل في .سن اليأس, وريشة حبر بكر

األول مرتبك وعلى عجل... والثانية عذراء ال يرويها !حبر العالم

ما كتبته حتى اآلن, مجرد استعداد للكتابة سأعتبر إذن حملت منذ فقط, وفائض شهوة ... لهذه األوراق التي

.سنين بملئها

.ربما غدا ابدأ الكتابة حقا األشياء الهامة في حياتي بتاريخ أحب دائما أن ترتبط

.ما .... يكون غمزة لذاكره أخرى

الفكرة من جديد, وأنا استمع إلى األخبار أغرتني هذه بالزمن, هذا المساء واكتشف، أنا الذي فقدت عالقتي

أن غدا سيكون أول نوفمبر ... فهل يمكن لي أال أختارهذا الكتاب ؟ تاريخا كهذا, ألبدأ به

سنه على انطالق الرصاصة34غدا ستكون قد مرت التحرير, ويكون قد مر على وجودي هنا األولى لحرب

ثالثة أسابيع, ومثل ذلك من الزمن على سقوط آخر ...دفعه من الشهداء

كان احدهم ذلك الذي حضرت ألشيgعه بنفسي وادفنه. هنا

Page 17: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

بين أول رصاصه , وآخر رصاصه, تغيرت الصدور, .تغيرت األهداف .. وتغير الوطن

.ولذا سيكون الغد يوما للحزن مدفوع األجر مسبقا عسكري, وال من لن يكون هناك من استعراض

....استقباالت, وال من تبادل تهاني رسميه .ونكتفي بزيارة المقابر ... سيكتفون بتبادل التهم

غدا لن ازور ذلك القبر . ال أريد أن أتقاسم حزني مع.الوطن

.أفضل تواطؤ الورق, وكبرياء صمته

أنني قد اكتب أخيرا كل شيء يستفزني الليلة.. واشعر.. شيئا مدهشا, لن أمزقه كالعادة

التي تعود بي , بعد كل هذه فما أوجع هذه الصدفة السنوات إلى هنا, للمكان نفسه , ألجد جثة من أحبهم

.انتظاري, بتوقيت الذاكرة األولى في

يستدرجني. يستيقظ الماضي الليلة داخلي ... مربكا .إلى دهاليز الذاكرة

فأحاول أن أقاومه, ولكن, هل يمكن لي أن أقاومذاكرتي هذا المساء ؟

..أغلق باب غرفتي واشرع النافذة غير نفسي. وإذا النافذة تطل أحاول أن أرى شيئا آخر

...علي تمتد أمامي غابات الغاز والبلوط, وتزحف نحوي

قسنطينه ملتحفه مالءتها القديمة, وكل تلك األدغال يوما اعرفها والجروف والممرات السرية التي كنت

والتي كانت تحيط بهذه المدينة كحزام أمان, فتوصلك وغاباتها الكثيفة, إلى القواعد, مسالكها المتشعبة

السرية للمجاهدين, وكأنها تشرح لك شجرة بعد .ومغارة بعد أخرى, شجره

إنg كل الطرق في هذه المدينة العربية العريقة, تؤدي.الصمود إلى

وإنg كل الغابات والصخور هنا قد سبقتك في االنخراط .في صفوف الثورة

...هنالك مدن ال تختار قدرها الجغرافيا, فقد حكم عليها التاريخ, كما حكمت عليها

Page 18: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

...أال تستسلم .ولذا ال يملك أبناؤها الخيار دائما

أن أشبه هذه المدينة حد التطرف ؟ فهل عجب 

الطرق, ذات يوم منذ أكثر من ثالثين سنه سلكت هذه واخترت أن تكون تلك الجبال بيتي ومدرستي السرية

الوحيدة الممنوعة من التي أتعلم فيها المادة التدريس. وكنت ادري انه ليس من بين خريجيها من

قدري سيكون مختصرا بين المساحة دفة ثالثه, وان .الفاصلة بين الحرية .. والموت

الذي اخترنا له اسما آخر أكثر إغراءF، ذلك الموت لنذهب دون خوف وربما بشهوة سريه, وكأننا نذهب

.لشيء آخر غير حتفنا

لماذا نسينا يومها أن نطلق على الحرية أيضا أكثر من اسم؟ وكيف اختصرنا منذ البدء حريتنا.... في

مفهومها األول ؟

يمشي إلى جوارنا, وينام ويأخذ كان الموت يومها كسرته معنا على عجل. تماما مثل الشوق والصبر

.والسعادة المبهمة التي ال تفارقنا .. واإليمان

األيام تعود كان الموت يمشي ويتنفس معنا.. وكانت قاسيه دائما, ال تختلف عما سبقتها سوى بعدد

يتوقع احد موتهم على شهدائها, الذين لم يكن الغالب.. أو لم يكن يتصور لسبب أو آلخر, أن تكون

بالذات, قريبه إلى ذلك الحد .. ومفجعه نهايتهم, هم أكن إلى ذلك الحد. وكان ذلك منطق الموت الذي لم

.قد أدركته بعد

ما زلت اذكرهم أولئك الذين تعودنا بعد ذلك أن نتحدث عنهم بالجملة. وكأن) الجمع في هذه الحالة بالذات،

.لحقهم علينا ليس اختصارا للذاكرة , وإنما لم يكونوا شهداء.. كان كل واحد منهم شهيدا على

استشهد في أول معركة, وكأنه حده. كان هناك من

Page 19: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.جاء خصيصا للشهادة المسروقة إلى أهله بيوم وهناك من سقط قبل زيارته

واحد, بعدما قضى عدة أسابيع في دراسة تفاصيلها, .لها واإلعداد

.وهناك من تزوج وعاد .. ليموت متزوجا لكي يتزوج ... ولم وهناك من كان يحلم أن يعود يوما

.يعدgفي الحروب, ليس الذين يموتون هم التعساء دائما, إن

األتعس هم أولئك الذين يتركونهم خلفهم ثكالى, .يتامى, ومعطوبي أحالم

هذه الحقيقة باكراF، شهيداF بعد آخر، وقصة اكتشفت..بعد أخرى

نفسها، أنني ربما كنت الوحيد واكتشفت في المناسبةFألم ماتت مرضا gالذي لم يترك خلفه سوى قبر طري

وقهراF، وأخ� فريد يصغرني بسنوات، وأب مشغول.بمطالب عروسه الصغيرة

ذلك المثل الشعبي على حقg "إن الذي مات لقد كان".يتيم أبوه لم يتيت)م.. وحده الذي ماتت أمه

وكنت يتيماF، وكنت أعي ذلك بعمق في كل لحظة. مخيف وموجع، يظل ينخر فالجوع إلى الحنان، شعور

فيك من الداخل ويالزمك حتى يأتي عليك بطريقة.بأخرى وبطريقة أو

أكان التحاقي بالجبهة آنذاك محاولة غير معلنة للبحث تلك األحاسيس المرضية التي عن موت أجمل خارج

كانت تمألني تدريجياF حقداF على كل شيء؟

الثورة تدخل عامها الثاني، ويتمي يدخل شهره كانت أية لحظة الثالث، ولم أعد أذكر اآلن بالتحديد، في

بالذات أخذ الوطن مالمح األمومة، وأعطاني ما لمعه من الحنان الغامض، gف له أتوق .واالنتماء المتطر�

وربما كان الختفاء "سي الطاهر" من حينا بسيدي المبروك منذ بضعة أشهر، دور في حسم القضية،

Page 20: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

فلم يكن. واستعجالي في أخذ ذلك القرار المفاجئ يخفى على أحد أنه انتقل إلى مكان سري في الجبال

هناك مع آخرين المحيطة بقسنطينة ليؤسس من.إحدى الخاليا األولى للكفاح المسلح

الليلة ليزيد من" من أين عاد اسم "سي طاهر.ارتباكي، ومن منكما استدرجني لآلخر؟

حقاF، وعلى بعد شارعين مني من أين عاد.. وهل غابشارع مازال يحمل اسمه؟

".االسم هناك شيء اسمه "سلطة وهناك أسماء عندما تذكرها، تكاد تصلح من جلستك،

تتحدث عنها وكأنك تتحدث وتطفئ سيجارتك. تكاد.إليها بنفس تلك الهيبة وذلك االنبهار األول

ظلg السم )سي طاهر( هيبته عندي. لم تقتله .. ولذا السجن العادة وال المعاشرة، ولم تحوله تجربة

المشترك، وال سنوات النضال، إلى اسم عاديg لصديق دائماF كيف تحيط نفسها بذلك أو لجار. فالرموز تعرف

الحاجز الالمرئي، الذي يفصل بين العادي واالستثنائي،.والممكن والمستحيل، في كل شيء

..له ها أنذا أذكره في ليلة لم أحجزها

وبينما أسحب نفساF من سيجارة أخيرة، يرتفع صوت الفجر. ومن غرفة بعيدة يأتي بكاء المآذن معلناF صالة

..طفل أيقظ صوته أنحاء كل البيتع، ألنهم يملكون فأحسد المآذن، gوأحسد األطفال الرض

وحدهم حق الصراخ والقدرة عليه، قبل أن تروض.الحياة حبالهم الصوتية، وتعل�مهم الصمت

سنواته األولى في ال أذكر من قال "يقضي اإلنسان تعلم النطق، وتقضي األنظمة العربية بقية عمره في

!".الصمت تعليمه وكان يمكن للصمت أن يصبح نعمة في هذه الليلة

فالذاكرة في مناسبات كهذه. بالذات، تماماF كالنسيان ال تأتي بالتقسيط، وإنما تهجم عليك شالالF يجرفك إلى

.ال تدري من المنحدرات حيث

Page 21: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وكيف لك لحظتها أن توقفها دون أن تصطدمفي زلgة ذكرى؟ بالصخور، وتتحطم

وها أنت ذا، تلهث خلفها لتلحق بماض� لم تغادره في.تسكنها ألنها جسدك الواقع، وبذاكرة

.جسدك المشوه ال غير

من منبر إلى آخر، وتدري أنg هناك من يلهثون اآلن بحجة أو بأخرى، ليدينوا تاريخاF كانوا طرفاF فيه.

بالموجة الجديدة، قبل أن يجرفهم عساهم يلحقون.الطوفان. فال تملك إال أن تشفق عليهم

أتعس أن يعيش اإلنسان بثياب مبللة.. خارجاF لتوه ما!انتظار أن تجف من مستنقع.. وأال يصمت قليالF في

.صامتاF يأتي )سي طاهر( الليلة.الشهداء صامتاF كما يأتي.صامتاF.. كعادته

.وها أنت ذا مرتبك أمامه كعادتك

كانت دائماF الخمس عشرة سنة التي تفصلكما، لقدF أكبر من عمر السنوات. كانت عمراF بحد ذاتها، ورمزا

بحد ذاتها، لرجل كان يجمع إلى جانب الفصاحة التي اختلط بجمعية العلماء، ودرس كان يتميز بها كل من

.في قسنطينة، فصاحة أخرى.. هي فصاحة الحضور

سي طاهر( يعرف متى يبتسم، ومتى يغضب. )كان وكانت. ويعرف كيف يتكلم، ويعرف أيضاF كيف يصمت

الهيبة ال تفارق وجهه وال تلك االبتسامة الغامضة التيF .مختلفاF لمالمحه كل مرة كانت تعطي تفسيرا

إن االبتسامات فواصل ونقاط انقطاع.. وقليل من" الناس أولئك الذين ما زالوا يتقنون وضع الفواصل

".* والنقط في كالمهم

سجن ) الكديا( كان موعدي النضالي األول مع في )سي طاهر(. كان موعداF مشحوناF باألحاسيس

Page 22: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

المتطرفة، وبدهشة االعتقال األول، بعنفوانه...وبخوفه

استدرجني إلى الثورة يوماF وكان )سي طاهر( الذي بعد آخر، يدري أنه مسؤول عن وجودي يومها هناك.

يشفق سراF على سنواتي الست عشرة، وربما كانا( التي كان gيعرفها على طفولتي المبتورة، وعلى ) أم

جيداF، ويعرف ما يمكن أن تفعله بها تجربة اعتقالي.األول

عنgي كل شفقته تلك، مردداF لمن ولكنه كان يخفي".يريد سماعه: "لقد خلقت السجون للرجال

سجن )الكديا( وقتها، ككل سجون الشرق وكان مظاهرات الجزائري يعاني فجأة من فائض رجولة، إثر

التي قدgمت فيها قسنطينة وسطيف1945 ماي 8 متمثالF في دفعة أولى وضواحيها أول عربون للثورة،

من عدgة آالف من الشهداء سقطوا في مظاهرة اآلالف من المساجين الذين ضاقت واحدة، وعشرات

بهم الزنزانات، مما جعل الفرنسيين يرتكبون أكبر حماقاتهم، وهو يجمعون لعدة أشهر بين السجناء

زنزانات يجاوز السياسيين، وسجناء الحق العام، فيFعدد نزالئها العشرين معتقال Fأحيانا.

الثورة تنتقل إلى مساجين الحق وهكذا، جعلوا عدوى العام الذين وجدوا فرصة للوعي السياسي، ولغسل

باالنضمام إلى الثورة التي استشهد بعد ذلك شرفهم اآلن على من أجلها الكثير منهم. ومازال بعضهم حتى

قيد الحياة، يعيش بتكريم ووجاهة القادة التاريخيينل التاريخ بإعادة سجلg لحرب التحرير، بعدما gتكف

سوابقهم العدلية.. لعذريته األولى. بينما وجد بعض السجناء السياسيين _ في تلك الحماقة االستعمارية _

Fللتشاور فرصة للتعرف على بعض، ووقتا Fكافيا والتفكير في أمور الوطن.. والتخطيط للمرحلة

.القادمة

عندما أذكر تلك التجربة، تبدو لي لكثافتها.. اليوم لم تدم ودهشتها، وكأنها أطول مما كانت. رغم أنها

Page 23: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

بالنسبة لي سوى ستة أشهر فقط. قضيتها هناك قبل آخرين لصغر سننا وألنه أن يطلق سراحي أنا واثنين

.كان هناك من يهمهم أمرهم، أكثر من)ا

ثانوية قسنطينة، بعدما أخلفت هاماF وهكذا عدت إلى دراسياF، ألجد البرنامج نفسه وكتب الفلسفة نفسها

..واألدب الفرنسي في انتظاري وحدهم بعض رفاق الدارسة كانوا ما يزالون ضمن

.المتغيgبين، بين مساجين وشهداءF أن أغلبهم طلبة في الصفوف العليا التي كان مقررا تتخرج منها أول دفعة من المثقفين والموظفين

.الجزائريين المفرنسين

ذلك شرفهم، أولئك الذين راهن البعض على وكان والثقافة خيانتهم، فقط ألنهم اختاروا الثانويات

الفرنسية، في مدينة ال يمكن ألحد فيها أن يتجاهل.وهيبتها في القلوب والذاكرة سلطة اللغة العربية،

بعد فهل عجب أن يكون من بين الذين سجنوا وعذgبوا تلك المظاهرات، الكثير منهم، هم الذين كانوا بحكم

سياسي مبكر، ثقافتهم الغربية يتمتعون بوعي.وبفائض وطنية.. وفائض أحالم

تنتهي لصالح فرنسا والذين أدركوا، والحرب العالمية والحلفاء، أنg فرنسا استعملت الجزائريين، ليخوضوا

حربهم، وأنهم دفعوا آالف الموتى في حرباF لم تكن.عبوديتهم معارك ال تعنيهم، ليعودوا بعد ذلك إلى

كان في مصادفة وجودي مع )سي الطاهر( في بحد ذاته، وتجربة الزنزانة نفسها شيء أسطوري

نضالية ظلwت تالحقني لسنوات بكل تفاصيلها، وربما أثر في تغيgر قدري. فهناك رجال عندما كان لها بعد لك

.تلتقي بهم تكون قد التقيت بقدرك

سي الطاهر( استثنائياF في كل� شيء، وكأنه كان )كان.رجل يعد نفسه منذ البدء، ليكون أكثر من

Page 24: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لقد خلق ليكون قائداF. كان فيه شيء من ساللة طارق الطارق، وأولئك الذين يمكنهم أن بن زياد، واألمير عبد

.يغيروا التاريخ بخطبة واحدة

الذين عذgبوه وسجنوه لمدة ثالث وكان الفرنسيونgولكنهم كانوا يجهلون أن .Fسنوات يعرفون ذلك جيدا

سي الطاهر( سيأخذ بثأره منهم بعد ذلك بسنوات،) يقوم بها ويصبح الرأس المطلوب بعد كل عملية

.المجاهدون في الشرق الجزائري

سنوات تماماF، أيg صدفة.. أن يعود القدر بعد عشر ليضعني مع )سي طاهر( في تجربة كفاحية مسلحة

ة gهذه المر!

وفي شهر أيلول بالذات، التحقت.. 1955 سنة.بالجبهة

ستكون الحاسمة، كان رفاقي يبدأون سنة دراسية وكنت في عامي الخامس والعشرين أبدأ حياتي

.األخرى استقبال )سي طاهر( لي فاجأني وقتها. لم أذكر أن)

دراستي. يسألني عن أيgة تفاصيل خاصة عن حياتي أو لم يسألني حتى كيف أخذت قرار التحاقي بالجبهة، وال

إليه. ظل) يتأملني قبل أ، أيg طريق سلكت ألصل.يحتضنني بشوق وكأن)ه كان ينتظرني هناك منذ سنة

:قال ثم..!جئت-

Fوأجبته بفرح وبحزن غامض معا:!جئت-

الطاهر( هكذا أحياناF، يكون موجزاF حت)ى في كان ) سي.أيضاF فرحته؛ فكنت موجزاF معه في حزني

ا( بالتحديد، gسألني بعدها عن أخبار األهل، وأخبار ) أم توفيت منذ ثالثة أشهر. وأعتقد أنه فهم فأجبته أنها

كلg شيء، فقد قال وهو يربت على كتفي، وشيء:شبيه بالدمع يلمع في عينيه

-Fرحمها الله، لقد تعذبت كثيرا.

Page 25: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..تفكيره بعيداF إلى حيث ال أدري ثم ذهب في والتي بعدها حسدت تلك الدمعة المفاجئة في عينيه،

رفع بها أمي إلى مرتبة الشهداء. فلم يحدث لي أن الشهداء من رجاله. رأيت )سي الطاهر( يبكي سوى

وتمنيت طويالF بعد ذلك أن أمدد جثماناF بين يديه، ألتمتع.موتي بدمعة مكابرة في عينيه ولو بعد

ألكلg هذا تقلصت عائلتي فجأة في شخصه، ورحت أتفانى في إثبات بطولتي له، وكأنني أريد أن أجعله

شاهداF على أنني شاهداF على رجولتي أ, على موتي؛ لم أعد أنتسب إلى أحد غير هذا الوطن، وأنني لم أترك

المرأة كانت أمي، وأخ� يصغرني اختار خلفي سوى قبر.له أبي مسبقاF امرأة ستصبح أمه

ة، وكأنني كنت gألقي بنفسي على الموت في كل مر رفاقي أتحداه أو كأنني أريد بذلك أن يأخذني بدل

الذين تركوا خلفهم أوالدهم وأهلهم ينتظرون.عودتهم

ويسقط آخرون، وكأن الموت وكنت كل مرة أعود أنا..قرر أن يرفضني

ناجحة اشتركت وكان )سي طاهر( بعد أكثر من معركة فيها، قد بدأ تدريجياF يعتمد علي) في المهمات الصعبة،

بالمهمات األكثر خطورة، تلك التي تتطلب ويكلفني إلى مواجهة مباشرة مع العدو. ورفعني بعد سنتين

رتبة مالزم ألتمكن من إدارة بعض المعارك وحدي،.يقتضيها كل ظرف وأخذ القرارات العسكرية التي

بدأت وقتها فقط أتحول على يد الثورة إلى رجل، التي كنت أحملها قد منحتني شهادة وكأن الرتبة

.بالشفاء من ذاكرتي.. وطفولتي سعيداF وقد بلغت أخيراF تلك الطمأنينة وكنت آنذاك

.الضمير النفسية التي ال تمنحنا إياها سوى راحةgطموحاتي ال عالقة لها بالمكتوب وأن gلم أكن أعي أن

في ذلك الوقت الذي كنت أعتقد القدر كان يتربص بي فيه أن ال شيء بعد اليوم يمكن أن يعيدني إلى حزني

.السابق

Page 26: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وجاءت تلك المعركة الضارية التي دارت على مشارفFكل شيء "باتنة" لتقلب يوما..

فقد فقدنا فيها ستة مجاهدين، وكنت فيها أنا من اخترقت ذراعي اليسرى عداد الجرحى بعدما

رصاصتان، وإذا بمجرى حياتي يتغير فجأة، وأنا أجد الجرحى الذين يجب أن ينقلوا على نفسي من ضمن

وجه السرعة إلى الحدود التونسية للعالج. ولم يكن العالج بالنسبة لي.. سوى بتر ذراعي اليسرى،

هناك من الستحالة استئصال الرصاصتين. ولم يكن مجال للنقاش أو التردد. كان النقاش فقط، حول

نسلكها حتى تونس، حيث الطرق اآلمنة التي يمكن أن.كانت القواعد الخلفية للمجاهدين

..آخر وها أنذا أمام واقع

ها هو ذا القدر يطردني من ملجأي الوحيد، من الحياة ويخرجني من السرية إلى الضوء، والمعارك الليلية،

ليضعني أمام ساحة أخرى، ليست للموت وليست ساحة لأللم فقط.. وشرفة أتفرج منها على ما. للحياة

كالم يحدث في ساحة القتال. فلقد بدا واضحاF منة gسي طاهر( يومها، أنني قد ال أعود إلى الجبهة مر(

.ثانية

األخير، حاول )سي طاهر( أن يحافظ في ذلك اليوم على نبرته الطبيعية، وراح كما كان يودعني كل مرة

قبل معركة جديدة. ولكن هذه المرة كان يدري أنه.القدر يعدgني لتحمل معركتي مع

غير أنه كان موجزاF على غير عادته، ربما.. ألنه ليس خاصة تعطى في هذه الحاالت.. هناك من تعليمات

وربما ألنه كان يتكبد يومها أكبر خسارة بشرية ويفقد معركة واحدة عشرة من خيرة رجاله بين جرحى في

جانب، وقتلي. وكان يدري، والثورة مطوقة من كل.قيمة كلg مجاهد وحاجة الثورة إلى كل رجل على حدة

Fذلك اليوم ولم أقل له شيئا..

Page 27: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كنت أشعر، لسبب غامض، أنني أصبحت يتيماF مرة.أخرى. كنت أنزف، وكان كانت gدمعتان قد تجمدتا في عيني

ويستقر ألم ذراعي ينتقل تدريجياF إلى جسدي كله،ة الخيبة واأللم.. والخوف من gفي حلقي غصة. غص

.المجهول

تجري مسرعة أمامي، وقدري يأخذ كانت األحداث منحىF جديداF بين ساعة وأخرى، ووحده صوت )سي

وهو يعطي تعليماته األخيرة، كان يصل إلي)( طاهر.العالم حيث كان، ليصبح صلتي الوحيدة مع

وبرغم ذلك، مازلت أذكر تماماF حضوره األخير، عندما سفري بساعة، ووضع ورقة صغيرة جاء يتفقدني قبل

في جيبي وبعض األوراق النقدية، وقال وهو ينحنيgعلي Fوكأنه يودعني سرا:

دgر لك أن تصل إلى هناك.. أتمنى أن تذهب" لقد ق�ا( لزيارتهم حين gم هذا المبلغ إلى )أمgتشفى وتسل

لتشتري به هدية للصغيرة، وأود أيضاF أن تقوم بتسجيلها في دار البلدية لو استطعت ذلك.. فقد يمر

..".زيارتهم وقت طويل قبل أ، أتمكن من وعاد بعد لحظات وكأنه نسي شيئاF ليضيف شبه مرتبك

..ألول مرة وهو يلفظ ذلك االسم

لقد اخترت لها هذا السم.. سجلها متى استطعت".. ا ذلك وقبgلها gأم( على Fم كثيراgعني.. وسل"..)

وأنا كانت تلك أول مرة سمعت فيها اسمك.. سمعته في لحظة نزيف بين الموت والحياة، فتعلقت في

في لحظة هذيان غيبوبتي بحروفه، كما يتعلق محموم..بكلمة

..كما يتعلق رسول بوصية يخاف أن تضيع منه.غريق بحبال الحلم كما يتعلق

.بين ألف األلم وميم المتعة كان اسمك والم التحذير. فكيف لم أحذر.. تشطره حاء الحرقة

اسمك الذي ولد وسط الحرائق األولى، شعلة صغيرة الحرب. كيف لم أحذر اسماF يحل ضده ويبدأ بـ في تلك

Page 28: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

هذا االسم المفرد "أح" األلم واللذة معاF. كيف لم أحذر _ الجمع كاسم هذا الوطن، وأدرك منذ البدء أن الجمع

Fليقتسم خلق دائما!

بين االبتسام والحزن، يحدث اليوم أن أستعيد تلك:الوصية

قبgلها عني.." وأضحك من القدر، وأضحك من نفسي،".المصادفات ومن غرابة

ثم) أعود وأخجل من وقار صوته، ومن مسحة الضعف غلgفت جملته تلك، هو الذي كان يريد أن النادرة التي

سوى هموم يبدو أمامنا دائماF، رجالF مهيباF ال هموم له..الوطن، وال أهل له غير رجاله

gويشتاق وقد لقد اعترف لي أن)ه رجل ضعيف؛ يحن F دائماF. فليس من يبكي ولكن، في حدود الحياء، وسرا

.شوقاF حقg الرموز أن تبكي إنه لم يذكر أمكx مثالF.. تراه لم يحنg إليها، هي العروس

بها غير أشهر مسروقة من العمر التي لم يتمتعFوتركها حامال.

لماذا ال ينتظر بعض ولماذا هذا االستعجال المفاجئ؟ الوقت ليرت�ب قضية غيابه أليام، ويقوم هو نفسه

؟ xبتسجيلك

لقد انتظر ستة أشهر، فلماذا ال ينتظر أسابيع أخرى....بالذات ولماذا أنا

أيg قدر جعلني أحضر إلى هناك بتوقيتك؟

هذا السؤال، دهشت له كلما طرحت على نفسي. وآمنت بالمكتوب

أن فقد كان بإمكان )سي طاهر( برغم مسؤولياته يهرب ليوم أو ليومين إلى تونس. ولم تكن قضية عبور

ودورياتها وكمائنها لتخيفه، الحدود بحراستها المشددة وال حتى اجتياز )خط موريس( المكهرب والمفروش

والممتد بين الحدود التونسية الجزائرية من باأللغام،

Page 29: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

بعد ثالث مرات، البحر إلى الصحراء، والذي اجتازه فيما وهو رقم قياسي بالنسبة لعشرات المجاهدين الذين

.امتداده تركوا جثثهم على

أكان حبg )سي طاهر( لالنضباط، واحترامه للقوانين ذلك الشعور بالقلق بعد ميالدك، هو الذي خلق عنده

F أنه أب منذ شهور لطفلة لم وهو يكتشف عاجزااسماF، ولم يتمكن حتى من تسجيلها؟ يمنحها

منه أم كان يخاف، هو الذي انتظرك طويالF، أن تضيعي إن هو لم يرسخ وجودك وانتسابك له على ورقة

رسمية عليها ختم رسمي؟

يتشاءم من وضعك القانوني هذا، ويريد أن يسجل أكان تحولت إلى أحالمه في دار البلدية، ليتأكد من أنها

حقيقة.. وأن) القدر لن يعود ليأخذها منه، هو الذي كان أن يصبح أباF كاآلخرين بعد محاولة حلمه في النهاية

ية؟ gزواج فاشلة لم يرزق منها ذر

إذا كان )سي الطاهر( في أعماقه يفضgل لو وال أدري فيما بعد، كان مولوده صبيgاF.. أدري فقط، كما علمت

أنه حاول أن يتحايل على القدر وأن يترك قبل سفرهFاحتياطيا Fاحتمال مجيء أنثى. اسما Fلصبي،متجاهال

وربما فعل ذلك أيضاF بعقلية عسكرية، وبهاجس وطني دون أن يدري.. فقد كانت أحاديثه وخططه العسكرية

كثيراF ما سمعته يرد�دها تبدأ غالباF بتلك الجملة التي..""الزمنا رجال يا جماعة

يبدو سعيداF ومتفائالF في( إذن، لهذا كان )سي طاهر..كلg شيء في تلك الفترة

أصبح أكثر مرونة وأكثر. فجأة تغيgر الرجل الصلب.دعابة في أوقات فراغه

ويجعله أقرب إلى شيء ما كان يتغير تدريجياF داخله،.اآلخرين، وأكثر تفهماF ألوضاعهم الخاصة

بسهولة أكثر تسريحات لزيارة فقد أصبح يمنح البعض خاطفة يقومون بها إلى أهلهم، هو الذي كان يبخل بها

نفسه. لقد غيgرته األبوgة المتأخرة، التي جاءت على

Page 30: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..أجمل رمزاF جاهزاF لمستقبل

xمعجزة صغيرة لألمل.. كانت أنت.

شعري تواطؤ عن مأخوذة مميز بخط المكتوبة الجمل* رصيف" غزالة" و "سأهبك حداد مالك روايتي من

.يجيب يعد لم األزهار

..طلع صباح آخر وها هو ذا النهار يفاجئني بضجيجه االعتيادي، وبضوئه

الذي يدخل النور إلى أعماقي غصباF عني، المباغت.فأشعر أنه يختلس شيئاF مني

اللحظة.. أكره هذا الجانب الفضولي والمحرج في هذه.للشمس

قصتي معك شريط. أريد أن أكتب عنك في العتمة مصور أخاف أن يحرقه الضوء ويلغيه، ألنك امرأة نبتت

..السرية في دهاليزي..ألنك امرأة امتلكتها بشرعية السرية

كلg الستائر، وأغلق ال بد أن أكتب عنك بعد أن أسدل.نوافذ غرفتي

األوراق ورغم ذلك.. يسعدني في هذه اللحظة منظر المكدسة أمامي، والتي مألتها البارحة، في ليلة نذرتها

لك مغلgفة بصورة مهذبة في للجنون. فقد أهديتها..كتاب

..وأدريF.. وأن)ك أنانية أدري أن)ك تكرهين األشياء المهذgبة جدا

F.. وأن ال شيء يعنيك في النهاية، خارج حدودك جدا.أنت.. وجسدك أنت

.ولكن قليالF من الصبر سيgدتي

Page 31: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ي أمامك ذاكرتي األخرى. صفحات أخرى فقط.. ثم أعر�..F صفحات أخرى ال بد منها، قبل أن أمألك غرورا

.. ال بدg.. وشهوة gفالكتب كوجبات الحب .Fوجنونا Fوندما أعترف أنg لها من مقدgمات أيضاF.. وإن كنت

"المقدمات" ليست مشكلتي اآلن بقدر ما يربكني.القصة البحث عن منطلق لهذه

من أين أبدأ قصتي معك؟ غير ولقصتك معي عدgة بدايات، تبدأ مع النهايات

.المتوقعة ومع مقالب القدر وعندما أتحدث عنك.. عمgن تراني أتحد)ث؟ أعن طفلة كانت تحبو يوماF عند قدمي.. أم عن صبية قلبت بعد

امرأة تكاد خمس وعشرين سنة حياتي.. أم عن تشبهك، أتأملها على غالف كتاب أنيق عنوانه "منعطف

؟: النسيان" .. وأتساءل xأنت ..Fأتراها حقا

وعندما أسميك فبأي اسم؟ أراده والدك، وذهبت ت�رى أدعوك بذلك االسم الذي

بنفسي ألسجله نيابة عنه في سجالت البلدية، أم الذي حملته خالل ستة أشهر في باسمك األول، ذلك

انتظار اسم شرعي آخر؟

"..حياة"

هكذا.. ليس هذا اسمك على كل حال. إنه أحد سأدعوك االسم أسمائك فقط.. فألسمين)ك به إذن مادام هذا

الذي عرفتك به، واالسم الذي أنفرد بمعرفته. اسمك وغير المسجgل على غير المتداول على األلسنة،

.صفحات الكتب والمجالت، وال في أيg سجالت رسمية

نحته لتعيشي وليمنحك الله الحياة والذي االسم الذي م�Fآخر، ومن قتلته أنا ذات يوم، وأنا أمنحك اسما Fرسميا

حقي أن أحييه اليوم، ألنه لي ولم ي�نادxكx رجل قبلي.يه

اسمك الطفولي الذي يحبو على لساني، وكأنك أنت

Page 32: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لفظته، عدت طفلة منذ خمس وعشرين سنة. وكلما تجلس على ركبتي وتعبث بأشيائي وتقول لي كالماF ال

..أفهمه.لك لحظتها كلg خطاياك فأغفر

كلما لفظته تدحرجت إلى الماضي، وعدت صغيرة في.وإذا بك ابنتي.. حجم دمية

هل أقرأ كتابك ألعرف كيف تحولت تلك الطفلة ولكن)ني أعرف مسبقاF أنك لن الصغيرة إلى امرأة؟

.تكتبي عن طفولتك.. وال عن سنواتك األولى

تملئين ثقوب الذاكرة الفارغة بالكلمات فقط، أنت سر تعلقك وتتجاوزين الجراح بالكذب، وربما كان هذا

بي؛ أنا الذي أعرف الحلقة المفقودة من عمرك،ات قليلة في وأعرف ذلك األب الذي لم تريه سوى مر)

حياتك، وتلك المدينة التي كنت تسكنينها وال تسكنك،تها دون عشق، وتمشين وتجيئين على وتعاملين ww(أزق

.ذاكرتها دون انتباه

تعلقتx بي لتكتشفي ما تجهلينه.. وأنا الذي أنت التي ممكناF لحبنا أن تعلgقت بك ألنسى ما كنت أعرفه.. أكان

يدوم؟

كان )سي طاهر( طرفاF ثالثاF في قصتنا من البدء حتىF بغيابه، فهل عندما ال نتحدث عنه، كان بيننا حاضرا

د بك؟ أقتله مرة ثانية ألتفر)

آه لو تدرين.. لو تدرين ما أثقل حمل الوصايا، حت)ى بعد أوجع الشهوة التي يواجهها أكثر من ربع قرن، وما

...مستحيل وأكثر من مبدأ فال يزيدها في النهاية إال!اشتهاء

..كان السؤال منذ البداية ذاكرتي، وألغي عمره كيف لي أن ألغي )سي طاهر( م

من عمري، ألمنح حبgنا فرصة والدة طبيعية؟ سيبقى وقتها، لو أخرجتك من ذاكرتنا ولكن.. ما الذي

المشتركة وحولتك إلى فتاة عادية؟.رفيقاF فوق العادة .. وقائداF فوق العادة كان والدك

Page 33: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

فهل أنسى ذلك؟. كان استثنائياF في حياته وفي موته لم يكن من المجاهدين الذين ركبوا الموجة األخيرة،

( وأبطال المعارك62مستقبلهم، مجاهدي ) لضمنوا فاجأهم األخيرة. وال كان من شهداء المصادفة، الذين

.الموت في قصف عشوائي، أو في رصاصة خاطئة

ومن عجينة العربي بن كان من طينة ديدوش مراد، مهيدي، ومصطفى بن بولعيد، الذين كانوا يذهبون إلى

.ينتظرون أن يأتيهم الموت وال

فهل أنسى أنgه والدك.. وسؤالك الدائم يعيد السمهحياF وشهيداF؟ هيبته

فيرتبك القلب الذي أحبgك حدg الجنون. ويبقى صدىFحدثني عنه... "سؤالك مائال"..

سأحدثك عنه حبيبتي.. فال أسهل من الحديث عن جاهز ومعروف مسبقاF كخاتمتهم. الشهداء. تاريخهم

ونهايتهم تغفر لهم ما يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا من.أخطاء

(..سأحد�ثك عن )سي طاهر

تاله تاريخ آخر فوحده تاريخ الشهداء قابل للكتابة، وما يصادر األحياء. وسيكتبه جيل لم يعرف الحقيقة ولكنه

.تلقائياF.. فهناك عالمات ال تخطئ سيستنتجها مات )سي طاهر( طاهراF على عتبات االستقالل. ال شيء في يده غير سالحه. ال شيء في جيوبه غير

سوى وسام أوراق ال قيمة لها.. ال شيء على أكتافه.الشهادة

..الرموز تحمل قيمتها في موتها يحملون قيمتهم في ووحدهم الذين ينوبون عنهم،

رتبهم وأوسمتهم الشرفيgة، وما مألوا به جيوبهم علىية عجل من حسابات gسر.

ست ساعات من الحصار والتطويق، ومنن القصف ليتمكن قتلته من نشر صورته المركgز لدشرة بأكملها

على صفحات جرائد الغد كدليل على انتصاراتهمقة" الذين الساحقة على بين و "الفال) gأحد المخر

Page 34: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..أقسمت فرنسا أن تأتي عليهم

Fلقوة أكان حقا Fموت ذلك الرجل البسيط انتصارا عظمى، كانت ستخسر بعد بضعة أشهر الجزائر

!بأكملها؟

، دون أن يتمتع بالنصر1960استشهد هكذا في صيف .ثماره وال بقطف

ها هو رجل أعطى الجزائر كلg شيء، ولم تعطه حتى..جواره فرصة أن يرى ابنه يمشي إلى

.أو يراك أنت ربما طبيبة أو أستاذة كما كان يحلم!الرجل كم أحبgك ذلك

بجنون أبوgة األربعين.. بحنان الذي كان يخفي خلف الحنان، بأحالم الذي صودرت منه صرامته الكثير من

األحالم، بزهو المجاهد الذي أدرك وهو يرى مولده.األول، أنه لن يموت تماماF بعد اليوم

ات القليلة التي كان gيحضر فيها إلى مازلت أذكر المر .تونس لزيارتكم خلسة ليوم واحد أو ليومين

فاF لسماع آخر األخبار، وكنت وقتها أسرع إليه متله� وتطورات األحداث على الجبهة. وأنا أجهد نفسي في

نفسه حتى ال أسرق منه تلك الساعات القليلة الوقت برفقة عائلته النادرة، التي كان يغامر بحياته ليقضيها

.الصغيرة

كنت أندهش وقتها، وأنا أكتشف فيه رجالF آخر ال.أعرفه

رجل بثياب أخرى، بابتسامة وكلمات أخرى، وبجلسة ركبته طوال الوقت يسهل له فيها إجالسك على

.لمالعبتك

كان يعيش كل لحظة بأكملها، وكأنه يعتر من الزمن الشحيح كل قطرات السعادة؛ وكأنه يسرق من العمر

مسبقاF من مسبقاF، ساعات يعرفها معدودة؛ ويمنحك.الحنان زادك لعمر كامل

وكان. 1960كانت آخر مرة رأيته فيها، في يناير سنة

Page 35: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

حضر ليشهد أهم حدث في حياته؛ ليتعرف على مولوده أمنيته السرية أن ي�رزق يوماF الثاني "ناصر"، فقد كانت

قليالF.. بكر. يومها لسبب غامض تأملته كثيراF.. وحد)ثتهلت أن أتركه لفرحته تلك، ولسعادته المسروقة. gوفض

لي إنgه عاد إلى الجبهة وعندما عدت في الغد، قيلF أنه سيعود قريباF لمدة أطول .على عجل مؤكدا

..يعد ولم انتهى بعد ذلك كرم القدر البخيل. فقد استشهد )سي

أن يتمكن من رؤية ابنه طاهر( بعد بضعة أشهر دونة ثانية gمر.

تدخلين كان ناصر آنذاك ينهي شهره الثامن، وأنت.عامك الخامس

بركاناF يموت ويولد كل1960gوكان الوطن في صيف وتتقاطع مع موته وميالده، أكثر من قصة، بعضها. يوم

..مؤلم وبعضها مدهش متأخراF كما جاءت قصتي التي تقاطعت وبعضها يأتي

.يومها معك مسار حياتي بعد قصة فرعية، كتبت مسبقاF وحولت

عمر بأكمله، بحكم شيء قد يكون اسمه القدر، وقد.. يكون العشق الجنوني

gكل Fذاك الذي يفاجئنا من حيث ال نتوقع، متجاهال .السابقة مبادئنا وقيمنا

والذي يأتي متأخراF.. في تلك اللحظة التي ال نعود.وإذا به يقلب فينا كلg شيء ننتظر فيها شيئاF؛

فهل يمكن لي اليوم، بعدما قطعت بيننا األيام جسور الكالم، أن أقاوم هذه الرغبة الجنونية لكتابة هاتين

ودونك، بعد ذلك القصتين معاF، كما عشتهما معك..بسنوات

Fوغيرة ..Fوحقدا ..Fوحلما ..Fوعشقا ..Fرغبة ....Fوخيبة .وفجائع حدg الموت

..إليg أنت التي كنت تحبgين االستماع.وتقلبينني كدفتر قديم للدهشة

الكتاب، ألقول لك ما كان ال بد أن أكتب من أجلك هذا

Page 36: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.لم أجد مت)سعاF من العمر ألقوله

أحبgوك ألسباب مختلفة، وخنتهم سأحدثك عن الذين.ألسباب مختلفة أخرى

كنت تحب�ين الحديث عنه سأحدثك حتى عن زياد، أماوتراوغين؟

اختار كلg منا لم يعد من ضرورة اآلن للمراوغة.. لقد.قدره

سأحدثك عن تلك المدينة التي كانت طرفاF في حبgنا، أصبحت بعد ذلك سبباF في فراقنا، وانتهي فيها والتي

.مشهد خرابنا الجميل

ستتحدثين؟ فعمg تراكعن أيg رجل من)ا تراك كتبت؟ مwن» من)ا أحببت؟

ستقتلين؟ ومن.. منgا، gبحب Fاgولمن تراك أخلصت، أنت التي تستبدلين حب

ومستحيالF بمستحيل؟ وذاكرة بأخرى،وأين أنا في قائمة عشقك وضحاياك؟

األولى، ألنني أقرب إلى النسخة تراني أشغل المكانةاألولى؟

التي لم تراني النسخة المزورة لـ )سي طاهر( تلكيحوgلها االستشهاد إلى نسخة طبق األصل؟

المزوgر؟ تراني األبوة المزورة.. أم الحب أنت التي _كهذا الوطن_ تحترفين تزوير األوراق

.جهد وقلبها.. دون

:كان "مونتيرالن" يقول فال تقل إذا كنت عاجزاF عن قتل من تدgعي كراهيته،"

ر هذه الكلمة gإن)ك تكرهه: أنت تعه."!

اللحظة أكرهك، وأنgه دعيني أعترف لك أنني في هذه كان ال بدg أن أكتب هذا الكتاب ألقتلك به أيضاF. دعيني

ب gأسلحتك أجر.. فربما كنت على حق.. ماذا لو كانت الروايات مسدgسات

Page 37: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.القاتلة ال غير؟ محشوgة بالكلماتولو كانت الكلمات رصاصاF أيضاF؟

مسدساF بكاتم صوت، على ولكن)ني لن أستعمل معك.طريقتك

ال يمكن لرجل يحمل السالح بعد هذا العمر، أن يأخذ.كلg هذه االحتياطات

..أريد لموتك وقعاF مدوياF قدر اإلمكان أكثر من شخص، كان ال بد أن يجرؤ أحد فأنا أقتل معك

Fعلى إطالق النار عليهم يوما.ين عن فاقرأي هذا gالكتاب حتى النهاية، بعدها قد تكف

.كتابة الروايات الوهمية..من جديد وطالعي قصتنا

دهشة بعد أخرى، وجرحاF بعد آخر، فلم يحدث ألدبنا..قصة أروع منها التعيس هذا، أن عرف.وال شهد خراباF أجمل

الثاني الفصل

..كان يوم لقائنا يوماF للدهشة القدر فيه هو الطرف الثاني، كان منذ البدء لم يكن

مدن أخرى، الطرف األول. أليس هو الذي أتى بنا من من زمن آخر وذاكرة أخرى، ليجمعنا في قاعة بباريس،

للرسم؟ في حفل افتتاح معرض

يومها كنت أنا الرسام، وكنت أنت زائرة فضولية على.صعيد أكثر من

لم تكوني فتاة تعشق الرسم على وجه التحديد. وال بضعف تجاه الفتيات الالئي يصغرنه كنت أنا رجالF يشعر

عمراF. فما الذي قاد خطاك هناك ذلك اليوم؟.. وماالذي أوقف نظري طويالF أمام وجهك؟

Page 38: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وحدها كنت رجالF تستوقفه الوجوه، ألن وجوهناgعلى أن أحب Fتشبهنا، وحدها تفضحنا، ولذا كنت قادرا

.وجه أو أكره بسبب وبرغم ذلك، لست من الحماقة ألقول إنني أحبتك من

أقول إنني أحبتك، ما قبل النظرة األولى. يمكنني أن.النظرة األولى

إلى كان فيك شيء ما أعرفه، شيء ما يشدني مالمحك المحببة إليg مسبقاF، وكأنني أحببت يوماF امرأة

wF منذ األزل ألحبg امرأة تشبهك. أو كأنني كنت مستعداFتشبهك تماما.

وثوبك األبيض كان وجهك يطاردني بين كلg الوجوه،ل من لوحة إلى أخرى، يصبح لون دهشتي gالمتنق

..وفضولي

الذي يؤثgث وحده تلك القاعة المألى.. بأكثر من واللون.زائر وأكثر من لون

!الحبg أيضاF من لون� لم نكن نحبgه بالضرورة هل يولد- _

وراح يتحدث وفجأة اقترب اللون األبيض منgي،..بالفرنسية مع فتاة أخرى لم أالحظها من قبل

عندما يلبس شعراF طويالF حالكاF، يكون رب)ما ألن األبيض..قد غط)ى على كل األلوان

:وهو يتأمل لوحة قال األبيض

-Je prefere l'abstrait!..

:له وأجاب اللون الذي ال لون

-moi je prefere comprendre ce que je vois.

اللون الذي ال لون له، عندما ولم تدهشني حماقةل أن يفهم كلg ما يرى gيفض..

Page 39: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

األبيض فقط.. فليس من طبعه أن أدهشني اللونل الغموض gيفض!

.انحزت للون األبيض قبل ذلك اليوم، لم يحدث أن لم يكن يوماF لوني المفضل.. فأنا أكره األلوان

.الحاسمة.ولكنني آنذاك انحزت إليك دون تفكير

وكأنني أواصل جملة ووجدتني أقول لتلك الفتاة،xبدأتها أنت:

-gما الفن هو كل ما يهزنا.. وليس بالضرورة كل !نفهمه

نظرتما إليg معاF بشيء من الدهشة، وقبل أن تقولي عيناك تكتشفان في نظرة خاطفة، ذراع شيئاF، كانت

ه بحياء في جيب gجاكيتي الفارغة والمختبئ كم .سترتي

.كانت تلك بطاقة تعريفي وأوراقي الثبوتية

:مصافحة وقلت بحرارة فاجأتني مددت نحوي يدك

..المعرض كنت أريد أن أهنgئك على هذا-

وقبل أن تصلني كلماتك.. كان نظري قد توق)ف عند.يزين معصمك العاري الممدود نحوي ذلك السوار الذي

ذهبها كان إحدى الحليg القسنطينية التي ت�عرف من األصفر المضفور، ومن نقشتها المميزة. تلك

الماضي، جهاز "الخالخل" التي لم يكن يخلو منها في.عروس وال معصم امرأة من الشرق الجزائري

أرفع عيني تماماF عنه. وفي مددت يدي إليك دون أنF إلى الوراء. إلى معصم عمر لحظة، عادت ذاكرتي عمرا

ا( الذي لم يفارقه هذا السوار قط) gأم.

نظري وداهمني شعور غامض، منذ متى لم يستوقف

Page 40: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

سوار كهذا؟!لم أعد أذكر.. رب)ما منذ أكثر من ثالثين سنة

اللباقة سحبت يدك التي كنت أشدg عليها رب)ما بكثير من.استعدتxه فجأة دون أن أدري، وكأنني أمسك بشيء ما،

..وابتسمت لي

.رفعت عيني نحوك ألول مرة.في نصف نظرة تقاطعت نظراتنا

.كنت تتأملين ذراعي الناقصة، وأتأمل سواراF بيدك..ذاكرته فوقه كان كالنا يحمل

وكان يمكن لنا أن نتعرف على بعضنا بهذه الطريقة لغزاF ال تزيده التفاصيل إال غموضاF. فقط. ولكن كنت

F مرتبكاF.. فرحت أراهن على اكتشافك. أتفحصك مأخوذا.كأنني أعرفك وأتعرف عليك في آن واحد

الذي يبهر، ذلك الجمال لم تكوني جميلة ذلك الجمال.الذي يخيف ويربك

عادية، بسر³ ما كنت فتاة عاديgة، ولكن بتفاصيل غير يكمن في مكان ما من وجهك.. رب)ما في جبهتك العالية

السميكين والمتروكين على استدارتهما وحاجبيك الطبيعية. وربgما في ابتسامتك الغامضة وشفتيك

.المرسومتين بأحمر شفاه فاتح كدعوة سريgة لقبلة ولونهما العسليg أو ربما في عينيك الواسعتين

.المتقل�ب..وكنت أعرف هذه التفاصيل

وجاء صوتك بالفرنسية يخرجني أعرفها.. ولكن كيف؟:من تفكيري قلت

هذه القمة من يسعدني أن يصل فنان جزائري إلى- ..اإلبداع

:ثم أضفت بمسحة خجل كثيراF في الرسم، ولم أزر في الحقيقة.. أنا ال أفهم-

إال نادراF معارض فنية، ولكن يمكنني أن أحكم على الجميلة، ولوحاتك شي مميز.. كنgا في حاجة األشياء

كهذه... لقد إلى شيء جديد بنكهة جزائرية معاصرة

Page 41: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.كنت أقول هذا البنة عمي عندما فاجأتنا

مني لتصافحني، وتقد�م لي وعندما تقدمت تلك الفتاة نفسها، وكأنها بذلك ستصبح طرفاF في وقفتنا، وذلك

الذي وجدت نفسها خارجه بعدما تجاهلتها منذ الحوار..البدء دون أن أدري

فني بنفسها قالت وهي gتعر:

..اآلنسة عبد المولى. إني سعيدة بلقائك-

.لسماع ذلك االسم انتفضت ونظرت مدهوشاF إلى تلك الفتاة التي صافحتني

..شيء من الغرور بحرارة ال تخلو من تفحصتها وكأنني أكتشف وجودها، ثم عدت ألتأملك

.مالمحك جواباF لدهشتي عساني أجد في..عبد المولى.... عبد المولى

..جواب لتلك المصادفة وراحت الذاكرة تبحث عنFكنت أعرف عائلة عبد المولى جيدا.

أحدهما )سي طاهر( استشهد منذ. إنهما أخوان ال أكثر.اكثر من عشرين سنة، وترك صبياF وبنتاF فقط

سي الشريف( تزوج قبل االستقالل، و قد )واآلخر..يكون له اليوم عدة أوالد وبنات

منكما ابنة )سي الطاهر(... تلك التي حملت� فمن أبيها اسمها وصية من الجبهة حتى تونس.. ونبت عن

في دار البلدية، لتسجيلها رسمياF في سجل� الوالدات؟ التي قبgلتها نيابة عن أبيها، وال من منكما تلك الصغيرة

عبتها ودلgلتها نيابة عنه؟

؟... من منكما xأنت

وبرغم بعض الخطوط المشتركة لمالمحكما، كنت أشعر.. ال xتلك أن)ك أنت.

أو هكذا كنت أتمنى، وأنا أحلم قبل األوان بقرابة ما.بك تكون جمعتني

وأندهش لهذه المصادفة، وأجد فجأة تبريراF لوجهك كنت نسخة عن )سي طاهر(، المحبgب إليg مسبقاF. لقد

Page 42: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.نسخة أكثر جاذبية

.كنت أنثى

تكوني أنت الطفلة التي رأيتها آلخر ولكن.. أيعقل أن ( غداة االستقالل، عندما1962مرة في تونس سنة )

رحت أطمئن عليكم كالعادة، وأتابع بنفسي تفاصيل سي الشريف( )عودتكم إلى الجزائر؟ بعدما اتصل بي

من قسنطينة، ليطلب مني بيع ذلك البيت الذي لم يعد والذي اشتراه )سي الطاهر( هناك ضرورة لوجوده،

ب إليه أسرته الصغيرة، عندما gة سنوات ليهرgمنذ عد فرنسا عن الجزائر في الخمسينيات، بعد عدة أبعدته

.السياسي أشهر من السجن قضاها بتهمة التحريض

كم كان عمرك وقتها؟ إلى هذا أيعقل أن تكوني تغيرت إلى هذا الحدg.. وكبرت

!الحد.. خالل عشرين سنة؟

رحت أتأملك مرة أخرى، وكأنني أرفض أن أعترف بعمرك، وربما أرفض أن أعترف بعمري وبالرجل الذي

.اليوم غابراF أصبحته منذ ذلك الزمن الذي يبدو لي

ما الذي أوصلك إلى هذه المدينة.. وإلى هذه القاعةالزمن وهذا اليوم بالذات؟ في هذا

..يوم انتظرته طويالF لسبب ال عالقة له بك..ألف حساب لم تكوني ضمنه وحسبت له

وتوق)عت فيه كل المفاجآت إال أن تكوني أنت.مفاجأتي

فجأة أذهلني اكتشافي، وخفت من مواجهة عينيك بشيء من الدهشة ارتباكي. اللتين كانتا تتابعان

فقررت أن أطرح سؤالي بالمقلوب، وأنا أواصل األخرى التي قدgمت لي نفسها. كنت حديثي مع الفتاة

Fأعرف أنني إذا عرفتها سينحل اللغز، وأعرف تلقائيا xمن منكما.. أنت.

فقد كان إلحداكما اسم أعرفه منذ خمس وعشرين.أتعرف على صاحبته سنة، وعليg فقط أن

Page 43: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:سألتها

المولى؟ هل لديك قرابة بسي الشريف عبد- :أجابت بسعادة وكأنها تكتشف أن أمرها يعنيني

عليه الحضور اليوم بسبب وصول إنه أبي.. لقد تعذر- وفد من الجزائر البارحة.. لقد حدgثنا عنك كثيراF. وقد

رنا أن نأتي مكانه اليوم gأثار فضولنا لمعرفتك لدرجة قر !لحضور االفتتاح

كالم تلك الفتاة على تلقائيته يحمل لي جوابين. كان تخلف )سي األول أنها لم تكن أنت، والثاني سبب

(.الشريف

كنت الحظت غيابه وتساءلت عن سببه، هل كان المانع،Fأم تراه كان لسبب� ما يتحاشى شخصيا ..Fأم سياسيا

الظهور معي؟

تقاطعت منذ سنين عندما دخل كنت أدري أنg طرقنا دهاليز اللعبة السياسية، وأصبح هدفه الوحيد الوصول

الصفوف األمامية. ورغم ذلك لم يكن بإمكاني أن إلى فقد كان. أتجاهل وجوده معي في المدينة نفسها

.جزءاF من شبابي وطفولتي.. وكان بعض ذاكرتي

محض، كان الشخصية ولذا، وألسباب عاطفية.الجزائرية الوحيدة التي دعوتها

ولكن أخباره كانت تصلني لم ألتق به منذ عدة سنوات، دائماF منذ ع�ي�ن، قبل سنتين، ملحقاF في السفارة

الجزائرية، وهو منصب ككل المناصب "الخارجية"،.العريضة يتطلب كثيراF من الوساطة واألكتاف

وكان بإمكان )سي الشريف( أن يشق طريقه إلى هذا بماضيه فقط، وباسمه الذي خلgده المنصب وألهم منه

سي الطاهر باستشهاده. ولكن يبدو أن الماضي لم كافياF بمفرده لضمان الحاضر، وكان عليه أن يكن

..للوصول يتأقلم مع كلg الرياح

Page 44: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

خطر ببالي كلg ذلك، وأنا أحاول بدوري أن أتأقلم مع واالنفعاالت التي هزتني في بضع كل المفاجآت

لحظات، والتي كانت بدايتها أنني وددت أن أسلم على فتاة جميلة تزور معرضي ال غير.. فإذا بي أسلgم على

!ذاكرتي

..األولى معك وعدت إلى دهشتي إلى كل التفاصيل األولى التي لفتت نظري إليك منذ

اللوحة بالذات التي توقفت طويالF البدء. إلى تلك مكتوب.. أمامها. لقد كان هناك أكثر من قدر، أكثر من

.أكثر من مصادفة

xأنت.. لوحاتي. أكنت أنت.. في قاعة تتفرجين فيها على

تتأملين بعضها، تتوقفين عند بعضها اآلخر، وتعودين بيدك لتتعرفي على أسماء إلى الدليل الذي تمسكيه

اللوحات التي تلفت نظرك األكثر؟

xأنت.. أنت.. نور آخر يضيء كل لوحة تمرين بها، فتبدو تراك

هة نحوك.. األضواء الموجهة نحو اللوحات، وكأنها gموج .وكأنك كنت اللوحة األصلية

..أنت إذنF. تتأملينها تتوقفين أمام لوحة صغيرة لم تستوقف أحدا

اسمها بإمعان أكبر، تقتربين منها أكثر، وتبحثين عن.في قائمة اللوحات

ولحظتها سرت في جسدي قشعريرة مبهمة.ام المجنون داخلي واستيقظ فضول gالرس..

..؟ من تكونين، أنت الواقفة أمام أحبg لوحاتي gلي رحت أتأملك مرتبكاF وأنت تتأملينها.. وتقولين لرفيقتك

.شيء منه كالماF ال يصلنيما الذي أوقفك أمامها؟

لوحتي لم تكن أجمل ما في القاعة من لوحات، كانت

Page 45: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..األولى وتمريني األول في الرسم فقط حاضرة في ولكنني أصررت هذه المرة، على أن تكون

معرضي األهم هذا، ألنني اعتبرتها برغم بساطتها،.معجزتي الصغيرة

منذ خمس وعشرين سنة، وكان مر) على بتر رسمتها.ذراعي اليسرى أقلg من شهر

لإلبداع وال لدخول التاريخ. كانت لم تكن محاولة محاولة للحياة فقط، والخروج من اليأس. رسمتها كما

يرسم تلميذ في امتحان للرسم منظراF ليجيب على:ورقة األستاذ

".إلى نفسك ارسم أقرب منظر"

إنها الجملة التي قالها لي ذلك الطبيب اليوغسالفي بعض األطباء من الدول االشتراكية إلى الذي قدم مع

تونس، لمعالجة الجرحى الجزائريين، والذي أشرف على عملية بتر ذراعي وظل يتابع تطوراتي الصحية

.والنفسية فيما بعد

يسألني كل مرة أزوره فيها عن اهتماماتي كان.المستمر الجديدة، وهو يالحظ إحباطي النفسي

لم أكن مريضاF ليحتفظ بي الطبيب في مستشفى، وال.ألبدأ حياتي الجديدة كنت معافى بمعنى الكلمة

كنت أعيش في تونس، ابناF لذلك الوطن وغريباF فيF الوقت نفسه؛ حراF ومقيداF في الوقت نفسه؛ سعيدا

.وتعيساF في الوقت نفسه

الذي رفضه الموت ورفضته الحياة. كنت كنت الرجل كرة صوف متداخلة.. فمن أين يمكن لذلك الطبيب أن

يجد رأس الخيط الذي يحلg به كلg عقدي؟

ة، وهو يكتشف gثقافتي، هل وعندما سألني ذات مر كنت أحبg الكتابة أو الرسم، تمسكت بسؤاله وكأنني

ك بقشه قد تنقذني gأتمس F من الغرق، وأدركت فورا.الوصفة الطبية التي كان يعدها لي

Page 46: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:قال العملية التي أجريتها عليك، أجريت مثلها عشرات إن-

ات على جرحى كثيرين فقدوا في gأو المر Fالحرب ساقا ذراعاF، وإذا كانت العملية ال تختلف، فإنg تأثيرها

شخص إلى آخر، حسب عمر النفسي يختلف من المريض ووظيفته وحياته االجتماعية.. وخاصة حسب

الثقافي، فوحده المثق)ف يعيد النظر في مستواه العالم ومع نفسه كلg يوم، ويعيد النظر في عالقته مع

..األشياء كلما تغيgر شيء في حياته

ت لقد أدركت هذا من تجربتي في gهذا الميدان. لقد مر بي أكثر من حالة من هذا النوع، ولذا أعتقد أن فقدانك

قد أخلg بعالقتك بما هو حولك. وعليكم أن تعيد ذراعك الكتابة أو بناء عالقة جديدة مع العالم من خالل

..الرسم

عليك أن تختار ما هو اقرب إلى نفسك، وتجلس لتكتب قيود كلg ما يدور في ذهنك. وال تهمg نوعية تلك دون

الكتابة في حد الكتابات وال مستواها األدبي.. المهم..ذاتها كوسيلة تفريغ، وأداة ترميم داخلي

الرسم فارسم.. الرسم أيضاF قادر وإذا كنت تفضgل على أن يصالحك مع األشياء ومع العالم الذي تغيgر في نظرك، ألنك أنت تغيgرت وأصبحت تشاهده وتلمسه بيد�

..واحدة فقط

أجيبه ذلك اليوم بتلقائية.. إنني أحبg وكان يمكن أن أفعل الكتابة، وأنها األقرب إلى نفسي، مادمت لم

Fطوال حياتي، سوى القراءة التي تؤدي تلقائيا Fشيئا .إلى الكتابة أن أجيبه كذلك، فقد تنبأ لي أساتذتي دائماF كان يمكن

!الفرنسي بمستقبل ناجح.. في األدب ولهذا أجبته دون تفكير، أو ربما بموقف اكتشفت فيما

Fفي أعماقي بعد أنه كان جاهزا:..أفضل الرسم-

لم تقنعه جملتي المقتضبة فسألني إن كنت رسمت

Page 47: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..قبل اليوم..".قلت: "ال

قال: "إذن ابدأ برسم أقرب شيء إلى نفسك.. ارسمgشي إليك أحب."..

وعندما ودgعني قال بسخرية األطباء عندما يعترفون ارسم.. فقد ال تكون في حاجة إليg: " بعجزهم بلباقة

!".بعد اليوم

Fأريد أن أخلو لنفسي عدت يومها إلى غرفتي مسرعا F بين تلك الجداران البيضاء، التي كانت استمرارا

الحبيب ثامر" الذي كان حتى ذلك "لجدران مستشفى.تونس الوقت، المكان الذي أعرفه األكثر في

رحت يومها أتأمل تلك الجدران على غير عادتي، وأنا أن أعلق عليها من لوحات بعد أفكر في كل ما يمكن

gاألزقة التي أحب.. كل gكل .. gاليوم. كل وجوه من أحب .تركته خلفي هناك ما

نمت في تلك الليلة قلقاF، وربما لم أنم. كان صوت ذلك الطبيب يحضرني بفرنسيته المكسرة ليوقظني

يودعني "ارسم". كنت أستعيده داخل بدلته البيضاء، وهو يشدg على يدي "ارسم". فتعبر قشعريرة غامضة

سورة للقرآن. يوم جسدي وأنا أتذكر في غفوتي أول نزل جبرائيل عليه السالم على محمد ألول مرة فقال

النبي مرتعداF من الرهبة.. "ماذا له "اقرأ" فسأله أقرأ؟" فقال جبريل "اقرأ باسم ربgك الذي خلق" وراح يقرأ عليه أول سورة للقرآن. وعندما انتهى عاد النبي

ما سمع. وما كاد إلى زوجته وجسده يرتعد من هول...".يراها حتى صاح "دثريني.. دثريني

برجفة الحمgى الباردة. وبرعشة كنت ذلك المساء أشعر ربما كان سببها توتري النفسي يومها، وقلقي بعد

اللقاء الذي كنت أعرف أنه آخر لقاء لي مع ذلك الخفيف الذي الطبيب. وربما أيضاF بسبب ذلك الغطاء

كان غطائي الوحيد في أوج الشتاء القارس، والذي لم.البخيل غيره يمنحني مستأجري

Page 48: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وكدت أصرخ وأنا أتذكر فراش طفولتي. وتلك التي كانت غطائي في مواسم "البطانية" الصوفية

البرد القسنطيني، كدت أصرخ في ليل غربتي.. قسنطينة.. دثريني.." ولكن لم أقل شيئاF "دثريني

البائس. ليلتها، ال لقسنطينة وال لصاحب الغرفةاي وبرودتي لنفسي. صعب على رجل احتفظت بحم)

..حتى لنفسه بالبرد عائد لتوه من الجبهة، أن يعترف

انتظرت فقط طلوع الصباح ألشتري بما تبقى في أوراق نقدية ما أحتاج إليه لرسم لوحتين أو جيبي من

ثالث. ووقفت كمجنون على عجل أرسم "قنطرة..الحبال" في قسنطينة

أكان ذلك الجسر أحبg شيء إليg حقاF، ألقف بتلقائية ألرسمه وكأنني وقفت ألجتازه كالعادة؟ أم تراه كان

أسهل شيء للرسم فقط؟..أدري ال

أدري أنني رسمته مرات ومرات بعد ذلك، وكأنني وكأنه أحب شيء لدي كل. أرسمه كل مرة ألول مرة

.مرة

خمس وعشرون سنة، عمر اللوحة التي أسميتها دون كثير من التفكير "حنين". لوحة لشاب في السابعة

.وبحزنه وبقهره والعشرين من عمره، كان أنا بغربته

وها أنا ذا اليوم، في غربة أخرى وبحزن وبقهر آخر.. قرن إضافي، كان لي فيه كثير من الخيبات ولكن بربع

.االستثنائية والهزائم الذاتية.. وقليل من االنتصارات

ها أنا اليوم أحد كبار الرسامين الجزائريين، وربما كنت على اإلطالق؛ كما تشهد بذلك أقوال النقاد أكبرهم

على الغربيين الذين نقلت شهادتهم بحروف بارزة.بطاقات دعوة االفتتاح

خريف ها أنا اليوم... نبيg صغير نزل عليه الوحي ذات في غرفة صغيرة بائسة، في شارع "باب سويقة"

Page 49: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.بتونس كالعادة.. وكيف ال وال كرامة ها أنا نبي خارج وطنه

لنبي في وطنه؟ العاهة أن يكون ها أنا "ظاهرة فنية؟، كيف ال وقدر ذي

"ظاهرة" وأن يكون جباراF ولو بفنه؟..ها أنا ذا

ذلك الطبيب الذي نصحني بالرسم ذات مرة؟ فأين هو اليوم؟ إنه والذي صدقت نبوءته ولم احتاج إليه بعد ذلك

الغائب الوحيد في هذه القاعة الشاسعة التي لم يسبق فيها لوحاته قبلي. أين هو الدكتور أليg عربي أن عرض

.."كابوتسكي" ليرى ماذا فعلت بيد� واحدة!الذي لم أسأله يوماF ماذا فعل بيدي األخرى ذلك

وجوار تاريخ رسمها وها هي "حنين" لوحتي األولى، ( توقيعي الذي وضعته ألول مرة أسفل57)تونس

وضعته أسفل اسمك، وتاريخ ميالدك لوحة. تماماF كمالك في1957الجديد، ذات خريف من سنة ، وأنا أسج�

..البلدية ألول مرة دار

من منكما طفلتي.. ومن منكما حبيبتي؟ سؤال لم بالي ذلك اليوم، وأنا أراك تقفين أمام تلك يخطر على

..اللوحة ألول مرة تكبرينها _ رسمياF _ ببضعة أيام.... لوحة في عمرك

.وتصغرك في الواقع ببضعة أشهر ال غير

كانت بدايتي مرتين.. مرة يوم أمسكت بفرشاة لوحة أنت ألبدأ معها مغامرة الرسم.. ومرة يوم وقفت...أمامها، وإذا بي أدخل في مغامرة مع القدر

على مفكرة مألى بمواعيد وعناوين ال أهمية لها، ،1981اليوم: نيسان وضعت دائرة حول تاريخ ذلك

وكأنني أريد أن أميزه عن بقية األيام. قبل ذلك اليوم،

Page 50: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.سنواتي الماضية ما يستحق التميز لم أجد في فقد كانت أيامي مثل أوراق مفكرتي مألى بمسودات

ال تستحق الذكر. وكنت امألها غالباF كي ال أتركها يخيفني دائماF عندما بيضاء، فقد كان اللون األبيض

.يكون على مساحة ورق

فيها ما ثماني مفكرات لثماني سنوات، لم يكن يستحق الدهشة. جميعها صفحة واحدة لمفكرة واحدة

غربة كنت أحاول أن. ال تاريخ لها سوى الغربة أختصرها بعملية حسابية كاذبة، تتحول فيها السنوات

مفكرات ال غير، مازالت مكدسة في خزانتي إلى ثماني تواريخها الواحدة فوق األخرى... مسجلة ال حسب

الميالدية أو الهجرية.. إنما حسب أرقام سنوات هجرتي.االختيارية

أضع دائرة حول تاريخ ذلك اليوم، وكأنني أغلق عليك الدائرة. كأنني أطوقك وأطارد ذكراك داخل تلك

.لتدخلي دائرة ضوئي إلى األبد

عن حدس مسبق، وكأن هذا التاريخ كنت أتصرف سيكون منعطفاF للذاكرة؛ كأنه سيكون ميالدي اآلخر

يديك. وكنت أعي وقتها تماماF أن الوالدة على على.سهالF يدك كالوصول إليك أمر لن يكون

يشهد على ذلك غياب رقمك الهاتفي وعنوانك من تلك تحمل في النهاية سوى تاريخ الصفحة التي لم تكن

لقائك. فهل كان من المنطقي أن اطلب منك رقم لقائنا األول أو صدفتنا األولى تلك.. وبأي هاتفك في

تبدو مبرر وبأية حجة سأفعل ذلك، وكلg األسبابقة عندما يطلب رجل من فتاة جميلة رقم هاتفها؟ gملف

الجلوس إليك.. في التحدث كنت أشعر برغية فيف على النسخة األخرى gواالستماع إليك.. عساني أتعر

ولكن كيف أقنعك بذلك؟ كيف أشرح لك في. لذاكرتي لحظات أنني أعرف الكثير عنك، أنا الرجل الذي

تقابلينه ألول مرة، والي تتحدثين إليه كما نتحدث فال أملك إال أن.. بالفرنسية للغرباء بضمير الجمع

Page 51: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..أجيبك بنفس كالم الغرباء بالجمع

على لساني، وكأنني أتحدث كانت الكلمات تتعثر يومها لك بلغة ال أعرفها.. بلغة ال تعرف شيئاF عنgا. أيعقل بعد

عشرين سنة أن أصافحك وأسألك بلغة فرنسية..محايدة

-Mais comment allez-vous mademoiselle?

:فتردين عليg بنفس المسافة اللغوية

-Bien.. je vous remercie..

وتكاد تجهش الذاكرة بالبكاء.. تلك التي عرفتك طفلة.تحبو ترتعش ذراعي الوحيدة وهي تقاوم رغبة جامحة تكاد

..افتقدتها الحتضانك، وسؤالك بلهجة قسنطينيةواشك..؟-

..آه واشك.. أيتها الصغيرة التي كبرت في غفلة من�ي كيف أنت أيتها الزائرة الغريبة التي لم تعد تعرفني. يا

معصمها سواراF كان طفلة تلبس ذاكرتي، وتحمل فيألمي؟

دعيني أضمg كلg من أحببتهم فيك. أتأملك وأستعيد مالمح )سي الطاهر( في ابتسامتك ولون عينيك. فما

طلgتك. ما أجمل أن أجمل أن يعود الشهداء هكذا في تعود أمgي في سوار بمعصمك؛ ويعود الوطن اليوم في

!أن تكوني أنت.. هي أنت مقدمك. وما أجمل..أتدرين

الجمال.. إذا صادف اإلنسان شيء جميل مفرط في)..(رغب في البكاء

.ومصادفتك أجمل ما حلg بي منذ عمرة واحدة.. ونحن وقوف كيف أشرح لك gهذا مر gكل

تتقاسمنا األعين واألسماع؟ مشتاقاF إليك دون أن أدري.. كيف أشرح لك أنني كنت

أنني كنت انتظرك دون أن أصدق ذلك؟

Page 52: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.نلتقي وأنه ال بد أن..أجمع حصيلة ذلك اللقاء األول

فيها أنا أكثر مما ربع ساعة من الحديث أو أكثر. تحدثت تحدثت أنت. حماقة ندمت عليها فيما بعد. كنت في

أستبقيك بالكلمات. نسيت أن أمنحك الواقع أحاول أن.فرصة أكثر للحديث

.. كنت على كنت سعيداF وأنا أكتشف gشغفك بالفن استعداد لمناقشتي طويالF في كل لوحة، كان كل شيء

Fا أنا فكنت لحظتها ال أرغب سوى معك قابال للجدل. وأم) شهيتي في الحديث عنك. وحده وجودك كان يثير

.للكالم

وألنه لم يكن في الوقت متسع ألسرد عليك فصول مع قصتك، اكتفيت بجملتين أو ثالث قصتي المتقاطعة

..عن عالقاتي القديمة بأبيك.. وعن طفولتك األولى!وعن لوحة قلت إنك أحببتها، وقلت لك إنها توأمك

االقتضاب.. وكثير من الذكاء. اخترت جملي بكثير من تركت بين الكلمات كثيراF من نقط االنقطاع.. إلشعارك

.بثقل الصمت الذي لم تمأله الكلمات

في يوم لم أكن أريد أن أنفق ورقتي الوحيدة معك.واحد على عجل

كنت أريد أن أوقظ فضولك لمعرفتي أكثر، لكي أضمن ثانية. وعندما سألتني "هل ستكون موجوداF عودتك لي

أول هنا طوال فترة المعرض؟" أدركت أنني نجحت في امتحان معك، وأنا أجعلك تفكرين في لقائي مرة ثانية.

عالقة له بزالزلي ولكنني قلت بصوت طبيعي ال:الداخلية

أضفت سأكون هنا بعد الظهر في أغلب األحيان.." ثم" وأنا أكتشف أن جوابي قد ال يشجعك على زيارة قد

:أكون غائباF عنها األرجح أن أكون هنا كل يوم، فستكون لي ومن"

..".واألصدقاء مواعيد كثيرة مع الصحافيين

Page 53: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كان في ذلك الكالم شيء من الحقيقة. ولكنني لم أكنF للبقاء طوال الوقت في المعرض. في الواقع مضطرا

كنت فقط أحاول أال أجعلك تعودين عن قرارك لسبب.ما

قلت وأنت تتحدثين لي فجأة بطريقة األصدقاء:القدامى

المعرض يوم االثنين القادم.. إنه قد أعود لزيارة" اليوم الذي ال دروس لي فيه. في الحقيقة أنا حضرت

اليوم عن فضول فقط.. ويسعدني أن أتحدث إليك..".أكثر

تعتذر، وربما تتحسر ألنها لن تدخلت ابنة عمك، وكأنها:تكون طرفاF في ذلك اللقاء

األكثر مشاغل بالنسبة لي.. لن خسارة.. إنه اليوم" يمكنني أن أرافقك، ولكن قد أعود أنا أيضاF في يوم

:آخر." ثم التفت نحوي سائلة

"متى ينتهي المعرض؟":قلت

..".أي بعد عشرة أيام.. نيسان25في ":صاحت

.."عظيم.. سأجد فرصة للعودة مرة أخرى".الصعداء تنفست

المهم أن أراك مرة واحدة على انفراد، وبعدها سيصبح.أسهل كلg شيء

تزودت منك بآخر نظرة، وأنت تصافحينني قبل أن.تنسحبي

..دعوة لشيء ما كان في عينيك..كان فيهما وعد غامض بقصة ما

المحبب.. وربما كان فيهما شيء من الغرق اللذيذ نظرة اعتذار مسبقة عن كل ما سيحل بي من كوارث

.بسببهما بعد ذلك

وكنت أعي في تلك اللحظة، وذلك اللون األبيضFا gبشال شعره األسود.. ويبتعد عني يوليني ظهره ملتف

لم تدريجياF ليختلط بأكثر من لون، أنني سواء رأيتك أم

Page 54: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.أرك بعد اليوم، فقط أحببتك.. وانتهى األمر

.. ضوءاF يشق الطريق غادرت القاعة إذن مثلما xجئت انبهاراF عند مروره.. متألقاF في انسحابه كما في

.قدومه

يجر خلفه أكثر من قوس قزح.. وذيالF من مشاريع.األحالم

الذي أعرفه عنك؟ ما شيئان أو ثالثة.. أعدتهما على نفسي بعد ذلك عدة

نفسي أنك لم تكوني "نجماF مذنباF" عابراF مرات، ألقنع ويختفي كذاك الذي يضيء في األمسيات الصيفية،

قبل أن يتمكن الفلكيون من مطاردته بمنظارهم،"!النجم الهارب.. "والذي يسمونه في قواميس الفلك

ال.. لن تهربي مني، وتختفي في شوارع باريس بهذه السهولة. أعرف على األقل وأزقتها المتشعبة

أنك تعدين شهادة ما في المدرسة العليا للدراسات، في السنة األخيرة للدراسة، وأنك في باريس منذ وأنك

gفي باريس أربع سنوات، وتقيمين عند عمك منذ عين أي منذ سنتين. معلومات قد تكون هزيلة، ولكنها تكفي

.طريقة للعثور عليك بأية

كانت األيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم االثنين تبدو ال تنتهي. وكنت بدأت في العدg العكسي طويلة وكأنها

أعدg منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها القاعة، رحت األيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم االثنين. تارة

أيام، ثم أعود وأختصر الجمعة أعدgها فتبدو لي أربعة الذي كان على وشك أن ينتهي، واالثنين الذي سأراك

فتبدو لي المسافة أقصر وأبدو أقدر على فيه،.واألحد التحمل، إنها يومان فقط هما السبت

ثم أعود فأعدg الليالي.. فتبدو لي ثالث ليال� كاملة، هي والسبت واألحد، أتساءل وأنا أتوقع مسبقاF الجمعة

الشعري طولها، كيف سأقضيها؟ ويحضرني ذلك البيت:القديم الذي لم أصدgقه من قبل

Page 55: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

عشت دهراF ال أعد أعدg الليالي ليلة بعد ليلة *** وقداللياليا

استبدال ترى أهكذا يبدأ الحب دائماF، عندما نبدأ في مقاييسنا الخاصة، بالمقاييس المتفق عليها، وإذا

عالقة لها بالوقت؟ بالزمن فترة من العمر، ال

في ذلك اليوم، سعدت وأنا أرى "كاترين" تدخل متأخرة كما كنت أتوقع. أنيقة كما كنت القاعة. جاءت

كفراشه. أتوقع. داخل فستان أصفر ناعم، تطير داخله:قالت وهي تضع قبلة على خدي

الطريق لقد وصلت متأخرة.. كان هناك ازدحام في- .كالعادة في مثل هذا الوقت

لباريس. وكانت كانت كاترين تسكن الضاحية الجنوبية المواصالت تتضاعف في نهاية األسبوع، في تلك

باريس وضواحيها، والتي لم الطرقات الرابطة بين يكن ذلك السبب الوحيد لتأخرها. كنت أعرف أنها تكره اللقاءات العامة، أو تكره كما استنتجت أن تظهر معي

يراها بعض معارفها في األماكن العامة. ربما تخجل أن وهي مع رجل عربي، يكبرها بعشر سنوات، وينقصها

!بذراع

تحب أن تلتقي بي، ولكن دائماF في بيتي أو كانت العيون، هنالك بيتها، بعيداF عن األضواء، وبعيداF عن

فقط كانت تبدو تلقائية في مرحها وفي تصرفهاFلنتناول وجبة غداء في معي. ويكفي أن ننزل معا

المطعم المجاور، ليبدو عليها شي من االرتباكها الوحيد أن نعود إلى البيت والتصنع، ويصبح gهم.

يكفينا وهكذا تعودت عندما تحضر أن أشتري مسبقاF ما من األكل لقضاء يوم أو يومين معاF. لم أعد أناقشها

Fكان ذلك أوفر وأكثر راحة لي،. وال أقترح عليها شيئا فلماذا كلg هذا الجدل؟

Page 56: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

من العادة وهي تمسك قالت كاترين بصوت أعلى ذراعي وتلقي نظرة على اللوحات المعلقة التي كانت

:جميعاF تعرفها

.برافو خالد، أهنئك.. رائع كلg هذا.. أيها العزيز-

شيئاF ما، كانت تتحدث هذه المرة وكأنها تريد أن تعجبت حبيبتي.. أو أي شيء يعرف اآلخرون أنها صديقتي أو

.من هذا القبيل

الحشد من ما الذي غيgر سلوكها فجأة، هل منظر ذلك الشخصيات الفنية والصحافيين الذين حضروا االفتتاح..

المكان، أنها كانت منذ سنتين أم أنها اكتشفت في هذا تضاجع عبقرياF دون أن تدري، وأن) ذراعي الناقصة التي

Fفنيا Fكانت تضايقها في ظروف أخرى، تأخذ هنا بعدا الجمالية؟ فريداF ال عالقة له بالمقاييس

اكتشفت لحظتها، أنني خالل الخمس والعشرين سنة واحدة، لم يحدث أنني نسيت عاهتي التي عشتها بذراع

.إال في قاعات العرض

كانت فيها العيون تنظر إلى في تلك اللحظات التي اللوحات، وتنسى أن تنظر إلى ذراعي. أو ربما في

األولى لالستقالل.. وقتها كان للمحارب السنوات هيبته، ولمعطوبي الحروب شيء من القداسة بين

الناس. كانوا يوحون باالحترام أكثر مما يوحون شرح وال أي بالشفقة. ولم تكن مطالباF بتقديم أي

.سرد لقصتك

كنت تحمل ذاكرتك على جسدك، ولم يكون ذلك يتطلبgتفسير أي.

اليوم بعد ربع قرن..، أنت تخجل من ذراع بدلتك الفارغ بحياء في جيب سترتك، وكأنك تخفي الذي تخفيه

ذاكرتك الشخصية، وتعتذر عن ماضيك لكل من ال.لهم ماضي

Page 57: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

يدك الناقصة تزعجهم. تفسد على البعض راحتهم..تفقدهم شهيتهم

.الزمن لك، إنه زمن لما بعد الحرب ليس هذا للبدالت األنيقة والسيارات الفخمة.. والبطون

المنتفخة. ولذا كثيراF ما تخجل من ذراعك وهي ترافقك المقهى وفي الطائرة في الميترو وفي المطعم وفي

وفي حفل تدعى إليه. تشعر أن الناس ينتظرون منكة أن gمر gتسرد عليهم قصتك في كل.

Fواحدا Fالعيون المستديرة دهشة، تسألك سؤاال gكل ".الشفاه من طرحه: "كيف حدث هذا؟ تخجل

بيدك ويحدث أن تحزن، وأنت تأخذ الميترو وتمسك الفريدة الذراع المعلقة للركاب. ثم تقرأ على بعض

:العبارة الكراسي تلك

..".أماكن محجوزة لمعطوبي الحرب والحوامل"ة، من بقايا ال ليست هذه األماكن gلك. شي من العز

ل البقاء واقفا� معلقاF بيد gواحدة شهامة، تجعلك تفض.

إنها أماكن محجوزة لمحاربين غيرك، حربهم لم تكن.كانت على يدك حربك، وجراحهم ربما

.أما جراحك أنت.. فغير معترف بها هنا..عجيبة ها أنت أمام جدلية

روحك. وتنتمي تعيش في بلد يحترم موهبتك ويرفض ج� ويرفضك أنت. فأيهما تختار.. لوطن، يحترم جراحك

وأنت الرجل والجرح في آن واحد.. وأنت الذاكرة التي ليس هذا الجسد المعطوب سوى المعطوبة

واجهة لها؟

السابق. كنت أسئلة لم أكن أطرحها على نفسي في أهرب منها بالعمل فقط، والخلق المتواصل، وذلك

.الدائم األرق الداخلي

Fكان داخلي شيء ال ينام، شيء يواصل الرسم دائما بي ليوصلني إلى هذه القاعة، وكأنه يواصل الركض

Page 58: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

حيث سأعيش أليام رجالF عادياF بذراعين، أو باألحرى..رجالF فوق العادة

رجالF يسخر من هذا العالم بيد واحدة. ويعيد عجن.األشياء بيد واحدة تضاريس

ها أنا ذا في هذه القاعة إذن.. وها هوذا جنوني معلgق للفرجة على الجدران. تتفحصه العيون وتفسره

أبتسم، وبعض األفواه كيفما شاءت.. وال أملك إال أنFتلك التعليقات المتناقضة تصل مسمعي. وأتذكر قوال

F لـ ":كونكور "ساخرا

ال شي يسمع الحماقات األكثر في العالم.. مثل لوحة"!".متحف في

جاء صوت كاترين خافتاF وكأنها تتحدث لي وحدي هذه:المرة

إنني أرى هذه اللوحات وكأنني ال أعرفها،.. عجيب- ..إنها هنا تبدو مختلفة

:وأنا أواصل فكرة سابقة كدت أجيبها

إن للوحات مزاجها وعواطفها أيضاF.. إنها تماماF مثل" األشخاص. إنهم يتغيرون أول ما تضعينهم في قاعة

!"تحت األضواء.هذا ولكنني لم أقل لها

:قلت لها فقط

اللوحة أنثى كذلك.. تحبg األضواء وتتجمل لها، تحب- ندلgلها ونمسح الغبار عنها، أن نرفعها عن األرض أن

به... تحبg أن نعلقها ونرفع عنها اللحاف الذي نغط�يها في قاعة لتتقاسمها األعين حتى ولو لم تكن معجبة

..بها

..إنها تكره في الواقع أن تعامل بتجاهل ال غير:قالت وهي تفكر

صحيح ما تقوله.. من أين تأتي بهذه األفكار؟ أتدري- F أنني أحب االستماع إليك؟ ال أفهم كيف ال نجد أبدا

Page 59: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.وقتاF للحديث عندما نلتقي

F.. أضافت وقبل أن أعلgق على سؤالها بجواب مقنع جدا..بنوايا أعرفها وهي تضحك

-F كلوحة؟ متى ستعاملني أخيرا

قلت وأنا أضحك لسرعة بداهتها.. ولشهيتها التي ال:تشبع

..المساء إذا شئت هذا-

وعندما أخذت كاترين منgي مفاتيح البيت، وطارت.فستانها األصفر نحو الباب كفراشة داخل

قالت وكأنها شعرت فجأة بالغيرة من كل تلك اللوحات المعلقة بعناية على الجدران، والتي ما زال بعض

:الزوار يتأملونها

.متعبة بعض الشيء.. سأسبقك أنا-

تغار أكانت حقاF متعبة إلى هذا الحد، أم أصبحت فجأة عليg أو تغار منgي.. أم جاءتني بجوع مسبق؟. كالعادة،

.فهمها لم أحاول أن أتعمق في

كنت أريد فقط أن أستعين بها ألنسى. كنت سعيداF أنFأو يومين من االنتظار.. انتظارك أختصر معها يوما

أنت! وكنت في حاجة إلى ليلة حبg بعد شهر من.والركض إلعداد كلg تفاصيل هذا المعرض الوحدة،

.لحقت بكاترين بعد ساعةFألسباب كثيرة. أحدها لقائي العجيب بك كنت متعبا

ات نفسية ذلك gما عشته من هز gاليوم وكل.:قالت وهي تفتح لي الباب

-Fإنك لم تتأخر كثيرا..:أداعبها قلت وأنا

كان في ذهني مشروع لوحة.. فعدت مسرعاF إلى-

Page 60: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

!كثيراF كما تعلمين البيت.. الوحي ال ينتظر..ضحكنا

البهجة كان بيننا تواطؤ جسدي ما، يشيع بيننا تلك الثنائية، تلك السعادة السرية التي نمارسها دون

!الجنون قيود.. بشرعية

ولكن شعرت لحظتها وهي جالسة في األريكة المقابلة وتلتهم )سندويتشاF( أحضرته معها، لي تشاهد األخبار،

أنها امرأة كانت دائماF على وشك أن تكون حبيبتي،ة _ كذلك _ لن تكونها gوأنها هذه المر!

امرأة تعاني إن امرأة تعيش على "السندويتشات" هي من عجز عاطفي، ومن فائض في األنانية.. ولذا ال

.يلزمه من أمان يمكنها أن تهب رجالF ماFعيت أنني لست جائعاgليلتها، اد. عاجزاF عن االنتماء في الحقيقة كنت رافضاF وربما

".لزمن "السندويتشات..وبرغم ذلك

التفاصيل التي كانت تستفزg حاولت أال أتوقف عند تلك.بداوتي في أول األمر

كاترين أال أبحث كثيراF عن تعوgدت منذ تعرفت على أوجه االختالف بيننا. أن أحترم طريقتها في الحياة، وال

أحاول أن أصنع منها نسخة منgي. بل إنني ربما كنت.أحياناF أحبها ألنها تختلف عني حدg التناقض

فال أجمل من أن تلتقي بضدك، فذلك وحده قادر على نفسك. وأعترف أنني مدين لكاترين أن يجعلك تكتشف

بكثير من اكتشافاتي، فال شيء كان يجمعني بهذه المرأة في النهاية، سوى شهوتنا المشتركة وحبنا

.المشترك للفن

Fوكان كافيا Fلنكون سعيدين معا. تعودنا مع مرور الزمن أال نزعج بعضنا باألسئلة وال

بالتساؤالت. في البدء تأقلمت بصعوبة مع هذا النمط.وال لالمتالك العاطفي الذي ال مكان فيه للغيرة

Page 61: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

يgة.. وعدم gثم) وجدت فيه حسنات كثيرة، أهمها الحر ..بشيء تجاه أحد االلتزام

ة في األسبوع، كما يحدث أن gكان يحدث أن نلتقي مر أسابيع قبل أن نلتقي.. ولكن كنgا نلتقي دائماF تمرg عدة

.بشوق وبرغبة مشتركة

كاترين تقول "ينبغي أال نقتل عالقتنا بالعادة"، كانت عليها، وأن أكتفي ولهذا أجهدت نفسي حتى ال أتعود

ت من gعندما تأتي، وأن أنسى أنها مر Fبأن أكون سعيدا .ترحل هنا عندما

في تلك المرة حاولت أن أستبقيها لقضاء كلg نهاية.أن تقبل عرضي بحماس األسبوع معي، وسعدت

كنت في الوقع أخاف أن أبقى وحيداF مع ساعتي.انتظار يوم االثنين الجدارية في

ورغم أنg كاترين ظلgت معي حتى عشية يوم األحد، الوقت بدا لي طويالF، وربما بدا لي أكثر ألنها فإن

ذهابها وكأنني كانت معي. فقد بدأت فجأة أستعجل.سأخلو بك عند ذلك

..كانت أفكاري تدور حول سؤال واحد لك لو انفردت بك يوم االثنين؟ من أين أبدأ ماذا أقول

العجيبة، معك الحديث.. وكيف أقصg عليك تلك القصةتنا؟ gقص

كيف أغريك بالعودة من جديد لسماع بقيgتها؟

االثنين، لبست بدلتي األجمل لموعدنا المحتمل. صباح المفضgل، اخترت بذوق ربطة عنقي. وضعت عطري

.واتجهت نحو قاعة المعرض نحو الساعة العاشرة

الوقت ألشرب قهوتي الصباحية كان أمامي مت)سع من في مقهى مجاور. فلم يكن يعقل أن تأتي قبل تلك

وحتى القاعة نفسها لم تكن تفتح أبوابها قبل الساعة،.العاشرة

Page 62: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أول من يطأها في ذلك عندما دخلت القاعة، كنت الصباح. كان في الجو شحنة غامضة من الكآبة. لم يكن

أضواء موجهة نحو اللوحات، وال أيg ضوء هناك من.كهربائي يضيء السقف

.الجدران ألقيت نظرة خاطفة على ها هي لوحاتي تستيقظ كامرأة، بتلك الحقيقة

".وال مساحيق وال "رتوش الصباحية العارية دون زينة

.صاخبة هاهي امرأة تتثاءب على الجدران بعد أمسية اتجهت نحو لوحتي الصغيرة "حنين" أتفقدها وكأنني

.أتفقدك قسنطينة.. كيف أنت يا جسري المعلق.. صباح الخير"

".يا حزني المعلgق منذ ربع قرن؟gت عليgاللوحة بصمتها المعتاد، ولكن بغمزة صغيرة رد

ة gهذه المر..بتواطؤ فابتسمت لها

إننا نفهم بعضنا أنا وهذه اللوحة "البلدي يفهم من!"غمزة

لوحة بلديgة مكابرة مثل صاحبها، عريقة مثله، وكانت!تفهم بنصف غمزة

لة رحت بعدها gى ببعض المشاغل التي كانت مؤجgأتله غ منذ البارحة. طريقة مثل أخرى لكسب الوقت، gوالتفر

لك فيما بعد. وكان صوت داخليg يالحقني أثناء ذلك، ويمنعني من التركيز على أي ليذكرني أنك ستأتين،

.شيء

..ستأتي وأكثر.. ومرg صبح ستأتي.. ردgد الصوت ساعة وساعتين

xمساء ولم تأت gومر.

كثيرة، حاولت أن أنشغل بلقاءات وتفاصيل يومية..حاولت أن أنسى أنني هنا النتظارك تفارق عيناي قابلت صحافياF وتحدثت آلخر دون أن

..الباب. كنت أترقgبك في كل خطوة

Page 63: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.يأسي وكلما تقدgم الوقت زاد

!وفجأة فتح الباب ليدخل منه.. سي الشريف

Fماgوأنا أخفي عنه دهشتي. تذك)رت نهضت إليه مسل أغنية فرنسية يقول مطلعها "أردت أن أرى أختك..

..".أمgك كالعادة فرأيت

!ع السالمة يا سيدي.. عاش من شافك-

يحتضنني ويسلgم عليg بحرارة. وأعترف قالها وهو أسلgم برغم خيبتي أنه لم يحدث أن شعرت بسعادة وأنا

.عليه مثل تلك المرة وقبل أن أسأله عن أخباره قال وهو يقدgم لي ذلك

:المشترك الذي كان يرافقه الصديق

شفت شكون جبتلك معايw؟-

:دهشة إلى أخرى صحت وأنا أنتقل من

..أهالF سي مصطفى واش راك.. واش هاذ الطلة-

:بمودة وهو يحتضنني بدوره قال

واش آسيدي.. لو كان ما نجيوكش ما نشوفوكش وإال- كيفاش؟

رحت أجامله.ز وأسأله بدوي عن أخباره وإن كنت أدري الشريف له وفي مبالغته في أنg في مرافقة سي

تكريمه دليالF على أنه مرشح لمنصب وزاري ما كما.اإلشاعات تقول

Fأحسسته صادقا gعاتبني سي الشريف بود:

نسكن هذه المدينة معاF دون أن يا أخي.. أيعقل أن- ة واحدة؟. أنا هنا منذ سنتين gر في زيارتي مرgتفك

.وعنواني معروف عندك

Page 64: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

تدخgل سي مصطفى ليضيف بتلميح سياسي بين:والجد المزاح

واش راك مقاطعنا.. وإال كيفاش هاذا الغيبة..؟-

:بصدق أجبته

F.. ولكن ليس من السهل على شخص سكنته- ال أبدا هكذا ويعود.. في الحقيقة الغربة أن يجمع أشياءه

"المنفى عادة سيgئة يتخذها اإلنسان" وقد أصبحت لي..عادة سيئة هنا أكثر من

ضحكنا.. وتشعgب بنا الحديث في مواضيع أخرى تطرقنا..عبوراF ومجاملة فقط إليها

فا بعد ذلك أمام إحدى اللوحات gوكان ال بد أن يتوق يقومان بجولة لمشاهدة المعرض. ألفهم سرg وهما

يريد زيارة سي مصطفى لمعرضي، والتي تعود لكونه:أن يشتري لوحة أو لوحتين منgي. قال

أال تذكر أن)ك.. أريد أن أحتفظ منك بشيء للذكرى- بدأت الرسم يوم كنgا معاF في تونس؟ مازلت أذكر حت)ى

األولى.. لقد كنت أول من أريته لوحاتك لوحاتكوقتها.. هل نسيت؟

.. وكم wكنت أتمنى لحظتها لو أستطيع ذلك. ال لم أنس شعرت بشيء من اإلحراج وهو يستدرجني لتلك

..الفترة

كان سي مصطفى صديقاF مشتركاF لي ولسي الشريف كان ضمن المجموعة التي كانت منذ أيام التحرير. فقد

تعمل تحت قيادة سي الطاهر. بل، وكان واحداF من الذين نقلوا معي للعالج إلى تونس، حيث الجرحى

قضى ثالثة أشهر في المستشفى عاد بعدها إلى الجبهة، ليبقى حتى االستقالل في صفوف جيش

.التحرير، ويعود برتبة رائد

Page 65: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

يومها بشهامة وأخالق نضالية عالية. وكنت في كانFاgوود Fله احتراما ºكبيرين. ثم تالشى الماضي أكن

تدريجياF رصيده عندي.. كلما امتأل رصيده اآلخر بأكثر وأكثر من عملة، مثله مثل من سبقوه إلى من طريقة

تلك المناصب الحلوب التي تناوب عليها البعض..بتقسيم مدروس للوليمة

ولكن كان أمره هو بالذات يعنيني ويحزنني. فقد كان رفيق سالحي لسنتين كاملتين.. وكان بيننا تفاصيل

للذاكرة رغم كلg صغيرة جمعتنا في الماضي وال يمكن.شيء أن تتجاهلها

F، تلك المصادفة التي لعلg أكثر تلك التفاصيل تأثيراضة في تونس تعطيني وأنا أغادر جعلت الممر�

بها، والتي جف عليها دمه المستشفى ثيابه التي وصل.منذ عدgة أيgام

تعريفه التي تكاد ال كان في جيب سترته يومها بطاقة تقرأ، من آثار بقع الدم عليها. والتي احتفظت بها

فيما بعد.. ولكنه عاد بعد ذلك إلى الجبهة ألعيدها إليه وربما دون دون أن يدري حتى أنها كانت في حوزتي،

أن يسأل عنها. فقد كان ذاهباF إلى مكان ال يحتاج فيه.تعريف إلى بطاقة

عثرت مصادفة على تلك البطاقة ضمن1973سنة آنذاك أجمع أشيائي استعداداF أوراقي القديمة. وكنت

..للرحيل

إليه، فقد كنت تردgدت بين أن أحتفظ بها أو أعيدها أدري أن) تلك الهوية لم تعد في الواقع هويته. ولكنني

.أواجهه بالذاكرة.. دون أيg تعليق كنت أريد أن

المنفى أن أنهي وربما كنت أريد كذلك وأنا على أبواب من1975عالقاتي بتلك البطاقة التي رافقتني منذ

أنهي عالقاتي بالوطن، وأضعه بلد إلى آخر، وكأنني..أخيراF هو وأشياءه خارج الذاكرة

Page 66: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

مصطفى وأنا أخرج من جيب سترتي يومها دهش سي.تلك البطاقة وأضعها أمامه، بعد ست عشرة سنة

الذي ارتبك لحظتها.. أم أنا؟ أهو شعرت فجأة وأنا أنفصل عنها أنني أعطيته شيئاF كان

gي، ربما ذراعي األخرى، أو أيgمن Fبصدري؛ شيئا Fملتصقا ..شيء كان لي

!أنا كان ولكنني وجدت آنذاك في فرحته عزائي.. وفي احتضانه

الذي جمعنا يوماF، مكافأة لي بذلك العنفوان األول للذاكرة ووهماF ما بإمكانية إيقاظ ذلك الرجل اآلخر

.داخله

ها هو سي مصطفى بعد سنوات، يتأمل لوحة لي اآلخر".. فكيف راهنت "وأتأمله. لقد مات فيه الرجل

يوماF عليه؟

لوحة لي؛ في هذه اللحظة، ال شيء يعنيه سوى امتالك وربما كان مستعداF أن يدفع أيg ثمن مقابلها. فمن

كثيراF في هذه الحاالت، المعروف عنه أنه ال يحسب مثله مثل بعض السياسيين واألثرياء الجزائريين الجدد

شاعت وسطهم عدوى اقتناء اللوحات الفنية، الذين، وإنما gبالفن Fبعقلية جديدة ألسباب ال عالقة لها غالبا

.للنهب الفنيg أيضاF.. وبهاجس االنتساب للنخبة

سخاءF معي أنا بالذات، لألسباب نفسها وربما كان أكثر.التي تجعلني اليوم أكثر رفضاF له

ر gأن يستبدل بتلك البطاقة المهترئة، لوحة لقد قر باأللوان )أكواريل( يفاخر بها.. فهل يتساوى الدم

!المائية.. ولو بعد ربع قرن

الشريف دون سعدت بعدها وأنا أتخلص منه ومن سي أن يأخذا على خاطرهما.. ودون أن أتنازل عن ذلك

بسببه. فال يمكن لي أن آكل المبدأ الذي حدث أن جعت من الخبز الملوgث. هناك من يولدون هكذا بهذه

!التي ال شفاء منها تجاه كلg ما هو قذر الحساسية

أنتهي منهما كنت في الواقع على عجل. أريد أن

Page 67: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.بسرعة.. خشية أن تأتي في تلك اللحظة ويكونا هناكFبين األحاسيس التي استدرجتني وكنت قلقا Fومبعثرا

إليها سي مصطفى بعد كلg تلك السنوات.. وبين هاجس قدومك، الذي أرهقني انتظاره منذ أيام..

.بعده ولكنك لم تأتي.. ال أثناء ذلك وال

من أين هجمت عليg كلg تلك الكآبة بعد ذلك؟ بخطى مثقلة، محبطة، إلى وإذا بقدميg تقودانني

البيت، بعدما كانتا قد حملتاني إلى هنا، على أجنحة.الجارف الشوق

ة أخرى.. لو انتهى ذلك المعرض ولم gماذا لو لم أرك مر .تعودي؟

ماذا لو كان حديثك عن زيارتك المحتملة مجرد مجاملة،الجد؟ أخذتها أنا مأخذ

كيف يمكن لي وقتها أن أطارد نجمك المذنgب الهارب؟

البطاقة التي أعطاني إيgاها سي الشريف وحدها تلك نفسي. وهو يودgعني كانت تبعث شيئاF من األمل في

فقد كنت أعرف أخيراF األرقام السرية التي توصلني هاتفي قد يجمعني بك. إليك، فنمت وأنا أخطط لمبرر

ولكنg الحب عندما يأتي ال يبحث له عن مبرر، وال يأخذF.. ولذا ما كدت في اليوم التالي أدخل القاعة له موعدا

حتى رأيتك وأجلس في الصالون ألطالع جريدتي،.تدخلين

.كنت تتقدمين نحوي، وكان الزمن يتوقف انبهاراF بك الحبg الذي تجاهلني كثيراF قبل ذلك اليوم.. قد وكان

..جنوناF قرر أخيراF أن يهبني أكثر قصصه

الثالث الفصل

Page 68: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..إذن التقينا

:قالت

..يوم مرحباF.. آسفة، أتيت متأخرة عن موعدنا-

:قلت

.بعمر ال تأسفي.. قد جئت متأخرة عن العمر-

:قالت

كم يلزمني إذن لتغفر لي؟-

:قلت

!يعادل ذلك العمر من عمر ما-

.وجلس الياسمين مقابالF لي

على عجل.. عطراF أقلg حبيبتي.. يا ياسمينة تفتحت!عطراF أقل

Fللذاكرة عطرا gهو عطر لم أكن أعرف أن ..Fأيضا .الوطن

:مرتبكاF جلس الوطن وقال بخجل

ماء.. يعيشك؟ عندك كأس-

.وتفجرت قسنطينة ينابيع داخلي

Page 69: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.... ارتوي من ذاكرتي سيدتي xهذا الحنين لك gفكل xلك Fودعي لي مكانا هنا مقابال..

.مهل، قهوة قسنطينية أحتسيك كما ت�حتسى، على

أمام فنجان قهوة.. وزجاجة كوكا جلسنا. لم يكن لنا نفسه.. ولكن كانت لنا الرغبة نفسها في الظمأ

.الحديث

:قلت معتذرة

أحضر البارحة، ألنني سمعت عمgي يتحدث أنا لم- لت gلشخص على الهاتف ويتفق معه على زيارتك، ففض

ل زيارتي لك إلى اليوم حتى ال ألتقي بهما gأن أؤج..

من يرى نجمه الهارب أخيراF أجبتك وأنا أتأملك بسعادة:أمامه

-Fخفت أال تأتي أبدا..

:أضفت ثم

-gآخر، إن Fا اآلن فيسعدني أنني انتظرتك يوما gأم !تأتي متأخرة دائماF األشياء التي نريدها

تراني قلت وقتها أكثر مما يجب قوله؟

الصمت بيننا وارتباك االعتراف األول.. ساد شي من عندما قلت وكأنك تريدين كسر الصمت، أو إثارة

:فضولي

أتدري أنني أعرف الكثير عنك؟-

Fومتعجبا Fقلت سعيدا:

وماذا تعرفين مثالF؟-

Page 70: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:أجبت بطريقة أستاذ يريد أن يحير تلميذه

..كثيرة قد تكون نسيتها أنت أشياء-

:قلت لك بمسحة حزن

نسيت شيئاF. مشكلتي في الواقع ال أعتقد أن أكون- !أنني ال أنسى

أعx ساعتها كلg أجبتني بصوت بريء، وباعتراف لمgعواقبه القادمة علي:

ا أنا فمشكلتي أنني أنسى.. أنسى- gكل شيء.. أم تصوgر.. البارحة مثالF نسيت بطاقة الميترو في حقيبة

أسبوع نسيت مفتاح البيت داخل يدي األخرى. ومنذ البيت، وانتظرت ساعتين قبل أن يحضر أحد ليفتح لي

.الباب.. إنها كارثة

:قلت ساخرا

!هذا شكراF إذن ألنك تذكرت موعدنا-

:أجبت باللهجة الساخرة نفسها

F.. كان احتمال- موعد فقط.. ال بدg أن لم يكون موعدا تعلم أنني أكره اليقين في كلg شيء.. أكره أن أجزم

ألتزم به.. األشياء األجمل، تولد احتماالF.. بشيء أو.كذلك وربgما تبقى

:سألتك

لماذا جئتx إذن.؟-

لتني.. وراحت عيناك gتتسكعان في مالمح وجهي، تأم وكأنهما تبحثان عن جواب لسؤال مفاجئ.. ثمg قلت

..مثقلة بالوعود واإلغراء في نظرة

Page 71: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

!ألنك قد تكون يقيني المحتمل-

الجملة التي تحمل تناقضاF أنثوياF صارخاF_ ضحكت لهذهمwتك_ وقلت وقد xمألتني عيناك لم أكن أعرف بعد أنه س

Fرجاليا Fوزهوا Fغرورا:

ا أنا فأكره االحتماالت.. ولذا- gأجزم أنني سأكون أم .يقينك

:قلت بإصرار أنثى على قول الكلمة األخيرة

!إنه افتراض.. محتمل كذلك-

Fوضحكنا كثيرا.

ألول مرة منذ سنوات. كنت كنت سعيداF وكأنني أضحك أتوقع لنا بدايات أخرى، وكنت قد أعددت جمالF ومواقف

لمبادرتك في هذا اللقاء األول. ولكن اعترف كثيرة.كهذه أنني لم أكن أتوقع لنا بداية

فقد تالشى كلg ما أعددته ساعة قدومك.. وتبعثرت.أدري من أين تأتين بها لغتي أمام لغتك التي لم أكن

كان في حضورك شيء من المرح والشاعرية معاF. كان تلقائية وبساطة تكاد تجاور الطفولة، دون أن هناك

تملكين تلك تلغي ذلك الحضور األنثوي الدائم.. وكنت القدرة الخارقة على مساواة عمري بعمرك، في جلسة

وحيويgتك قد انتقلتا إليg عن واحدة. وكأن فتوgتك طريق العدوى. كنت ما أزال تحت وقع تصريحاتك تلك،

:فاجأني كالمك عندما

في الواقع.. كنت أريد أن أرى لوحاتك بتأن³ أكثر، لم- أريد أن أتقاسمها في ذلك اليوم مع ذلك الحشد أكن

!أنفرد به من الناس.. عندما أحبg شيئاF.. أفضل أن

كانت هذه أجمل شهادة إعجاب يمكن أن تقولها زائرةام.. وأجمل gما يمكن أن تقوليه لي أنت ذلك اليوم. لرس

:أضفت وقبل أن أذهب بعيداF في فرحتي أو أشكرك

Page 72: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ف عليك منذ زمن بعيد.- ما عدا هذا.. كنت أود أن أتعر) تحدثني أحياناF عنك عندما تذكر أبي. لقد كانت جدتي

Fيبدو أنها كانت تحبك كثيرا..

:بلهفة سألتك

ا الزهرة(؟ إنني لم أرها منذ زمان- gوكيف هي )أم.

:حزن قلت بمسحة

لقد توفيت من أربع سنوات، وبعد وفاتها انتقلت- في العاصمة. وجئت أنا إلى أمي لتعيش مع أخي ناصر

باريس لمتابعة دراستي. لقد غيgر موتها حياتنا بعض..فهي التي رب)تنا في الواقع.. الشيء

حاولت أن أنسى ذلك الخبر. كان موتها شوكة أخرى انغرست في قلبي يومها. فقد كان فيها شيء من

ا(، من عطرها السري، من طريقتها في gتعصيب )أم رأسها على جنب بالمحارم الحريرية، وإخفاء علبة

يgة في صدرها gة" الفض gالممتلئ. وكانت لها تلك "النف الحرارة التلقائية التي تفيض بها األمهات عندنا، تلك الكلمات التي تعطيك في جملة واحدة ما يكفيك من

.الحنان لعمر بأكمله

الوقت لم يكن للحزن. كنتx معي أخيراF، وكان ولكن.على الزمن أن يكون للفرح فقط

:لك قلت

-Fها كثيراgأحب Fرحمها الله.. لقد كنت أنا أيضا..

عندئذ، أن تضعي نهاية لموجة الحزن التي تراك أردت نكن فاجأتني. خشية أن تجرفنا معاF نحو ذاكرة لم

.مهيأين بعد لتصفحها أم فقط كنت تريدين أن تطبgقي برنامج زيارتك عندما

:فجأة وقلت نهضت

Page 73: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أيمكنني أن ألقي نظرة على لوحاتك؟-

.لمرافقتك وقفت

رحت أشرح لك بعضها والمناسبات التي رسمتها فيها:تنقلين فجأة عينيك من اللوحات إليg عندما قلت وأنت

ال أقول أتدري أنني أحب طريقتك في الرسم؟. أنا- لك هذا مجاملة، ولكن أعتقد أنني لو كنت أرسم

نحن االثنين نرى لرسمت هكذا مثلك.. أشعر أننا األشياء بإحساس واحد.. وقلg ما أحسست بهذا تجاه

.جزائري إنتاج

ما الذي أربكني األكثر لحظتها؟. أترى عيناك اللتان لون آخر تحت الضوء، واللتان كانتا أصبح لهما فجأة

تتأمالن فجأة مالمحي وكأنهما تتأمالن لوحة أخرى لي.. أم ما قلته قبل ذلك والذي شعرت أنه تصريح

تمن)يت أو خيgل عاطفي وليس انطباعاF فنياF؛ أو هكذا لي. توقف سمعي عند كلمة "نحن االثنين". إنها

Fحتى بالفرنسية تأخذ بعدا ..Fفريدا Fعاطفيا Fموسيقيا إنها عنوان لمجلة عاطفية تصدر لمن تبقى من

( .Nous deux ) رومنطيقيين في فرنسا

:أخفيت ارتباكي بسؤال ساذج

ترسمين؟ وهل-

:قلت

.ال أنا أكتب-

وماذا تكتبين؟-

!قصصاF وروايات؟ أكتب-

...!قصصاF وروايات-

Page 74: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أسمع.. فقلت وكأنكx ردgدتها وكأنني ال أصدق ما:شعرت بإهانة من مسحة العجب أو الشك في صوتي

..لي أول رواية منذ سنتين لقد صدرت-

:سألتك وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى

لغة تكتبين؟ وبأي-

:قلت

..بالعربية-

!بالعربية؟-

:دهشتي، وربما أسأت فهمها حين قلت استفزتك

العربية هي لغة كان يمكن أن أكتب بالفرنسية، ولكن- قلبي.. وال يمكن أن أكتب إال بها.. نحن نكتب باللغة

.األشياء التي نحسg بها

..ولكنك ال تتحدثين بغير الفرنسية-

..العادة إنها-

:قلتها ثم واصلت تأمل اللوحات قبل أن تضيفي

التي نتحدث بها ألنفسنا وليست تلك المهم.. اللغة- !التي نتحدث بها لآلخرين

مدهوشاF، وأنا أحاول أن أضع شيئاF من رحت أتأملك..الترتيب في أفكاري

كلg هذه المصادفات، في مصادفة أيمكن أن تجتمع ..واحدة؟ وكلg هذه األشياء التي كانت قناعاتي الثابتة

وأحالمي الوطنية األولى، في امرأة واحدة.. وأن تكون الطاهر ال غير؟ لو هذه المرأة هي أنت.. ابنة سي

Page 75: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

تصو)رت لقاء مدهشاF في حياتي، لما تصورت أكثر إنها أكثر من مصادفة، إنه قدر عجيب،. إدهاشاF من هذا

.قرن أن تتقاطع طرقنا على هذا النحو، بعد ربع

أعادني صوتك إلى الواقع وأنت تتوقفين عند إحدى: اللوحات

قلg ما ترسم وجوهاF، أليس كذلك؟ أنت-

:وقبل أن أجيبك قلت

نتحدث إلى بعض إال بالعربية.. سأغير اسمعي.. لن- ..عاداتك بعد اليوم

:بالعربية سألتني

هل ستقدر؟-

:أجبتك

-Fعاداتي معك سأقدر... ألنني سأغير أيضا..

أجبتني عندئذ بفرح سري المرأة اكتشفت فبما بعد:األوامر أنها تحب

سأطيعك.. فأنا أحب هذه اللغة.. وأحب إصرارك.- .ونسيت ذك�رني فقط لو حدث

:قلت

!لن أذكرك.. ألنك لن تنسي ذلك-

لحظتها أجمل الحماقات. وأنا أجعل تلك وكنت أرتكب طرفاF اللغة التي كان لي معها أكثر من صلة عشقية،

دة gتنا المعق gآخر في قص..:عدت ألسألك بالعربية

Page 76: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

منذ قليل؟ عمg كنت تتحدثين-

:قلت

كنت أعجب أال يوجد في معرضك سوى هذه اللوحة- تمث�ل وجهاF نسائياF.. أال ترسم وجوهاF؟ التي

:قلت

وجوهاF ثم انتقلت إلى كنت في فترة أرسم- موضوعات أخرى. في الرسم، كلما تقدم عمر الفنان

به المساحات الصغيرة وبحث عن وتجربته، ضاقت.طرق أخرى للتعبير

الوجوه التي أحبها حقاF.. في الحقيقة أنا ال أرسم أرسم فقط شيئاF يوحي بها.. طلgتها.. تماوج شعرها..

Fها. تلك طرفاgمن ثوب امرأة.. أو قطعة من حلي نفارقها. تلك التفاصيل التي تعلق في الذاكرة بعدما

التي تؤدي إليها دون أن تفضحها تماماF.. فالرسامF فوتوغرافياF يطارد الواقع.. إنg آلة تصويره ليس مصورا

نفسه، ولهذا توجد داخله، مخفية في مكان يجهله هو هو ال يرسم بعينيه، وإنما بذاكرته وخياله.. وبأشياء

.أخرى

وعيناك تنظران المرأة يطغى شقار شعرها على قلت حمرة شفتيها اللوحة وال يترك مجاالF للون آخر سوى

:غير البريئتين

إلى وهذه المرأة إذن.. لماذا رسمت لها لوحة واقعية- هذا الحدg؟

:ضحكت وقلت

..بواقعية هذه امرأة ال ترسم إال-

ولماذا أسميت لوحتها "اعتذار"؟-

Page 77: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

-F ..لصاحبتها ألنني رسمتها اعتذارا

قلت فجأة بلهجة فرنسية وكأن غضبك أو غيرتكيgة قد ألغت gاتفاقنا السابق السر:

أتمنى أن يكون قد أقنعها هذا االعتذار.. فاللوحة- .حقاF جميلة

:ثم أضفت بشيء من الفضول النسائي

الذنب الذي اقترفته في ولكن هذا يعود إلى نوع- !حقها

تلك لم أكن أشعر بأيgة رغبة في أن أقصg عليك قصة اللوحة، في لقائنا األول. كنت أخاف أن يكون لتلك

أو على نظرتك لي. القصة تأثير سلبي على عالقتنا، فحاولت أن أتهرب من تعليقك الذي يستدرجني بحيلة

التوضيح، وأتجاهل عنادك في الوقوف إلى مزيد من.طويالF أمام تلك اللوحة بالذات

يمكن أن تقاوم فضول أنثى تصرg على ولكن.. هلمعرفة شيء؟

:أجبتك

قصة طريفة شيئاF ما، تكشف عن جانب لهذه اللوحة- من عقدي ورواسبي القديمة، وهي هنا ربgما لهذا

.السبب

ورحت أقصg ألول مرة قصة تلك اللوحة التي رسمتها مرة، كما أفعل بين الحين ذات يوم، بعدما حضرت

واآلخر، إحدى جلسات الرسم في مدرسة الفنون يدعوني هناك بعض أصدقائي األساتذة، الجميلة، حيث

امين، أللتقي بالطلبة كما يفعلون عادة مع بعض الرس).والرسامين الهواة

.كان الموضوع ذلك اليوم هو رسم موديل نسائي عار�

Page 78: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وبينما كان جميع الطلبة متفرغين لرسم ذلك الجسد مدهوشاF في قدرة من زواياه المختلفة، كنت أنا أفك�ر

، وبنظرة gهؤالء على رسم جسد امرأة بحياد جنسي وكأنهم يرسمون منظراF طبيعياF أو جمالية ال غير،

.مزهرية على طاولة، أو تمثاالF في ساحة

الواضح، أنني كنت الوحيد المرتبك في تلك من عارية هكذا الجلسة. فقد كنت أرى، ألول مرة، امرأة

تحت الضوء تغير أوضاعها، تعرض جسدها بتلقائية، العيون؛ وربما في محاولة ودون حرج أمام عشرات

إلخفاء ارتباكي رحت أرسم أيضاF. ولكن ريشتي التي رواسب عقد رجل من جيلي، رفضت أن ترسم تحمل

ترسم ذلك الجسد، خجالF أو كبرياء ال أدري.. بل راحت شياF آخر، لم يكن في النهاية سوى وجه تلك الفتاة كما

انتهت تلك الجلسة، وارتدت يبدو من زاويتي.. وعندما تلك الفتاة التي لم تكن سوى إحدى الطالبات ثيابها،

بجولة كما هي العادة لترى كيف رسمها كلg وقامت أرسم واحد، فوجئت وهي تقف أمام لوحتي، بأنني لم

سوى وجهها. قالت بلهجة فيها شيء من العتاب ألنوثتها: "أهذا كلg ما وكأنها ترى في تلك اللوحة إهانة

Fال، لقد ألهمتني كثيرا" :Fاه؟" فقلت مجامالgألهمتك إي الدهشة، ولكني أنا أنتمي لمجتمع لم يدخل من

امرأة الكهرباء بعد إلى دهاليز نفسه. أنت أو)ل أشاهدها عارية هكذا تحت الضوء، رغم أنني رجل

فرشاتي تشبهني، إنها يحترف الرسم.. فاعذريني. إن تكره أيضاF أن تتقاسم مع اآلخرين امرأة عارية.. حتى

!".رسم في جلسة

gمدهوشة، وكأنك تكتشفين في gكنت تستمعين إلي عنه جدgتك. كان في عينيك فجأة رجالF آخر لم تحدثك

فجأة شي جديد، نظرة غامضة ما، شيء من اإلغراء ربما سببه غيرة نسائية من امرأة مجهولة، المتعمgد،

سرقت في يوم ما اهتمام رجل لم يكن حتى اآلن.مهماF بالنسبة إليك

رحت أتلذgذ بذلك الموقف العجيب الذي لم أتعمده. كنت سعيداF أن تثير فيك الغيرة هذا الصمت المفاجئ، وهذه

Page 79: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وجنتيك، وجعلت عينيك الحمرة الخفيفة التي علت تتgسعان بغضب مكبوت. فاحتفظت لنفسي ببقية

هذه الحادثة تعود لسنتين، وأن) القصة.. لم أخبرك أن صاحبتها ليست سوى كاترين، وأنه كان عليg فيما بعد

Fآخر.. يبدو أنه كان مقنعا Fأن أقدم لجسدها اعتذارا !الحين لدرجة أنها لم تفارقني منذ ذلك

أذكر اليوم بشيء من السخرية، ذلك المنعطف الذي بعدما حدgثتك عن تلك اللوحة.. أخذته عالقتنا فجأة

عجيب هو عالم النساء حقاF! كنت أتوقع أن تقعي في وأنت تكتشفي تلك العالقة السرية التي تربطك حبي،

هويتك. بلوحتي األولى "حنين". لوحة في عمرك وفي وإذا بك تتعلقين بي بسبب لوحة أخرى المرأة أخرى،

!خطأ تعبر الذاكرة

.انتهى موعدنا األول عند الظهر

مرة أخرى.. ربما كان عندي إحساس ما إنني سأراك غداF. كنت أشعر أننا في بداية شيء ما، وأننا كلينا على

هناك كثير من األشياء التي لم نقلها بعد، عجل. كان أغرينا بعضنا بل إننا لم نقل شياF في النهاية. نحن

فقط بحديث محتمل. كنgا، عن سذاجة أو عن ذكاء، معاF، ولذا لم أتعجب كثيراF عندما نمارس اللعبة نفسها

:سألتني وأنت تودgعينني

FF؟ هل ستكون هنا- غداF صباحا

:قلت لك بسعادة من ربح الرهان

-Fطبعا.

:قلت

سأعود إذن غداF في الوقت نفسه تقريباF، سيكون لنا- مت)سع أكثر للحديث. لقد مرg الوقت بسرعة اليوم دون

..أن ننتبه لذلك

Page 80: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أعلgق على كالمك. كنت أدري أن ال مقياس للوقت لم إال عندما يركض سوى قلبينا. ولذا فالوقت ال يركض بنا

بنا القلب الهثاF أيضاF من فرحة إلى أخرى، ومن دهشة وجدت في كالمك اعترافاF بفرح إلى أخرى.. ولذا

ر يg.. توقعت أن يتكر) gمشترك سر.

:لك يومها وأنا أود�عك عند باب القاعة أذكر أنني قلت

F.. أريد أن- .أقرأك ال تنسي كتابك غدا

:قلت متعجبة

أتتقن العربية؟-

:قلت

-Fسترين ذلك بنفسك.. طبعا.

xقلت:

..سأحضره إذن-

:تخلو من كيد� نسائي محبgب ثم أضفت بابتسامة ال

مادمت تصرg على معرفتي.. لن أحرمك من هذه- !المتعة

وانغلق الباب خلف ابتسامتك تلك، دون أن أفهم ما.بالتحديد كنت تعنيه

ذهبت بالغموض الضبابي الذي جئت به.. نفسه. وبقيت الباب الزجاجي، أتأملك تندمجين بخطى عند عتبة ذلك

أتسال المارة وتختفين مرة أخرى كنجم� هارب.. و أنا!بشيء من الذهول.. ترانا التقينا حقاF؟

Page 81: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

***

..التقينا إذن.الذين قالوا "الجبال وحدها ال تلتقي".. أخطأوا

F، لتتصافح دون أن تنحني أو والذين بنوا بينها جسورا قوانين تتنازل عن شموخها.. ال يفهمون شيئاF في

.الطبيعة الجبال ال تلتقي إال في الزالزل و الهزات األرضية

وعندما ال تتصافح، وإنما تتحول إلى تراب الكبرى،.واحد

..التقينا إذن

عة، فقد كان وحدثت الهزة gاألرضية التي لم تك متوق .أحدنا بركاناF، وكنت أنا الضحية

امرأة تحترف الحرائق. ويا جبالF بركانياF جرف كلg ياكت به شيء في طريقه، وأحرق آخر ما .تمس)

من أين أتيت بكل تلك األمواج المحرقة من النار؟ تربتك المحمومة، كشفتي» عاشقة وكيف لم أحذر

.غجرية

وأتذكgر درساF كيف لم أحذر بساطتك وتواضعك الكاذب، قديماF في الجغرافية: "الجبال البركانية ال قمم لها؛

تواضع هضبة.." فهل يمكن للهضاب أن إنها جبال فيتفعل كلg هذا؟

تحذgرنا من ذلك النهر المسالم كلg األمثلة الشعبية العود الذي يخدعنا هدوؤه فنعبره، وإذا به يبتلعنا. وذلك

.الصغير الذي ال نحتاط له.. وإذا به يعمينا

من لهجة "يؤخذ الحذر من أكثر من مثل يقول لن بأكثر مأمنه". ولكن كلg تحذيراتها لن تمنعنا من ارتكاب

الحماقات، فال منطق للعشق خارج المزيد من الحماقات والجنون. وكلما ازددنا عشقاF كبرت

Page 82: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.حماقاتنا

ألم يقل )برنارد شو( "تعرف أنك عاشق عندما تبدأ في!"مصلحتك الشخصية التصرف ضد

وكانت حماقاتي األولى، أنني تصرفت معك مثل سائح صقلgية ألول مرة، فيركض نحو بركان )إتنا(، يزور

واحدة من نومه، ويصل�ي ليستيقظ البركان النائم بعين ويغرق الجزيرة ناراF، على مرأى من السواح المحملين

.الفوتوغرافية.. والدهشة باآلالت

وتشهد جثث السواح التي تحولت إلى تراب أسود أنه ال أجمل من بركان يتثاءب، ويقذف ما في جوفه من

في بضع نيران وأحجار، ويبتلع المساحات الشاسعة.لحظات

وأنg المتفرج عليه يصاب دائماF بجاذبية مغناطيسية ما.. شبيه بشهوة اللهب، يشدgه لتلك السيول بشيء

F أمامها. يحاول أن يتذكgر في النارية، فيظل منبهرا ذهول كلg ما قرأه عن قيام الساعة، وينسى بحماقة

!قيام ساعته.. عاشق، أنه يشهد ساعتها

يشهد الدمار حولي اليوم، أنني أحببتك حتى الهالك؛ االحتراق األخير. وصد)قت جاك بريل وأشتهيك.. حتى

عندما قال "هناك أراض محروقة تمنحك من القمح ما ال يمنحك نيسان في أوج عطائه". وراهنت على ربيع

.السنوات العجاف هذا العمر القاحل. ونيسان هذه

يا بركاناF جرف من حولي كلg شيء.. ألم يكن جنوناF أن على جنون السواح والعشاق، وكلg من أحبوك أزايد

عند قبلي.. فأنقل بيتي عند سفحك، وأضع ذاكرتي أقدام براكينك، وأجلس بعدها وسط الحرائق..

.ألرسمك

أرفض االستعانة بنشرات األرصاد ألم يكن جنوناF.. أن الجوية، والكوارث الطبيعية، وأقنع نفسي أنني أعرف

عنك أكثر مما يعرفون. نسيت وقتها أن المنطق ينتهي

Page 83: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

، وأنg ما أعرفه gعنك ال عالقة له حيث يبدأ الحب .بالمنطق وال بالمعرفة

.التقت الجبال إذن.. والتقينا قرن من الصفحات الفارغة البيضاء التي لم تمتلئ ربع.بك

التي أنفقتها في ربع قرن من األيام المتشابهة.انتظارك

ربع قرن على أو)ل لقاء بين رجل كان أنا، وطفلة.على ركبتي كانت أنت تلعب

ربع قرن على قبلة وضعتها على خدك الطفولي، نيابة.يرك عن والد لم

أنا الرجل المعطوب الذي ترك في المعارك المنسيgة..المغلقة قلبه ذراعه، وفي المجن

لم أكن أتوقع أن تكوني المعركة التي سأترك عليها والمدينة التي سأنفق فيها ذاكرتي.. واللوحة جثgتي،

لتبقى البيضاء التي ستستقيل أمامها فرشاتي،.عذراء.. وجبgارة مثلك. تحمل في لونها كلg األضداد

.لم أعد أدري كيف حدث كلg هذا؟

كان الزمن يركض بنا من موعد إلى آخر، والحبg ينقلنا.إلى أخرى، وكنت أستسلم لحبك دون جدل من شهقة

كان حبك قدري.. وربما كان حتفي، فهل من قوةتقف في وجه القدر؟

كان لقاؤنا يتكرر كل يوم تقريباF، كنgا نلتقي في تلك القاعة نفسها في ساعات مختلفة من النهار، فقد

الربيع شاءت المصادفات أن يصادف معرضي عطلة المدرسية. وكنت تملكين ما يكفي من الوقت لزيارتي

gيوم. فلم يكن لك أي gدوام جامعي كل.

كان عليك فقط أن تتحايلي على اآلخرين بعض عمك أكثر، حتى ال ترافقك الشيء، وربما على ابنة

.لسبب أو آلخر

Page 84: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F تلقائياF، "إلى كنت أتساءل كل مرة وأنا أودعك مرددا الغد": ترانا نرتكب أكبر الحماقات ويزداد تعلقنا ببعض

وربما ألنني كنت أكبرك سنgاF، كنت أشعر أنني. كلg يوم الشاذ تحمل وحدي مسؤولية ذلك الوضع العاطفي

.وانحدارنا السريع والمفجع نحو الحب

طريق ذلك الشالل ولكن عبثاF كنت أحاول الوقوف في الذي كان يجرفني إليك بقوة حبg في الخمسين،

بشهية رجل لم يعرف الحبg بجنون حبg في الخمسين،.قبل ذلك اليوم

وينحدر بي إلى كان حبك يجرفني بشبابه وعنفوانه، أبعد نقطة في الالمنطق.. تلك التي يكاد يالمس فيها

..المطاف، الجنون أو الموت العشق، في آخر

العميقة وكنت أشعر وأنا أنحدر معك إلى تلك المتاهات داخلي، إلى تلك الدهاليز السرية للحب والشهوة، وإلى

األغوار التي لم تطأها امرأة تلك المساحة البعيدة أتنك)ر قبلك، أنني أنزل أيضاF سلgم القيم تدريجياF، وأننيف، gدون أن أدري لتلك المثل التي آمنت بها بتطر

F بأكمله أن أساوم .عليها ورفضت عمرا

لقد كانت القيم بالنسبة لي شياF ال يتجزأ، ولم يكن فرق بين األخالق السياسية، هناك في قاموسي من

وبقية األخالق.. وكنت أعي أنني، معك، بدأت أتنك)ر.لواحدة ألقنعك بأخرى

F آنذاك ..تساءلت كثيرا

أنفرد بك في جلسة تراني كنت أخون الماضي، وأناشبه بريئة، في قاعة تؤثثها اللوحات والذاكرة؟

gن» عرفت من رجال، وأكثرهم نخوة تراني أخون أعزwم ومروءة، وأكثرهم شجاعة ووفاءF؟

سي الطاهر قائدي ورفيقي وصديق تراني سأخون عمر بأكمله. فأدنgس ذكراه وأسرق منه زهرة عمره

الوحيدة.. ووصيgته األخيرة؟

Page 85: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أحد�ثك عن أيمكن أن أفعل كلg ذلك باسم الماضي، وأنا!الماضي

اF أسرق منك شيئاF، في تلك الجلسات gولكن.. أكنت حق .كنت أحد�ثك فيها طويالF عنه؟ التي

حاضرة في ال.. لم يحدث هذا أبداF، كانت هيبة اسمه ذهني دائماF. كانت تربطني بك وتفصلني عنك في

Fفي الوقت نفسه الوقت نفسه. كانت جسرا Fوحاجزا..

وكانت متعتي الوحيدة وقتها، أن أودعك مفاتيحة، ألقرأها gذاكرتي. أن أفتح لك دفاتر الماضي المصفر

أكتشفها معك وأنا أمامك صفحة.. صفحة. وكأنني.أستمع لنفسي، أقصها ألول مرة

بطريقة مخيفة. كنت أنا كنا نكتشف بصمت أننا نتكامل الماضي الذي تجهلينه، وكنتx أنت الحاضر الذي ال

لتني ذاكرة له، gوالذي أحاول أن أودعه بعض ما حم .السنوات من ثقل

.وكنت أنا عميقاF ومثقالF كبحر كنتx فارغة كإسفنجة،

..رحت تمتلئين بي كلg يوم� أكثر ساعتها أنني كنت كلما فرغت امتألت بك كنت أجهل

حوgلتك إلى أيضاF، وأنني كلما وهبتك شياF من الماضي، نسخة منgي. وإذا بنا نحمل ذاكرة مشتركة، طرقاF وأزقة

Fمشتركة، وأفراحا Fمشتركة كذلك. فقد كن)ا معا Fوأحزانا معطوبي حرب، وضعتنا األقدار في رحاها التي ال

.ترحم، فخرجنا كلº بجرحه

كان جرحي واضحاF و جرحك خفياF في األعماق. لقد بتروا ذراعي، وبتروا طفولتك. اقتلعوا من جسدي

F.. وأخذوا من أحضانك أبا.. كن)ا أشالء حرب.. عضوا.وتمثالين محطgمين داخل أثواب أنيقة ال غير

طلبت فيه مني ألول مرة، أن أذكر ذلك اليوم الذي

Page 86: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أحد)ثك عن أبيك. واعترفت بشيء من االرتباك، أن)ك لزيارتي من البدء.. بهذه النية فقط. كان في جئت

المرارة التي صوتك شيء من الحزن المكابر.. شي من.اكتشفتها فيك ألول مرة

:قلت

أبي لشارع كبير، وأن أحمل ما فائدة أن يمنح اسم- ثقل اسمه الذي يردده أمامي المارة والغرباء عدة

اليوم. ما فائدة ذلك إذا كنت ال أعرف عنه مرات في شخص واحد أكثر مما يعرفون، وإذا كان ال يوجد بينهم

قادر على أن يحدgثني عنه حقاF؟

Fقلت لك متعجبا:

عنه عمgك مثالF؟ ألم يحدثك-

:قلت

عمgي ال وقت له لهذا.. وعندما يحدث أن يذكره- أمامي، يأتي كالمه وكأنه أقرب لخطبة تأبينية يتوجه

أخيه، وال يتوجه فيها بها لغرباء يستعرض أمامهم مآثر..إليg ليحدثني عن رجل هو أبي قبل كلg شي

أعرفه عن أبي، ليس تلك الجمل الجاهزة الذي أريد أنgمناسبة لتمجيد األبطال والشهداء، والتي تقال في كل

عن الجميع؛ وكأن) الموت سوgى فجأة بين كلg الشهداء،.طبق األصل فأصبحوا جميعاF نسخة

يهمني أن أعرف شيئاF عن أفكاره.. بعض تفاصيل وحسناته.. طموحاته السرية.. هزائمه حياته.. أخطاءه

السرية. ال أريد أن أكون ابنة ألسطورة، األساطير بدعة يونانية. أريد أن أكون ابنة لرجل عادي بقوgته

ففي حياة كلg رجل. وبضعفه، بانتصاراته وبهزائمه.خيبة ما وهزيمة ما، ربما كانت سبباF في انتصار آخر

gشيء من الصمت بيننا حل..

Page 87: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كنت أتأملك وأغوص في أعماق نفسي. رحت أبحث بين هزائمي وانتصاراتي. لم أكن في عن الحدg الفاصل

كنgا فقط.. تلك اللحظة نبيgاF، وال كنت أنت آلهة إغريقية تمثالين أثريين قديمين محطمwي األطراف، يحاوالن

فرحت أستمع إليك وأنت. ترميم أجزائهما بالكلمات.ترم�مين ما في أعماقك من دمار

:قلت

أشعر أنني ابنة لرقم فقط، رقم بين يحدث أن- أو مليون ونصف مليون رقم آخر. ربما كان بعضها أكبر أصغر، ربما كتب اسم بعضها بخط أكبر أو أصغر من

.لمأساة ما خطg آخر، ولكنها جميعاF أرقام

xوأضفت:

شيئاF. أن يكون أبي أورثني اسماF كبيراF، هذا ال يعني- لقد أورثني مأساة في ثقل اسمه، وأورث أخي الخوف

مسكوناF بهاجس الفشل، الدائم من السقوط، والعيش وهو االبن الوحيد للطاهر عبد المولى الذي ليس من

في الدراسة وال في الحياة، ألنه ليس حقه أن يفشل من حق الرموز أن تتحطم. والنتيجة، أنه تخلى عن

دراسته الجامعية وهو يكتشف عبثية تكديس الشهادات، الماليين. ربما كان على في زمن يكدgس فيه اآلخرون

حق، فالشهادات هي آخر ما يمكن أن يوصلك اليوم.محترمة إلى وظيفة

لقد رأى أصدقاءه الذين تخرجوا قبله، ينتقلون مباشرة إلى موظ)فين برواتب وأحالم محدودة، إلى البطالة أو

ر أن ينتقل إلى التجارة. ورغم أنني أشاطره wرأيه، فقر إال أنه يحزنني أن يتحول أخي وهو في عزg شبابه، إلى

Fوشاحنة وهبتها له الجزائر تاجر صغير يدير محال Fتجاريا يتوق)ع كامتياز بصفته ابن شهيد. ال أعتقد أن أبي كان

!له مستقبالF كهذا

:قاطعتك في محاولة لتخفيف تذمرك

Page 88: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

يتوقع أيضاF لك مستقبالF كهذا. لقد ذهبت أبعد إنه لم- ومبادئه. كان من أحالمه؛ إنك الوريثة لكلg طموحاته

رجالF يقدgس العلم والمعرفة، ويعشق العربية، ويحلم لها بالخرافات والعادات البالية التي بجزائر ال عالقة

أرهقت جيله وقضت عليه. إنك ال تعين أن يكون لك اليوم هذا الحظ االستثنائي، في وطن يمنحك فرصة

فة، يمكنها الدراسة والعمل وحتى أن تكوني فتاة مثق)..الكتابة

:أجبت بشيء من السخرية

مدينة للجزائر بثقافتي أو بعلمي، ولكن قد أكون- . نحن gبه أحد علي gنكتب الكتابة شي آخر لم يمن

لنستعيد ما أضعناه وما سرق خلسة منgا.. كنت أفضxل وحياة عادية، أن يكون لي أن تكون لي طفولة عادية

أب وعائلة كاآلخرين؛ وليس مجموعة من الكتب وجزمة الدفاتر. ولكن أبي أصبح ملكاF لكل الجزائر، ووحدها من

!من�ي أحد الكتابة أصبحت ملكي.. ولن يأخذها

أذهلني كالمك. مألني بأحاسيس متناقضة. أحزنني، إلى حد الشفقة عليك. إن) امرأة ولكنه لم يوصلني

في ذكية ال تثير الشفقة. إنها دائماF تثير اإلعجاب حتى حزنها. وكنت معجباF بك، بجرحك المكابر، بطريقتك

كنت تشبهينني أنا. االستفزازية في تحدgي هذا الوطن الذي كنت أرسم بيد ألستعيد يدي األخرى. كنت أفض�ل

Fعاديا بذراعين اثنتين، ألقوم بأشياء لو بقيت رجال ال عادية يومية، وال أتحول إلى عبقري بذراع واحدة،

.تتأبط غير الرسوم واللوحات

فناناF رافضاF لم يكن حلمي أن أكون عبقرياF وال نبياF وال ومرفوضاF. لم أجاهد من أجل هذا. كان حلمي أن تكون

ولكن القدر أراد لي حياة أخرى، فإذا لي زوجة وأوالد، بي أب ألطفال آخرين وزوج للغربة والفرشاة.. لقد

.بتروا أيضاF أحالمي

:قلت لك

Page 89: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أعماقنا هو لنا لن يأخذ أحد منك الكتابة.. إن ما في- .ولن تطوله يد أحد

xقلت:

سوى الفراغات ولكن ليس في أعماقي شيء- المحشوة بقصاصات الجرائد.. بنشرات األخبار، وبكتب

.وبينها من قرابة ساذجة ليس بيني

Fثم أضفت وكأنك تودعينني سرا:

أحبg جدgتي أكثر من أي شخص أتدري لماذا كنت- آخر.. وأكثر حتى من أمgي؟ إنها الوحيدة التي كانت

متسعاF من الوقت لتحد�ثني عن كل� شيء.. كانت تجد ترفض الخروج منه. تعود إلى الماضي تلقائياF، وكأنها

كانت تلبس الماضي.. تأكل الماضي.. وال تطرب سوى.أغانيه لسماع

كانت تحلم بالماضي في زمن كان اآلخرون يحلمون كثيراF ما تحدgثني عن أبي دون أن فيه بالمستقبل. ولذا

أطلب منها ذلك، فقد كان أجمل ما في ماضيها العابر. وكانت ال تتعب من الحديث عنه، كأنها األنثوي

ذلك تستعيده بالكلمات وتستحضره. كانت تفعل بحسرة األم التي ترفض أن تنسى أنها فقدت بكرها

لي عنه أكثر مما إلى األبد.. ولكنها لم تكن تقول تقوله أم عن ابنها. كان الطاهر هو األجمل.. هو

.البارg الذي لم يجرحها يوماF بكلمة األروع.. هو االبن

يوماF. سألتها يوم االستقالل بكت جدgتي كما لم تبكا.. لماذا تبكين وقد استقل)ت الجزائر؟" قالت: "كنت gأم"

أنتظر االستقالل ليعود لي الطاهر، اليوم في الماضي".شيئاF أدركت أنني لم أعد أنتظر

يوم مات أبي لم تزغرد جدgتي كما في قصص الثورة قرأتها فيما بعد. وقفت في وسط الدار الخياليgة التي

بحزن وهي تشهق بالبكاء وتنتفض عارية الرأس مرددة بدائي: " يا وخيدتي.. يا سوادي.. آه الطاهر أحنwاني

Page 90: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

".أطراف لمن خلgيتني.. نروح عليك

وكانت أمي تبكي بصمت وهي تحاول تهدئتها، وكنت وأبكي دون أن أفهم تماماF أنني أبكي أنا أتفرج عليهما

ات.. رجالF كان .أبي رجالF لم أره سوى مر)

ا الزهرة( يثير دائماF فيg تلك gلماذا كان ذكرك لـ ) أم الغامضة، التي كانت جميلة ودافئة قبل ذلك العواطف

gالبكاء؟ اليوم، والتي أصبحت فجأة موجعة حد

مازلت أذكر مالمح تلك العجوز الطيبة التي أحبgتني والتي قضيت طفولتي وصباي متنقالF بقدر ما أحببتها

بين بيتها وبيتنا. كان لتلك المرأة طريقة واحدة فيgاكتشفت بعدها أنها طريقة مشتركة لكل ، gالحب

فتعد من أجلك األمهات عندنا. إنها تحبgك باألكل، طبقك المفضل وتالحقك باألطعمة، وتحمgلك

الذي انتهت لتو�ها بالحلويات، وبالكسرة والرخسيس.من إعداده

لقد كانت تنتمي لجيل من النساء نذرن حياتهن)، gيعشن األعياد واألعراس كوليمة حب gللمطبخ، ولذا كن

.. وحنانهنw يهبن فيها من جملة ما يهبن فائض أنوثتهن)ي لم يجد له من تعبير آخر خارج gاألكل وجوع سر.

لقد كن) في الوقع يطعمن كل يوم أكثر من مائدة..اس gوينمن كل ليلة دون أن ينتبه أحد".. وأكثر من "تر

إلى جوعهنg المتوارث من عصور..اكتشفت هذه مؤخراF فقط، يوم وجدت نفسي رب)ما وفاءF الحقيقة

_ عاجزاF عن حبg امرأة تعيش على األكل الجاهز، لهن)!وال وليمة لها غير جسدها

خدوش سألتك وأنا أهرب من تلك الذكريات هربي من:طفولتي البعيدة

وأمك.. إنك لم تحدgثيني عنها أبداF كيف عاشت بعد- وفاة سي الطاهر؟

Page 91: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

xقلت:

أعماقها لقد كانت قليلة الحديث عنه.. ربgما كانت في- ونها gتعتب على الذين زوجوها منه، فقد كانوا يزف

..لرجل لشهيد وليس

كانت تعرف مسبقاF نشاطه السياسي، وتدري أنه الزواج، وسيدخل في الحياة سيلتحق بالجبهة بعد

يgة، ولن يزورها إال خلسة بين الحين واآلخر، وقد gالسر يعود إليها إال جثماناF، فلماذا هذا الزواج إذن؟ ولكن ال

؛ كان في الجوg رائحة كان ال بدg لذلك الزواج أن gيتم صفقة ما. فقد كان أهلها فخورين بمصاهرة الطاهر

المولى، صاحب االسم والثروة الكبيرة. وال بأس عبد القادمة. وربما أن تكون أمي زواجه الثاني أو أرملته

كانت جدتي تعرف أنه خلق ليستشهد فراحت تزورعة باكية البنها أخيراF ذريgة.. األولياء والصالحين متضر�

به طالبة تماماg كما كانت تزور سابقاF يوم كانت حبلىFاgآنذاك أن يكون مولودها صبي..

:سألتك

-gهذه القصص؟ من أين تعرفين كل

:قلت

منها هي.. ومن أمي أيضاF. تصور أنها يوم كانت- بأبي لم تفارق مزار )سيدي محمد الغراب( حبلى

سمwته بقسنطينة، حتى إنها كادت تلده هناك.. ولذا ) محمد الطاهر( تباركاF به.. ثمg سمgت عمي ) محمد

Fبه أيضا Fبعدها عرفت أن) نصف رجال.. الشريف( تباركا تلك المدينة أسماؤهم هكذا.. وأن) أهل تلك المدينة

اهتماماF كبيراF لألسماء، وأنw معظمهم يحمل يولون وهكذا كادت. أسماء األنبياء أو األولياء الصالحين

يني "السيدة" تباركاF بالسيدة المنوبيgة التي كانت xتسم كلg مرة محملة بالشمع والسجاد تزورها في تونس

والدعوات، متنقلة بين ضريحها ومزار )سيدي عمر الفاياش(. ربما سمعت به، ذلك الولي الذي كان يعيش

Page 92: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

جعل السلطات عارياF تماماF من كل شيء.. وهو ما التونسية تقوم بربط قدمه إلى سلسال حديدي حتى ال

Fد أن يفعل.. وهكذا كان يغادر البيت عاريا gكما تعو F، يدور ويصرخ وسط غرفة فارغة، إال من يعيش مقيدا النساء الالتي يتسابقن لزيارته، بعضهن للتبارك به..

المعروضة للفرجة.. وأخريات لمجرد اكتشاف رجولته ولفضول النساء الملتحفات بـ )السفساري(

!.الكاذبة والمتظاهرات بالحشمة

FF ..سألتك ضاحكا

.وهل زرته أنت؟-

xقلت:

طبعاF.. لقد زرته بعد ذلك مع كلg واحدة منهن) على- المنوبية"، المرأة التي انفراد؛ وزرت أيضاF "السيدة

كدت أحمل اسمها، لوال أن) أمي أنقذتني من تلك وقررت أن تسميني "حياة" في انتظار مجيء الكارثة،

.اختيار اسمي أبي، الذي يعود إليه القرار األخير في

توق)ف القلب عند هذا االسم.. وركضت الذاكرة إلى اللسان وهو يلفظ هذا االسم بعد ربع قرن الوراء. تعثgر

:تماماF وفاجأك سؤالي

أناديك "حياة"؟ هل يسعدك أن-

..قلت متعجبة

!أليس أجمل؟.. لماذا.. أال يعجبك اسمي الحقيقي-

:قلت

بت وقتها كيف خطر- gإنه حقا أجمل.. حتى إنني تعج اسم كهذا في بال والدك. كنت أسمعه ألول مرة ولم

باسم جميل يكن في حياته آنذاك ما يمكن أن يوحي كهذا.. وبرغم ذلك أحبg أن أسم�يك "حياة" ألنني قد

Page 93: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الذي يعرف اليوم هذا االسم. أكون الوحيد مع والدتك، ليذكgرك بعالقتنا gأريد أن يكون بيننا ككلمة سر

.االستثنائية، وبأنك أيضاF.. طفلتي بطريقة ما

xقلت .. xضحكت:

أنك لم تخرج أبداF من فترة الثورة، ولذا أنت أتدري- Fحركيا Fحتى قبل أن تشعر برغبة في أن تعطيني اسما

تحبني. وكأنك ستدخلني بذلك في العمل السري.. أيgةلي؟ مهمة تراك تعد

ضحكت بدوري لمالحظتك التي فاجأتني بواقعيتها.هذا الحد؟ تراك بدأت تعرفينني إلى

:قلت

من اعلمي أيتها الثوريgة المبتدئة أنه ال بدg من أكثر- اختبار. لنكل�ف أحداF بمهمة فدائية. ولذا سأبدأ في

ة مرحلة أولى بدراستك، ومعرفة gاستعدادتك الخاص!

***

gألقص ،Fالوقت قد أصبح مناسبا gأحسست لحظتها، أن ة يومي gقص Fاألخير في الجبهة، ذلك اليوم عليك أخيرا

الذي لفظ فيه سي الطاهر اسمك أمامي ألول مرة، يود�عني ويكل�فني إذا ما وصلت إلى تونس على وهو

.عنه قيد الحياة أن أقوم بتسجيلك نيابة

وتلك الليلة التي عبرت فيها الحدود الجزائرية وذراع تنزف، وأنا أرد�د لنفسي التونسية، بجسد محموم

بهذيان الحمgى، اسمك الذي أصبح وسط إجهادي

Page 94: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وكأنه اسم لعملية أخيرة كلفني بها سي ونزيفي، حلمه الطاهر، كنت أريد أن أحقق طلبه األخير، وأطارد

الهارب، فأمنحك اسماF شرعياF رسمياF.. ال عالقة له..واألولياء بالخرافات

أذكر ذلك اليوم الذي وقفت فيه ألول مرة أدق باب التوفيق بتونس. أذكر تلك الزيارة بكل بيتكم في شارع

سيكتب تفاصيلها وكأن ذاكرتي كانت تقرأ مسبقاF ما.لي معك، فأفرغت مساحة كافية لها

انتظرت أمام في ذلك اليوم الخريفيg من شهر أيلول،ا الزهرة( gاألخضر، قبل أن تفتح )أم gبابكم الحديدي

..لي طويلة الباب بعد لحظات بدت

مازلت أذكر تلك الشهقة في نظرتها، كأنها كانت.غيري تنتظر شخصاF آخر

توقفت مدهوشة أمامي، تفحgصت معطفي الرمادي الشاحب. توقفت عند ذراعي الحزين ووجهي النحيل

الوحيدة التي تمسك علبة الحلوى، وذراع معطفي الفارغة التي تختبئ ألول مرة بحياء داخل جيب األخرى

.معطفي اغرورقت عيناها بالدموع، وقبل أن أنطق بأية كلمة

وراحت تبكي دون أن تفك�ر حتى في دعوتي إلى دخول.البيت

انحنيت أقبgلها.. بشوق السنوات التي لم أرها فيها..ا( التي لم بالشوق الذي gلني إياه ابنها.. وبشوق )أم gحم

..فجيعتها أتعو)د بعد سنتين ونصف على

ا الزهرة؟- gواشك أم

..بدورها زاد بكاؤها وهي تحتضنني وتسألني

واش راك يا ولدي..؟-

Fبلقائي، أم حزنا Fعلى حالتي، وعلى أكان بكاؤها فرحا

Page 95: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ذراعي التي تراها مبتورة ألول مرة.. أكانت تبكي ألنها ابنها ورأتني.. أم فقط ألن أحداF قد دقg توقعت أن ترى

وشيئاF من هذا الباب، ودخل حامالF في يده البهجة،األخبار، لبيت رب)ما لم يدخله رجل منذ شهور؟

..يا ولدي جوز ع السالمة.. جوز-

قالتها وهي تشرع باب الدار أخيراF وتمسح دموعها. ثم تسبقني "جوز..جوز.." بصوت عال� أعادت وهي

كإشارة موجهة ألمك التي ركضت عند سماع هذه ولم أرw غير ذيل ثوبها يسبقني، ويختفي الكلمات،

.خلف باب مغلق على عجل

البيت.. بدوالي العنب التي تتسلgق جدران أحببت ذلك سوداء حديقته الصغيرة، وتمتد لتتدلى عناقيد ثريات

.على وسط الدار

شجرة الياسمين التي ترتمي وتطلg من السور كامرأة فضولية ضاقت ذرعاF بجدران بيتها، الخارجي،

المارة وراحت تتفرج على ما يحدث في الخارج، لتغري..Fبقطف زهرها.. أو جمع ما تبعثر من الياسمين أرضا

منه، فتبعث معها ورائحة الطعام التي تنبعث.الطمأنينة، ودفء غامض يستبقيك هناك

ا الزهرة( إلى gغرفة تطل على وسط الدار سبقتني )أم :مرددة

..اقعد يا ولدي.. اقعد-

تأخذ منgي علبة الحلوى وتضعها على قالتها وهي الصينية النحاسية المستديرة والموضوعة على مائدة

.خشبية

وما كدت أجلس أرضاF على ذلك المطرح الصوفي حتى الغرفة صغيرة كدمية، وحبوت ظهرت أنت في طرف

مسرعة نحو العلبة البيضاء تحاولين سحبها إلى األرضا الزهرة( قد gوفتحها. وقبل أن أتدخل أنا كانت )أم

مكان آخر وهي تقول: أخت منك العلبة وذهبت بها إلى

Page 96: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

"يعطيك الصحة يا وليدي.. وعالش عييت روحك يا خالد..".يكفينا يا بني.. وجهك

ياحة الخشبية، gثم عادت ونهرتك، وأنت تتجهين نحو الش شكل قبgة صغيرة فوق كانون، والتي الموضوعة على

.. كانت ثيابك الصغيرة البيضاء منثورة فوقها كي gتجف وعندها حبوت تحوي في خطوتين مترددتين، ويداك

.بي الصغيرتان أمامك تستنجدان

لحظتها شعرت بهول ما حلg بي، وأنا أمدg نحوك يدي لإلمساك بك. لقد كنت عاجزاF عن الفريدة في محاولة

التقاطك بيدي الوحيدة المرتبكة، ووضعك في حجري.لمالعبتك دون أن تفلتي مني

أليس عجيباF أن يكون لقائي األول بك هو امتحاني األول وعقدتي األولى، وأن أنهزم على يدك في أصعب

الذراع الواحدة.. من تجربة مررت بها منذ أصبحت رجل..!عشرة أيام ال أكثر

ا الزهرة( بصينية القهوة gينة عادت )أم gوبصحن "الطم:"

الطاهر؟ قل لي يا خالد يا ابني وراسك.. واش راه-

قالتها قبل أن تجلس حتى على المطرح.. كان فية السؤال الذي سؤالها مذاق الدمع. وفي gحلقها غص

يخاف الجواب.. فرحت أطمئنها. أخبرتها أنني كنت وأنه اآلن في منطقة الحدود وأن صحته تحت قيادته

لصعوبة جيدة ولكنه ال يستطيع الحضور هذه األيام،.األوضاع ولمسؤولياته الكثيرة

العدو قرر لم أخبرها أن المعارك تشتد كل يوم، وأن أن يطرق المناطق الجبلية، ويحرق كل الغابات، حتى

تحركاتنا.. وأنه تم إلقاء تتمكن طائراته من مراقبة القبض على مصطفى بن بولعيد، ومعه مجموعة من

والمجاهدين، وأن ثالثين منهم قد صدر في كبار القادة مجموعة حقهم الحكم باإلعدام، وأنني أتيت للعالج مع

من الجرحى والمشوهين الذين مات اثنان منهم قبل

Page 97: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..أن يصال

منظري أكثر مما تتحمله امرأة في سنها، لقد قال لها األوراق فرحت أغيgر مجرى الحديث.. أمددتها بتلك

النقدية التي أرسلها معي سي الطاهر، وطلبت منها هدية، ووعدتها أن حسب وصيته أن تشتري لك بها

أعود قريباF لتسجيلك، بذلك االسم الذي اختاره لك،ا الزهرة بصعوبة، وبشي من الدهشة، والذي رددته gأم

ولكن دون تعليق. فقد كان لما يقوله سي الطاهر.بالنسبة لها صفة القداسة

وكأنك انتبهت فجأة أن الحديث يعنيك، فتسلgقت ركبتي وجئت فجأة لتجلسي في حجري بتلقائية طفولية، ولم

، أتمالك لحظتها احتضانك بيدي gالوحيدة.. ضممتك إلي وكأنني أضمg الحلم الذي أضعت من أجله ذراعي

أخاف أن يهرب مني وتهرب معه أحالم الثانية؛ كأنني.ذلك الرجل الذي لم يسعد بعد باحتضانك

أقبلك وسط دموعي وفرحتي وألمي وكلg رحت تناقضي، نيابة عن سي طاهر وعن رفاق لم يروا

أوالدهم منذ التحقوا بالجبهة، ونيابة عن آخرين، ماتوا يحتضنون فيها بدل وهم يحلمون بلحظة بسيطة كهذه،

.البنادق، أطفالهم الذين ولدوا وكبروا في غفلة منهم

يومها أن أقب�لك نيابة عني.. وأن أبكي أمامك نسيت سأتحول إليه على نيابة عني. نيابة عن الرجل الذي

ل جوار اسمك اسمي gيدك بعد ربع قرن. نسيت أن أسج ذاكرتك مسبقاF.. وأعوامك القادمة مسبقاF.. وأن أطلب

مسبقاF.. أن أحجز عمرك، وأوقف عدgاد السنوات الذي كان يركض بي نحو السابعة والعشرين.. وأنت تدخلين

!شهرك السابع

أستبقيك هكذا على حجري إلى األبد، تلعبين نسيت أن أفهمه.. وال وتعبثين وبأشيائي، وتقولين لي كالماF ال

.تفهمينه

لم تقاطعيني مرة واحدة، وأنا أقصg عليك تلك القصة

Page 98: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

د، وأترك تفاصيلها المتشعبة لي gبإيجاز متعم. الذي 1957 أيلول15توقفت فقط عند ذلك اليوم

.وقفت فيه ألكتب على سجلg رسمي اسمك النهائي

توضيحي، وال عل)قت يومها لم تسأليني أيg سؤالة لم يقصها عليك أحد قبلي. gبكلمة واحدة، على قص

ال أحد وجد في تلك القصة ما يستحق ربما ألن.التوقف

وراحت غيوم. استمعت إلي) بذهول، وبصمت مخيف مكابرة تحجب نظرتك عني.. كنت تبكين أمامي ألول

في ذلك المكان نفسه مرة، أنت التي ضحكت معيFكثيرا.

ترانا أدركنا لحظتها، أننا كنا نضحك لنتحايل علىله gالحقيقة الموجعة، على شيء ما كنا نبحث عنه، ونؤج

نفسه؟ في الوقت

نظرت إليك خلف ضباب الدمع.. كنت أودº لحظتها، لو بذراعي الوحيدة، كما لم أحضن امرأة، كما احتضنتك

وبقيت في لم أحضن حلماF. ولكنني بقيت في مكاني، مكانك، متقابلين هكذا.. جبلين مكابرين، بينهما جسر

ي من الحنين gوالشوق.. وكثير من الغيوم التي لم سر .تمطر

اللوحة، وكأنني استوقفتني كلمة جسر، وتذكgرت تلك تذكرت الفصل األهم من قصة، كنت أرويها لك وربما

،Fق غرابتها. وقفت أرويها لنفسي أيضاgعساني أصد :وقلت

-Fتعالي سأريك شيئا.

.سؤال تبعتني دون وقفت أمام تلك اللوحة. قلت لك وأنت تنتظرين

:مدهوشة ما سأقوله

Page 99: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أتدرين.. يوم رأيتك تقفين أمام هذه اللوحة، في ذلك- جسدي. شعرت أن اليوم األول، سرت قشعريرة في

بينك وبين هذه اللوحة قرابة ما أجهلها. ولكنني كنت ولذا أتيت ألسلgم عليك عساني أكتشف متأكداF منها،

.خطأ حدسي.. أو صوابه

:متعجبة قلت

وهل كنت مصيباF في حدسك؟-

:قلت

المكتوب على هذه اللوحة؟ ألم تالحظي التاريخ-

..أجبت وأنت تبحثين عنه أسفلها

..ال-

:قلت

إنه قريب من تاريخ ميالدك الرسمي. أنت تكبرين_ !بأسبوعين فقط. إنها توأمك إذا شئتx هذه اللوحة

:قلت مدهوشة

!هذا عجيب.. عجيب كل-

نظرت إلى اللوحة وكأنك تبحثين فيها عن نفسك،:فقلت

قنطرة الحبال؟ أليست هذه-

:أجبتك

إنها أكثر من قنطرة.. إنها قسنطينة. وهذه هي- .القرابة األخرى التي تربطك بهذه اللوحة

..معك يوم دخلت هذه القاعة، دخلت قسنطينة-

Page 100: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لwت في طلgتك.. في مشيتك.. في لهجتك.. وفي- wخwد .سوار كنت تلبسينه

:فكرت قليالF ثم قلت- آ.. تعني "المقياس".. يحدث أحياناF أن ألبسه في- -

.المناسبات.. ولكنه ثقيل يوجع معصمي بعض

:قلت

ا" عدة سنوات ألن الذاكرة ثقيلة- gلقد لبسته "أم .Fدائما ..متتالية،ولم تشك من ثقله. ماتت وهو في معصمها

!إنها العادة فقط

لم أعتب عليك. كان في صوتي حسرة، ولكن لم أقلFكنت تنتمين لجيل يثقل عليه حمل أي شيء.. لك شيئا

عصرية من ولذا اختصر األثواب العربية القديمة بأثواب قطعة أو قطعتين. واختصر الصيغة والحليg القديمة،

على عجل. واختصر التاريخ بحلي خفيفة تلبس وتخلع والذاكرة كلها بصفحة أو صفحتين في كتب مدرسيgة،

..اسمين في الشعر العربي واسم أو

لن أعتب عليك، نحن ننتمي ألوطان ال تلبس ذاكرتها إال في المناسبات، بين نشرة أخبار وأخرى. وسرعان

وينسحب المصوgرون، ما تخلعها عندما تطفأ األضواء،.كما تخلع امرأة أثواب زينتها

:لم تتعمديه قلت وكأنك تعتذرين عن خطأ

إذا شئت سألبس ذلك السوار من أجلك.. أيسعدك- هذا؟

فاجأني كالمك. كان الموقف جزيناF شيئاF ما، رغم.مضحكاF بحزن تلقائيته، وربما كان

gكنت هنا أعرض عليك أبوتي، وكنت تعرضين علي التي كان يمكن أن تكون ابنتي، أمومتك. أنت الفتاة

!والتي أصبحت دون أن تدري.. أمgي

Page 101: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أجيبك لحظتها بكلمة واحدة، أختصر وكان يمكن أن فيها كل تناقضات موقفنا ذلك، وأختصر فيها كل ما

أشعر به تجاهك من عواطف متطرفة.. وجامحة..ولكنني قلت شيئاF آخر

:قلت

يسعدني ذلك، ويسعدني أيضاF أن تلبسيه من أجلك- .أنت

تفهمي شيئاF من الماضي الذي ال بد أن تعي أنك لن تبحثين عنه، وال من ذاكرة أب لم تعرفيه، إذا لم

قسنطينة بعاداتها وتلتحمي بها. إننا ال نكتشف تفهمي بريدية.. أو لوحة زيتية ذاكرتنا ونحن نتفرج على بطاقة

.كهذه نحن نكتشفها عندما نلمسها، عندما نلبسها ونعيش

.بها

هذا السوار مثالF، لقد أصبحت عالقتي به فجأة عالقة ذاكرتي رمزاF لألمومة دون أن عاطفية. لقد كان في

أدري. اكتشفت هذا يوم رأيتك تلبسينه، وكان يمكن أال تلبسيه. وتظل كل تلك األحاسيس التي فجرها داخلي

اآلن.. أن نائمة في دهاليز النسيان. هل تفهمينالذاكرة أيضاF في حاجة إلى أن نوقظها أحياناF؟

دون أن أدري، أوقظ داخلي كم كنت أحمق.. كنت مارداF كان نائماF منذ سنين. وكنت أحوgلك في حمgى

فتاة إلى مدينة. وكنت تستمعين لي بانبهار جنوني منين كلماتي كما يتلقgى شخص gفي جلسة تلميذة، وتتلق

تنويم مغنطيسي، تعاليمه وأوامره من منوم يفعل به.ما يشاء

يومها قدرتي على ترويضك، وعلى السيطرة اكتشفت.على نارك المحرقة

ي أن gرت في سر أحولك إلى مدينة شاهقة.. وقر) شامخة، عريقة.. عميقة، لن يطأها األقزام وال

.القراصنة

Page 102: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..حكمت عليك أن تكوني قسنطينة ما.بالجنون وكنت أحكم على نفسي

***

قضينا معاF وقتاF أطول ذلك اليوم.. وافترقنا مثقلينفة، gات النفسية، مشحونين باالنفعاالت المتطر gبالهز

. التي عشناها خالل أربع ساعات من gالحديث المستمر قلنا الكثير، وسط دموعنا المكابرة أحياناF، ووسط

.أحياناF أخرى صمتنا المخيف

كنت سعيداF ربما ألنني رأيتك تبكين ألول مرة. كنت الذين ال دموع لهم، فهم إما جبابرة.. أو أحتقر الناس

.االحترام منافقون. وفي الحالتين هم ال يستحقون.كنت المرأة التي كنت أريد أن أضحك وأبكي معها

.اكتشفته ذلك اليوم وكان هذا أروع ما تذكgرت لقاءنا األول، الذي بدأناه دون تخطيط

الساخرة. يومها تذكgرت مثالF فرنسياF يقوم: بالتعليقات تضحكها"، وقلت "أقصر طريق ألن تربح امرأة هو أن

..ها أنذا ربحتها دون جهد

ع على اليوم اكتشفت حماقة ذلك المثل الذي gيشج الربح السريع، وعلى المغامرات العابرة التي ال يهمg أن

.التي قد ضحكت في البداية تبكي بعدها المرأة

..لم أربحك بعد نوبة ضحكتك ربحتك يوم بكيت أمامي gوأنت تستمعين إلى قص

تي أيضاF. ثم) في تلك اللحظة التي gالتي كانت قص تلك اللوحة بتأثر واضح. وكنت ربgما على تأملت فيها

وشك أن تضعي قبلة على خدgي، أو تحضنيني في.لحظة حنان مفاجئ.. ولكن)ك لم تفعلي

Page 103: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وكأننا نخاف أن وافترقنا مثل العادة، ونحن نتصافح، تتحول تلك القبلة العابرة على الخدg، إلى فتيلة تشعل

.النائمة البراكين

كنgا نفهم بعضنا بصمت متواطئ. كان حضورك يوقظني ويستدرجني إلى رجولتي. كان عطرك gيستفز

دانني من سالحي حتى gالجنون. وعيناك كانت تجر .حزناF عندما تمطران

وصوتك.. آه صوتك كم كنت أحبه.. من أين جئت به؟..أيg موسيقى كانت موسيقاك أيg لغة كانت لغتك؟

كنت دهشتي الدائمة، وهزيمتي المؤكدة، فهل كان يمكن أن تكوني ابنتي، أنت التي لم يكن يمكن في

.بالنسبة لي المنطق أن تكوني شيئاF آخر غير ذاك

ورحت أقاومك بحواجز وهمية أضعها بيننا كلg مرة، كما في ساحة سباق، ولكنك كنت فرساF توضع حواجز

Fخلقت للتحدي وربح الرهان. كنت تقفزين عليها جميعا .مرة واحدة، بنظرة واحدة

..كانت نظراتك تتسكع فوقي، تتوقف أحياناF هنا وأحياناF هناك، لتنتهي عند عينيg أو زرg قميصي المفتوح

.كالعادة:تتأملينني أكثر قلت مرة وأنت

فيك شيء من زوربا. شيء من قامته.. من سمرته..- ق. ربما كنت فقط أكثر وشعره gالفوضوي المنس

.وسامة منه

:أجبتك

تضيفي كذلك، أنني في سنه، وفي جنونه يمكن أن- حزنه وتطرفه، وأنg في أعماقي شيئاF من وحدته.. من

.ومن انتصاراته التي تتحول دائماF إلى هزائم

:قلت متعجبة

Page 104: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أتعرف عنه كل ها... أتحبه؟-

:أجبت

..ربما-

:قلت

أتدري أنه الرجل الذي أثgر أكثر في حياتي؟-

لم تعرفي كثيراF من أدهشني اعترافك. فك)رت إما أنك الرجال.. أو لم تقرئي كثيراF من الكتب. وقبل أن أقول

Fواصلت بحماسة شيئا:

فاته غير المتوقعة.. عالقته- gيعجبني جنونه وتصر المرأة.. فلسفته في الحب والزواج.. في العجيبة بتلك

يصل الحرب والعبادة، وتعجبني أكثر طريقته في أنgر قصة الكرز، يوم كان يحبgها. أتذكgبأحاسيسه إلى ضد

ي�شفى من ولعه به بأن يأكل منه الكرز كثيراF وقرر أنF.. كيراF حتى يتقيgأه. بعد ذلك أصبح يعامله كفاكهة كثيرا

عادية. كانت تلك طريقته في أن يشفى من األشياء.تستعبده التي يشعر أنها

:قلت

..ال أذكر هذه القصة-

:قلت

رقصته تلك وسط ما يسميه بالخراب وهل تذكر- الجميل؟ إنه شيء مدهش أن يصل اإلنسان بخيبته

،Fز في الهزائم أيضاgالرقص. إنه تمي gوفجائعه حد الجميع. فال بد أن فليست كلg الهزائم في متناول

تكون لك أحالم فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق..بعواطفك تلك إلى ضدgها بهذه الطريقة العادة، لتصل

Page 105: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أن أجد في ذلك كنت أستمع إليك بانبهار وبمتعة. وبدل "الخراب الجميل" الذي كنت تصفينه لي بحماسة، ما

من نزعة سادية، أو مازوشية ما يمكن أن يثير مخاوفي قد تسكنك، رحت أنقاد لجمال فكرتك فقط، وأقول

:من التفكير دون كثير

صحيح.. جميل ما تقولين. _ ثم أضفت_ لم أكن أدري- !زوربا إلى هذا الحد أنك تحبين

:قلت ضاحكة

القصة كثيراF. سأعترف لك بشيء.. لقد أربكتني هذه- يوم قرأتها شعرت بشيء من الغبطة والحزن معاF. كنت

Fرجال gكهذا.. أو أكتب رواية كهذه، ولم يكن أريد أن أحب ذلك ممكناF، ولهذا ستطاردني هذه القصة حتى أشفى

.منها بطريقة أو بأخرى

Fقلت ساخرا:

الشبه بيني وبينه، يسعدني إذن أن تجدي شيئاF من- Fفقد تحققين األمنيتين معا..

:المحبgبة وقلت تأملتني بشيء من الشيطة

.معك أريد أن أحقق إحدى األمنيتين فقط-

:أسألك أيgهما وأضفت قبل أن

-Fلن أكتب عنك شيئا.

آ.. لماذا..؟-

أريد قتلك، أنا سعيدة بك.. نحن نكتب ألني ال- عبئاF الروايات لنقتل األشخاص الذين أصبح وجودهم

..علينا.. نحن نكتب لننتهي منهم

اإلجرامية" لألدب "يومها ناقشتك طويالF في نظرتك

Page 106: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:وقلت لك ونحن نفترق

روايتكم األولى.. أو أيمكنني أخيراF أن أطgلع على- !"جريمتك األولى"؟

:ضحكت وأجبت

ق جنائي أو طرف� طبعاF.. شرط- أال تتحول إلى محق�ة gفي تلك القص!

ينتظرني، وتدرين مسبقاF أنني تراك كنت تتنبئين بما- .لن أكون معك قاراF محايداF بعد اآلن

التالي أحضرت لي تلك الرواية. قلت وأنت في اليوم:تمدgين نحوي الكتاب

..شيئاF من المتعة في قراءتها أتمنى أن تجد-

Fقلت مازحا:

!ضحاياك متعتي وأتمنى أال يفسد عدد-

:أجبت باللهجة نفسها

!الجماعية ال.. اطمئن.. فأنا أكره المقابر-

..كيف نسيت هذه الجملة األخيرةتك الجديدة هذه، التي عندما أتذكرها اآلن، أقتنع أن gقص

تروج لها المجالت والجرائد، لن تكون سوى ضريح واحد رب)ما كان زياد.. وربما كان أنا.. فمن فردي لبطل

!كهذه؟ ترى المحظوظ من)ا بميتة وحده كتابك قد يحمل جواباF على هذا السؤال، وعلى

.تطاردني أسئلة أخرى

ولكن.. لماذا يثير كلg ما تكتبيه لديg أكثر من سؤال؟ أنني طرف في كل قصصك الواقعية ولماذا أشعر

والوهمية، حتى تلك التي كتبتها قبلي؟

Page 107: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ألنني أتوهم أن لي حقاF تاريخياF عليك، أو ألنك يوم ترى تضعي عليه أيg إهداء، أهديتني كتابك األول ذاك، لم

:وقلت ذلك التعليق المدهش الذي لم أنسه"Fإهداء gا الذين نحبهم إننا نخط gللغرباء فقط.. وأم

فمكانهم ليس في الصفحة البيضاء األولى، وإنما في..".صفحات الكتاب

يومها أسرعت إلى ذلك الكتاب ألتهمه في سهرتين. الهثاF من صفحة إلى أخرى، وكأنني أبحث رحت أركض

عن شيء ما غير الذي أقرأه. عن شيء قد تكونين كتبته لي مسبقاF مثالF حتى قبل أن نلتقي. عن شيء ما

.تكن قصتنا قد يكون يربطنا من خالل قصة لم

أدري أن) ذلك كان جنوناF، ولكن أليس في الحياة كتلك اللوحة التي رسمتها ذات مصادفات مدهشة

، وبقيت تنتظرك ربع قرن دون1957أيلول من سنة ؟ أن أنها xكانت لك.. بل إنها كانت أنت

ذاك، وكان ذلك محض أوهام.. لم تخبgئي لي في كتابكة. gسوى مرارة وألم وغيرة حمقاء، ذقت نارها ألول مر

قد يكون مرg بحياتك غيرة جنونية من رجل من ورق، حقاF.. وقد يكون مخلوقاF خيالياF، أث)ثت به فراغ أيامك

.الصفحات فقط وبياض

ولكن أين هو الحد الفاصل بين الوهم والواقع؟ لم واحدة عن ذلك السؤال.. رحتx تعمgقين تجيبيني مرة

:حيرتي بأجوبة أكثر غموضاF.. قلت

-gفي كل ما نكتبه.. هو ما نكتبه ال غير، إن gالمهم ا فوحدها الكتابة هي األدب.. وهي التي gستبقى، وأم

الذين كتبنا عنهم فهم حادثة سير.. أناس توقفنا أو آلخر.. ثم واصلنا الطريق أمامهم ذات يوم لسبب�

.معهم أو بدونهم

:قلت

طة ولكن ال يمكن أن- gتكون عالقة الكاتب بملهمه مبس

Page 108: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

إنه.. إلى هذا الحد. إن الكاتب ال شيء دون من يلهمه..مدين له بشيء

..قاطعتني

أراغون" عن عيون "مدين له بماذا..؟.. إن ما كتبه- "إلزا" هو أجمل من عيون "إلزا" التي ستشيخ وتذبل..

قباني عن ضفائر "بلقيس" أجمل وما كتبه نزارgعليه أن يبيض Fبالتأكيد من شعر غزير كان محكوما

ويتساقط.. وما رسمه ليونارد ديفانشي في ابتسامة ابتسامة ساذجة واحدة للجوكاندا، أخذ قيمته ليس في

للمونوليزا، وإنما في قدرة ذلك الفنان المذهلة على متناقضة، وابتسامة غامضة تجمع بين نقل أحاسيس

الحزن والفرح في آن واحد.. فمن هو المدين لآلخربالمجد إذن؟

كان حديثنا يأخذ منحى آخر ربما أردته أنت في محاولة الحقيقة. فأعدت عليك السؤال بصيغة أكثر للهرب من

:مباشرة

أم ال؟.. هل مرg هذا الرجل بحياتك-

:ضحكت.. وقلت

60 عجيب.. إن في روايات "أغاتا كريستي" أكثر من- جريمة. وفي روايات كاتبات أخريات أكثر من هذا العدد

قارئ صوته ليحاكمهن من القتلى. ولم يرفع أيg مرة. ويكفي على كل تلك الجرائم، أو يطالب بسجنهن)

قصة حب واحدة، لتتجه كل أصابع كاتبةF أن تكتب االتهام نحوها، وليجد أكثر من محقق جنائي أكثر من دليل على أنها قصتها. أعتقد أنه ال بد للنقاد من أن

نهائياF، فإما أن يعترفوا أن يحسموا يوماF هذه القضية للمرأة خياالF يفوق خيال الرجال، وإما أن يحاكمونا

Fجميعا!

:ضحكت لحجتك التي أدهشتني ولم تقنعني. قلت

Page 109: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

يحسم النقاد هذه القضية، دعيني أكرر في انتظار أن- عليك سؤاالF لم تجيبيني عنه.. هل مرg هذا الرجل

بحياتك حقاF؟

:قلت وأنت تعبثين بأعصابي

..الكتاب المهم أنه مات بعد هذا-

آ.. ألنك قادرة على أن تقتلي الماضي هكذا بجرة- قلم؟

:وأنت تواصلين مراوغتك قلت

؟.. نحن قد نكتب أيضاF لنصنع أضرحة- أيg ماض�..ألحالمنا ال غير

كان في أعماقي شعور ما بأن تلك القصة كانت الرجل قد مرg بحياتك.. وربما بجسدك قصتك، وأن ذلك

Fأيضا.

تبغه. أكاد أكتشف كنت أكاد أشمg بين السطور رائحة أشياءه مبعثرة بين صفحات كتابك. في كلg فقرة

من مذاق قبلته.. من.. شيء منه.. من سمرته..ضحكته.. من أنفاسه.. ومن اشتهائك الفاضح له

في حبgك حقاF.. أم أنت التي أبدعت في تراه أبدع وصفه؟ أم تراه محض اختراع نسائي، كسته لغتك

رجولة وأحالماF، صنعت لها بعد ذلك ضريحاF جميالF.. على أطالع ذلك الكتاب، في مقاسه. وأنا، بأيg منطق رحت

زيg عاشق متنكر ببدلة شرطي أخالق. وإذا بي أنقgب وأبحث بين الفواصل، عساني أكتشفك بين الكلمات

متلبسة بقبلة ما.. هنا، أو أكتشف األحرف األولى من.اسمه هناك

F.. تذكgرت أنك في باريس من أربع ذهب تفكيري بعيدا تقطنين عند عمك منذ ع�يgن في باريس، سنوات، وأنك

أي منذ سنتين فقط. فماذا تراك فعلت قبل ذلك في

Page 110: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كلg الفترة التي كنت فيها بمفردك؟

Fومتعبا Fمثلك.. اعترفت أرهقني كتابك ذاك، كان ممتعا لك في ما بعد، أن عالقتي بك قد تغيgرت منذ قرأتك

أكون قادراF على الصمود بعد وأنني أشكg في أن.اليوم.. فأنا لم أكن مهيأF لسالح الكلمات

xقلت Fفقط وكأن) األمر ال يعنيك تماما:

!كان عليك أال تقرأني إذن-

:بحماقة أجبتك

ولكنني أحب أن أقرأك. ثم أنا ال أملك طريقة أخرى- ..لفهمك

:أجبت

مخطئ.. أنت لن تفهم شيئاF هكذا.. الكاتب إنسان- على حافة الحقيقة، ولكنه ال يحترفها يعيش

خين ال غير.. إنه gفي بالضرورة. ذلك اختصاص المؤر الحقيقة يحترف الحلم.. أي يحترف نوعاF من الكذب

يكذب بصدق المهذgب. والروائي الناجح هو رجل.مدهش، أو هو كاذب يقول أشياء حقيقيgة

التفكير.. أعذب الكذب كان ثمg أضفتx بعد شيء منب بعد gكذلك. قررت يومها أال أنق Fكذبك، وأكثره ألما

في ذاكرتك. أنت لن تبوحي لي بشيء. ربما ألنك ذلك هناك من شي أنثى تحترف المراوغة. وربما ألنه ليس

.يستحقg االعتراف

كنت تريدين فقط أن توهميني أنك لم تعودي تلك الطفلة التي عرفتها. في الواقع.. كنت فارغة، وكان

gقك بي، كذبك في مساحة فراغك. وإال ما سرgتعل ولماذا كنت تطاردين ذاكرتي باألسئلة، وتسدرجينها

لماذا كلg تلك الشراهة للحديث عن كلg شيء؟gتلك الرغبة في مقاسمتي ذاكرتي وكل gللمعرفة، كل

Page 111: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وما كرهت من أشياء.. أكانت الذاكرة ما أحببتعقدتك؟

***

من ال بد لمعرضي أن ينتهي، لننتبه أننا نعرف بعضنا أسبوعين فقط، وليس منذ أشهر كما كان يبدو لنا.

أيام؟ كيف تعل)منا فكيف فرغنا من ذاكرتنا في بضعة في بضع ساعات قضيناها معاF، أن نحزن ونفرح ونحلم

واحد؟ بتوقيت

كيف أصبحنا نسخة من بعضنا.. وكيف يمكن لنا أن أصبح جزءاF من ذاكرتنا؟ نغادر هذا المكان، الذي

كيف..؟ وهو الذي وضعنا لعدة أيام، خارج حدود الزمان والمكان، في قاعة شاسعة، يسكنها الصمت ويؤثثها

والجنون؟ الفن، وربع قرن من المعاناة

.كنgا لوجة وسط عدة لوحات أخرى متعدgدة األلوان، رسمتها كنا لوحة متقلgبة األطوار،

المصادفة يوماF ثم واصلت رسمها يد األقدار. وكنت بوضعي الجديد ذاك وأنا أتحول من صاحب ذلك أتلذذ

.أكثر المعرض، إلى لوحة من لوحاته ال

لم يحدث، مثل تلك المرة، أن شعرت بحزن وأنا أرفع على الجدران، لوحة بعد أخرى، تلك اللوحات المعلgقة

ام وأجمعها في الصناديق ألترك القاعة فارغة لرس) سيأتي بلوحاته.. بحزنه وبفرحه وبقصص أخرى ال آخر،

تي gتشبه قص.

.أيامي معك كنت أشعر أنني أجمع فجأة، توقفت يدي وهي على وشك أن ترفع تلك

.لآلخر اللوحة التي تركتها

تأملتها مرة أخرى، شعرت أنها ناقصة. لم يكن على يعبرها من طرف إلى آخر، معلgق مساحتها سوى جسر

Page 112: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.نحو األعلى بحبال من طرفيه كأرجوحة حزن األرجوحة الحديدية هوgة صخرية ضاربة في وتحت

لسماء العمق تعلن تناقضها الصارخ مع المزاج الصافي.استفزازية الهدوء والزرقة

حاجة لم أشعر، قبل تلك اللحظة، أن هذه اللوحة في إلى تفاصيل جديدة تكسر هذا التضاد، وتؤثث عري

.بها اللونين اللذين ينفردان

في الواقع، لم تكن "حنين" لوحة، كانت رؤوس أقالم تجاوزتها األحداث بخمس عشرة سنة ومشاريع أحالم

.الزمن من الحنين والدهشة وليس فقط بربع قرن من

حملتها تحت إبطي، وكأنني أميgزها عن األخريات. كنت أريد أن أجلس أمامها بعد كل تلك. فجأة على عجل

السنوات، محمالF بفرشاة وألوان أخرى، ألنفخ الحياة والضجيج فيها، وأنقل إليها أخيراF حجارة "قنطرة

ذهني المبعثر الحبال" حجراF.. حجراF. ولكن كان في لحظتها هاجس آخر يطغى على كلg شيء: كيف يمكن

وأين؟... أن نلتقي بعد اآلن

انتهت عطلتك الجامعية مع نهاية معرضي تقريباF. وها مستحيالت الزمان والمكان. نحن محاصران بكل

مالحقان بكل العيون التي قد تسرق سرنا. بكل أولئك ال نعرفهم.. ويعرفوننا. أيg جنون.. وأيg قدر كان الذين

عاهتي؟ ولماذا كل قدري معك! ولماذا وحدي تفضحني هذا الحذر.. ولماذا أنت بالذات؟ كان مجرد احتمال

ذات يوم وأنا بصحبتك، يجعلني لقائي بسي الشريف أعدل عن هذه الفكرة، وأشعر فجأة بحرج الموقف،

.االرتباك الذي سيفضحني ال محالة وبذلك

على برنامج اتفقنا على أن تطلبيني هاتفياF، وأن نتفق.جديد

كان ذلك هو الحل الوحيد. فلم يكن ممكناF أ، أزورك الجامعي. فقد كانت ابنة عمك تتابع دراستها في حيgك

.معك في الجامعة نفسها

Page 113: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.لنا أن نجد ظروفاF أكثر تعقيداF من هذه؟ أكان يمكن

***

أطول نهاية أسبوع على اإلطالق، كانت تلك التي.االثنين قضيتها في انتظار هاتفك صباح

.يوم األحد دقg الهاتف

فربما نجحت في. أسرعت إليه وأنا أراهن أنgك أنت سرقة لحظات تحدgثينني فيها.. ولو قليالF. كانت كاترين

gأخفيت عنها خيبتي. ورحت أستمع لها. على الخط وهي تثرثر حول مشاغلها اليومية، ومشروع سفرها

القادم إلى لندن.. ثم سألتني عن أخبار المعرض:آخر وقالت وهي تنتقل من موضوع إلى

لقد قرأت مقاالF جيداF عن معرضك في مجلة- اطلعت عليه.. إنه بقلم أسبوعية.. من المؤكد أنك

اش، يبدو أنه يعرفك.. أو يعرف لوحاتك .جيداF روجيه نق)

:لم أكن أشعر برغبة في الحديث.. قلت لها باقتضاب

..صديق قديم نعم، إنه-

.تخلgصت منها بلباقة

ذلك اليوم. ربما لم أكن أشعر بأية رغبة في لقائها كانت حاجتي للرسم يومها، تفوق حاجاتي الجسدية

.فقط ممتلئاF بكx األخرى.. وربما كنت

.عدت إلى مرسمي مثقل الخطى

تشكيلة من األلوان، ألبدأ في كنت شرعت في إعداد.وضع لمسات على تلك اللوحة

Page 114: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أمامها إلى ذلك الرسام ولكنني ارتبكت. تحولت.المبتدئ الذي كنته منذ خمس وعشرين سنة

الجديدة لك، هي التي أضفت عليها هذه ترى قرابتهاالصبغة المربكة؟

Fألنني كنت أجلس أمام الماضي أم تراني كنت مرتبكا ال غير.. ألضفي على الذاكرة_ وليس على لوحة_ بعض

الرتوشات"؟" كنت أشعر أنني على وشك أن أرتكب حماقة.

للمنطق_ أنه ال ينبغي أبداF وأدري_رغم رغبتي المضادة العبث بالماضي، وأن أية محاولة لتجميله، ليست سوى

.محاولة لتشويهه

كنت أدرك هذا.. ولكن هذه اللوحة أصبحت تضايقنيطاF حدg السذاجة،.. فجأة هكذا gشيء فيها مبس gكان كل

أعاملها فلماذا ال أواصل رسمها اليوم، ولماذا البمنطق فنgي ال أكثر؟

ألم يقضx ) شاغال( خمس عشرة سنة في رسم إحدى لوحاته؟ كان يعود إليها دائماF بين لوحة وأخرى ليضيف

بعدما أصر) على أن يجمع شيئاF أو وجهاF جديداF عليها،طفولته؟ فيها كلg الوجوه واألشياء التي أحبها منذ

أليس من حقي أيضاF أن أعود إلى هذه اللوحة، أن أضع بعض خطى العابرين، وأرشg على على هذا الجسر

جانبيه بعض البيوت المعلgقة فوق الصخور، وأسفلهFشيئا ،Fأحيانا Fمن ذلك النهر الذي يشق المدينة، بخيال

ألم يعد ضرورياF أن أضع.. ورقراقاF زبديgاF أحياناF أخرى عليها بصمات ذاكرتي األولى، التي كنت عاجزاF عن

السابق، يوم كنت رساماF مبتدئاF وهاوياF ال نقلها فيغير؟

اش، صديق ال أدري كيف تذكgرت لحظتها gروجيه نق .طفولتي.. وصديق غربتي

بذكراها، هو الذي لم ذكرت ولعه بقسنطينة، وتعلقه مع أهله، ومع1959يعد إليها أبداF منذ غادرها سنة

Page 115: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الجالية اليهودية التي كانت تريد أن تبني لها فوج من.مستقبالF آمناF في بلد آخر

يحدث أن زرته مرة في بيته، دون أن يصرg على أن لك اليهودية "سيمون يسمعني شريطاF جديداF للمطربة

حات القسنطينية ار" وهي تغني المالوف والموش) gتم مرتدية ذلك الثوب القسنطيني بأداء وبصوت مدهش،

الفاخر، الذي أهدوها إياه في أول عودة لها هناك...يزيgن غالف شريطها والذي

منذ بضعة أشهر أخبرني روجيه أن سيمن ماتت مقتولة زوجها في إحدى نوبات غيرته، فقد كان على يد

.يتهمها بحبg رجل عربي حقاF.. أجابني.. "ال أدري.." ثم سألته إن كان ذلك

".قسنطينة أضاف بمرارة ما.. " أدري أنها كانت تحب

وروجيه أيضاF كان يحبها.. وكان حلمه السري أن يعود واحدة، أو يأتيه أحد على األقل بثمرة إليها ولو مرة

غرفته واحدة من شجرة التين التي كانت تطال نافذة..والتي كانت في حديقة بيته منذ أجيال

واإلحراج معاF وأنا وكنت أشعر بمزيج من السعادة أستمع إليه، يقصg عليg بلهجته القسنطينية المحببة

ربع قرن من البعد أيg نبرة فيها، التي لم يطمس!شوقه إلى تلك المدينة.. لقاتلة

إحراجي كل ما قام به روجيه لمساعدتي وكان يزيد .منذ سنوات، عندما وصلت إلى باريس ألستقر فيها

فقد كان له من الصداقات والوساطات، ما يمكن أنFدون أن أطلب منه_ كثيرا_ gل عليgمن المعامالت يسه

.والمشكالت التي تواجه رجالF في وضعي

تعد ولو مرة واحدة لزيارة ذات مرة سألته "لماذا لم قسنطينة؟ أنا ال أفهم خوفك، إن الناس مازالوا

في ذلك الحيg ويذكرونها بالخير.." أذكر يعرفون أهلك الناس وقتها أنه قال لي "ما يخيفني ليس أال يعرفني

ة.. gهناك، بل أال أعرف أنا تلك المدينة.. وتلك األزق

Page 116: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..".بيتي منذ عشرات السنين وذلك البيت الذي لم يعد

ثم أضاف: "دعني أتوهم أن تلك الشجرة مازالت هناك.. وأنها تعطي تيناF كل سنة، وأن ذلك الشباك

وذلك الزقاق.. مازال يطلg على ناس كنت أحبهم الضيق مازال يؤدي إلى أماكن كنت أعرفها.. أتدري..

اإلطالق هو مواجهة الذاكرة إن أصعب شيء على.."بواقع مناقض لها

مكابرة، فأضاف كان في عينيه يومها لمعة دموع بشيء من المزاح "لو حدث وغيرت رأيي، سأعود إلى

..".أن أواجه ذاكرتي وحدي تلك المدينة معك، أخاف

لم اليوم، وبعد عدة سنوات، أذكر كالمه فجأة_ هو الذيFيطرح معي ذلك الموضوع بعد ذلك أبدا_

ذاكرته؟ تراه نجح حقاF في التحايل على وماذا لو كان على حق؟ يجب أن نحتفظ بذكرياتنا في

األولى وال نبحث لها عن قالبها األول وصورتها مواجهة اصطدامية مع الواقع يتحطم بعدها كل شيء

كواجهة زجاجية.. المهم في هذه الحاالت إنقاذ داخلنا.الذاكرة

وشعرت أن هاتف كاترين أقنعني ذلك المنطق، أنقذني بطريقة غير مباشرة من حماقة كنت على

.ارتكابها وشك

لن يكون لتلك اللوحة أية قيمة تأريخية بعد اليوم، إذا شيئاF هنا، أو طمست فيها شيئاF هناك.. أضفت إليها

عندئذ� ستصبح لوحة لقيطة لذاكرة مزوgرة.. وهل يهمأن نكون أجمل؟

نظرت إلى خشبة األلوان التي كانت بيدي. فكgرت أنه ذلك ال بد أن أفعل شيئاF بهذه األلوان.. وبهذه رغم

مثلي لحظة الخلق الفرشاة العصبية التي كانت تترقgب.الحاسمة

وفجأة وجدت الحلg في فكرة بسيطة ومنطقيgة لم

Page 117: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.ببالي تخطر

رفعت تلك اللوحة عن خشبات الرسم، ووضعت أمامها ورحت أرسم دون تفكير، قنطرة لوحة بيضاء جديدة،

.أخرى، بسماء أخرى، بواد� آخر وبيوت وعابرين

هذه المرة، أتوقف عند كل التفاصيل وأكاد أبدأ رحت النهاية، بقدر بها، وكأن أمر الجسر لم يعد يعنيني في

ما تعنيني الحجارة والصخور التي يقف عليها. وتلك تبعثرت أسفله، مستفيدة من رطوبة )أو النباتات التي

حفرتها عفونة( األعماق. وتلك الممرات السرية التي خطى اإلنسان وسط المسالك الصخرية. منذ أيام

من الجسر العجوز )ماسينيسا( وحتى اليوم، في غفلة الذي ال يمكن له في شموخه الشاهق، أن يرى ما

!من أقدامه متر700يحدث على علو

أليس التحايل على الجسور هو الهدف األزلي األوليولد بين المنحدرات.. والقمم؟ لإلنسان الذي

أدهشتني هذه الفكرة التي ولدت في ذهني مصادفة؛ وأدهشني أكثر، كون هذه التفاصيل التي تشغلني

ربع قرن، يوم اليوم بإلحاح، لم تكن تلفت انتباهي منذ.رسمت هذا الجسر نفسه ألول مرة

األولى، محكوماF بالخطوط ترى ألنني كنت في بدايتي العريضة لألشياء كأيg مبتدئ، وأن طموحي آنذاك، لم

يتجاوز رغبتي في إدهاش ذلك الدكتور_ أو إدهاش يكنواحدة؟ نفسي_ ورفع أثقال التحدي بيد�

وإنني اليوم بعد ذلك العمر.. لم يعد يعنيني أن أثبت فقط أن أعيش أحالمي السرية، وأن شيئاF ألحد. أريد

أنفق ما بقي لي من وقت في طرح أسئلة.. كان عليها في الماضي ترفاF.. ليس في متناول الجواب

المجاهد الشباب. وال في متناول.. ذلك المناضل أو..المعطوب الذي ك�نت�ه

كانت ربما ألن الوقت آنذاك لم يكن للتفاصيل، بل.وقتاF جماعياF نعيشه بالجملة، وننفقه بالجملة

Page 118: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الكبرى.. والشعارات الكبرى.. كان وقتاF للقضايا والتضحيات الكبرى. ولم يكن ألحد الرغبة في مناقشة

.الهوامش أو الوقوف عند التفاصيل الصغيرة

!الثورات تراها حماقة الشباب.. أم حماقة

Fكبيرا Fأخذت مني تلك اللوحة، كل أمسية األحد، وقسما ولكنني كنت سعيداF وأنا أرسم، وكأنني كنت. من الليل

لي بعد أسمع صوت الدكتور "كابوتسكي" يعود ليقول".ذلك العمر "ارسم أحبg شيء إلى نفسك

.باالرتباك نفسه وها أنا أطيعه وأرسم اللوحة نفسيها،

ولكن ما رسمته هذه المرة، لم يكن تمريناF في الرسم..تمريناF في الحبg كان

كنت أشعر أنني أرسمك أنتx ال غير. أنت بكل تناقضك. نسخة أخرى عنك أكثر نضجاF.. أكثر تعاريج. أرسم

.نسخة أخرى من لوحة كبرت معك

أرسم تلك اللوحة بشهية مدهشة للرسم. بل كنت..ورب)ما بشهوة ورغبة سرية ما

شهوتك تتسلgل يومها إلى فرشاتي، دون أن فهل بدأت!أدري؟

***

في اليوم التالي، جاءني صوتك في الساعة التاسعةFتماما.

جاء شالل فرح، وشجرة ياسمين تساقطت أزهارها.على وسادتي

أكتشف صوتك على الهاتف، وأنا في فراشي بعد كنت نوافذ ليلة مرهقة من العمل. شعرت أنه يشرع

.غرفتي، ويقبgلني قبلة صباحية

Page 119: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

هل أيقظتك.؟-

توقظيني.. أنت منعتني البارحة من النوم ال أنت لم- !ال أكثر

:المزاح والجدg قلتx بلهجة جزائرية بين

..عالش.. إن شاء الله خير-

:قلت

..حتى ساعة متأخرة من الليل ألنني رسمت-

وما ذنبي أنا؟-

!الملهم.. يا ملهمتي ال ذنب لك سوى ذنب-

صحت فجأة بالفرنسية كعادتك عندما تفقدين:أعصابك السيطرة على

-ah.. non!

xثم أضفت:

!لها من كارثة معك أتمنى أنك لم ترسمني.. يا-

وأين هي الكارثة إن كنت قد رسمتك؟-

:عصبي واصلت بصوت

أأنت مجنون؟ تريد أن تحولني إلى لوحة تدور بها- ج عليها كل من القاعات من مدينة إلى gأخرى، يتفر

!يعرفني؟

من كنت أشعر برغبة صباحية في مشاكستك، ربما فرط سعادتي، وربما ألنني مجنون حقاF، وال أعرف

Page 120: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.اآلخرين كيف أكون سعيداF مثل

:قلت لك

ة.. إن الناس الذين بلهموننا هم أناس- gمر xأما قلت توقفنا أمامهم ذات يوم لسبب أو آلخر، وأنهم ليسوا

يعني شياF، سوى حادثة سير. فإن أكون رسمتك ال!سوى أنني صادفتك يوماF في طريقي ال غير

:صحت

-wأحمق؟. تريد أن تقنع عمي وتقنع اآلخرين أنك أأنت واقفة مثالF رسمتني بعدما صادفتني مرة على رصيف،

أمام ضوء أحمر.. إننا ال نرسم سوى ما يثيرنا.. أو ما!معروف نحبه.. هذا

تراك كنت تستدرجينني إلى ذلك االعتراف، وتدورين الحماقة لتصدgقي زعمي بأنني ال حوله، أم كنت من

أدري ذلك. لكنني وجدت في تلك الفرصة الصباحية،بني وفي gذلك الخيط الهاتفي الذي كان يفصلني ويقر

.لمصارحتك منك في آن واحد.. مناسبة

:قلت

.!لنفترض إذن أنني أحبgك-

الكلمات عليك، وأتوقع عدة أجوبة كنت أنتظر وقع:لكالمي. ولكنك قلت بعد لحظة صمت

!إذن.. أنني لم أسمع ولنفترض-

..أدهشتني التصريح" أقل أو "لم أفهم تماماF إذا كنت تجيدين ذلك

أكثر مما توقعت، أم أنك كعادتك تتالعبين بالكلمات وأنت تدرين أنك تلعبين بأعصابي ال بمتعة مدهشة،

.آخر غير، وتقذفينني من سؤال.. إلى تساؤل

Page 121: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أين نلتقي؟-

كان هذا هو السؤال األهم الذي قررنا أن نجيب عليه.بجدية

تناقشنا طويالF في عنوان مكان آمن يمكن أن نشرب.فيه وجبة الغداء معاF فيه قهوة، أو نتناول

.ولكن باريس ضاقت بنا

األماكن التي يرتادها الطلبة. كنت ال تعرفين غير. قررنا أن gوكنت ال أرتاد غير المقاهي القريبة من حيي

نلتقي في أحد المقاهي المجاورة لبيتي والتي تقدم.وجبات غداء

.إحدى حماقاتي الكبرى وكنت أقترف

Fلذاكرتي مجاورا Fلم أكن أعرف وقتها أنني أختار عنوانا تماماF لعنوان بيتي، وأنني بذلك سأمنح الذكريات حق

.مطاردتي

اآلن، كيف أصبح ذلك المقهى العنوان لم أعد أذكر بعدما تعوgد الدائم لجنوننا. وكيف أصبح تدريجياF يشبهنا،

أن يختار لنا زاوية جديدة كلg مرة، تتالءم مع مزاجنا..شهرين من السعادة المسروقة المتقلgب، خالل

وحسب كنا نلتقي هناك في أوقات مختلفة من النهار،.ساعات دراستك وبرنامج أعمالي

الساعة تعودت أن تطلبيني هاتفياF كل صباح في التاسعة، وأنت في طريقك إلى الجامعة. ونتgفق كل

الذي لم بعد لنا فيه في صباح على برنامج لك اليوم.النهاية من برنامج سوانا

نحو هاوية حبgك، أصطدم كنت أتدحرج يوماF بعد آخر بالحجارة والصخور، وكل ما في طرقي من

أحبك. وال أنتبه إلى آثار مستحيالت. ولكنني كنت

Page 122: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الجراح على قدمي، وال إلى آثار الخدوش على ضميري قبلك إناء بلgور ال يقبل الخدش. وكنت أواصل الذي كان

العشق نزولي معك بسرعة مذهلة نحو أبعد نقطة في.الجنوني

وكنت أشعر أنني غير مذنب في حبgك. على األقل حتى كنت مكتفياF فيها بحبك، بعدما أقنعت تلك الفترة التي

.الحب نفسي أنني ال أسيء إلى أحد بهذا

وقتها لم أكن أجرؤ على أن أحلم بأكثر من هذا. كانت الجارفة التي تعبرني ألول مرة، تكفيني تلك العاطفة

Fوحزناه المتطرف أحيانا ,Fبسعادتها المتطرفة أحيانا ..أخرى

.كان يكفيني الحبمتى بدأ جنوني بك؟

التاريخ وأتساءل.. ترى أفي يحدث أن أبحث عن ذلك ذلك اليوم الذي رأيتك فيه ألول مرة؟ أم في ذلك

ة؟ أم في ذلك اليوم gالذي انفردت بك فيه ألول مر .مرة؟ اليوم الذي قرأتك فيه ألول

أم ترى يوم وقفت فيه بعد عمر من الغربة، ألرسم!مرة فيه قسنطينة.. كأول

.ترى يوم ضحكتx أم يوم بكيت.. أم عندما xصمت� أعندما تحد)ثت.

!أعندما أصبحتx ابنتي.. أم لحظة توه)مت أنك أمي؟.التي أوقعتني؟ أيg امرأة فيك هي

كنت معك في دهشة دائمة. فقد كنت شبيهة بتلك الخشبية التي تخفي داخلها دمية الدمية الروسية

أخرى. وهذه تخفي دمية أصغر، وهكذا تكون سبع دمى!واحدة داخل

xمرة أفاجأ بامرأة أخرى داخلك. وإذا بك gكنت كل مالمح كل النساء. وإذا بي تأخذين في بضعة أيام

محاط بأكثر من امرأة، يتناوبن عليg في حضورك وفي

Page 123: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.فأقع في حبgهن جميعاF غيابك،أكان يمكن لي إذن أن أحبgك بطريقة واحدة؟

.امرأة.. كنت مدينة لم تكوني

مدينة بنساء متناقضات. مختلفات في أعمارهن) وفي؛ في خجلهن) وفي مالمحهن؛ في ثيابهن) وفي عطرهن)

؛ نساء من قبل جيل أمي .إلى أيامك أنتx جرأتهن)

xنساء كلهن أنت.

ابتلعتني كما تبتلع عرفت ذلك بعد فوات األوان. بعدما.المدن المغلقة أوالدها

مدينة تسكنني منذ كنت أشهد تحولك التدريجي إلى..األزل

يوم كنت أشهد تغيرك المفاجئ، وأنت تأخذين يوماF بعد مالمح قسنطينة، تلبسين تضاريسها، تسكنين كهوفها

تزورين أولياءها، تتعطرين وذاكرتها ومغاراتها السرية، ببخورها، ترتدين قندورة عنgابي من القطيفة، في لون

ا"، تمشين وتعودين على جسورها، فأكاد "ثياب gأم .الذاكرة أسمع وقع خلخالك الذهبي يرنg في كهوف

أكاد ألمح آثار الحناء على كعب قدميك المهيأتين.لألعياد

وكنت أنا أستعيد لهجتي القديمة معك. كنت ألفظ التا.الطريقة القسنطينية "تساء" على

كنت أناديك مدلgالF "ياال" كما لم يعد الرجال ينادون.النساء في قسنطينة

كنت أناديك بحنين "يا أميمة" بذلك النداء الذي ورثته.قسنطينة دون غيرها، عن أهل قريش من عصور

دني عشقك من gسالحي األخير، وكنت، كنت عندما يجر أعترف لك مهزوماF على طريقة عشاقنا "نxشتيك.. يعن

Page 124: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ي»نxك ب�و wز."! تلك الكلمة التي كان أصلها "أشتهيك" والتي

معناها األصلي، وتتحول اختصروها منذ زمان لتخفي.إلى كلمة ودg ال غير

تعترف بالشهوة وال تجيز فقسنطينة مدينة منافقة، ال الشوق؛ إنما تأخذ خلسة كل شيء، حرصاF على صيتها،

.المدن العريقة كما تفعلFولذا فهي تبارك مع أوليائها الصالحين.. الزانين أيضا..

اق gوالسر!

ولم أكن سارقاF، وال كنت وليgاF، وال شيخاF يدgعي.لتباركني قسنطينة البركات،

ام؛ بتطرف gأحبك بجنون رس ،Fعاشقا Fكنت فقط، رجال رسام، خلقك هكذا كما يخلق الجاهليون وحماقة

القرابين آلهتهم بيدهم، ثم يجلسون لعبادتها، وتقديم.لها

!وربما كان هذا، أكثر ما كنت تحبgينه في حبgي

:قلت لي ذات يوم

ام. قرأت عن الرسامين gني رسgكنت أحلم أن يحب األكثر جنوناF بين كلg المبدعين. قصصاF مدهشة. إنهم

إنg جنونهم متطرف.. مفاجئ ومخيف. ال يشبه في ما ي�قال عن الشعراء مثالF أو عن الموسيقيين. شيء

غوغان... دالي.... لقد قرأت حياة فان غوغ.. دوالكروا سيزان.. بيكاسو وآخرين كثيرين لم يبلغوا هذه

امين الشهرة. أنا ال أتعب gمن قراءة سيرة الرس.

تقلgبهم في الواقع شهرتهم ال تعنيني بقدر ما يعنينيفهم. تهمني تلك اللحظة الفاصلة بين اإلبداع gوتطر

فجأة خروجهم عن المنطق والجنون. عندما يعلنون واحتقارهم له. وحدها تلك اللحظة تستحقg التأمل

أحياناF، فهم يفعلون ذلك لمجرد تحدgينا واالنبهار.حياتهم وتعجيزنا بلوحة ليست سوى

Page 125: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

هنالك مبدعون، يكتفون بوضع عبقري)تهم في إنتاجهم.ون على توقيع حياتهم أيضاF، وهنالك آخرون، gيصر

بنفس العبقرية، فيتركون لنا سيرة فريدة، غير قابلة..للتكرار أو التزوير

أعتقد أن مثل هذا الجنون ينفرد به الرسامون. وال أن شاعراF يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه فان أظن

عندما قطع غوغ مثالF في لحظة يأس واحتقار للعالم،..أذنه ليهديها إلى غانية

أذكر أو ما فعله ذلك الرسام المجهول الذي لم أعد اسمه، والي شنق نفسه، بعدما عل)ق في سقف غرفته،

قضى أياماF في رسمها. لوحة المرأة التي أحبها والتيع لوحته وحياته gد معها على طريقته.. ووق gوهكذا توح

.واحدة معاF مرة

:قلت�

إن ما يعجبك في النهاية، هو قدرة الرسامين الخارقة- على تعذيب أنفسهم، أو على التمثيل بها.. أليس

.كذلك؟

xأجبت:

ولكن هنالك لعنة ما تالحق الرسامين دون.. ال- فكلgما زاد. غيرهم؛ وهنالك جدلية ال تنطبق إال عليهم

عذابهم وجوعهم وجنونهم، زاد ثمن لوحاتهم. حتى إن خيالية، وكأن عليهم أن موتهم يوصلها إلى أسعار.ينسحبوا لتحلg هي مكانهم

.رأيك لم أناقشك في

رحت أستمع إليك وأنت ترددgين كالماF أعرفه، ولكن.منك فاجأني

لم أتساءل يومها، إن كنت تحبينني الحتمال جنوني، أو تكون نيgتك الالشعورية تحويلي إلى لشيء آخر. وال أن

Page 126: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.لوحة ثمينة أدفع ثمنها من حطامي

عذابي حقاF، من قيمة أية لوحة سأرسمها هل سيزيدجنوني؟ كيفما كان، تحت تأثير جوعي أو نوبة

اكتفيت بالتساؤل.. أين يبدأ الفنg ترى؟.. وأين تبدأعند اآلخرين؟ النزعة السادية

كنت أعتقد أن هذه الجدلية ال عالقة لها باإلبداع وال.وإنما بطبع اإلنسان ال أكثر بالفن،

نحن ساديون بفطرتنا. يحلو لنا أن نسمع عذابات اآلخرين، ونعتقد، عن أنانية، أن الفنان مسيح آخر جاء

.ليصلب مكاننا

ته قد تبكينا، عذابه gيحزننا و يسعدنا في آن واحد. قص تدفعنا إلى إطعام ولكنها لن تمنعنا من النوم، ولن

F أمامنا. بل إننا نجد من فنان آخر، يموت جوعاF أو قهرا تتحول جراح اآلخرين إلى قصيدة نغنيها، الطبيعي أن

.نفسه أو لوحة نحتفظ بها، وقد نتاجر بها، للسببفهل الجنون ق�صر حقاF على الرسامين دون غيرهم؟

Fبين كل� المبدعين، وكل أليس هو قاسما Fمشتركا المسكونين بهذه الرغبة المرضيgة في الخلق؟

ال يمكن بحكم منطق اإلبداع نفسه، أن يكون فالذي عاديg. إنساناF عادياF، بأطوار عادية وبحزن وفرح

.بمقاييس عادية للكسب والخسارة.. للسعادة والتعاسة

مفاجئ، لن يفهمه أحد ولن يجد أحد إنه إنسان متقلgب،.مبرراF لسلوكه

.زياد كان ذلك أول يوم حدgثتك فيه عن:قلت

لقد عرفت شاعراF فلسطينياF كان يدرس في الجزائر.- Fبدخله البسيط كان سعيدا Fبحزنه وبوحدته؛ مكتفيا

الصغيرة، كأستاذ لألدب العربي، وبغرفته الجامعيةنت gين. حتى ذلك اليوم الذي تحسgوبديوانين شعري

Page 127: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

شقة وكان على وشك أحواله المادية، وحصل على الزواج من إحدى طالباته التي أحبgها بجنون، والتي

.أخيراF تزويجها منه قبل أهلها

ر فجأة أن يتخلى عن كل شيء، ويعود إلى gعندما قر ..ليلتحق بالعمل الفدائي بيروت

تلك، عبثاF حاولت إقناعه بالبقاء. لم أكن أفهم حماقته وإصراره على الرحيل عندما أوشك أخيراF أن يحقق

gأي" Fأحالم.. أنا ال أريد أن أحالمه. وكان يجيب ساخرا د.. فعندها لن gأقتل داخلي ذلك الفلسطيني المشر

gشيء أمتلكه من قيمة يكون ألي."..

ويضيف وهو ينفث دخانه على مهل وكأنه يختفي: "ثم.. ال أريد أن أنتمي خلفه كي يبوح لي بسر³

أخاف.. المرأة.. أو إذا شئت ال أريد أن أقيم فيها السعادة عندما تصبح جبرية. هنالك سجون لم تخلق

..".للشعراء

الفتاة التي أحبgته تزورني راجية أن أقنعه وكانت حتفه بالبقاء، وأنه مجنون ذاهب إلى الموت وإلى

المؤكد. ولكن عبثاF، لم تكن هناك حجة واحدة إلغرائه المفاجئ، أصبح يجد في بالبقاء.. بل إنه في تطرفه

.حججي ما يزيده إغراءF بالرحيل

بشيء من السخرية، وكأنه أذكر أنه قال لي يومها:يعطيني درساF في الحياة

المكان ونحن في قمة هناك عظمة ما، في أن نغادر" نجاحنا. إنه الفرق بين عامة الناس.. والرجال

!".االستثنائيين

Fجنونا gكهذا، هو أقل Fشاعرا gسألتك إن كنت تعتقدين أن رسام قطع أذنه؟ من

لقد استبدل براحته شقاءF لم يكن مرغماF عليه..موتاF، دون أن يكون مجبراF عليه واستبدل بحياته

Page 128: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

مهزوماF لقد أراد أن يذهب إلى الموت مكابراF وليس ومكرهاF. إنها طريقته في أن يهزم مسبقاF شيئاF ال

.الموت ي�هزم، وهو

:سألتني بلهفة

هل مات؟-

:قلت لك

يمت.. أو على األقل مازال على قيد ال.. إنه لم- gبها الحياة حتى تاريخ بطاقته األخيرة التي بعث إلي

Fفي رأس السنة، أي منذ ستة أشهر تقريبا.

أفكارنا معاF ذهبت ساد بيننا شيء من الصمت، وكأن..إليه

:قلت لك

في مغادرتي أتدرين أنه كان سبباF غير مباشر- الجزائر؟ معه تعلgمت أنه ال يمكن أن نتصالح مع كل

يسكنوننا، وأنه ال بد أن نضgحي بأحدهم األشخاص الذين طينتنا ليعيش اآلخر. وأمام هذا االختبار فقط نكتشف

األولى، ألننا ننحاز تلقائياF إلى ما نعتقد أنه األهم...غير وأنه نحن ال

:قلت وأنت تقاطعينني

فرنسا؟ صحيح.. نسيت أن أسألك لماذا جئت إلى-

أجبتك وتنهيدة تسبقني، وكأنها تفتح أبواب صدر:الخيبات أوصدته

قد ال تقنعك أسبابي.. ولكنني مثل ذلك الصديق،- القمم التي يسهل السقوط منها. أكره الجلوس على

وأكره خاصة أن يحولني مجرد كرسي أجلس عليه إلى.آخر ال يشبهني شخص

Page 129: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لقد كنت بعد االستقالل أهرب من المناصب السياسية، والتي كان الجميع يلهثون للوصول التي عرضت gعلي

.إليها

أن أقوم فيه بشيء كنت أحلم بمنصب في الظل يمكن من التغيرات دون كثير من الضجيج ودون كثير من

عيgنت كمسؤول عن النشر المتاعب. ولذا عندما والمطبوعات في الجزائر، شعرت أنني خلقت لذلك

قضيت كلg سنوات إقامتي في تونس المنصب. فقد في تعلgم العربية والتعمق فيها، وتجاوز عقدتي القديمة كجزائري ال يتقن بالدرجة األولى سوى الثقافة، الفرنسية. وأصبحت، في بضع سنوات، مزدوج ال أنام قبل أن أبتلع وجبتي من القراءة بإحدى

.اللغتين

بالكتب ومع الكتب. حتى إنني كدت في كنت أعيش فترة ما أنتقل من الرسم إلى الكتابة، خاصة أن

الرسم، كان في نظر البعض آنذاك، شبيهاF بالشذوذ الفني، التي ال الثقافي، وعالمة من عالمات الترف

.عالقة لها بظروف التحرير

.ممتلئاF بالكلمات عندما عدت إلى الجزائر بعدها، كنت وألن الكلمات ليست محايدة، فقد كنت ممتلئاF كذلك

والقيم، ورغبة في تغيgر العقليات والقيام بالمثل فيه الهزات بثورة داخل العقل الجزائري الذي لم تغير

Fالتاريخية شيئا.

أريد أن ولم يكن الوقت مناسباF لحلمي الكبير الذي اليه "الثورة الثقافية". بعدها لم تعد هاتان الكلمتان gأسم

.متفرقتين تعنيان شيئاF عندنا مجتمعتين أو

كانت هناك أخطاء كبرى ت�رتكب عن حسن نية. فلقد بدأت التغيرات بالمصانع، والقرى الفالحية والمباني

.إلى األخير والمنشآت الضخمة، وترك اإلنسان

فكيف يمكن إلنسان بائس فارغ، وغارق في مشكالت

Page 130: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

عقلية متخلفة عن العالم بعشرات يومية تافهة، ذي السنين، أن يبني وطناF، أو يقوم بأية ثورة صناعية أو

زراعية، أو أية ثورة أخرى؟

اإلنسان لقد بدأت كلg الثورات الصناعية في العالم من نفسه، ولذا أصبح اليابان )ياباناF( وأصبحت أوربا ما هي

.اليوم عليه

وحدهم العرب راحوا يبنون المباني ويسمgون الجدران األرض من هذا ويعطونها لذاك، ثورة. ويأخذون

.ويسمgون هذا ثورة إلى أن نستورد حتى الثورة عندما ال نكون في حاجة

أكلنا من الخارج.. الثورة عندما يصل المواطن إلى.التي يسيgرها مستوى اآللة

كان صوتي يأخذ فجأة نبرة جديدة، فيها كثير من التي تراكمت منذ سنين. وكنت المرارة والخيبة

تنظرين إليg بشيء من الدهشة وربما من اإلعجاب.وأنا أحدثك ألول مرة عن شجوني السياسية الصامت،

:سألتني

فرنسا إذن؟ ألهذا جئت إلى-

:قلت

ال.. ولكنني جئت ربما بسبب أوضاع هي نتيجة أخطاء�- رت أن أخرج من الرداءة، من gكهذه، ألنني ذات يوم قر

F إلى قراءتها تلك الكتب الساذجة التي كنت مضطرا ونشرها باسم األدب والثقافة، ليلتهمها شعب جائع

.العلم إلى

كنت أشعر أنني أبيعه معلgبات فاسدة مرg وقت مسؤول بطريقة أو بأخرى استهالكها. كنت أشعر أنني

نه األكاذيب بعدما gعن تدهور صحته الفكرية، وأنا ألق من مثقف إلى شرطي حقير، يتجسgس على تحوgلت

فقد.. الحروف والنقاط، ليحذف كلمة هنا وأخرى هناك

Page 131: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.كنت أتحمل وحدي مسؤولية ما يكتبه اآلخرون إلى مكتبي كنت أشعر بالخجل وأنا أدعو أحدهم

.إلقناعه بحذف فكرة أو رأي كنت أشاركه فيه

ذلك الشاعر الفلسطيني الذي.. ذات يوم، زارني زياد.حدgثتك عنه، والذي لم أكن التقيت به من قبل

اتصلت به ألطلب منه حذف أو تغيير بعض وكنت لي الكلمات التي جاءت في ديوانه، والتي كانت تبدو قاسية تجاه بعض األنظمة.. وبعض الحكام العرب

بتلميح واضح، ناعتاF بالذات، والذين كان يشير إليهم.إياهم بكل األلقاب

.اليوم لم أنسw أبداF نظرته ذلك توقgفت عيناه عند ذراعي المبتورة لحظة، ثم رفع

:وقال عينيه نحوي في نظرة مهينة

ال تبتر قصائدي سيgدي.. ردg لي ديواني، سأنشره في" ".بيروت

شعرت أن الدم الجزائري يستيقظ في عروقي، وأنني مكاني ألصفعه. ثم هدأت من على وشك أن أنهض من

روعي، وحاولت أن أتجاهل نظرته وكلماته.االستفزازية

ما الذي شفع له عندي في تلك اللحظة؟ أو تلك الشجاعة التي لم ترى هويgته الفلسطينية،

يواجهني بها كاتب قبله، أم ترى عبقريgته الشعرية؟ ديوانه أروع ما قرأت من الشعر في ذلك فقد كان

الزمن الرديء. وكنت أؤمن في أعماقي أن الشعراء.كاألنبياء هم دائماF على حق

يت كلماته كصفعة أعادتني إلى الواقع، وأيقظتني تلق) بخجل. لقد كان ذلك الشاعر على حق، كيف لم أكتشف

سنوات سوى تحويل ما أنني لم أكن أفعل شيئاF من يوضع أمامي من إنتاج إلى نسخة مبتورة مشوgهة

مثلي؟

Page 132: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

له متحدياF، وأنا ألقي نظرة غائبة على غالف تلك قلت".حرفياF المخطوطة: "سأنشره لك

كان في موقفي شيء من "الرجولة"، تلك الرجولة أو ال يمكن لموظف مهما كان منصبه الشجاعة التي كان

أن يتحلى بها، دون أن يغامر بوظيفته، ألن الموظgف!النهاية هو رجل استبدل برجولته كرسيgاF في

المتاعب. شعرت أن سبب لي ديوانه عند صدوره بعضله gمن الزيف الذي لم أتحم Fهناك شيئا.

فضح أنظمة دموية قذرة، مازلنا ما الذي يمنعني من، نصمت على جرائمها؟ gباسم الصمود ووحدة الصف

نا أن ننتقد أنظمة دون أخرى حسب ولماذا gمن حق بواخرنا؟ النشرات الجوية، والرياح التي يركبها قبطان

بدأ شيء من اليأس والمرارة يمألني تدريجياF. هل أغير ألستبدل بمشكالتي مشاكل أخرى، وأصبح وظيفتي

هذه المرة طرفاF في لعبة أخرى؟

أفعل بكل ما كدgست وجمعت من أحالم طوال ماذا سنوات غربتي ونضالي، وماذا أفعل بسنواتي

األربعين، وبذراعي المبتورة، وبذراعي األخرى؟

العنيد الذي يسكنني، ماذا أفعل بهذا الرجل المكابر ويرفض أن يساوم على حريته، وبذلك الرجل اآلخر

يعيش ويتعلم الجلوس على المبادئ.. الذي ال بد أن.ويتأقلم مع كل كرسي

.أحدهما ليحيا اآلخر... وقد اخترت كان ال بد أن أقتل

.حياتي كان لقائي بزياد منعطفاF في

اكتشفت بعدها أن قصص الصداقة القوية، كقصص تبدأ بالمواجهة واالستفزاز الحب العنيفة، كثيراF ما

.واختبار القوى

Page 133: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

قوية وبذكاء فال يمكن لرجلين يتمتع كالهما بشخصية وحساسية مفرطة، رجلين حمال السالح في فترات من

لغة العنف والمواجهة، أن يلتقيا حياتهما.. وتعودgا على.دون تصادم

األول.. وذلك التحدي وكان ال بد لنا من ذلك االصطدام.المتبادل لنفهم أننا من طينة واحدة

تدريجياF صديقي الوحيد الذي أرتاح بعدها أصبح زيادFإليه حقا.

نسهر ونسكر معاF، كان نلتقي عدة مرات في األسبوع،، نشتم gعن الفن Fعن السياسة، وكثيرا Fنتحدث طويال

.سعيدين بجنوننا الجميع ونفترق

. كان عمره ثالثين سنة، وديوانين،1973كنا في سنة الست�ين قصيدة، وما يعادلها من األحالم ما يقارب.المبعثرة

قليالF من الفرح وكثيراF من وكان عمري بعض اللوحات،لت بينها منذ gتنق ،Fالخيبات، وكرسيين أو ثالثا

االستقالل، بشيء من الوجاهة، بسائق وسيارة...وبمذاق غامض للمرارة

رحل زياد بعد حرب أكتوبر بشهرين أو ثالثة. ذات يوم، التي كان عاد إلى بيروت لينضمg إلى الجبهة الشعبية

.منخرطاF فيها قبل قدومه إلى الجزائر

لة gكتبه المفض gوالتي كان ينقلها من بلد ترك لي كل إلى آخر. ترك لي فلسفته في الحياة، وشيئاF من

وتلك الصديقة التي كانت تزورني أحياناF الذكريات، لها، لتسأل عن أخباره، تلك التي كان يرفض أن يكتب

.وكانت ترفض أن تنساه

:قلت وأنت تخرجين من صمتك الطويل

لم يكتب لها؟ ولماذا-

:قلت

Page 134: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ربما ألنه كان يكره التحرش بالماضي.. وربما كان- يريد أن تنساه وتتزوج بسرعة، كان يريد لها قدراF آخر

.قدره غير

:سألتني

وهل تزوجت؟-

:قلت

أخبارها منذ عدة سنوات، ومن ال أدري.. لقد فقدت- األرجح أن تكون تزوجت. لقد كانت على قدر كبير من

الجمال. ولكن ال أعتقد أن تكون قد نسيته، من الصعب..أن تنساه على امرأة عرفت رجالF مثل زياد

.شعرت في تلك اللحظة، أنك ذهبت بعيداF في أفكاركبدأت تحلمين به؟ تراك كنت قد

تراني قد بدأت يومها باقتراف حماقاتي، الواحدة تلو وأنا أردg بعد ذلك على أسئلتك الكثيرة حوله، األخرى،

في آن واحد؟ بأجوبة تثير فيك فضول األنثى والكاتبة

حدgثتك عن قصائده كثيراF، وعن ديوانه األخير، الذي كما يطلق بعضهم الرصاص في األعراس كتب قصائده

Fأو قريبا Fعوا حبيباgوالمآتم ليشي.

هو يشيgع صديقاF قديماF اسمه الشعر، ويقسم أنه كان.بسالحه لن يكتب بعد اليوم سوى

في الواقع، لم يكن ذلك الرجل يكتب. كان فقط يفرغFوثورة في وجه الكلمات رشاشه المحشو غضبا.

كان يطلق الرصاص على كل شيء حوله.. بعدما لم!في شيء يعد يثق

Fآخ.. كم كان زياد مدهشا!

Page 135: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

مدهشاF حقاF، وأنني كنت ال بد أن أعترف اليوم أنه كان أحمق. كان ال بد أن أحدثك عنه وأنا أتوهم أن الجبال ال

..تلتقي

لماذا كنت أحدثك عنه بتلك الحماسة، وبتلك الشاعرية؟

أريد التقرب إليك به، وأقنعك من خالله أن لي أكنت بذلك في قرابة سابقة بالكتاب والشعراء، فأكبر

عينيك؟

أم كنت أصفه لك في صورته األجمل، ألنني كنت اليوم أنني أشبهه، وأنني كنت أصف أعتقد حتى ذلك

..لك نفسي ال غير

Fولكن.. ربما كان كل هذا حقا.. كنت أريد أيضاF، أن تكتشفي العروبة في رجال

.األمة استثنائيين، كما لم تنجب هذه

رجال ولدوا في مدن عربية مختلفة، ينتمون إلى أجيال سياسية مختلفة، ولكنهم جميعاF مختلفة، واتجاهات

لهم قرابة ما بأبيك.. بوفائه وشهامته، بكبريائه..وعروبته

.جميعهم ماتوا أو سيموتون من أجل هذه األمة تنغلقي في قوقعة الوطن الصغير، وأن كنت ال أريد أن

بة لآلثار والذكريات، في مساحة gمدينة تتحولي إلى منق .واحدة

فكل مدينة عربية اسمها قسنطينة. وكل عربي ترك ليموت من أجل قضية، كان خلفه كل شيء وذهب

..يمكن أن يكون اسمه الطاهر.به وكان يمكن أن تكون لك قرابة

كنت أريد أن تمألي رواياتك بأبطال آخرين أكثر مراهقتك السياسية، واقعية، أبطال تخرجين معهم من

.ومراهقتك العاطفية

Page 136: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

عرفتx رجاالF مثل ألم أقل لك ذلك اليوم _بحماقة_ "لو زياد.. لما أحببت بعد اليوم "زوربا" ولما كنت في حاجة

أبطال وهميين. هنالك في هذه األمة أبطال إلى خلق..".الكتgاب جاهزون بفوقون خيال

لم أكن أتوقع يومها أن يحصل كل الذي حصل، وأن إلى منقب يبحث بين أكون أنا الذي سيتحوgل ذات يوم

سطورك عن آثار زياد، ويتساءل من منgا أحببت أكثر،..ضريحك األخير، وروايتك األخيرة ولمن بنيت

ألي.. أم له؟

قبلة على خدgي. وقلت في ذلك اليوم، وضعتx فجأة:بلهجة جزائرية ونحن على وشك أن ننهض للذهاب

.."انحبك.. خالد"

توقف كل شيء لحظتها حولي، وتوقف عمري على أن أحتضنك، أو أقبgلك.. أو شفتيك. وكان يمكن وقتها

.أردg عليك بألف.. ألف أحبك أخرى دهشتي، وطلبت من النادل قهوة ولكنني جلست من

:أخرى، وقلت لك أول جملة خطرت آنذاك في ذهني

"لماذا اليوم بالذات؟"

:أجبتني بصوت خافت

إنها أول مرة منذ ثالثة. ألنني اليوم أحترمك أكثر- أشهر تحدثني فيها عن نفسك. اكتشفت اليوم أشياء

أكن أتصور أنك حضرت إلى باريس لهذه مدهشة. لم الشهرة أو األسباب. عادة يأتي الفنانون هنا بحثاF عن

الكسب ال أكثر. لم أتوقع أن تكون تخليت عن كل شيء..الصفر هنا هناك، لكي تبدأ من

حاF لكالمك :قاطعتكx مصح�

Page 137: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

نبدأ من الصفر أبداF عندما لم أبدأ من الصفر.. نحن ال- F. إننا نبدأ من أنفسنا فقط. أنا نسلك طريقاF جديدا

.من قناعاتي بدأت

شعرت يومها أننا ندخل مرحلة أخرى من عالقتنا، وأنك فجأة كل قناعاتي، وشكل طموحاتي عجينة تأخذ

.وأحالمي القادمة

Fرت جملة قرأتها يوماgفي كتاب عن الرسم ألحد تذك اد تقول gالنق:

صورة شخصيgة إنg الرسام ال يقدم لنا من خالل لوحته" عن نفسه. إنه يقدم لنا فقط مشروعاF عن نفسه

".لمالمحه القادمة ويكشف لنا الخطوط العريضة

.وكنتx أنتx مشروعي القادم ومدينتي القادمة. كنت أريدك كنت مالمحي القادمة،.األجمل، أريدك األروع

وجهي تماماF، وقلباF آخر، كنت أريد لك وجهاF آخر، ليس ليس قلبي، وبصمات أخرى، ال عالقة لها بما تركه

.جسدي وروحي من بصمات زرقاء الزمن على

يومها عرضت عليك بعد شيء من التردgد، أن تزوري.ذات يوم مرسمي، ألريك ما رسمته في األيام األخيرة

دون تردد أو خوف. فقد وكنت سعيداF أن تقبلي عرضي كنت أحرص على أال تسيئي الظنg بي. وكنت قررت أن

.العرض نهائياF إذا ما ضايقك ألغي ذلك

عليها ولكنك فاجأتني وأنت تصيحين بفرح طفلة ع�رض:زيارة مدينة لأللعاب

!أو... رائع يسعدني حقاF أن أزوره-

اليوم التالي، طلبتني هاتفياF لتخبريني أن عندك في.خاللهما ساعتين وقت الظهر، يمكنك أن تزوريني

وضعت السماعة.. ورحت أحلم، أسبق الساعات،

Page 138: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.وأسبق الزمن

في بيتي.. أحقاF سيحدث هذا؟ أنت

ين جرس هذا الباب، ستجلسين على هذه gستدق Fأحقا .األريكة، ستمشين هنا أمامي

؟ xأنت F .. أخيرا xأنت

جوارك، وليس مقابالF لك. أخيراF لن أخيراF سأجلس إلىاد يالحقنا نادل بطلباته وخدماته. لن تالحقنا عيون gرو

.المقهى، وال عيون الغرباء من المارة

ونفرح، دون أن يكون أخيراF يمكننا أن نتحدث، أن نحزن.من شاهد على تقلباتنا النفسية

لك مسبقاF، وأنا أجهل رحت من فرحي أشرع الباب.أنني أشرع قلبي للعواطف والزوابع

بك إلى هنا، أن أفتح لك عالمي أيg جنون كان.. أن آتي.البيت السريg اآلخر، أن أحوgلك إلى جزء من هذا

هذا البيت الذي أصبح جنgتي في انتظارك، والذي قد.بعدك يصبح جحيمي

gوأحمق كأي Fهذا؟ أم كنت سعيدا ggأكنت عندئذ� أعي كل موعده القادم؟ عاشق� ال يرى أبعد من

تساءلت بعدها.. إن كنت حقاF ال أريد غير إطالعك علىيgة للجنون لوحتي gاألخيرة.. وعلى حديقتي السر.

رسمتها لها اعتذارا تذكgرت كاترين، وتلك اللوحة التي ألنني ذات يوم، كنت عاجزاF عن أن أرسم شيئاF آخر غير

بينما كان اآلخرون يتسابقون في رسم جسدها وجهها،.الجميلة العاري، المعروض للوحي في قاعة للفنون

تذكgرت يوم عرضت عليها أن تزورني ألريها تلك..اللوحة

Page 139: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أتوقع أن تكون تلك اللوحة البريئة، سبباF بعد ذلك لم.سنين في عالقة غير بريئة دامت

أليس في دعوتي لك لزيارة مرسمي، شيء من قلgةل، ورغبة سرية gالستدراج الظروف ألشياء أخرى؟ التعق

وهي تراني كنت أفعل ذلك، وأنا أستعيد جملة كاترين، تستسلم لي في ذلك المرسم، وسط فوضى اللوحات

المتgكئة على الجدران، المرسومة، واللوحات البيضاء:وتقول لي بإشارة متعمدة

..بالحب هذا مكان يغري-

:فأجبتها بشيء من الواقعية

..اليوم لم أكن أعرف هذا قبل-

فهل كان مرسمي يغري بالحب؟ أم أن في كل مكانبالجنون؟ للخلق جاذبية ما تغري

ولكن، ورغم هذا كنت أدري أنك لم تكوني كاترين.. فبيننا من الحواجز ما لن يحطمه أيg. ولن تكونيها

..جنون

الزيارة، أستعيد ذلك اليوم، بعد ستg سنوات على تلكاته النفسية gاليوم، وكأنني أعيشه مرة أخرى، بكل هز

.المتقلبة

ها أنت تدخلين في فستان أبيض )لماذا أبيض؟(، الطابق العاشر. يسبقك القلب إلى يسبقك عطرك إلى

.المصعد ويهرول أمامك

على خدك.. وإذا بي أصافحك ها أنا أكاد أضع قبلة(.)لماذا أصافحك؟

فتأتي الكلمات أسألك هل وجدت البيت بسهولة بالفرنسية )لماذا أيضاF بالفرنسية؟( تراني كنت أبحث

Page 140: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

يgة أو gجرأة أكثر، داخل تلك اللغة الغريبة عن عن حر تقاليدي وحواجزي النفسية؟

.األريكة جلستx على تلك:قلت وأنت تلقين نظرة عامة على غرفة الجلوس

أتصور بيتك هكذا. إنه رائع ومؤثث بكثير من لم أكن- !الذوق

:سألتك

تتصورينه إذن؟ كيف كنت-

:أجبتني

.بفوضى.. وبأشياء أكثر-

:ضاحكاF قلت لك

لست في حاجة إلى أن أسكن شقة مغبgرة، بأشياء- فنgاناF. إنها فكرة أخرى خاطئة عن كثيرة مبعثرة ألكون

امين. أنا مسكون بالفوضى، ولكنني ال أسكنها gالرس بالضرورة. إنها طريقتي الوحيدة، في وضع شيء من

.الترتيب داخلي

الشقة الشاهقة، ألن الضوء يؤثثها لقد اخترت هذه وهو كل ما يلزم للرسام، فاللوحة مساحة ال تؤثث

.بالفوضى وإنما بالضوء ولعبة الظل واأللوان

ودعوتك للخروج إلى فتحت نافذتي الزجاجية الكبيرة،.الشرفة

:قلت

الذي يربطني بهذه انظري هذه النافذة، إنها الجسر- المدينة. من هنا، من شرفتي أتعامل مع سماء باريس

.المتقلgبة

Page 141: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كل صباح تقدم لي باريس نشرتها النفسية، فأجلس ألتفرج عليها وهي تنقلب من طور هنا في الشرفة

.إلى آخر

النافذة، ويحدث أن يحدث كثيراF أن أرسم أمام هذه أجلس في الخارج ألتفرج على نهر السين، وهو يتحول

.بدموع مدينة تحترف البكاء إلى إناء يطفح

Fة المطر قريبا gيحلو لي الجلوس هنا على حاف Fومحميا منه في آن واحد. منظر المطر يستدرجني ألحاسيس

.متطرفة

ليشعر أنه في عنفوان الشباب عند نزول إن اإلنسان" "المطر

تصلين لتمطر، وقلت عندئذ�، نظرت إلى السماء وكأنك: بالعربية

وأنت؟.. إن المطر يغريني بالكتابة-

".وكنت على وشك أن أجيبك " وأنا يغريني بالحب

السماء. كانت صافية زرقاء كسماء نظرت طويالF إلى.حزيران

ألنني تعودت أن كان زرقتها تضايقني فجأة، ربما.أراها رمادية

ي، لو أمطرت لحظتها؛ gلو وربما ألنني تمنيت في سر .تواطأت معي ورمتك إلى صدري عصفورة مبللة

.هذا ولم أقل لك شيئاF من كل

.نقلت نظرتي من السماء إلى عينيك شعرت أنني أتعرف. كنت أراهما ألول مرة في الضوء

.عليهما

Page 142: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ارتبكت أمامهما كأول مرة. كانتا أفتح من العادة،.أجمل من العادة وربما

كان فيهما شيء من العمق والسكون في آن واحد...البراءة، والمؤامرة العشقية شيء من

تراني أطلت النظر إليك؟ سألتني بطريقة من يعرفFالجواب مسبقا:

لماذا تنظر إليg هكذا؟-

.كموسيقى عزف منفرد كان صوتك بالعربية يأتي

:وجدت الجواب في قصيدة، حفظت مطلعها ذات يوم

عيناك غابتا نخيل ساعة السحرالقمر أو شرفتان راح ينأى عنهما

:سألتني مدهوشة

!أتعرف شعر السياب أيضاF؟. عجيب-

:في جواب مزدوج قلت

".أعرف "أنشودة المطر-

تلك اللحظة بالذات، عرت أنك ربما أحببتني أكثرFاب أيضاgوكأنني أصبحت في نظرك السي.

فيها ببيت شعر، أو بمقولة ما وككل مرة أفاجئك:باللغة العربية، سألتني

هذا؟ متى قرأت-

:أجبتك هذه المرة

أنا لم أفعل شيئاF عزيزتي سوى القراءة. ثروة-

Page 143: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

اآلخرين تعدg باألوراق النقدية، وثروتي بعناوين الكتب. كلg ما وقعت عليه أنا رجل ثري كما ترين.. قرأت

!.يدي.. تماماF كما نهبوا كل ما وقعت عليه يدهم

وأنت تحدقين في ذلك الجسر الحجري بعدها قلت الرمادي، الذي يجري تحته نهر السين بزرقة صيفية

:استثنائية

أنت محظوظ بهذا المنظر، جميل أن تطلg شرفتك- اسم هذا الجسر؟ على نهر السين، ما

:قلت

قد" إنه جسر ميرابو. اكتشفت أخيراF أن " أبولينير- خلgد هذا الجسر في قصائده، عثرت على بعضها منذ

مولعاF به. إن الشعراء أيام في ديوان له. يبدو أنه كان مثل الرسامين لهم عادة ال تقاوم في تخليد كل مكان

عبروه بحب. بعضهم خلgد ضيعة مجهولة، سكنوه أو وآخر مقهى كتب فيه يوماF، وثالث مدينة عبرها

.مصادفة، وإذا به يقع في حبها إلى األبد

:سألتني

الجسر؟ وهل رسمت أنت هذا- -Fأجبتك متنهدا:

ما رأيناه ال.. ألننا ال نرسم بالضرورة ما نرى.. وإنما- يوماF ونخاف أال نراه بعد ذلك أبداF. وهكذا قضى

مدن مغربية لم يسكنها )دوالكروا( عمره في رسم سوى أيام، وقضى )أطالن( عمره في رسم مدينة

.قسنطينة واحدة.. هي

لم أكن أعي هذه الحقيقة قبل أن أقف منذ شهرين مقابالF لهذه النافذة، ألرسم بشيء من في هذه الغرفة

.التوتر االستثنائي لوحتي األخيرة عيناي تريان جسر ميرابو ونهر السين. ويدي كانت

.أخرى ترسم جسراF آخر ووادياF آخر لمدينة

Page 144: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وعندما انتهيت، كنت رسمت قنطرة سيدي راشد وأدركت أننا في النهاية ال. ووادي الرمال.. ال غير

.نرسم ما نسكنه.. وإنما ما يسكننا

:بلهفة سألتنيهل يمكن أن أرى هذه اللوحة؟-

:قلت وأنا أقودك إلى مرسمي

-Fطبعا.

وقفت أمام تلك الغرفة الشاسعة المألى باللوحات. الجدران، وإلى ما اتكأ من اللوحات رحت تنظرين إلى

أرضاF بدهشة طفل في مدينة سحرية. ثم قلت:باالنبهار نفسه

كم هو رائع كلg هذا.. أتدري؟ لم يحدث أن زرت- ..اليوم مرسماF قبل

كنت أودg أن أقول لك " ولم يحدث أن زارته امرأة".اليوم قبلك، قبل

ولكن لوحة كاترين المستندة على الجدار ذكgرتني هنا. ذهب فكري عندها بعض بمرور امرأة أخرى من

:الوقت عندما قلتx فجأة

حدgثتني عنها؟ وأين هي اللوحة التي-

أخذتك إلى الطرف اآلخر للقاعة، كانت اللوحة ما تزال على خشبات الرسم، وكأنها تلغي بوضعها منتصبة

.حولها المميز ذاك، كل اللوحات األخرى المبعثرة

هنالك عالقة عشقية ما بين أيg رسام ولوحته األخيرة. عاطفي صامت، لن يكسره سوى دخول هنالك تواطؤ

.لوحة عذرا أخرى إلى دائرة الضوء

Page 145: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الكاتب ال يعرف كيف يقاوم النداء فالرسام مثل اإلبداعي الموجع للgون األبيض، واستدراجه إياه للجنون

.كلما وقف أمام مساحة بيضاء

اللون كيف إذن، ما زلت أقاوم منذ شهرين تحدي األبيض وإغراء كل اللوحات التي أشهرت في وجهي

بياضها؟

أرسم شيئاF بعد لوحتي هذه، ولماذا، رفضت أنلت أن أبقيها هكذا على الخشبات نفسها، ألشهد gوفض

أنها كانت سيدتي، وسيدة كل ما حولي من لوحات، لها جدار كما تحال وكأنني أرفض أن أحيلها إلى ركن أو

.عشيقة عابرة

أيمكن ذلك.. وهي التي أعطتني من النشوة، ما لمتعطنيه حتى النساء؟

ربما.. ألنه لم يحدث قبلها أن مارست الحب رسماF.. مع!الوطن

:قلت وأنت تتأملينها

ولكنها تختلف" إنها مشابهة للوحتك األولى "حنين- عنها، في الكثير من التفاصيل.. وخاصة في األلوان

استعملتها، إنها تعطيها نضجاF.. الترابية الخام التي.وحياة أكثر

:إليك قلت وأنا أنقل نظري منها

-xلقد بعثت فيها الحياة.. إنها أنت.

أنا؟-

يوم قلت لك على الهاتف، لقد سهرت أتذكرين- .البارحة حتى ساعة متأخرة من الليل ألرسمك

اتgهمتني يومها بالجنون وخفت أن أكون قد فضحت يعرف أحد أنك مالمحك. ال تخافي، لن أرسمك أبداF ولن

Page 146: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.أيضاF عبرت حياتي ذات يوم. إن للفرشاة شهامة

:وأضفت

أنت مدينة.. ولست امرأة، وكلما رسمت قسنطينة..أنت، ووحدك ستعرفين هذا رسمتك

قلت فجأة وأنت تشيرين بنظرة من عينيك إلى لوحة:كاترين

وهي؟-

كان في سؤالك شيء من عناد األطفال وأنانيتهم،.عناد النساء وغيرتهنg وشيء من

:قلت وأنا أرفع تلك اللوحة من األرض

.هذه اللوحة حقاF؟ هل تزعجك-

:أجبت بشيء من الكذب الواضح

..ال-

وأنا أشعر أنني قادر في تلك اللحظة على أن واصلت:أرتكب أي جنون

..أمامك إذا شئت سأتلفها-

:صحت

!ال، أأنت مجنون-

:قلت بهدوء

مجنوناF.. وهذه اللوحة ال تعني شيئاF بالنسبة لست- .عابرة لي. إنها امرأة عابرة، في مدينة

:قلتx بابتسامة مربكة وأنت تتأملينها

Page 147: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أليس كذلك؟.. إنها مدينتك األخرى-

من أين جئت بتلك الرصاصة األخيرة، لتطلقيها علىاللوحة؟ تلك

:اعترفت لك بتلميح واضح

األخرى.. أو إذا ال.. ليست مدينتي، إنها وسادتي- !شئت سريري اآلخر فقط

وجنتيك، وأن شعرت أن شيئاF من الحمرة قد عال عواطف وأحاسيس متناقضة قد عبرتك، وتركت آثارها

.في لحظات على مالمحك التي تغيgرت

:ثم تمتمت بهدوء وكأنك تتحدثين إلى نفسك

!يهم ال-...

:قلت لك وأنا أمسكك من ذراعك

امرأة واحدة تستحق ال تغاري من هذه اللوحة. هنالك- ..أن تغاري منها في هذا البيت، هي هذه

الذي أشرت إليه. كان ثمgة تمثال نظرت نحو المكان.ينتصب على األرض في حجم امرأة

:بتعجgب قلت

هذه.. لماذا هذه؟-

:قلت

ارتحت لها حتى اآلن، ألنها المرأة الوحيدة التي- والتي قاسمتني معظم سنوات غربتي. كنت في

مصغرة. وقررت منذ سنتين السابق أملك منها نسخة.أن أهدي نفسي تمثالها في حجمه األكبر

Page 148: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

نوبات جنوني. ولكنني لم أندم على كانت تلك إحدىF. أنا بذراع واحدة وهي بال اقتنائها، إنها تشبهني كثيرا

ذراعين. لقد فقدنا أطرافنا في أزمنة مختلفة، ألسباب معاF، لن تمنعنا عاهتنا من مختلفة. ولكننا صامدان

.الخلود

.لم تعلgقي على كالمي

تصدقي ذلك. أن يعيش رجل مع تمثال يبدو أنك لم المرأة، ضرب من الجنون أليس كذلك؟ حتى لو كان

اماF، وكانت المرأة فينوس ال غير gالرجل رس!

بالعبقرية التي المشكلة معك.. أنك كنت مأخوذة تالمس الجنون. ولكنك كنت أعقل من أن تكشفيها.

أعطيك دليالF على جنوني، لم تكوني ولذا كلما أردت أنFتصدقيني تماما.

تسترقين النظر إلى لوحة رحتx فقط بحماقة أنثى،.فهمك كاترين، وكأنها وحدها تعنيك. ورحت أنا أحاول

ما الذي كان يزعجك في تلك اللوحة؟ هل وجودها في بحضورها الصامت الذي يذكgرك بمرور تلك اللحظة بيننا

واإلغراء امرأة أخرى في حياتي؟ أم شقرة تلك المرأة، االستفزازي لشفتيها وعينيها المختفيتين خلف

خصالت شعر فوضوي؟

تغارين من اللوحة أم من صاحبتها؟ وكيف يكون أكنت رسمتها من حقك أن تعاتبيني على لوحة واحدة

المرأة، دون أن يكون لي الحق في أن أحاسبك على الرجل الذي عذgبتني به كل ما كتبته قبلي، وعلى ذلك

صدقاF أم كذباF؟

:تأملتها قليالF ثم قلت. عادت عيناك إلى اللوحة األخيرة

!إذن هذه.. أنا-

:قلت

Page 149: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

تكوني أنت، ولكن هكذا أراك، فيك شيء من ربما لم- تعاريج هذه المدينة؛ من استدارة جسورها، من

شموخها، من مخاطرها، من مغارات وديانها، من هذا أنوثتها وإغرائها النهر الزبديg الذي يشطر جسدها، من

.السري ودوارها

:قاطعتني مبتسمة

يمكن لك أن تجد قرابة بيني وبين أنت تحلم.. كيف- هذا الجسر؟

أنني ال أحب كيف خطرت فكرة كهذه بذهنك؟! أتدري سوى الجسور الخشبية الصغيرة تلك التي نراها في

مرشوشة بالثلج والفضة، تعبرها بطاقات نهاية السنة، العربات الخرافية. وأما جسور قسنطينة الجديدة

المعلgقة في الفضاء، فهي جسور مخيفة.. حزينة. ال أو حاولت مرة أكر أنني عبرتها مرة واحدة راجلة،

واحدة النظر منها إلى أسفل.. إال شعرت بالفزع.والدوار

:قلت ولكن الدوار هو العشق؛ هو الوقوف على حافة-

ال يقاوم؛ هو التفرج على العالم من السقوط الذي نقطة شاهقة للخوف؛ هو شحنة من االنفعاالت

واألحاسيس المتناقضة، التي تجذبك لألسفل واألعلىFأسهل من الوقوف في وقت واحد، ألن السقوط دائما

على قدمين خائفتين! أن أرسم لك جسراF شامخاF كهذا، أنك دواري. إنه ما لم يقله لك يعني أن أعترف لك

.رجل  قبلي

وتكرهي الجسور؛ أنا ال أفهم أن تحبgي قسنطينة وتبحثي عن اإلبداع، وأنت تخافين الداور. لوال الجسور

المدينة. ولوال شهقة الدوار، لما أحبg لما كانت هذه.أحد.. أو أبدع

، gلم تنتبهي كنت تستمعين إلي Fوكأنك تكتشفين شيئا .له من قبل برغم بساطته

Page 150: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:قلت غير أنك

ربما كنت في النهاية على حق، ولكنني كنت أفضل- الجسر. إن أي امرأة تتعرف لو رسمتني أنا وليس هذا

ها أن يخلgدها، أن يرسمها gعلى رسام، تحلم في سر أن يرسم مدينتها؛ تماماF كما أنg أيg رجل هي.. ال

شيئاF، وليس يتعرف على كاتبة، يتمنى أن تكتب عنه عن شيء آخر له عالقة به. إنها النرجسية.. أو الغرور

.تفسير لها أو أشياء أخرى ال

.فاجأني اعترافك. شعرت بشيء من الخيبة

مزوgرة عنك إذن؟ أحقg أنه ليس بينك هل رسمت نسخة وبين هذا الجسر من قرابة؟ أكانت هذه اللوحة نسخة طبق األصل عن ذاكرتي.. وأن حلمك في النهاية، أن

أن تتحولي تصبحي نسخة أخرى عن كاترين ال غير، إلى لوحة عادية، مفضوحة المزاج، ووجه بكثير من

وجهه؟ المساحيق، يشبه

فw من هذه العقدة؟ ترانا لم نwش»

:اليأس قلت لك بشيء من

.إذا كان هذا ما تريدين.. سأرسمك-

:ما أجبتني بصوت فيه خجل

أعترف أنني منذ البداية، كنت أحلم أن ترسمني أنا..- اللوحة عندي كذكرى، شرط أال تضع وأن أحتفظ بهذه

..عليها توقيك إذا أمكن

الضحك، أو على األرجح برغبة في شعرت برغبة في.لألشياء الحزن، وأنا أكتشف ذلك المنطق العجيب

كان من حقي إذن أن أوقع الرموز واللوحات التي شبه. وأما أنت فليس في وسعي ليس بينها وبينك من

Page 151: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أن أضع أسفل رسمك توقيعي. أنت المرأة الوحيدة أحببتها، لن يقترن اسمي بك ولو مرة واحدة، التي

حتى في أسفل لوحة؟

يشترون توقيعي فقط، وليس هناك إذن الذين.توقيع لوحاتي. وهناك أنت التي تريدين لوحتي دون

وهنالك أنا.. المجنون العنيد الذي يرفض هذا المنطق ويرفض باسم الحبg أن يحولك إلى الجديد لألشياء،

لوحة لقيطة، ال نسب لها وال صاحب. يمكن أن تتبنgاها.أية ريشة وأي رسام

:حيgرك صمتي.. قلت شبه معتذرة

ترسمني؟ هل يزعجك أن-

Fقلت ساخرا:

ال.. كنت أكتشف فقط مرة أخرى، أنك نسخة طبق- األصل عن وطن ما، وطن رسمت مالمحه ذات يوم.

انتصاراتي. هنالك ولكن آخرين وضعوا إمضائهم أسفل إمضاءات جاهزة دائماF لمثل هذه المناسبات. فمن

دائماF من يكتب التاريخ، وهنالك من األزل، كان هنالكعه، ولذا أنا أكره اللوحات الجاهزة gللتزوير يوق.

تراك فهمت كل ما قلته لك لحظتها؟

السياسي. لقد كان كلg ما بدأت أشكg فجأة في وعيك.يهمgك في النهاية، هو موضوع لوحتك ال غير

:تغادرين المرسم قلت وأنت

أتدري أننا لن نلتقي لمدة شهرين؟ سأسافر األسبوع- ..إلى الجزائر القادم

:صحت وأنا أستوقفك في الممر

Page 152: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

تقولين؟ أحق  ما-

:قلت

طبعاF أنا أقضي دائماF عطلتي الصيفية مع والدتي في- الجزائر. وال بدg أن أعود األسبوع القادم مع عمي

.باريس وعائلته.. لن يبقى أحد هنا في

وقفت مذهوالF وسط الممشى. أمسكت بذراعك:وسألتك بحزن وكأنني أمنعك من الرحيل،

وأنا..؟-

F. أعتقد أننا- سنتعذgب بعض أنت.. سأشتاق إليك كثيرا الشيء.. إنه فراقنا األول. ولكن سنحتال على الوقت

gبسرعة ليمر.

ثم أضفتx بلهجة من يريد أن يحل مشكلة، أو ينتهي:منها بسرعة

-..Fال تحزن.. يمكنك أن تكتب لي أو تطلبني هاتفيا .سنبقى على اتصال

.حافة البكاء كنت على كطفل أخبرته أمه أنها ستسافر دونه. وكنت أنت

ين لي ذلك الخبر، gبشي من السادية التي تزف .أدهشتني. وكأن عذابي يغريك بشيء ما

ثوبك كطفل وأجهش بالبكاء؟ هل أمسك بأطراف هل أتحدث إليك ساعات، ألقنعك أنني لن أقدر بعد

على العيش بدونك، وأن الزمن بعدك ال يقاس اليومأدمنتك؟ بالساعات وال باأليام، وأنني

كيف أقنعك أنني أصبحت عبداF لصوتك عندما يأتي علىFلضحكتك، لطلتك، لحضورك األنثوي الهاتف؟ عبدا

، لتناقضك التلقائيg في كل شي وفي كل gالشهي عبد  لمدينة أصبحت أنت، لذاكرة أصبحت أنت،. لحظة

Page 153: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F .لكل شي لمسته أو عبرته يوما

الحزن يهجم عليg فجأة، وأنا واقف هكذا في ذلك كان.يصدق الممر أتأملك بذهول من ال

وكنت قريبة مني حد االلتصاق، كما لم يحدث أن كنته مالمحك عن شيء يفضح لي في تلك يوماF. بحثت في

Fاللحظة عواطفك؛ لكنني لم أفهم شيئا.

عطرك الذي كان يخترق حواسي ويشلg عقلي، أتراه كنت أعي هو الذي جعلني عندئذ� ال أتعمgق في البحث؟

فقط أنك بعد لحظات ستكونين بعيدة، بقدر ما كنت.ساعتها قريبة

.وجهك نحوي رفعت كنت أريد أن أقول لك شيئاF لم أعد أذكره. ولكن قبل

كلمة، كانت شفتاي قد سبقتاني وراحتا أن أقول أيgة تلتهمان شفتيك في قبلة محمومة مفاجئة. وكانت ذراعي الوحيدة تحيط بك كحزام، وتحولك في ضمة

.واحدة إلى قطعة مني

قليالF بين يدي كسمكة خرجت لتوgها من البحر، انتفضتgثم استسلمت إلي.

الحالك، ينفرط فجأة على كتفيك كان شعرك الطويل شاالF غجرياF أسود، ويوقظ رغبة قديمة إلمساكك منه، بشراسة العشق الممنوع. بينما راحت شفتاي تبحثان

شفتيك عن طريقة تتركان بها توقيعي على.المرسومتين مسبقاF للحب

..كان ال بدg أن يحدث هذا

الظالل على عينيك، والحمى على أنت التي تضعينFشفتيك بدل أحمر الشفاه، أكان يمكن أن أصمد طويال

وجه أنوثتك؟ ها هي سنواتي الخمسون تلتهم في، وها أنا gى تنتقل إليgأذوب شفتيك، وها هي الحم

.أخيراF في قبلة قسنطينية المذاق، جزائرية االرتباك

بل الغربة لو تدرين. ال أجمل من حرائقك.. باردة  ق�

Page 154: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الدفء. بارد  باردة  تلك الشفاه الكثيرة الحمرة والقليلة.ذلك السرير الذي ال ذاكرة له

دعيني أخبgئ رأسي. دعيني أتزود منك لسنوات الصقيع.في عنقك. أختبئ طفالF حزيناF في حضنك

الهارب لحظة واحدة، وأحلم دعيني أسرق من العمر.أن كل هذه المساحات المحرقة.. لي

،Fقسنطينة فاحرقيني عشقا! شهيgتين شفتاك كانتا، كحبgات توت نضجت على مهل.

.ياسمين تفتحت على عجل عبقاF جسدك كان، كشجرة جائع أنا إليك.. عمر من الظمأ واالنتظار. عمر من

والحواجز والتناقضات. عمر من الرغبة ومن العقد المكبوتة. الخجل، من القيم الموروثة، ومن الرغبات

.عمر من االرتباك والنفاق

.على شفتيك رحت ألملم شتات عمري قبلة منك اجتمعت كلg أضدادي وتناقضاتي. في

لرجل آخر، واستيقظ الرجل الذي قتلته طويالF مراعاة.كان يوماF رفيق أبيك.رجل  كاد يكون أباك

ºعلى شفتيك و�لدت� ومت Fفي وقت� واحد. قتلت رجال .وأحييت آخر

هل توقgف الزمن لحظتها؟ أخيراF بين عمرينا، هل ألغى ذاكرتنا بعض هل سوgى

الوقت؟..ال أدري

أدريه، أنك كنت لي، وأنني كنت أريد أن كلg الذي كنت أصرخ لحظتها كما في إحدى صرخات "غوته" على

!".لسان فاوست "قف أيها الزمن.. ما أجملك

كالعادة. يتآمر ولكن الزمن لم يتوقف. كان يتربص بي عليg كالعادة. وكنت بعد لحظات تتأملين ساعتك في

ارتباكك، وتذكيري بضرورة عودتك إلى محاولة إلخفاء.الجامعة

أخيرة عرضت عليك فنجان قهوة في محاولة

Page 155: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.الستبقاك قلت وأنت أمام المرآة تضعين شيئاF من الترتيب في

:شعرك وتعيدين جمعه مظهرك، وتصففين

FF إذا أمكن- ..أفضل شيئاF باردا

الصالون وذهبت إلى المطبخ. تعمدت أال تركتك في قبلي أستعجل في العودة، وكأنني فجأة أخجل من آثار

.على شفتيك

وعندما عدت بعدها، كنت أمام المكتبة تلقين نظرة الكتب، وتقلgبين بعضها. ثم سحبت من على عناوين

إلى أحد الرفوف كتاباF صغيراF، سألتني وأنت تنظرين:غالفه

أليس هذا الديوان لصديقك الشاعر الذي حدgثتني- عنه؟

Fفي ذلك الموضوع مخرجا Fأجبتك بسعادة وأنا أجد أخيرا :الرتباكي

-gتجدينه على الرف Fنعم.. هناك ديوان آخر له أيضا .نفسه

:قلت

هل اسمه زياد الخليل؟ لقد سمعت هذا االسم قبل- .اليوم

قلبتx الكتاب. رأيتك تتأملين طويالF صورته على ظهر:بعض السطور.. ثم قلت الكتاب. تقرئين

أيمكن لي أن أستعير منك هذين الديوانين؟. أفضgل- أقرأهما على مهل هذا الصيف، فليس لي ما أن

.أطالعه

:بحماقة أجبتك بحماسة، أو

Page 156: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

طبعا، إنها فكرة جيدة.. أنا واثق أن هذين الديوانين- تأثيرهما على كتاباتك. ستجدين أشياء رائعة سيتركان

gالقادم". إنه خاصة في الديوان األخير "مشاريع للحب .أجمل ما كتب زياد

كنت. رحت بسعادة تخفين الكتابين في حقيبة يدك.وقتها في سعادة طفلة تعود إلى بيتها بلعب� أحبgتها

في ذلك الحين، أنني سأكون بعد طبعاF، لم أكن أعي ذلك لعبتك األخرى، وأن هذين الكتابين سيتركان

.تأثيرهما أيضاF على مجرى قصتنا

كنت تستعيدين تدريجياF وجهك العادي ومالمحك.الطبيعية

وكأن زوبعة حبgي لم تمرg بك. فهل كان ذلك تمثيالF أمحقيقة؟

حاولت أن أنسى خيبتي معك، أمام تلك اللوحة التي زيارتك. حاولت أيضاF أن أخفgف كانت السبب األول في

. من خيبتك:قلت

..تسليتي في هذا الصيف سأرسمك، ستكون لوحتك-

:ثم أضفت دون أية نية خاصة

مرة أخرى لتجلسي أمامي، حتى يجب أن تزوريني- أتمكن من رسمك. أو تعطيني صورة لك أنقل عنها

.مالمحك

:قلتx وكأن الجواب كان جاهزاF لديك

الوقت ألعود إليك هذه لم يبقw أمامي متgسع من- األيام، وليس في حوزتي أية صورة. يمكنك أن تستعين

الموجودة على ظهر كتابي، في انتظار أن بصورتي.أعود

Page 157: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الحين أيضاF، إذا كان في أعترف أنني لم أفهم في ذلك جوابك شيء من التلميح لي بأنك لن تعودي إلى هذا

أنك كنت تجيبيني بتلقائية بريئة ال أكثر؟ البيت، أم

ين عليg أن gأرسمك؟ ألست أنت التي كنت تلح فلماذا حوgلت هذه اللوحة إلى قضية شخصية أنا وحدي

معنيg بها؟

أناقشك كثيرا. كنت أدري أنني في جميع الحاالت لم لك طلباF، سأرسمك. ربما ألنني ال أعرف كيف أرفض

وربما ألنني ال أعرف كيف سأقضي الصيف دون.رسماF استحضارك ولو

ذهبت ذلك اليوم بعدما وضعت قبلتين على خدgي، يعد ممكناF بعد قبلتنا أن ووعدتني بلقاء قريب. لم

..نتصافح

عالقتنا، ولم يعد كنت أعي أنg شيئاF ما قد تغيgر في ممكناF بعد اليوم لذلك المارد الذي انطلق فجأة من

يعود إلى قلب الزجاجة التي أغلقناها عليه أعماقنا، أن.ألسابيع كاملة

معك في بضع لحظات من الحب كنت أعي أنني أنتقل إلى العشق. من العاطفة البريئة إلى الشهوة، وأنه

الصعب، بعد اليوم، أن أنسى مذاق قبلتك، سيكون من.وحرارة جسدك الملتصق بي للحظات

دامت قبلتنا تلك.. دقيقتين؟ ثالثاF؟ أم خمس دقائق كمللجنون ال غير؟

تفعل تلك الدقائق القليلة كل الذي حلg بي أيمكن أنبعد ذلك؟

خمسين سنة من عمري؟ أيمكن أن تلغي خمس دقائق،

وكيف لم أشعر بعدها بأيg إحساس بالندم، بأيg خجل

Page 158: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ذكرى سي الطاهر؟ أنا الذي كنت أقترف يومها تجاه.للخيانة أول خيانة بالمفهوم األخالقي

.ال.. لم يكن في قلبي سوى الحب

بالشهوة، بالجنون. كنت أخيراF كنت ممتلئاF بالعشق، سعيداF. فلماذا أفسد سعادتي بالندم، بالتساؤالت التي

ستوصلني إلى التعاسة؟

ال أذكر من قال " الندم هو الخطأ الثاني الذي نقترفه.." ولم يكن في القلب مساحة أخرى ولو

.الحبg صغيرة، يمكن أن يتسلل منها شيء آخر غير؟Fذلك جنونا gألم يكن كل.

F إلى ذلك الحدg، كيف سمحت لنفسي أن أكون سعيدا وأنا أدري أنني لم أمتلك منك شيئاF في النهاية، سوى

المسروق، وأن أمامي متسعاF من بضع دقائق للفرحالعمر.. للعذاب؟

الفصل الرابع

كان لرحيلك مذاق الفجيعة األولى. والوحدة التي لوحة يتيمة على جدار، أحالتني في أيام إلى مرتبة

Fتحضرني جملة تبدأ بها رواية أحببتها يوما..

الله! فهو عظيم بقدر ما أنا وحيد. إني ألرى ما أعظم".."المؤلف فيبدو لي كلوحة

أنا في عزلتي ووحدتي، ذلك المؤلف وتلك وكنت كنت معلgقاF اللوحة معاF. فما أكبر وأبرد ذلك الكون الذي

!على جداره، في انتظارك والعاطفية كنت أدخل بعدك منحدرات الخيبات النفسية

في الوقت نفسه. وأعيش ذلك القلق الغامض، الذي

Page 159: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لي. وكنت أقوم تلقائياF يسبق ويلي دائماF كل معرض.بجردة ألفراحي وخيباتي

F. لم تهتم به غير صحافة فرنسية انتهى معرضي إذاة كالعادة. وبعض المجالت العربية المهاجرة gمختص.

أن أقول إنه حصل على تغطية إعالمية ولكن يمكن فني كافية، وأن الذين كتبوا عنه أجمعوا على أنه حدث

.عربي في باريس وحدها الصحافة الجزائرية تجاهلته، عن إهمال ال غير،

جريدة ومجلة أسبوعية واحدة، كتبتا عنه. كالعادة بطريقة مقتضبة. وكأنهما تعانيان فعالF من قلة

.الصفحات، وليس من قلة المواد الصحافية

الذي وعدني بينما لم يحضر ذلك الصديق الصحافي، بالحضور إلى باريس لقضايا شخصية، وإلجراء مقابلة

نفسها. ورغم أنني رجل غير مطوgلة معي بالمناسبة مولع باألضواء، والجلوس لعدة ساعات إلى صحافي

نفسي، فإنني كنت أتمنى أن تتم تلك للحديث عن الشخص المقابلة، ألتمكن أخيراF من الحديث مطوgالF إلى

.الوحيد الذي كان يعنيني حقاF.. القارئ الجزائري

ليخبرني أنه اضطر للبقاء في عبد القادر طلبني الجزائر، لتغطية مهرجان ما من أحد المهرجانات التي

ازدهرت هذه األيام، ألسباب غامضة يعلمها الله...وآخرون

هناك من مقارنة بين مهرجان ولم أعتب عليه.. ليس أو ملتقى رسمي، يتم إعداده واإلنفاق عليه بالعملة

وبين أي معرض مهما كان اسم صاحبه، الصعبة.والسنوات التي أخذتها منه تلك اللوحات

النهاية ال يمكن حتى أن أعتب على الصحافة في.الجزائرية

للوحات الفنية من متعة أو ماذا يمكن أن يقدم معرض ترفيه للمواطن الجزائري الذي يعيش على وشك

االنتحار، وال وقت له للتأمل أو التذوق، االنفجار، بل

Page 160: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الراي(. يمكن )والذي يفضgل على ذلك مهرجاناF ألغنيةFأن يرقص.. ويصرخ.. ويغني فيها حتى الفجر، منفقا

الشعبية المشبوهة، ما تجمgع في على تلك األغانيليبيدو"؟ "جيبه من دينارات، وما تراكم في جسده من

تلك "الثروة" الوحيدة التي يملكها شبابنا حقاF، والتي يدري أين ينفقها خارج األسواق السوداء.. كعملتنا.للبؤس

.غيره بعضهم أدرك هذا قبل

، وفي عزg الفراغ والبؤس الثقافي الذي1969سنة أحدهم في بضعة أيام، أكبر كان يعيشه الوطن، اخترع

مهرجان عرفته الجزائر وإفريقيا، كان اسمه اإلفريقي األول"، دعيت إليه قارة وقبائل "المهرجان

أحياناF_ في إفريقية بأكملها لتغني وترقص _عارية!شوارع الجزائر لمدة أسبوع كامل على شرف الثورة

أنفقت وقتها، على مهرجان للفرح ظلg كم من ماليين األول واألخير. وكانت أهم إنجازاته التعتيم على

محاكمة قائد تاريخي كان أثناء ذلك، يستجوب ويعذgب.الثورة نفسها رجاله في الجلسات المغلقة.. باسم

ودون أن تكون لي صداقة ما بذلك القائد، الذي كان أيضاF، وال أيg عداء خاص لذلك الحاكم اسمه الطاهر

F أيضاF، بدأت أعي لعبة الذي كان يوماF مجاهداF وقائدا السلطة، وشراهة الحكم. وأصبحت أحذر األنظمة التي

والمؤتمرات.. إنها دائماF تخفي تكثر من المهرجانات!.شيئاF ما

ذلك الحين، فهل هي مصادفة أن تبدأ مشكالتي منويولد أول مذاق للمرارة في حلقي يومها؟

بعد أشهر، اعتذر لي عندما التقيت بذلك الصديق.بأسف صادق، ووعدني أال يفوgت معرضي القادم

:كتفه ضاحكاF وقلت ربgتg على

Page 161: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ال يهم.. بعد أيام لن يذكر أحد اسم ذلك المهرجان.- !التاريخ سيذكر اسمي ال محالة ولو بعد قرن ولكن

:الجد قال لي بمزاح� ال يخلو من

أتدري أنك مغرور؟-

:أجبته

محقوراF" فنحن ال نملك "أنا مغرور لكي ال أكون- الخيار يا صاحبي. إننا ننتمي إلى أمة ال تحترم مبدعيها

فقدنا غرورنا وكبريائنا، ستدوسنا أقدام األميين وإذا!والجهلة

مغروراF حقاF؟ تساءلت بعدها أأكون

Fاكتشفت بعد شيء من التفكير، أنني ال أكون مغرورا أقف أمام لوحة بيضاء وأنا ممسك بفرشاة. إال لحظة

وأفضg كم بلزمني من الغرور لحظتها ألهزم بياضها بكارتها، وأتحايل على ارتباكي بفائض رجولتي،

فرشاتي؟ وعنفوان

..ولكن ما أكاد أنتهي منها، وأمسح يدي من كل ما علق بها

حتى أرتمي على األريكة المجاورة، وأتأملها من ألوان كان يعرق مدهوشاF، وأنا أكتشف أنني الوحيد الذي

..وينزف أمامها

!مخيف وأنها أنثى عربية تتلقى ثورتي ببرود وراثي

ولذا، حدث في لحظات انهياراتي وخيباتي الكبرى.. gقت إحداهن gوألقيت بها في سلة المهمالت، أن مز

.بعدما أصبح وجودها يضايقني

السذاجة والبرودة بحيث تخلق هنالك لوحات هي من!عندك عقدة رجولة.. وليس فقط عقدة إبداع

Page 162: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ذلك، لن يعرف أحد هذا. وربما لن يتوقع ضعفي ورغم.وهزائمي السرية أحد 

لن يروا غير انتصاراتي، معلgقة على فاآلخرون الجدران في إطار جميل. وأما سالل المهمالت،

فستبقى دائماF في ركن من مرسمي وقلبي، بعيدة.عن األضواء

مساحة بيضاء للخلق، ال بدg أن يكون فالذي يجلس أمام.إلهاF أو عليه أن يغgير مهنته

إلهاF؟ أنا الذي حولني حبك إلى مدينة إغريقية، أأكون الشاهقة المتآكلة لم يبق منها قائماF غير األعمدة

األطراف؟

هل يفيد شموخي، وملح حبك يفتت أجزائي من كل يوم؟ شهران.. وال شي سوى رقم هاتفي الداخل

.الفرشاة مستحيل.. وكلمات تركتها لي تجفg لها

.وإذا بالصمت يصبح لوني المفضل

.والكتابة كما أردتها أنت كنت أدرى جدلية الرسم

كنت تفرغين من األشياء كلما كتبتx عنها، وكأنك تقتلينها بالكلمات. وكنت كلما رسمت امتألت بها أكثر،

تفاصيلها المنسية. وإذا بي وكأنني أبعث الحياة في أزداد تعلقاF بها، وأنا أعلقها من جديد على جدران

.الذاكرة

،Fأن أرسمك، أليس يعني أن أسكنك غرف بيتي أيضا قلبي؟ بعدما أسكنتك

رت في البدء أال أرتكبها. ولكنني اكتشفت gحماقة قر .قراري ليال بعد آخر عبثية

لماذا كان الليل هزيمتي؟

Page 163: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ألن للفن أألنني كلما خلوت بنفسي خلوت بك، أم طقوس الشهوة السرية التي تولد غالباF ليالF في ذلك

..الزمن الزمان الخارج عنوالخارج عن القانون؟

تلغيه على حافة العقل والجنون.. في ذلك الحد الذي..العتمة والفاصل بين الممكن والمستحيل

..كنت أقترفك

.بشفتي حدود جسدك كنت أرسم.أرسم برجولتي حدود أنوثتك

..الفرشاة أرسم بأصابعي كل ما ال تصله

يك gبيد واحدة كنت أحتضنك.. وأزرعك وأقطفك.. وأعر .تضاريس جسدك لتصبح على مقاييسي وألبسك وأغيgر

..يا امرأة على شاكلة وطن

بطولة أخرى. دعيني بيدx واحدة أغير امنحيني فرصة للذgة! مقاييسك للرجولة ومقاييسك للحب.. ومقاييسك كم من األيدي احتضنتك دون دفء! كم من األيدي

عنقك، وإمضاءها تتالت عليك.. وتركت أظافرها على.أسفل جرحك. وأحبتك خطأ.. وآلمتك خطأ

والقراصنة.. وقاطعوا الطرق. ولم أحبك السراق.تقطع أيديهم

أصبحوا ذوي ووحدهم الذين أحبوك دون مقابل،.عاهات

.لهم كل شيء، وال شيء غيرك لي

ليلة. فمن سيأخذ طيفك مني؟ من أنت لي الليلة ككل سيصادر جسدك من سريري؟ من سيسرق عطرك من

سيمنعني من استعادتك بيدي الثانية؟ حواسي؟ ومن السرية أنت لذgتي السرية، وجنوني السري، ومحاولتي

.لالنقالب على المنطق

Page 164: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كلg ليلة تسقط قالعك في يدي، ويستسلم حراسك وتأتين في ثياب نومك لتتمددي إلى جواري، لي،

على فأمرر يدي على شعرك األسود الطويل المبعثر وسادتي، فترتعشين كطائر بلgله القطر. ثم يستجيب

.جسدك النائم لي

هذا.. وما الذي أوصلني إلى هذا الجنون؟ كيف حدث

اإلدمان، صوتك الذي ترى صوتك الذي تعودت عليه حد كان يأتي شالل حبg وموسيقى، فيتدحرج قطرات لذة

؟ gعلي

"هاتف يسأل "واشك؟ حبك

يدثرني ليالF بلحاف من القبل. يترك جواري عينيه.شوق، عندما تنطفئ األضواء قنديل

يخاف عليg من العتمة، يخاف عليg من وحدتي ومن شيخوختي. فيعيدني إلى الطفولة دون استشارتي.

يغنgي لي أغنيات. يقصg عليg قصصاF يصدgقها األطفال.ينام لسماعها األطفال

أيضاF؟ ت�رى أكان يكذب؟ هل تكذب األمهات

!هذا ما ال يصدقه األطفال

جنوني؟ ما الذي أوصلني إلى

ترى قبلتك المسروقة من المستحيل. وهل تفعلgهذا؟ القبل كل.

بل غيرت عمراF ولم أصدgق ..أذكر أنني قرأت عن ق�

لنيتشه فبلسوف القوة والرجل الذي نظر كيف يمكن واحدة، طويالF للجبروت والتفوق أن يقع صريع قبلة

"سرقها مصادفة في زيارة سياحية إلى معبد، صحبة

Page 165: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

Lou "من كاتب وشاعر في المرأة التي أحبها أكثر Fل فيها طويال gعصرها. كان أحدهم " أبولينير" الذي تغز

هذا الجسر نفسه، واجداF في اسمها وبكاها أمام دليالLoup "F " المطابق بالفرنسية تماماF السم الذئب

قاطعا على قدره معها؟

أن أما )نيتشه( القائل "عندما تزور امرأة ال تنس تصحب معك العصا" فقد كان أمامها رجالF محطما،

قالت يوماF "لم تترك ضعيفاF، وبدون إرادة. حتى إن أمه هذه المرأة أمام ابني سوى اختيار من بين ثالثة: إما

!".يتزوجها.. أو ينتحر.. أو يصبح مجنوناF أن

أخجل من كان هذا حال "نيتشه" يوم أحب. فهل ضعفي معك، وأنا لست فيلسوفاF للقوة، ولست

األسطورية بسبب شمشون الذي فقد شعره وقوتهقبلة؟

هل أخجل من قبلتك، وهل أندم عليها، أنا الذي بدأعلى شفتيك؟ عمري

ال أدري كيف شفي "نيتشه" من امرأة لم يتزوجها. هلمجنوناF؟ انتحر أم أصبح

أدري فقط، أنني قضيت شهرين وسط تقلgبات نفسية فيها شيئاF يشبه الجنون، ذلك متناقضة، كدت أالمس

،Fلين لي به كثيرا gالجنون الذي كان يغريك، وكنت تتغز .وتعتبرينه الصك الوحيد الذي يشهد للفنان بالعبقرية

اليوم، بعد كل تلك السنوات، فليكن.. سأعترف لك أنني وصلت معك يوماF إلى ذلك الحد المخيف من

.الالعقل أكان عشقاF فقط، أم ألهديك ال شعورياF اللعبة التي لم

عليها بعد: ذلك الرجل المجنون الذي تكوني قد حصلت.تحلمين به

قصتي معك فصال حدث كثيراF وقتها، أن استعدت.فصال

Page 166: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كنت كل مرة أقع على استنتاجات متناقضة. مرة يبدو قصة أسطورية أكبر منك ومني. شيئاF ربما لي حبك

قسنطينة كان مقدراF مسبقاF منذ قرون، منذ.. كانت(.مدينة تدعى )سيرتا

ذاكرته ومرة أتساءل، ماذا لو كنت رجالF استوقفتكوأغراك جنونه بقصة ما؟

تحلمين ماذا لو كنت مجرد ضحية لجريمة أدبية ما،بارتكابها في كتاب قادم؟

"ثم فجأة تطغى طفولتك على الجانب "اإلجرامي فيك، فأذكر أنني كنت أيضاF نسخة عن والدك. وأنني

ذاك الجسر السري بسبب قبلة حمقاء نسفت إلى األبد.الذي كان يجمعنا

نومي آنذاك، كنت أقرر االعتذار منك. وأستيقظ من وأتجه إلى مرسمي. أجلس طويالF أمام لوحتك البيضاء

أبدأك؟ وأتساءل: من أين

أتأمل طويالF صورتك، على ظهر روايتك التي أهديتنيها أن وجهك ال عالقة له بالصورة. دون إهداء. أكتشف

فكيف أضع عمراF لوجهك الجديد والقديم معاF. كيفعنك نسخة دون أن أخونك؟ أنقل

أتذكر وسط ارتباكي ) ليوناردو دافنشي(، ذلك الرسام العجيب الذي كان قادراF على أن يرسم بيده اليمنى

تراه رسم ويده اليسرى باإلتقان نفسه. بأي يد )الجوكندا( ليمنحها الخلود والشهرة؟ وبأي يد يجب أن

أنا؟ أرسمك

ماذا لو كنت المرأة التي ال ترسم إال باليد اليسرى، تلكيدي؟ التي لم تعد

خطر ببالي مرة أن أرسمك بالمقلوب. وأجلس ألتفرج أخيراF سرك. فربما كانت هذه عليك عساني أكتشف

Page 167: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.الطريقة الوحيدة لفهمك

تلك للوحة مقلوبة في فكرت حتى في إمكانية عرض".معرض. سيكون اسمها "أنت

يعجبون بها، دون أن سيتوقف أمامها الكثيرون. وقد.يتعرف أحدهم تماما عليك

!النهاية؟ أليس هذا ما تريدين في

***

يأتي مرg أكثر من أسبوع، وأكثر من نشرة جوية قبل أن:صوتك ذات صباح دون مقدمات

كيف أنت؟-

يتوقع هدية صباحية كتلك. اندهش القلب الذي لم:وارتبك الكالم

وينك؟-

قريباF أو هكذا خيgل لي. ولكنك أجبتني كان صوتك يبدو:بضحكة أعرف مراوغتها

!تحزر حاول أن-

:أجبتك كمن يحلم

هل عدتx إلى باريس؟-

:وقلت ضحكت

أي باريس.. أنا في قسنطينة. جئت هنا منذ أسبوع- القريبات.. وقلت ال بد أن أطلبك ألحضر زواج إحدى

Page 168: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

من هنا. طمgني عنك ماذا تفعل في هذا الصيف.. ألمتسافر إلى أيg مكان؟

:اختصرت عذابي في بضع كلمات قلت

جدg متعب.. كيف لم تتصلي بي حتى.. إنني متعب- اآلن؟

شيخ فقلت وكأنك طبيب سيكتب وصفة لمريض، أو:يطلب منه كتابة حجاب أو تعاويذ سحرية

قريباF.. يجب أن سأكتب لك.. والله سأكتب لك- تعذرني. أنت ال تدري كم الحياة هنا مزعجة وصعبة. إن

لنفسه في هذه المدينة ولو لحظة. حتى الواحد ال يخلو..الكالم على الهاتف مغامرة بوليسية

وماذا تفعلين؟-

ال شيء.. أنتقل من بيت إلى آخر، ومن دعوة إلى- المدينة لم أتجول فيها على قدمي، لقد أخرى. حتى

..عبرتها بالسيارة فقط

:تذكرت فجأة شيئاF هاماF ثم أضفت وكأنك

أتدري.. أنت على حق. إن أجمل ما في قسنطينة،- ..جسورها ال غير. لقد ذكرتك وأنا أعبرها

تحبينني؟" ولكنني كنت أود تلك اللحظة لو سألتك "هل:سألتك بحمافة

.هل تحبينها؟-

الصمت، وكأنني طرحت عليك أجبتني بعد شيء من:سؤاالF يستدعي التفكير

..أحبها ربما بدأت-

Page 169: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:قلت

-Fشكرا..

:المكالمة ضحكت.. قلت وأنت تنهين

!أيها األحمق.. لن تتغير-

***

عينيه المرء يفتح شباكه لينظر إلى الخارج.. ويفتح لينظر إلى الباطن.. وما النظر سوى تسلقك الجدار

..".الحرية الفاصل بينك وبين

في ذلك الصباح، أشعلت سيجارة صباحية على غير شرفتي أمام فنجان قهوة، عادتي. وجلست على

.ميرابو أتأمل نهر السين، وهو يتحرك ببطء تحت جسر

ني ذلك الصباح gكانت زرقته الصيفية الجميلة، تستفز .فجأة بالعيون الزرق التي ال أحبها دون مبرر. تذكرني

العداء على هذا أترى ألنه ال نهر في قسنطينة.. أعلنتالنهر؟

.عجل نهضت دون أن أكمل سيجارتي. كنت فجأة على

فليكن.. عفوك أيها النهر الحضاري. عفوك أيها الجسر صديقي )أبولينير(. هذه المرة أيضاF التاريخي. عفوك

.سأرسم جسراF آخر غير هذا

ممتلئاF بك، بصوتك القادم من هناك، كنت هذه المرة.ليوقظ من جديد تلك المدينة داخلي

أكن قد لمست الفرشاة من ثالثة أشهر. وكان ألم داخلي شيء ما على وشك أن ينفجر بطريقة أو

Page 170: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

بأخرى. كل تلك األحاسيس والعواطف المتضاربة، التي تراكمت داخلي عشتها قبل رحيلك وبعده، والتي

.كقنبلة موقوتة

Fوكان ال بد أن أرسم ألرتاح أخيرا.

ملء يدي.. ملء أصابعي. أرسم بيدي الموجودة أرسم بتناقضي وبتلك المفقودة. أرسم بكل تقلباتي،

وجنوني وعقلي، بذاكرتي ونسياني. حتى ال أموت إال من السواح قهرا ذات صيف، في مدينة فارغة

.والحمام

وهكذا بدأت ذلك الصباح لوحة لقنطرة جديدة، قنطرة.سيدي راشد

لم أكن أتوقع يومها وأنا أبدأها، أنني أبدأ أغرب تجربة حياتي، وأنها ستكون البداية لعشر لوحات رسم في

أخرى، سأرسمها في شهر ونصف دون توقف، إالFلسرقة ساعات قليلة من النوم، أنهض منها غالبا

.مخطوفاF بشهية جنونية للرسم األلوان تأخذ فجأة لون ذاكرتي، وتصبح نزيفاF كانت

.يصعب إيقافه

لوحة حتى تولد أخرى، وما أنتهي ما كنت أنتهي من من حيg حتى يستيقظ آخر، وما أكاد أنتهي من

..حتى تصعد من داخلي أخرى قنطرة،

Fجسرا ،Fحجرا ..Fكنت أريد أن أرضي قسنطينة حجرا.. F.. حياF.. حياF، كما يرضي عاشق جسد امرأة لم تعد جسرا

.له

Fبفرشاتي، وكأنني أعبرها كنت أعبرها ذهابا Fوإيابا ووديانها. بشفاهي. أقبgل ترابها.. وأحجارها وأشجارها

بالF ملونة. أرشها بها ع عشقي على مساحتها ق� gأوز Fوحبا ..Fوجنونا ..Fحتى العرق شوقا.

وكنت أسعد وذلك القميص يلتصق بي، بعد ساعات من

Page 171: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.بها االلتحام

العرق دموع الجسد. ونحن في ممارسة الحب كما في جسدنا من أجل أية امرأة. وال ممارسة الرسم، ال نبكي

.من أجل أية لوحة. الجسد يختار لمن يعرق سعيداF أن تكون قسنطينة، هي اللوحة التي بكى وكنت

.لها جسدي

من الصيف، كنت ما أزال أتوقع في ذلك الشهر األخير رسالة منك، تعطيني شيئاF من القوة والحماسة اللتين

افتقدتهما خالل الشهرين الماضيين لغيابك. عندما.فاجأتني رسالة من زياد

رسائله القادمة من بيروت تدهشني دائماF حتى كانت.قبل أن أفتحها

مرة، كيف وصلت هذه الرسالة إلى كنت أتساءل كل هنا؟ من أي مخيم أو من أية جبهة، تحت أي سقف

يكون قد كتبها؟ أي صندوق أودعها، وكم من مدمر صندوق ساعي بريد تناوب عليها حتى تصل هنا، داخل

بريدي.. بالحي السادس عشر بباريس؟

تذكرني بزمن كنت أعاملها دائماF بحب خاص. كانت حرب التحرير، يوم كنا نبعث الرسائل ألهلنا مهربة

.تحت الثياب

من الرسائل لم تصل، وماتت مع أصحابها! وكم من كم قصص تصلح الرسائل وصلت بعد فوات األوان. هنالك

.ألكثر من رواية

.السنة آخر رسالة لزياد كانت تعود لما يقارب

كان يحدث أن يكتب لي هكذا دون مناسبة، رسائليها مطوgلة أحياناF، وموجزة gأخرى، كان يسم Fأحيانا

"."إشعار بالحياة

التي يريد أن يخبرني في البدء ضحكت لهذه التسمية.بها فقط أنه مازال على قيد الحياة

Page 172: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

صمته الطويل، وانقطاع رسائله. بعدها أصبحت أخاف.فقد كان يحمل لي احتمال إشعار بشيء آخر

المرة، كان يريد أن يخبرني أنه قد يحضر إلى هذه جواباF سريعاF مني باريس في بداية أيلول. وأنه ينتظر

.ليتأكد من وجودي في باريس في هذه الفترة

.رسالته.. وأسعدتني وأدهشتني فاجأتني

ذهب تفكيري إليك وقلت "طويل عمر هذا الرجل.. ما كدت أذكره معكx حتى حضر". ثم تساءلت تراك قرأت

فعلك إذا أشعاره؟ وهل أعجبتك؟ وماذا سيكون رد قلت لك إنه سيحضر إلى باريس، أنت التي خفت أن

اهتماماw بقصته؟ يكون قد مات، وأبديت

كان الصيف ينسحب تدريجياF. وكنت أستعيد توازنيFكذلك تدريجيا.

لقد أنقذتني تلك اللوحات من االنهيار. كان ال بد أن تلك المطبات الجنونية التي وضعت أرسمها ألخرج من.عليها قدميg معك

وزني. ولكن لم يكن ذلك فقدت كثيراF من كنت قد يعنيني. أو ربما لم أكن وقتها ألنتبه له، بعدما أصبحت

إلى اللوحات، وأنسى أن أنظر إلى نفسي في أنظر.مرآة

وزن في أيام، هو كنت أعتقد أن الذي خسرته من الذي ربحته من مجد إلى األبد. ولذا كان يحلو لي أن

وجنوني معلgقاF أمامي: إحدى عشرة لوحة أتأمل نزيفي.لم تعد تكفيها جدران البيت

تعلgقي بها، كذلك، لكوني كنت أدري وأنا وربما جاء قد تمر أضع فرشاتي آلخر مرة وأنا أنتهي منها، أنه

.عدة أشهر قبل أن أشعر برغبة جديدة في الرسم

Page 173: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.من ذاكرتي.. وارتحت فقد كنت فرغت مرة واحدة كنا على أبواب أيلول. وكنت سعيدا أو ربما في حالة

.للسعادة ترقgب

F.. كنت أنتظر الخريف كما لم أنتظره ستعودين أخيرا الثياب الشتوية المعروضة في من قبل. كانت

الواجهات تعلن عودتك. اللوازم المدرسية التي تمأل.المحالت، تعلن عودتك رفوف

والريح، والسماء البرتقالية.. والتقلبات الجوية.. كلها.كانت تحمل حقائبك

..ستعودين

مع المحافظ مع النوء الخريفي، مع األشجار المحمرة،.المدرسية

..ستعودين

زحمة مع األطفال العائدين إلى المدارس، مع السيارات، مع مواسم اإلضرابات، مع عودة باريس إلى

.ضوضائها

.الغامض.. مع المطر مع الحزن

.مع بدايات الشتاء.. مع نهايات الجنون

لي.. يا معطفي الشتوي.. يا طمأنينة العمر ستعودين.الثلجية المتعب.. يا أحطاب الليالي

أكنت أحلم؟. كيف نسيت تلك المقولة الرائعة ألندريهأفراحك!" كيف نسيت نصيحة كهذه؟ جيد "ال تهيئ

كنتx في الواقع امرأة زوبعة. تأتي وترحل وسط.األعاصير والدمار. كنتx معطفاF لغيري وبرداF لي

.بدل أن تدفئني كنتx األحطاب التي أحرقتني

Page 174: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

xكنت أنت.

..وكنت أنتظر أيلول إذن

لنتحدث أخيراF بصدق مطلق. ماذا تريدين أنتظر عودتك وما اسم.. مني بالتحديد. ومن أكون أنا بالنسبة إليك

قصتنا هذه؟

.أخطأت مرة أخرى

كان وقتا لجنون. لم يكن الوقت للسؤال وال للجواب.آخر

كنت أنتظر األمان. وجئت، زوبعة صادفت زوبعة أخرى،..زياد اسمها

.وكانت األعاصير

خمس لم يتغير زياد منذ آخر مرة رأيته فيها، منذ سنوات بباريس. ربما أصبح فقط أكثر امتالءF، أكثر

الذي زارني فيه ألول رجولة مع العمر، من ذلك الوقت في مكتبي. يوم كان شابا1972Fمرة في الجزائر سنة

.أقل، وربما بهموم أقل أيضاF فارعاF بوزن

المتمرد مازال شعره مرتباF بفوضوية مهذبة. وقميصه الذي لم يتعود يوماF على ربطة عنق، مفتوحاF دائماF بزر�

المميز دفئاF وحزناF، يوهمك أنه يقرأ أو زرين. وصوته وكأنه شعراF، حتى عندما يقول أشياء عادية. فيبدو.شاعر أضاع طريقه وأنه يوجد خطأ حيث هو

Page 175: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أنه لم يصل بعد إلى في كل مدينة قابلته فيها، شعرت.وجهته النهائية، وأنه يعيش على أهبة سفر

يجلس على كرسي يبدو جالساF على كان حتى عندما حقائبه. لم يكن يوماF مرتاحاF حيث كان، وكأن المدن

التي يسكنها محطات ينتظر فيها قطاراF ال يدري متى.يأتي

تركته، محاطاF بأشيائه الصغيرة ومحمالF ها هوذا.. كما هويته بالذاكرة، ومرتدياF سروال الجينز نفسه، كأنه

.األخرى

ة، gكان زياد يشبه المدن التي مر بها. فيه شيء من غز .ومن بيروت وموسكو.. ومن الجزائر وأثينا.. من عمان

بوشكين، من كان يشبه كلg من أحب. فيه شيء من السيgاب.. من الحالج، من ميشيما.. من غسان

.وتيودوراكيس كنفاني.. ومن لوركا

وألنني كثيراF ما قاسمت زياد ذاكرته، حدث أن أحببت.ومن أحب، دون أن أدري كل ما أحب

.كنت في حاجة إليه في تلك األيام

أستقبله، أنني افتقدته طوال هذه شعرت وأنا

السنوات دون أن أدري، وأنني بعده لم ألتقx بشخص�Fيمكن أن أدعوه صديقا.

ها هو زياد. باعدتنا األيام وباعدتنا القارات. ووحدها.قناعاتنا القديمة ظلgت تجمعنا

يحدث ولذلك لم تزل في القلب مكانته األولى. فلم لزياد أن فقد احترامي لسبب أو آلخر خالل كل هذه

.السنوات

F نادراF هذه األيام؟ أليس هذا أمرا

Page 176: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..جاء زياد

Fمغلقا gلشهرين في وجه واستيقظ البيت الذي ظل .اآلخرين،حتى في وجه كاترين نفسها

بأشيائه وفوضاه، بضحكته راح زياد يمأله بحضوره، العالية أحياناF، وبحضوره السري الغامض دائماF. فأكاد

فقط، ألنه أشرع نوافذ هذا البيت، واحتل غرفة أشكره.كله من غرفه.. وربما احتلgه

ع�دنا تلقائياF إلى عاداتنا القديمة التي تعود إلى خمس.زارني ألول مرة في باريس سنوات، عندما

رحنا من جديد إلى المطاعم نفسها تقريباF. جلسنا وتحدثنا في الموضوعات نفسها تقريباF، فال شي تغيgر

عربي واحد من تلك منذ ذلك الحين. لم يسقط نظام  األنظمة التي كان زياد يراهن على سقوطها منذ

gر عرفته. لم يحدث أيgزلزال سياسي هنا أو هناك، ليغي .خريطة هذه األمة

Fللزالزل والرمال المتحركة. وحده لبنان أصبح وطنا ولكن من تراه سيبتلع في النهاية؟

السؤال الذي حاولنا أن نتنبأ به بأكثر من كان هذا هوFفي النهاية دائما gفي جواب. وكان النقاش يصب

القضية الفلسطينية، وفي خالفات فصائلها، والمعارك لبنان، والتصفيات التي حدثت بين عناصرها في

الجسدية التي راح ضحيتها أكثر من اسم فلسطيني.الخارج في

كان حديث زياد ينتهي كالعادة بشتم تلك األنظمة التي بالدم الفلسطيني، تحت أسماء تشتري مجدها

مستعارة كالرفض والصمود.. والمواجهة. فينعتها في غضبه بكل النعوت الشرقية البذيئة، التي أضحك فورة

.مرة لها وأنا أكتشف بعضها ألول

ار قاموسهم الخاص، الذي gأن لكل ثو Fوأكتشف أيضا

Page 177: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الخاصة، فأستعيد بحنين، تفرزه ثورتهم ومعايشتهم.مفردات أخرى لزمن� آخر وثورة أخرى

األسبوع هو أجمل األيام التي قضيتها مع ربما كان هذا أذكر زياد، والتي حاولت بعد ذلك ولعدة سنوات أال

غيرها، حتى ال أشعر بالمرارة وال بالحسرة على كل ما.صواب عشته بعدها عن خطأ أو عن

كل ما مرg بي من ألم.. من غيرة ومن صدمات، وأنا وجهاF لوجه، دون أية مقدمات أو أضعكما ذات يوم هكذا

..توضيحات خاصة

صديقة كاتبة.. ال بد أن له قلت: "سنتغدgى غدا مع..".أعرفك عليها

على طريقته لم يبد عليه اهتمام خاص بكالمي. قال الخاصة وهو يعود لقراءة جريدته: " أنا أكره النساء

األدب تعويضاF عن ممارسات عندما يحاولن ممارسة أخرى.. أتمنى أال تكون صديقتك هذه عانساF، أو امرأة

اليأس.. فأنا ال صبر لي على هذا النوع من في سن!"النساء

!فكرته.. وأبتسم لم أجبه. رحت أتعمق في

F للغداء في ذلك على الهاتف قلت لك: "تعالي غدا.."نفسه.. فأنا أحمل لك مفاجأة ال تتوقعينها المطعم

xقلت:

"أليس كذلك؟.. إنها لوحتي"

!"أجبتك بعد شيء من التردد: "ال.. إنها شاعر

***

Page 178: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..التقيتما إذن:أيضاF ويمكن أن أقول هذه المرة

الذين قالوا وحدها الجبال ال تلتقي أخطأوا. والذين"F لتتصافح دون أن تنحني، ال يفهمون بنوا بينها جسورا

.شيئاF في قوانين الطبيعة تلتقي إال في الزالزل والهزات األرضية الجبال ال

".واحد الكبرى. وعندها ال تتصافح، بل تتحول إلى تراب

التقيتما إذن.. وكان كالكما بركاناF.. فأين العجب، إذا!أيضاF أنا الضحية كنت هذه المرة

..مازلت أذكر ذلك اليوم

وكنت مع زياد قد طلبنا وصلتx متأخرة بعض الشيء،..مشروباF في انتظارك

xودخلت..

يحدgثني عن شيء ما عندما صمت فجأة، كان زياد.المطعم وتوقفت عيناه عليك وهو يراك تجتازين باب

فاستدرت بدوري نحو الباب.. ورأيتك تتقدgمين نحونا.أنيقة، مغرية، كما لم تكوني يوماF.. في ثوب� أخضر

وبقيت أنا. وقف زياد ليسلgم عليك وأنت تقتربين منgا من دهشتي جالساF. كان من الواضح أنه لم يتوقgعك

.هكذا

..أخيراF ها أنت ذي

رني إلى ذلك الكرسي، وكأن gما يسم Fأحسست أن شيئا الماضية، وكلg عذابي بعدك قد نزل تعب كلg األسابيع

.عليg فجأة، ومنع رجليg من الوقوف

F.. أهذه أنت حقاF!؟ ها أنت ذي أخيرا

وقبل أن أفكر في تعريفكما ببعض، كنتx قد قدgمت

Page 179: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

فك gنفسك لزياد، وكان هو بدوره على وشك أن يعر :بنفسه عندما قاطعته قائلة

دعني أحزر.. ألست زياد خليل؟-

:ووقف زياد مدهوشاF قبل أن يسألك

؟ كيف- xعرفت

استدرتx نحوي عندئذ� وكأنك تكتشفين وجودي هناك،هين فوضعت قبلتين على gي وقلت وأنت توجgخد

:الحديث إليه

..الرجل أنت تملك شبكة إعالن قوية في شخص هذا-

:ثم سألتني وأنت تتفحgصين مالمحي

الذي حدث لك في هذه لقد تغيرت بعض الشيء.. ما- العطلة؟

Fل زياد ليقول ساخرا gتدخ:

عشرة لوحة في شهر ونصف.. إنه لقد رسم إحدى- لم يفعل شيئاF غير هذا. نسي حتى أن يأكل ونسي أن

ينام.. أعتقد أنني لو لم أحضر إلى باريس لمات هذاFوإعياء Fوسط لوحاته.. كما لم الرجل الذي أمامك جوعا

!يعد الرسامون يموتون اليوم

بشيء من الذعر، وكأنك وبدل أن تسأليني سألت زياد كنت تخافين أن أكون قد رسمت إحدى عشرة نسخة

:صورتك من

ماذا رسم؟-

gهها إلي gأجابك زياد بابتسامة وج:

رسم قسنطينة.. ال شيء سوى قسنطينة.. لقد-

Page 180: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..وكثيراF من الجسور

:كرسياF وتجلسين صحتx وأنت تسحبين

ال.. أرجوكم ال تحدثوني عن قسنطينة مرة أخرى..- تواF منها. إنها مدينة ال تطاق.. إنها الوصفة إنني عائدة

!مجنوناF المثالية لكي ينتحر المرء أو يصبح

gكالمك إلي xهت gثم وج:

المدينة؟ متى تشفى أنت من هذه-

كان يمكن أن أقول لك لو كنا على انفراد "يوم أشفى!"منك

:ولكن زياد أجاب ربما نيابة عني

آنستي.. ولهذا نحن نحن ال نشفى من ذاكرتنا يا- Fنرسم.. ولهذا نحن نكتب.. ولهذا يموت بعضنا أيضا..

.زياد.. كان مدهشاF وشاعراF في كل شيء رائع

دون جهد. كان يقول شعراF دون جهد. ويحب ويكره.ويغري دون جهد

كنت أنظر إليه وهو يسألك "أنتx جزائرية إذن؟". وال.أستمع لما تقولينه له

بدا لي في تلك اللحظة أن الحديث كان يدور بينكما.وأنني لم أقل كلمة واحدة منذ قدومك فقط،

.للقدر كنت طرفاF فقط في تلك الجلسة الغريبة

كنت أنظر إليك.. وأبحث في تفاصيلك عن شرح لما.حلg بي

"يوماF: "ما هو أجمل شيء فيك؟ سألتك

Page 181: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.ابتسمت بإيماء غامض ولم تجيبي

تكوني األجمل، كنت األشهى. فهل هناك من لم!تفسير� للرغبة

..أيضاF ربما كان زياد يشبهك

اكتشفت ذلك مع مرور األيام، وأنا أنظر إليكما وأنتما.كلg مرة تتحدثان أمامي

كان أيضاF شي من السحر الغامض فيه.. من الجاذبية بالجمال. وكانت فكرة تشابهكما أو التي ال عالقة لها

تطابقكما هذه تزعجني.. بل وأزعجتني ربما من األولى. عندما نبgهتني إلى تدهور صحتي اللحظة

ة gوشحوب لوني، بينما كنت أراكما أمامي في صح .وتألق مثير للغيرة

ترى بدأت الغيرة تتسلل إلي اللحظة.. وأنا أكتشف سوى شبح بينكما، ووجه حشر خطأ في أنني لست

لوحتكما الثنائية؟

أنني وصلت إلى تلك الحالة بسببك. لم تwتwنwبgهي يومها ولذا لم تعتذري لي، بل وأكثر من ذلك كنت تتحدثين

F إليه .. وكثيرا gإلي Fقليال.

:قلتx له

مشاريع للحب القادم"؛ "لقد أحببت ديوانك األخير- لقد ساعدني شيئاF ما على تحمل هذه العطلة البائسة.

..مقاطع منه حفظتها لفرط ما أعدت قراءتها هنالك

:زياد ورحت تقرأين أمام دهشة

تربgص بي الحزن ال تتركيني لحزن المساء"سأرحل سيدتي

اليوم بابك قبل البكاء أشرعي

Page 182: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ر بي للبقاء gفهذي المنافي تغرانتظار وهذي المطارات عاهرة في

..."تراودني للرحيل األخير

.مرة كنت أستمع إليك تقرئين شعراF ألول

كان في صوتك موسيقى آللة لم تخلق بعد أتعرف نبرتك التي خلقت في البدء عليها ألول مرة في حزن

.للفرح.. فإذا بها عزف لشيء آخر

إليك بشيء من الذهول، وكأنه فجأة وكان زياد يستمع.يجلس خارج الزمن وخارج الذاكرة

أخيراF قرر أن يجلس على شيء آخر غير حقائبه كأنه.ليستمع إليك

.. راح يقرأ بقية تلك القصيدة وكأنه يقرأ وعندما سكت�:لك طالعه ال غير

"xوطن ومالي سواكوتذكرة للتراب.. رصاصة عشق بلون كفن

وال شيء غيرك عنديgلعمر قصير.. مشاريع حب"!

في تلك اللحظة.. شعرت أن شحنة من الحزن المكهرب أيضاF قد سرت بيننا، المكهرب وربما الحب.واخترقتنا نحن الثالثة

F به. كنت أشعر أنه يسرق كنت أحب زياد.. كنت مبهورا مني كلمات الحزن، وكلمات الوطن، وكلمات الحب

Fأيضا..

كان زياد لساني، وكنت أنا يده كما كان يحلو له أن.يقول

!أشعر في تلك اللحظة.. أنك أصبحت قلبنا.. معاF وكنت

***

Page 183: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.كان يجب أن أتوقع كل الذي حدث

يمكن أن أوقف انجرافكما بعد ذلك؟ فهل كان

يخترع وحشاF، كنت شبيهاF بذلك العالم الفيزيائي الذي.ثم يصبح عاجزاF عن السيطرة عليه

قصتكما بيدي. بل كنت أكتشف بحماقة أنني صنعت وكتبتها فصالF فصالF بغباء مثالي، وأنني عاجز عن

.أبطالي التحكم في

كيف يمكن أن أضع أمامك رجالF يصغرني باثنتي عشرة حضوراF وإغراءF، وأحاول أن أقيس سنة، ويفوقني

نفسي به أمامك؟

التي كانت تجمعكما كيف يمكن أن أفكg صلة الكلمة بتواطؤ، وأمنع كاتبة أن تحبg شاعراF تحفظ أشعاره عن

قلب؟ ظهر

وكيف أقنعه هو الذي ربما لم يشفw بعد من حبه أنت التي جئت لتوقظي الجزائري السابق، أال يحبك

الذاكرة، وتشرعي نوافذ النسيان؟

أتيت بكما ألضعكما أمام كيف حدث هذا.. وكيف!قدركما.. الذي كان أيضاF قدري

:المساء قال لي ذلك

-،Fإنها رائعة هذه الفتاة.. ال أذكر أنني قرأت لها شيئا الكتابة بعدما غادرت الجزائر حسب ما فربما بدأت

قرأته فهمت. ولكنني أعرف هذا االسم.. لقد سبق أنgعلي Fفي مكان ما.. إنه ليس غريبا.

:قلت له وقتها

Page 184: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

تقرأ هذا االسم وإنما سمعته فقط. إنه اسم أنت لم- عبد لشارع في الجزائر يحمل اسم أبيها )الطاهر

.المولى( الذي استشهد أثناء الثورة

.يقول شيئاF وضع زياد جريدته ونظر إليg دون أن

.أحسسته ذهب بعيداF في تفكيره

الهوامش المثيرة للقائكما تراه بدأ أيضاF يكشف كل في تلك الظروف.. وكل التفاصيل العجيبة التي ال

F أمامها؟ يمكن أن يبقى محايدا

.شعرت برغبة في الكالم عنك أكثر

أحدثه عن سي الطاهر. كدت أخبره كنت على وشك أنتي gعليه حتى قص gأنك ابنة قائدي وصديقي. كدت أقص

العجيبة معك. أنت التي كان يمكن أن تكوني ابنتي،!حبيبتي قبل أن تصبحي فجأة بعد ربع قرن

كدت أحكي له قصة لوحتي األولى )حنين( وتصادفها لوحاتي األخيرة وعالقتها بك.. مع ميالدك. وقصة

..وسبب تدهور صحتي وجنوني األخير

.سر قسنطينة كدت أشرح له

ك لي كما نحتفظ بسر كبير نتلذgذ gألحتفظ بسر ºمتwأص وحدنا؟ أكان لحبك نكهة العمل السري ومتعته بحمله

.القاتلة؟

أعترف له دون أن أدري أنك أنم تراني كنت أخجل أن حبيبتي، هو الذي لم أخجل منه يوماF والذي تقاسمت

شيء؟ معه كل

أألنك حبg لم ي�خلق لي�قتسم، قررت منذ البدء أن تكونيفقط؟.. ألحدنا

أعن صداقة أو حماقة، كنت أريد أن أمنحه فرصة حبك

Page 185: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

األخير، وأياماF من السعادة الذي قد يكون حبgه المسروقة من الموت المحتمل الذي كان يتربص به

حين.. وفي كل مدينة؟ في كل

ماذا جاء زياد يفعل في باريس؟ من الواضح أنه لم يأت زيارة سياحية. ربما جاء ليقوم ببعض االتصاالت في

يعطي السرية، يلتقي ببعض الجهات.. يتلقى أو..تعليمات ال أدري

ولكنه كان قلقاF شيئاF ما. كان يتحاشى أخذ مواعيدهFعلى الهاتف، وكان ال يغادر البيت بمفرده إال نادرا.

سؤال حول سبب زيارته ولم أطرح عليه يوماF أي لباريس. كان هناك شيء من بقايا فترة كفاحية في

أحترم أسرار اآلخرين عندما يتعلق ذلك حياتي، تجعلني.بقضايا نضالية

يحترم صمتي. ولهذا نقلنا كنت أحترم سره، وكان.سرنا وصمتنا حتى قصتنا المشتركة معك

المفرط يتوقع شيئاF ما بيني وبينك؟ أكان بحدسه وجود حبg أم تراه أمام تظاهري بالالمباالة، لم يتوقع

.ملتهب كهذا في أحشائي

تدريجياF على وكيف يمكن أن يتوقع ذلك، وأنا أنسحب رؤوس األصابع، ألترك له المجال تدريجياF لمزيد من

ع؟ gالتوس أدعه يجيب على الهاتف نيابة عني. يتحدث إليك كنت

.ويدعوك إلى البيت نيابة عني تأتين، وأحاول أال أسأل نفسي لمن جئت.. وكنت

؟ xلتgولمن تراك تجم

األيام وجعاF يوم زرت البيت بعد ذلك ربما كان أكثر.ألول مرة

للوحاتي لتنتبهي إليها. رحت كان ال بد أن ينبهك زياد تنتقلين من غرفة إلى أخرى وكأنك تعبرين غرف بيتك.

Page 186: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

يستوقفك ذلك الممر، وال ذكرى قبلة قلwبت حياتي لم.رأساF على عقب

اللحظة هي األكثر ألماF، أم عندما فتحت أكانت تلكحاF "هذه غرفة gفقلت لك موض ،Fزياد". )خطأ؟( بابا

فوقفت أمام ذلك الباب نصف المفتوح، لحظات بدت كل لوحاتي لي أطول مما قضيته من وقت أمام

.مجتمعة

قلت وأنت تعودين إلى الصالون وتجلسين على تلك:نفسها األريكة

ال أفهم أن تكون رسمت كل هذه الجسور.. جنون- ..اثنتان هذا.. كان يكفي لوحة أو

أعن قناعة أم عن لياقة تطوع زياد ليجيبك نيابة عني،، والحظ تلك الخيبة التي بعدما الحظ وقع gكلماتك علي :أفقدتني صوتي

اللوحات.. لقد حكمت عليها من أنت لم تتأملي هذه- النظرة األولى.. وفي الرسم، اللوحات ال تتطابق وإن

تشابهت. هنالك أرقام سرية تفتح لغز كل لوحة.. شيء عنه للوصول إلى ذلك شبيه بـ )الكود( ال بد من البحث

..اإلشعار بشيء ما يريد أن يوصله إلينا صاحبها

بنفس هذه السرعة أمام لوحة )العبي لو مررت الورق( الشهيرة، لما الحظت سوى العبين جالسين

أمام طاولة، ولما انتبهت إلى كونهما يمسكان بأوراق أراد أن ينقله لنا بيضاء يخفيانها على بعض. إن ما

F للعبة الورق بل مشهد من "سيزان" ليس مشهدا عليه.. وربما المتوارث مادام أحد التزوير المتgفق

Fالالعبين أكبر من الثاني سنا.

:يواصل زياد كالمه قاطعته قائلة وقبل أن

-Fفي من أين تعرف كل هذا.. هل أنت خبير أيضا الرسم.. أم أن عدوى خالد انتقلت إليك؟

Page 187: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:وقال ضحك زياد واقترب منك بعض الشيء

ليس هذا ميدان خبرتي على اإلطالق.. إنه ترف ليس- مثلي.. بل إن جهلي في الفن في متناول رجل

سبفاجئك. أنا ال أعرف غير قلة قليلة من الرسامين أعمالهم عن طريق المصادفة.. وفي الكتب اكتشفت

الحديثة المختصة غالباF.. ولكنني أحب بعض المدارس..التي تطرح أسئلة من خالل أعمالها

ني. الفن للفن ال يقنعني، والجوكندة gالمحترمة ال تهز أحب الفن الذي يضعني في مواجهة وجودية مع

بلوحات خالد األخيرة.. إنها أول نفسي، ولهذا أعجبتFمرة يدهشني فيها حقا.

د مع هذا gالجسر لوحة بعد أخرى في فرح� ثم لقد توح Fفي حزن متدرج حتى العتمة، وكأنه عاش يتوقيته يوما

Fكامال Fأو عمرا..

في اللوحة األخيرة ال يظل بادياF من الجسر سوى البعيد تحت خيط من الضوء. كل شيء حوله شبحه

يختفي تحت الباب فيبدو الجسر مضيئاF، عالمة استفهام معلgقة إلى السماء. ال ركائز تشدg أعمدته إلى

وال على يساره، وكأنه أسفل، ال شيء يحدgه على يمينه! فقد فجأة وظيفته األولى كجسر

أم بداية الليل؟ أتراه يحتضر أم أترى بداية الصبح عندئذFقاgيولد مع خيط الفجر؟ إنه السؤال الذي يبقى معل

F بلعبة الظلg والضوء كالجسر لوحة بعد أخرى، مطاردا ألن أي شيء المستمر، بالموت والبعث المستمر،

.معلgق بين السماء واألرض هو شيء يحمل موته معه

زياد مدهوشاF، وربما اكتشفت شيئاF لم كنت أسمتع إلى.اللوحات يخطر ببالي لحظة رسم كل هذه

أحقÁ ما قاله؟

Page 188: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

خيراF مني. من المؤكد أن زياد كان يتحدث عن لوحاتي مثل كل النقاد الذين يعطونك شروحاF مدهشة ألعمال

بساطة، دون أية تساؤالت فنية قمت بها أنت بكل فلسفية، فيضحكونك إذا كنت فناناF صادقاF وبسيطاF ال

دة في الفن. وقد تهمgك gالرموز والنظريات المعق الكثيرين الذين يمألونك غروراF وجنوناF، إذا كنت مثل

يأخذون أنفسهم مأخذ الجد، ويبدأون عندئذ� بالتنظير!جديدة بمدرسة فنية

كان في تحليل زياد حقيقة هامة أدهشتني ولم أنتبه.قبل لها من

لقد كنت أعتقد وأنا أرسم تلك الجسور أنني أرسمك، أرسم سوى نفسي. كان الجسر ولم أكن في الواقع

تعبيراF عن وضعي المعلgق دائماF ومنذ األزل. كنت.عليه قلقي ومخاوفي ودواري دون أن أدري أعكس

يوم فقدت ولهذا ربما كان الجسر هو أول ما رسمت.ذراعي

فهل تعني كل هذه الجسور، أن ال شيء تغيgر فيالحين؟ حياتي منذ ذلك

ربما كان هذا هو األصح.. ولكن ليس هذا كل شيء. يفلسف أيضاF رمز الجسر بأكثر وقد كان يمكن لزياد أن

من طريقة.. ولكن من المؤكد أنه لن يذهب أبعد من المعروفة، ألن رموزنا تأخذ بعدها من حياتنا الرموز

gثنايا فقط، وزياد في النهاية لم يكن يعرف كل .ذاكرتي

gولم يكن زار تلك المدينة التي تعرف وحدها سر !الجسور

تذكgرت حين ذاك رساماF يابانيا معاصراF، قرأت عنه أنه وهو ال يرسم سوى األعشاب. قضى عدة سنوات

ئل مرة لماذا األعشاب دائماF.. قال: "يوم وعندما س� العشب فهمت الحقل.. ويوم فهمت الحقل رسمت

Page 189: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..".أدركت سر العالم

مفتاحه الذي يفتح به لغز العالم.. وكان على حق. لكل�.عالمه

وألبرتو مورافيا. همنغواي فهم العالم يوم فهم البحر يوم فهم الرغبة، والحالج يوم فهم الله، وهنري ميلر

.وبودلير يوم فهم اللعنة والخطيئة يوم فهم الجنس،

وساديgته، عندما وفان غوغ.. تراه فهم حقارة العالم كان يجلس محموماF معصوب الرأس أمام تلك النافذة

منها.. غير حقول عبgاد الشمس التي لم يكن يرى الشاسعة فال يملك أمام إرهاقه إال أن يرسم أكثر من

لوحة للمنظر نفسه؟

ألن يده المحمومة لم تكن تقدر على رسم أكثر من.البسيطة الساذجة تلك الزهور

ولكنه.. كان يواصل الرسم برغم ذلك، ال ليعيش من.وإنما لينتقم لها ولو بعد قرن لوحاته

gمت بعدها كلgألم يقل ألخيه تلك النبوءة التي حط األرقام القياسية في ثمن لوحة )عباد الشمس(:

".حياتي "سيأتي يوم يفوق فيه ثمن لوحاتي.. ثمن تساءلت وأنا أصل إلى هذه الفكرة: هل الرسامون

.أنبياء أيضاF؟ أربط هذه الفكرة بتعليق زياد "كل شيء ثم رحت

.."معلgق يحمل موته معه

نفسي، أيgة نبوءة تحمل كلg اللوحات وإذا بي أسأل التي رسمتها في درجة متقدمة من الالوعي والجنون؟

أمwو»ت أم ميالد تلك المدينة؟ أصمود جسورها المعلقة جوية وأكثر من ريح منذ قرون في وجه أكثر من نشرة

مضادgة؟ أم سقوطها جميعاF في دمار هائل مفاجئ، التي ال يفصل فيها بين الليل والنهار في تلك اللحظة

!التاريخ سوى خيط باهت للغفلة.. غفلة

كنت تحت تأثير تلك الرؤية المذهلة، عندما جاء صوتك

Page 190: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.هواجسي لينتزعني من

gهين حديثك إلي gوأنت توج xقلت:

أنك لم تزر أتدري خالد.. إن من حسن حظك- قسنطينة منذ عدة سنوات.. وإال لما رسمت من وحيها

تريد أن تشفى منها عليك أن أشياء جميلة كهذه. يوم!تزورها فقط.. ستكفg عن الحلم

آنذاك، أنك ذات يوم ستتكلgفين طبعاF، لم أكن أدري شخصياF بقتل ذلك الحلم، وتوصليني في ما بعد حتى

.قسنطينة مكرهاF أعتاب

Fسابقا Fجاء هذه المرة أيضا Fل زياد ليقول كالما gتدخ .لوقته.. كالنبوءة

:قال بشيء من العتاب المهذgب

قتل حلم هذا الرجل؟. هنالك أحالم لماذا تصرين على- ..نموت على يدها، دعيه سعيداF ولو بوهمه

تعلgقي على كالمه، وكأن أحالمي لم تعد تهمك لم:بالدرجة األولى. سألته فقط

وأنت.. ما هو حلمك؟-

:قال

-Fربما مدينة ما أيضا..

الخليل؟ هل اسمها-

Fقال مبتسما:

ننتسب ال.. نحن ال نحمل دائماF أسماء أحالمنا.. وال- لها

.اسمي الخليل ومدينتي اسمها غزة

Page 191: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ومنذ متى لم تزرها؟-

-Fمنذ حرب حزيران.. أي منذ خمس عشرة سنة تماما..

:ثم أضاف

الذي يحدث لخالد اليوم، كان يقنعني في يضحكني- هناك الماضي يوم كنgا في الجزائر بالزواج والعيش

نهائياF. لم يكن يفهم أن تطاردني تلك المدينة إلى وها هو اآلن يصل إلى. درجة إخراجي من كل المدن

كالمي من تلقاء نفسه، ويصبح بدوره مسكوناF بمدينة،Fبها مطاردا.

العجيب أنه لم يحدgثني عنها أي مرة.. وكأنه لم يكن قبل. هنالك أشياء شبيهة بالسعادة يوليها اهتماماF من

!ال ننتبه لوجودها إال بعدما نفتقدها

كان ذلك ما حدث لي.. فقد كنت أعي تدريجياF ربما الصيفية.. أنني كنت سعيداF معك قبل تلك العطلة

وقبل مجيء زياد.. وقبل أن يتحول حبنا من عشق األطراف كل زواياه ثنائي عنيف إلى حب مثلث

متساوية، ومن لعبة شطرنج يحكمها العبان متقابالن، فيها كل المربعات السوداء والبيضاء، ويمأل الحب

نجلس بقانون المد والجزر العشقي، إلى لعبة طاولة، حولها نحن الثالثة، بأوراقنا المقلوبة، وأحزاننا

المشتركة، بذاكرتنا المشتركة، المقلوبة، بنبضات قلبنا نتربgص ببعضنا ونخلق قوانين جديدة للحب.. نزوgر

األوراق التي نملك النسخ نفسها منها، نحتال على الجولة، وإنما لكي ال منطق األشياء ال ليربح أحدنا

Fوجعا gيكون بيننا من خاسر، وحتى تكون نهايتنا أقل .البداية من

كان واضحاF أن زياد كان يشعر أنني أحبك بطريقة أو يكن يعي جذور ذلك الحب ومداه. ولذا بأخرى. ولكنه لم

.بالذنب كان ينساق إلى حبك دون تفكير ودون شعور

Page 192: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لم يكن ألحدنا وعي كامل لينتبه إلى أن العشق اسملناه إلى ثنائي ال مكان فيه gلطرف ثالث. ولذا عندما حو

البواخر مثلث، ابتلعنا كما يبتلع مثلث "برمودا" كلالتي تعبره خطأ؟

.كيف وصلنا إلى هنا

الديار الغريبة عن طقوسنا؟ أيg ريح حملتنا إلى هذه أيg قدر بعثرنا ثم أعاد جمع أقدارنا المتناقضة

وأعمارنا وتواريخنا المتفاوتة، ومعاركنا المبعثرة،Fفي معركة وأحالمنا المتباعدة، وأوقفنا هنا، أطرافا نخوضها مع بعضنا ضد بعضنا دون وعي؟

خاطرة، أدهشتني بعد أشهر قرأت بين أوراق زياد:بتطابقها مع أحاسيسي هذه، كتب فيها

خسرناها في زمن المعارك عشقنا جولة أخرى"الفاشلة، فأيg الهزائم أكثر إيالماF إذن؟

gكان كل Fالذي حصل مقدرا..شعبين كنا ألرض واحدة

.ونبيين لمدينة واحدة.المرأة واحدة وها نحن قلبان

(.كل شيء كان معدgاF لأللم. )هل يسعنا العالم معاF؟ نتقاسم كبرياءنا رغيفاF عربياF مستديراF كجرحنا. ها نحن

مربع أحمر، رصاصة مستديرة الرأس.. أطلقوها على يتدرب فيه القدر على إطالق الرصاص على دوائر

Fار.. حتى تصل مركز سوداء تصغر تدريجيا gكالدو ..الموت

.حيث الرصاصة ال تخطئ.ترحم حيث الرصاصة ال

.."وحيث سيكون قلب أحدنا

أحياناF في كان زياد في تلك األمسيات الشتائية، يسهر..غرفته ليكتب. وكنت أرى في ذلك عالمة ال تخطئ

عاشقاF ليعود إلى الكتابة بهذه الشراهة، ال بد أن يكون.سنوات هو الذي لم يكتب شيئاF منذ عدة

Page 193: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كنت أبتسم أحياناF، وصوت موسيقى خافتة ينبعث من.متأخرة من الليل غرفته حتى ساعة

كأن زياد كان يريد أن يمأل رئتيه بالحياة، أو كأنه لم يثق بها تماماF. ويخاف إن هو نام أن تسرق منه يكنFشيا.

األشرطة نفسها التي ال أدري كان يستمع دائماF إلى من أين أحضرها، والتي لم أكن مولعاF بها أنا على وجه

التحديد، كالموسيقى الكالسيكية.. وشريط لفيفالدي.وآخر لتيودوراكيس

أقول لنفسي وأنا أقضي أحياناF سهرة كاملة وكنت:بمفردي أمام التلفزيون

جنونه أيضاF. هنالك جنون الصيف.. وهنالك إنه يعيش" !".جنونه جنون الشتاء. انتهى جنوني وبدأ

ولكن.. كيف يمكن لي أن أعرف درجات جنونه هذا؟ للزلزال، أعرف منه ما يحدث في من أين آتي بمقياس

أعماقه بالتحديد؟

كتابات سرية ال يدري بها غير كيف يمكن ذلك، ونوباته الورق. بينما يعلgق جنوني على الجدران إحدى عشرة

.تشهد ضدي.. وتفضحني لوحة

فهل انتهى جنوني حقاF؟

Fال عالقة له باإلبداع. أصبح ال.. أصبح فقط جنونا Fداخليا .واليأس أحاسيس مرضيgة أبذgرها هباءF في الغيرة

كان إذا غيgر زياد بدلته، شعرت أنه يتوقع قدومك، وإذا يكتب لك، وإذا ترك البيت فهو على جلس ليكتب فهو

..موعد معك

األسباب التي جاء من نسيت في زحمة غيرتي، حتى

Page 194: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.أجلها زياد إلى باريس، ولقاءاته.. وهواجسه األخرى

.ثم جاء ذلك السفر الذي كدت أنساه..

اإلطالق. فقد ربما كانت تلك أكثر تجاربي ألماF على كان عليg أن أترككما عشرة أيام كاملة معاF في مدينة

غالباF في بيت� واحد هو بيتي.. نظراF واحدة. وربما.لصعوبة لقائكما خارج البيت

يومها وأنا أحاول أن أقنع نفسي أنها فرصة سافرت عالقتنا، وأنه لنا جميعاF، لنضع شيئاF من الترتيب في

كان البد ألحدنا أن يتغيgب لتحسم هذه األمور الغامضة.نهائياF بيننا

طبعاF، لم أكن مقتنعاF في أعماقي بهذا المنطق، أو القدر العنيد الذي جعل القرعة تقع على األقل بهذا

gعلي.

Fلكما. وكان ذلك فمن الواضح أن القدر كان منحازا :يؤلمني كثيراF. ولكن ما الذي كان أشدg إيالماF لي

أنك مع رجل آخر، أم أن يكون ذلك الرجل هو أن أدري في غرف لم زياد ال سواه، أم أن تتم خيانتي في بيتي

أتمتع بك فيها؟

إلى أيg حدg ستذهبين معه.. وإلى أي حدg سيذهب هو معك؟ وهل ستوقفه ذاكرتنا المشتركة.. وكل ما جمعنا

يوماF من قيم؟

xالكثير عن زياد.. ولم أقل لك األهم قلت لك.

.انتمائي السرية كان زياد يوماF خليgتي السرية، أوراق

F كان هزائمي وانتصاراتي، حججي وقناعاتي، كان عمراFيا gلعمر� آخر. فهل سيخونني زياد؟ سر

.مسبقاF كنت قد بدأت أعتب عليه، وربما أحقد عليه

Page 195: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

نسيت في جنون غيرتي، أنني لم أفعل شيئاF غير ذلك تنكgرت أيضاF لسي الطاهر، لرجل� كان معك، أنا الذي

عندي يوماF قائدي، وكان يوماF صديقي.. لرجل أودعكFة ذات يوم ومات شهيداgوصي.

من منا األكثر خيانة إذن؟

قد يضع أحالمه ورغباته حيgز التنفيذ.. أم أنا هو الذيذها ألنني لم أجد فرصة gلذلك؟ الذي لم أنف

أنا الذي أنام وأصحو معك من شهور، وأغتصبك حتgىستكونين له بإرادتك؟ في غفوتي.. أم هو الذي

هنالك مدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاF. تغريكدك ذاكرتها من كل gوتربكك، تمألك وتفرغك، وتجر

.برنامجك مشاريعك، ليصبح الحب كل

هنالك مدن.. لم تخلق لتزورها بمفردك. لتتجول وتنامF.. وتقوم فيها .وتتناول فطور الصباح وحيدا

هنالك مدن جميلة كذكرى، قريبة كدمعة، موجعة..كحسرة

!هنالك مدن.. كم تشبهك

غرناطة؟.. فهل يمكن أن أنساك في مدينة اسمها

كان حبgك يأتي مع المنازل البيضاء الواطئة، بسقوفها الحمراء.. مع عرائش العنب.. مع أشجار القرميدية

غرناطة.. مع الياسمين الثقيلة.. مع الجداول التي تعبر.المياه.. مع الشمس.. مع ذاكرة العرب

Page 196: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

واألصوات والوجوه، مع كان حبك يأتي مع العطور.سمرة األندلسيات وشعرهن الحالك

قيثارة محمومة كجسدك.. مع مع فساتين الفرح.. مع قصائد لوركا الذي تحبينه.. مع حزن أبي فراس

.أحبه الحمداني الذي

كنت أشعر أنك جزء من تلك المدينة أيضاF.. فهل كلوكل ذاكرة عربية أنت؟.. المدن العربية أنت

مر الزمان وأنت مازلت كمياه غرناطة، رقراقة تحملين طعماF مميزاF ال عالقة له بالمياه.. الحنين

.القادمة من األنابيب والحنفيات

الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه مرحر، في ذاكرة القصور العربية gالمهجورة، وقت الس

عندما يفاجئ المساء غرناطة، وتفاجئ غرناطة نفسها..لتوه عاشقة لملك عربي غادرها

كان اسمه "أبا عبد الله". وكان آخر عاشق عربي!قبgلها

كنت ذلك الملك الذي لم يعرف كيف يحافظ ترانيعلى عرشه؟

الله، وسأبكيك يوماF تراني أضعتك بحماقة أبي عبدمثله؟

كانت أمه قد قالت له يوماF وغرناظة تسقط في غفلةلكاF م�ضاعاF، لم تحافظ عليه: "منه ابك مثل النساء م�

.."مثل الرجال

أحافظ عليك؟. وعلى من أ�علن الحرب.. فهل حقاF لمأسألك؟

.. وأنتما ذاكرتي .وأحبgتي على مwن».. وأنت مدينتي وقلعتي .على مwن»

فلxمw الخجل؟

Page 197: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ملك عربي واحد.. حاكم عربي واحد، لم يبكx هل هناكمنذ أبي عبد الله مدينة ما؟

!قسنطينة.. هذا زمن السقوط السريع فاسقطي

.أبداF هل سقطت حقاF يومها.. هذا ما لن أعرفه

ولكن أعرف فقط تاريخ سقوطك األخير، سقوطكFعليه بعد ذلك النهائي الذي كنت شاهدا.

فأيg جنون كان أن تزيد المسافات من حبgك، وأن المدينة أيضاF. وإذا بي كمجنون أجلس تأخذي مالمح تلك

كلg ليلة ألكتب لك رسائل كانت تولد من دهشتي وشوقي وغيرتي عليك. كنت أقصg لك فيها تفاصيل

.الدهشة يومي وانطباعاتي في مدينة تشبهك حد

:كتبت لك مرة

أريد أن أحبك هنا. في بيت� كجسدك، مرسوم على".طراز أندلسي

Fك بيتاgبة، وأ�سكن حبgأريد أن أهرب بك من المدن المعل .تعاريج أنوثتك العربية يشبهك في

بيتاF تختفي وراء أقواسه ونقوشه واستداراته ذاكرتي األولى. تظلgل حديقة شجرة ليمون كبيرة، كتلك التي

.باألندلس يزرعها العرب في حدائق بيوتهم

أريد أن أجلس إلى جوارك، كما أجلس هنا على حافة.فيها سمكات حمراء، وأتأملك مدهوشاF بركة ماء تسبح

البلدي أستنشق جسدك، كما أستنشق رائحة الليمون.األخضر قبل أن ينضج

gشجرة أمر gمة.. أمام كل gبها، أيتها الفاكهة المحر .."أشتهيك

Page 198: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كم من الرسائل كتبت لك.. هل يمكن لكاتبة أن تقاوم كنت أريد أن أطوقك بالحروف، أن أستعيدك الكلمات؟

وجهي بها، أن أدخل معكما حلقة الكلمات المغلقة في بتهمة الرسم فقط، فرحت أخترع من أجلك رسائل لم

في ذهني فجأة تكتب قبلك المرأة. رسائل انفجرت. بعد خمسين سنة من الصمت

أن أدري، بعد تراني بدأت يومها أكتب كتابي هذا دون أن انتقل عشقي لك إلى هذه اللغة التي كنت أكتب

قبلك كتبت لنساء عبرن حياتي. بها رسائل ألول مرة.أيام الشباب والمراهقة

.في البحث عن الكلمات لم أكن أجهد نفسي آنذاك كانت اللغة الفرنسية تستدرجني تلقائياF بحريتها للقول

.عقد.. وال خجل دون

معك رحت أكتشف العربية من جديد. أتعلم التحايل.أستسلم إلغرائها السري، إليحاءاتها على هيبتها،

األنوثة.. لحاء رحت أنحاز للحروف التي تشبهك.. لتاء الحرقة.. لهاء النشوة.. أللف الكبرياء.. للنقاط

..خال أسمر المبعثرة على جسدها

هل اللغة أنثى أيضاF؟ امرأة ننحاز إليها دون غيرها، والضحك.. والحب على طريقتها. وعندما نتعلم البكاء

تهجرنا نشعر بالبرد وباليتم دونها؟

قرأت تلك الرسائل؟. هل شعرت بعقدة يتمي تراكوخوفي من مواسم الصقيع؟

تراها جاءت في غير وقتها؟ أأدهشتك أم

كان ال بد أن أكتبها لك قبل أن يتسلل زياد إليك من.كل المسام، ويصبح لغتك

الحب؟ فهل تفيد رسائل الحب عندما تأتي متأخرة عن

Page 199: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ألم يحب سلفادور دالي وبول إيلوار المرأة نفسها؟

بول إيلوار يكتب لها أجمل الرسائل.. وأروع وعبثاF راح منه. األشعار.. ليستعيدها من دالي الذي خطفها

لت جنون دالي المجهول آنذاك.. على gولكنها فض موتها منحازة لريشة قوافي بول إيلوار. وظلgت حتى

دالي فقط الذي تزوجها أكثر من مرة بأكثر من.غيرها طوال حياته طقس، ولم يرسم امرأة

الواقع أن الحب ال يكرر نفسه كل مرة، وأن الرسامين يهزمون الشعراء دائماF.. حتى عندما يحاولون التنكgر ال

.في ثياب الكلمات

***

ة عندما عدت بعد ذلك إلى باريس، كان في الحلق gغص الزمتني طوال تلك األيام، وأفسدت عليg متعة نجاح

الجميلة أو المفيدة التي تمgت ذلك المعرض. واللقاءات.لي أثناءه

توقgف. عاطفة كان هناك شيء داخلي ينزف دون جديدة للغيرة والحقد الغامض الذي ال يفارقني

.شيئاF ما يحدث هناك ويذكgرني كلg لحظة أن استقبلني زياد بشوق. )أكان حقاF سعيداF بعودتي؟(.

بالبريد الذي وصل أثناء غيابي وبورقة سجgل أمدgني.تلك األيام عليها أسماء الذين طلبوني هاتفياF خالل

أمسكتها دون أن ألقي عليها نظرة. كنت أدري أنني.فيها لن أجد اسمك

ثم راح يسألني عن المعرض.. عن سفرتي وأخباري التطورات السياسية بشيء العامة، ويحدثني عن آخر

رته بارتباكه لحظتها أمامي لسبب gمن القلق، الذي فس .آلخر أو

Page 200: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كنت أستمع إليه وأنا أتفقد بحواسي ذلك البيت كما كان كلما عاد إلى بيته، راح في خرافة الغول الذي

يتشمgم األجواء بحثاF عن إنسان قد يكون تسلgل إلى..مغارته أثناء غيابه

كنت أشعر أنك مررت بهذا البيت. إحساس غامض كان ذلك، دون أن أجد في الواقع حجة تثبت لي يؤكد لي.شكوكي

ة؟.. هل ggيعقل أن تمر عشرة أيام ولكن هل تهم الحج دون أن تلتقيا.. وأين يمكن أن تلتقيا في مكان غير

التقيتما هل ستكتفيان بالحديث؟ هذا؟ وإذا

Fللكبريت.. وكان زياد عاشقا Fمنجما xيعبد كنت Fمجوسيا !اللgهب

فهل كان يمكن أن يصمد طويالF في وجه نيرانك.. أنتالمرأة التي يحلم الرجال أن يحترقوا بها ولو وهماF؟

عن فرح� ما، عن سعادة� ما رحت أبحث في مالمح زياد.أجد فيها الحجة القاطعة على أنك كنت له

.على وجهه أي شعور خاص، غير القلق ولكن لم يبد�

:فجأة حدثني عنك قال

F لنتناول معاF غداءنا لقد طلبت- منها أن تأتي غدا..األخير

:الدهشة صحت بشيء من

لماذا األخير؟-

:قال

..األحد ألنني سأسافر-

ولماذا األحد؟-

Page 201: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.معاF قلتها وأنا أشعر بشيء من الحزن والفرح

:أجاب زياد

ألنني يجب أن أعود.. كنت أنتظر فقط عودتك- لم يكن مقرراF أن أبقى هنا أكثر من. ألسافر

..أعود أسبوعين. لقد قضيت شهراF كامالF وال بدg أن

:ثم أضاف بشيء من السخرية

.الباريسية قبل أن أتعود على الحياة-

تراك أنتx الحياة الباريسية التي كان يخاف أن يتعود كان يهرب مرة أخرى من حب� آخر أم أن عليها؟ تراه

الرحيل؟ مهمته قد انتهت أخيراF فلم يعد أمامه غير

مر يوم السبت وسط مشاغل عودتي، وانشغال زياد.سفره بترتيب تفاصيل

حاولت أن أتحاشى الجلوس إليه ذلك المساء. ولكن بنا ويضعنا أخيراF وجهاF لوجه نحن كان يوم األحد يتربص

.الثالثة في ذلك الغداء الحاسم

رتها على يومها gقابلتني بحرارة لم أتوقعها. فس باالمتنان(. ألم طريقتي بأنها شعور بالذنب، )أو ربما

أقدم لك حباF على طبق من شعر على طاولة هي..!بيتي؟

شكرتني على رسائلي، وأبديت إعجابك بأسلوبي.. ثمFا gوكأنك أستاذة قدم لها تلميذ نص Fإنشائيا.

أزعجني شكرك العلني، وشعرت أنك حدgثت زياد عنها.أيضاF وربما أريته إياها

:كنت على وشك أن أقول شيئاF عندما واصلت

Page 202: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

هناك.. هل غرناطة جميلة حقاF تمنيت لو كنت معك- إلى هذا الحد؟ وهل زرت حقاF بيت غارسيا لوركا في

خوانتا فاكيروس(.. أليس هذا اسم ضيعته كما قلت؟)..حدgثني عنه

طريقتك في بدء الحديث معي من وجدت في.أيضاF الهوامش، شيئاF مثيراF للدهشة، وربما للتفكير

ت بنا، gأهذا كل ما وجدت قوله بعد كل الزوابع التي مر من الجحيم الذي عشته وحدي؟ وبعد عشرة أيام

ال أدري كيف خطر عندئذ� في ذهني شهد لفيلم..يوماF عن حياة لوركا شاهدته

:قلت لك

لوركا؟ أتدرين كيف مات-

xقلت:

..باإلعدام-

:قلت

.. وكان ال.. وضعوه أمام سهل- xشاسع وقالوا له امش يمشي عندما أطلقوا خلفه الرصاص، فسقط ميتاF دون

.تماماF ما الذي حدث له أن يفهم

إنه أحزن ما في موته. فلم يكن لوركا يخاف الموت،عه، ويذهب إليه مشياF على األقدام كما نذهب كان gيتوق

فقط أن تأتيه لموعد� مع صديق.. ولكن كان يكره!الرصاصة من الظهر

شعرت آنذاك أن زياد تلقي كلماتي كرصاصة في الصدر. رفع عينيه نحوي، أحسسته على وشك أن

.يقول شيئاF ولكنه صمت

Page 203: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.بعضنا دون كثير من الكالم كنا نفهم

إيالمه ندمت بعدها على إيالمي المتعمد له. فقد كان يعزg عليg أكثر من ألمك. ولكن كان هذا أقل ما يمكن

.عشته من عذاب بسببه أن أقوله له بعد كل ما

Fوربما كان أكثره أيضا.

وجبة صمت مربك تتخلله أحيانا تحول غداؤنا فجأة إلى أحاديث مفتعلة، كنتx تخترعينها أنتx بفطرة� نسائية

Fلترطيب الجو.. وربما للمراوغة. ولكن عبثا.

انكسر بيننا. ولم يعد كان هناك شيء من البلgور قد.هناك من أمل لترميمه

:سألتكx بعدها

ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار؟ هل-

xأجبت:

إلى المطار.. قد ألتقي بعمي ال.. ال يمكن أن أذهب- هناك، إذ أنه يحدث أن يمر بمكتب الخطوط الجوية

الجزائرية. ثم إنني أكره المطارات.. وأكره مراسيم ألننا في الحقيقة ال الوداع. الذين نحبهم ال نودعهم،

.نفارقهم. لقد خلق الوداع للغرباء.. وليس لألحبة

تلك إحدى طلعاتك العجيبة المدهشة كقولك كانت للغرباء وأما السابق مثالF "نحن ال نكتب إهداءF سوى

الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا في حاجة.."األولى إلى توقيع في الصفحة

ولماذا الوداع؟

هل هناك من ضرورة لوداع آخر؟

أراك طوال وجبة الغداء تلتهمينه بنظراتك وال كنت

Page 204: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.تأكلين شياF سواه

تودgعان جسده قطعة قطعة. تتوقgفان كانت عيناكF طويالF عند كلg شيء فيه، وكأنك تختزنين منه صورا

.عدة.. لزمن لن يبقى لك فيه سوى الصور

لي، أو ألن وكان هو يتحاشى نظراتك، ربما مراعاة كلماتي الموجعة أفقدته رغبة الحب.. ورغبة األكل

نظراته الحزينة إلى أعماقه وإلى كذلك. وجعلته يحوgل.ما بعد السفر

ولكن حزني كان فريداF وكنت أنا ال أقل حزناF عنكما، وفرديgاF كخيبتي. متشعgب األسباب غامضاF كموقفي من

تكما gالعجيبة قص. وربما زاده رفضك مرافقتي إلى المطار توتراF. فقد

على انفراد ألخلو أخيراF كنت أطمع في عودتك معي بك. ألفهم منك دون كثير من األسئلة، إلى أيg مدى

على محو تلك األيام من ذاكرتك، والعودة كنت قادرة..إليg دون جروح أو خدوش

F إليه. وربما جسدك كنت أدري أن قلبك قد أصبح منحازا أنك في أيضاF. ولكنني كنت أثق بمنطق األيام. وأعتقد

، ألنه لن يكون هناك سواي.. gالنهاية ستعودين إلي وحنينك األول ألبوة كنت أنا.. وألنني ذاكرتك األولى

.نسخة أخرى عنها

.وأنتظرك فرحت أراهن على المنطق

..رحل زياد

Fبيتي وعاداتي األولى قبله ورحت أستعيد تدريجيا.

Page 205: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كنت سعيداF ولكن بمرارة غامضة. فقد كنت تعوgدت على وجوده معي، وكنت أشعر بشيء من الوحدة

لتلك المفاجئة وهو يتركني وحدي لموسم الشتاء؛.األيام الرمادية، والسهرات الطويلة المدهشة

.فجأة كما امتأل به رحل زياد.. وفرغ البيت منه

لم يبق سوى تلك الحقيبة التي قد تشهد على مروره والتي تركها أسفل الخزانة بعدما جمع فيها من هنا،

عندي مشروع أوراقه وأشياءه، والتي رأيت في بقائها.عودة محتملة، قد تكونين أنت أحد أسبابها

سعادتي كانت تفوق حزني، ولكن البد أن أعترف أن وأنني كنت أشعر أنني أستعيدك وأنا أستعيد ذلك البيت

.منه الفارغ

كنت أشعر أن هذا البيت سيمتلئ أخيراF بحضورك سأخلو فيه بك وأنا أخلو بطريقة أو بأخرى، وأنني

.لنفسي

F أنك تحبينه.. سأعيدك إليه تدريجياF. ألم تعترفي مرارا تحبين طريقة ترتيبه.. تحبين ضوءه.. منظر نهر السين

gعليه؟ الذي يطل

أن ترى كنت تحبين فقط زياد، وحضوره الذي كان!األشياء أحلى يؤثث كل شيء.. ويجعل

في البدء.. كنت أتوقع هاتفك. كنت أتمسك به، أستنجد صوتك كان ينسحب أيضاF تدريجياF أمام به، ولكن.دهشتي

كلg أسبوعين، ثم كان هاتفك يأتي مرة كل أسبوع، ثمFقبل أن ينقطع نهائيا ،Fنادرا.

الدواء. وكنت أشعر أحياناF كان يأتي شحيحاF كقطرات أنك تطلبينني مجاملة فقط، أو عن ضجر، أو ربما بنية

Page 206: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.معلنة لمعرفة أخبار زياد غير

وكنت أنا أثناء ذلك، أتساءل "تراه كان يكتب إليك مباشرة بعنوان البيت، ولهذا لم تكوني في حاجة إلى

أخباره؟ أن تسأليني مرة عن

أم أنه كعادته أخبرك مسبقاF أنه لن يكتب إليك، وأن تتعلمي النسيان. فرحت تطبgقين تلك عليك مثله أن

Fأيضا gالعقوبة علي.!

.الحلول في كل شيء كان زياد يكره أنصاف

كان متطرفاF كأي رجل يحمل بندقية. ولذا كان يكرهيه سابقاF "أنصاف الملذات" أو أيضاF ما gكان يسم

"!"أنصاف العقوبات

الحاسمة. فإما أن يحب ويتخلى كان رجل االختيارات عندئذ� عن كل شيء ليبقى مع من يحب، أو يرحل ألن

ينتظره هناك أهم. وعندها لن يكون من مبرر الذي.والذكرى لتعذيب النفس باألشواق

تساءلت طويالF بعد ذلك، ماذا عساه اختار؟

ف هذه gكما تصرف منذ سنوات تراه تصر Fالمرة أيضا في الجزائر مع تلك الفتاة التي كان على وشك الزواج

..منها

أم أنه تغيgر هذه المرة، ربما بحكم العمر.. وربما فقط الذي حدث بينكما لم يكن قصة عادية ألنك أنت، وألن

.تحدث بين شخصين عاديين

Fاستدراجك للحديث عنه، عساني كنت أحاول أحيانا أصل إلى نتيجة تساعدني على تحديد القواعد الجديدة

.للعبة.. والتأقلم معها

وكنت تراوغينني كعادتك. كان من الواضح أنك تحبgين.أحدثك عنه، ولكن دون أن تبوحي لي بشيء أن

Page 207: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

بين الجد كنت تناقضين نفسك كل لحظة. تمزجين والمزاح، وبين الحقيقة والكذب، في محاولة للهروب

..من شيء ما

كالمك كذباF أبيض أستمع إليه بفرشاتي، وألوgن كان.أعرفه عنك جمله بألوان أكثر تناسباF مع كل ما

تعودت أن أكسو ما تقولينه لي بالبنفسجي، باألزرق...بالقلق الذي يخيم على كل ما تقولينه والرمادي،

منها حواراF تعودت أن أجمع حصيلة ما قلته لي، وأصنع لرسوم متتالية على ورق، أضع عليها أنا التعليقات

.وكالم لم نقله المناسبة لحوار آخر

لعلني وقتها بدأت أكتشف تدريجياF تلك العالقة بدأت تربطك في ذاكرتي بذلك اللون الغامضة التي

.األبيضFأبيض لم يكن كالمك وحده كذبا.

كنت امرأة تملك قدرة خارقة على استحضار ذلك وأضداده. أو لعلني وقتها أيضاF اللون في كل أشكاله

بدأت دون أن أدري وبحدس غامض أخرج هذا اللونFمن ألوان لوحاتي، وأحاول االستغناء عنه، في نهائيا

.محاولة مجنونة إللغائك

لوناF متواطئاF معك. منذ ذلك اليوم الذي رأيتك فيه كان الطفولية البيضاء تجفg فوق طفلة تحبو بينما أثوابها

خشبات منصوبة فوق كانون. غمزة مسبقة للقدر الذي.ي�هيgأ لي معك على نار� باردة، أكثر من ثوب أبيض كان

يدخل في تركيب كلg األلوان كان األبيض لوناF مثلك وكل األشياء. فكم من األشياء يجب أن أدمgر قبل أن

!منه! وكم من اللوحات سألغي إن أنا قاطعته أنتهي

واأللوان.. ( أن أنتهي منك. )كنت أحاول بكل األشكالطاF في gحبك ولكني كنت في الحقيقة أزداد تور.

Page 208: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:اعترفت لك مرة على الهاتف.. في لحظة يأس

الرمال المتحركة، لم أعد أتدرين.. حبك صحراء من..أدري أين أقف فيها

xالموجعة أجبتني بسخريتك:

قف حيث أنت.. المهم أال تتحرك. فكل محاولة- الحاالت، ستجعل الرمال تسحبك أكثر للخالص في هذه

نحو العمق. إنها النصيحة التي يوجهها أهل الصحراء لكل من يقع في بالوعة الرمال المتحركة.. كيف ال

!تعرف هذا؟

أن أحزن.. ولكنني ضحكت. ربما ألنني يومها كان ال بد أحب سخريتك الذكية حتى عندما تكون موجعة، فنحن

.قلما نلتقي بامرأة تعذgبنا بذكاء

ين لي احتمال موت كنت gتزف xأراه وربما ألنك كنت ..جميالF بقدر ما هو حتمي

تنبgهت له من قبل" تذكgرت مثالF شعبياF رائعاF، لم أكن قد!"."الطير الحر ما ينحكمش، وإذا انحكم.. ما يتخبgطش

أشعر آنذاك أنني ذلك الطائر المكابر الذي وكنت يسهل ينتسب إلى ساللة الصقور والنسور التي ال

اصطيادها، والتي عندما ت�صطاد، تصبح شهامتها في أن تقاوم أو تتخبgط كما يفعل تستسلم بكبرياء، دون أن

gطائر صغير وقع في فخ.

:المثل الشعبي، صحتx دهشة عندما أجبتك يومها بذلك

!ما أجمله.. لم أكن أعرفه-

:تنهيدة أجبتك وسط

ألنك لم تعرفي الرجال.. ليس هذا زمناF للصقور وال-

Page 209: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

نة التي تنتظر في للنسور.. إنه gزمن للطيور المدج !الحدائق العمومية

ت على ذلك gالحديث. وها أنا أذكره ست سنوات مر :اليوم مصادفة، وأستعيد نصيحتك األخيرة

!".المهم أال تتحرك.. قف حيث أنت"

كيف صدgقت يومها أنك كنت تخافين عليg من والزوابع.. والرمال المتحركة. أنت التي العواصف

أوقفتني هنا في مهب الجرح عدة سنوات، ورحت تنفخين حولي العواصف وتحركين أمواج الرمال تحت

ضين القدر gوتحر .. gقدمي gعلي.

..لم أتحرك أنا

.عدة ظللت واقفاF بحماقة عند عتبات قلبك لسنوات

كنت اجهل أنك تبتلعينني بصمت، أنك تسحبين األرض.أنزلق نحو العمق من تحت قدمي وأنني

كنت أجهل أن زوابعك ستعود كل مرة، وحتى بعد.لتغتالني غيابك بسنوات

واليوم.. وسط األعاصير المتأخرة يأتي كتابك ليثيرفة والمتناقضة داخلي زوبعة من gاألحاسيس المتطر

Fمعا.

"xمنعطف النسيان" قلت..

يأتي النسيان..أسألك؟ من أين

***

Page 210: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

مازلت أذكر ذلك اليوم من فبراير، عندما جاء صوت ليدعوني إلى العشاء في سي الشريف على الهاتف،

.منزله

فهمت. فوجئت بدعوته، ولم أسأله حتى عن مناسبتها منه فقط أنه دعا آخرين للعشاء، وأننا لن نكون

.بمفردنا

.سعيداF ومرتبكاF بفرحي أعترف أنني كنت

خجلت من نفسي ألنني منذ لقائنا األخير لم أطلبه مرة واحدة بمناسبة العيد، برغم إلحاحه عليg أن سوى

.معاF أزوره ولو مرة في المكتب، لنأخذ قهوة

.فجأة، أخذت قراراF ربما كان أحمق

.ألهديها إياه قررت أن آخذ إحدى لوحاتي

أتوقعها؟ ألم يهدني اليوم تلك الفرحة التي لم أعد

سأثبت له دون كالم، أن لوحاتي ال تتداول إال بعملة.بالعمالت المشبوهة القلب وليس

.بعد ذلك وجدت لهذه الفكرة حسنة أخرى

حاضراF في ذلك البيت الذي تسكنينه ولو معلgقاF سأكون.على جدار

حملت لوحتي وذهبت إلى ذلك في اليوم التالي،.العشاء

الراقي كان القلب يركض بي، يسبقني في ذلك الحي بحثاF عن تلك البناية. حتى أنني لم أعد أذكر من اهتدى

Page 211: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F .عيناي.. أم قلبي: إلى بيتك أوال

عندما دخلتها شعرت أن عطرك كان يتربص بي عند المصعد.. وأنك كنت هنا تقودين وجهتي المدخل..وفي.بعطرك فقط

الباب. رحبg بي بعناق استقبلني سي الشريف عند حار، زادت حرارته رؤية تلك اللوحة الكبيرة التي كنت

.بصعوبة أحملها

بدا لي في تلك اللحظة أنه لم يصدق تماماF أن تكون أن يأخذها مني، لكنني استوقفته هدية له. تردد قبل

.."لك ألقول له: "هذه لوحة مني.. إنها هدية

رأيت فجأة على وجهه فرحاF وغبطة نادرة. وراح ينزع عجل، بفضول من ربح شيئاF في عنها الغالف على

.اليانصيب

معلgقة وسط ثم صاح وهو يرى منظر تلك القنطرة:الضباب إلى السماء

!هذي قنطرة الجبال-

شيئاF عانقني وقال وهو يربت على وقبل أن أقول:كتفي

!تعيش.. يعطيك الصحة.. تعيش آ حبيبي-

لم أتمالك نفسي من تقبيله بالحرارة نفسها، ألنه.ينتبه لثمنه عندي أهداني شيئاF ربما لم

رافقني سي الشريف إلى الصالون وهو يمسك ذراعي لوحتي باليد األخرى. واتجه بي نحو ذلك بيد، ويمسك

يشهد المجلس ليقدgمني إلى ضيوفه، كأنه يريد أن الجميع على امتنانه لي. أو ربما على عالقتنا وصداقتنا

شائعاF عني أنني ال أجود بها في الوطيدة، التي كان.هذا الزمن المبتذل.. إال على القلgة

Page 212: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أمامي عدة أسماء لعدة وجوه، صافحت أصحابها لفظ.وأنا أتساءل من يكون معظمهم

أكن أعرف منهم غير واحد أو اثنين، وأما البقية لميه النبتات الطفيلية gأو "النبتات.. فكانوا ما أسم

السيئة". كما يسمي الفرنسيون تلك النبتة التي تنمو حوض أو أية تربة، وإذا بها تمد من الالشيء، في أي

جذورها فجأة وتضاعف أوراقها وفروعها، حتى تطغى.ذات يوم على كل التربة وحدها

ال أدري لماذا كنت دائماF أملك الحاسة القوية التيف على هذا النوع من المخلوقات أينما gتجعلني أتعر

وهيآتهم ومناصبهم كانوا. فهم على اختالف أشكالهم يمتلكون مظهراF مشتركاF يفضحهم، بذلك الزيف والرياء

وبمظاهر الغنى والوجاهة الحديثة التي المفرط لبسوها على عجل.. وبذلك القاموس المشترك في

.الحديث الذي يوهمك أنهم أهم مما تتوقع

المتبادلة فقط، نظرة خاطفة واحدة، وبعض الجمل كانت كافية ألستنتج نوعية ذلك المجلس "الراقي"

وجهاء المهجر، الذين يحترفون الذي يضم نخبة من.الشعارات العلنية.. والصفقات السرية

..أنني كنت في كوكب ليس كوكبي من الواضح

راح سي الشريف يطلع ضيوفه على تلك اللوحة بشيءFمن الفخر والمودة معا..

:والتفت إليg ليقول لي

. أتدري خالد.. لقد_ gحققت لي اليوم أمنية عزيزة علي كنت للذكرى أريد أن يكون في بيتي شيء لك. ال تنس أنك صديق طفولتي وابن حيgي "كوشة الزيات".. أتذكر

؟ gذلك الحي

الشريف. كان فيه شي من هيبة كنت أحب سي

Page 213: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

قسنطينة وحضورها، شيء من الجزائر العريقة..من سي الطاهر، من صوته وطلgته وذاكرتها، شيء

كل وكان في أعماقه شيء نقيg لم يلوgث بعد برغم..شيء. ولكن حتى متى

كنت أشعر أنه محاط بالذباب وبقذارة المرحلة. وكنت.أخاف أن يتسلل إليه العفن حتى العمق ذات يوم

االسم الكبير الذي أخاف عليه، وقد أخاف على ذلك.يحمله إرثاF من سي الطاهر من التدنيس

حدساF، أم استنتاجاF منطقياF ترى أكان شعوري ذلكFبه؟ لذلك الواقع الموجع الذي كنت أراه محاطا

فهل سينجو سي الشريف من هذه العدوى؟ وماذا سيسبح.. مع أي تيار عساه أن يختار؟ في أية بحيرة

وضد أي تيار.. وال حياة لألسماك الصغيرة المعزولةالعكرة التي تحكمها أسماك القرش؟ في هذه المياه

أنg سي كان الجواب أمامي ولم أنتبه في تلك السهرة،.الشريف قد اختار بحيرته العكرة وانتهى األمر

:سيجاره الكوبي قال جاري األنيق خلف

لقد كنت دائماF معجباF برسومك.. وطلبت أن يتصلوا- في بعض مشاريعنا.. ولكنني ال أذكر أنني بك لتساهم

.شاهدت لك أي لوحات عندنا

أدري آنذاك من هو محدثي.. وال عن أية لم أكن مشاريع كان يحدثني. ولكن كان يكفي أن يتحدث عن

.نفسه بصيغة الجمع، ألفهم أنه شخصية فوق العادة

أنني أجهل هوية محدgثي وكأن سي الشريف تنبgه إلىFفتدخل موضحا:

مشاريع إن )سي..( مولع بالفن، وهو مشرف على-

Page 214: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.كبرى ستغيgر الوجه الثقافي للجزائر

:شيء ثم أضاف وكأنه تنبgه إلى

ولكنك لم تزر الجزائر منذ عدة سنوات.. صحيح أنك- .. المركgبات الثقافية والتجارية الجديدة.. ال لم ترw بعد تلك

..بد أن تتعرف عليها

..أجبه ولم

كنت أراه يتدحرج أمامي من سلgم القيم، غباءF أو فاحتفظت لنفسي بما سمعته عن. تواطؤاF ال أدري

تلك.. "المنشآت" وكل ما جاورها من معالم وطنيةFF حجراF على العموالت والصفقات، وتناوب ب�نيت حجرا

اق كباراF وصغاراF.. على gمرأى من الشهداء عليها السر الذين شاء لهم حظهم أن يكون مقامهم مقابالF.. لتلك

.الخيانة

ها هو إذن )سي...( يبدو طيباF و رجالF شبه بسيط، لوال األنيقة جداF.. وحديثه الذي ال يتوقف عن بدلته

بباريس مشاريعه القريبة والبعيدة، التي تمر جميعها وبأسماء أجنبية مشبوهة، تبدو مخجلة في فم ضابط

.سابق

تراه ظاهرة ثقافية في عالم العسكر.. أم.. ها هو إذن..ظاهرة عسكرية في عالم الثقافة

أن "الزواج المنافي للطبيعة" أصبح رمزاF طبيعياF مذ أم!قيادة أركان عربية شاع وباؤه "رسمياF" في أكثر من

كان الجميع يتملقونه، ويجاملونه، عساهم يلحسون ذلك العسل الذي كان يتدفق بين يديه نهراF شيئاF من

..والجفاف من العملة الصعبة، في زمن القحط

وكنت أتساءل طوال تلك السهرة، ماذا كنت أفعلالعجيب؟ وسط ذلك المجلس

Page 215: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F كنت أتوقع أن تكون تلك الدعوة، أو على األقل موعدا الوطن، أستعيد فيه مع سي الشريف نادراF لي مع

.ذكرياتنا البعيدة السهرة. ناب عنه ولكن الوطن كان غائباF من تلك

.جرحه، ووجهه الجديد المشوه

فيها بالفرنسية.. عن كانت سهرة في فرنسا.. نتحدث مشاريع سيتم معظمها عن طريق جهات أجنبية..

!فهل حصلنا على استقاللنا حقاF؟.. بتمويل من الجزائر

كان انتهت تلك السهرة في حدود منتصف الليل. فقط )سي...( متعباF وله ارتباطات ومواعيد صباحية.. وربما

Fليلية أيضا.

ل في فتح شهيتنا ألكثر إن gالمال السريع الكسب، يعج .من ملذgات

أكون سعيداF ذلك المساء. لقد كنت في وكان يمكن أن التعمق الواقع محطg اهتمام الجميع ألسباب لم أشأ

..فيها

بل ربما كنت النجم الثاني في تلك السهرة مع أن الدعوة كانت على شرفه، )سي...( الذي فهمت

وأنني دعيت لها، ألنه كان يحب أن يكون محاطاF في بالفنانين دليالF على ولعه باإلبداع.. وذوقه غير سهراته

!العسكري

لطيفاF ومجامالF.. وأنه حدثني يومها والواقع أنه كان عن آرائه الفنية في مجاالت مختلفة، وحبه لبعض الرسامين الجزائريين بالذات. بل وقال مازحاF، إنه

وأنني إذا كنت يحسد سي الشريف على تلك اللوحة، آخذ معي لوحة حيث أذهب، فسيدعوني إلى بيته عند

..للجزائر زيارتي

.ضحكت من مزاحه

ألكون على ولكنني كنت حزيناF بما فيه الكفاية بعد ذلك

Page 216: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

حافة البكاء، وأنا أنفرد بنفسي ذلك المساء فيأوصلتني إلى ذلك البيت؟ سريري، وأتساءل أي حماقة

بيت كنت أتوقعه بيتك، وإذا بي أدخله وأغادره دون أن ألمح حتى طرف ثوبك، وهو يعبر ذلك الممر الذي كان

.يفصلني.. عن عالمك

اليوم التالي، دقg الهاتف. توقعتك أنت، في صباح:وكانت كاترين.. قالت

..صباحية.. وأجمل األماني لك قبالت-

:وقبل أن أسأل عن المناسبة أضافت

اليوم عيد )السان فالنتان( القديس الذي يبارك- .. .العشاق

أبعث إليك بطاقة.. ماذا تريد فكgرت أن أطلبك بدل أنأن أتمنى لك في عيد الحب؟

:تردgدي أضافت بلهجة ساخرة أحبها دهشتي.. أو وأمام

!اليوم اطلب أيها األحمق.. فالدعوات تستجاب-

..ضحكت

كدت أقول لها أطلب شيئاF من النسيان فقط. ولكنني:شيئاF مشابهاF لذلك قلت

أريد أن أحال إلى التقاعد العاطفي.. أيمكنك أن- !قديسك طلبي هذا تبلgغي

:قالت

با لك من مجنون.. أتمنى أال يسمعك فيحرمك من- بركاته إلى األبد.. هل أتعبك موعدنا األخير إلى هذا

الحد؟

Page 217: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كاترين. ثم وضعت تلك السماعة يومها ضحكت مع.ألبكي معك

الذي لم أكن كنت أكتشف ألول مرة ألم ذلك العيد.سمعت به من قبل

لم يأت هاتفك حتى ليشكرني على تلك اللوحة، أو حتى على تلك الزيارة، وذلك الموعد المتعمد الذي

.حضرته وتغيgبت عنه

..الحب إذن جاء عيد

فيا عيدي وفجيعتي، وحبي وكراهيتي، ونسياني..كلg هذا وذاكرتي، كلg عيد وأنت

اق، gون والعشgللحب عيد إذن.. يحتفل به المحب البطاقات واألشواق، فأين عيد النسيان ويتبادلون فيه

سيgدتي؟

Fوا لنا مسبقاgبأعياد السنة، في هم الذين أعد Fتقويما بلد يحتفل كلg يوم بقديس جديد على مدار السنة..

قدgيسيهم الثالثمائة والخمسة والستين.. أليس بينقديس واحد يصلح للنسيان؟

الفراق هو الوجه اآلخر للحب، والخيبة هي الوجه مادام للنسيان يضرب اآلخر للعشق، لماذا ال يكون هناك عيد

عاة البريد عن العمل، وتتوقف فيه الخطوط فيه س� اإلذاعات من بثg األغاني الهاتفية، وت�منع فيه

!العاطفية.. ونكفg فيه عن كتابة شعر الحب

كتب "فيكتور هوغو" لحبيبته جوليات دروي منذ قرنين تكرار كلمة يقول: "كم هو الحب عقيم، إنه ال يكف عن

واحدة "أحبك" وكم هو خصب ال ينضب: هنالك ألف"..الكلمة نفسها طريقة يمكنه أن يقول بها

ب معك ألف gدعيني أدهشك في عيد الحب.. وأجر ..الكلمة الواحدة نفسها في الحب طريقة لقول

Page 218: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وأعشقك دعيني أسلك إليك الطرق المتشعgبة األلف،ف gبالعواطف المتناقضة األلف، وأنساك وأذكرك، بتطر

.والذاكرة النسيان

ف الحرية والعبودية.. gوأخضع لك وأتبرأ منك، بتطر .والكراهية بتناقض العشق

gدعيني في عيد الحب.. أكرهك.. بشيء من الحب.

أكرهك يومها؟ تراني بدأت

ومتى ولدت داخلي تلك العاطفة بالتحديد، وراحت تنمومدهشة، وأصبحت تجاور الحب بعنفه؟ بسرعة

األعياد ترى إثر خيباتي المتكررة معك، بعد كل تلك التي أخلفتها مروراF بذكرى لقائنا، أم بسبب ذلك التوتر

يسكنني، ذلك الجوع الدائم إليك، الغامض الذي كان.الذي كان يجعلني ال أشتهي امرأة سواك

أريدك أنت ال غير، وعبثاF كنت أتحايل على جسدي. كنت غيرك. كنتx شهوته عبثاF كنت أقدgم له امرأة أخرى

.الفريدة.. ومطلبه الوحيد

في لحظة حبg أمرر يدي األكثر إيالماF ربما، عندما كنت على شعر كاترين. وإذا بيدي تصطدم بشعيراتها

فأفقد فجأة شهيgة حبgي وأنا أتذكر القصيرة الشقراء، شعرك الغجري الطويل الحالك، الذي كان يمكن أن

.يفرش بمفرده سريري

كان نحولها يذكgرني بامتالئك، وخطوط جسدها المسطgحة تذكرني بتعاريجك وتضاريس المستقيمة

.جسدك عطرها، وكان عطرك يأتي بغيابه حتى حواسي ليلغي

ويذكgرني كطفل� يتصرف بحواسه األولى، أن ذلك!ألمي العطر لم يكن العطر السري

Page 219: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كنت تتسللين إلى جسدي كلg صباح وتطردينها من.سريري

ألمك السري، وشهوتك المتراكمة في الجسد يوقظنيلة يوماF بعد gآخر قنبلة موقوتة، ورغبة ليلية مؤج.

هل تستيقظ الرجولة باكراF حقاF، أم الشوق هو الذي الينام؟

..أجيبيني أيتها األنثى التي تنام ملء جفونها كل ليلة

وwحدهمwالرجال ال ينامون؟ أ

ولماذا يرتبك الجسد، وأكاد أجهش على صدر غيرك أكاد أعترف لها أنني عاشق امرأة أخرى، وأنني بالبكاء،

وإنما تتلقى عاجز أمامها ألن رجولتي لم تعد ملكي،!أوامرها منك فقط

!متى بدأت أكرهك

لبست فيه كاترين ثيابها، ترى في ذلك اليوم الذي مدgعية بمجاملة كاذبة موعداF ما لتتركني وحدي في ذلك

.السرير الذي لم يعد يشبع نهمها

أنه يحدث: يوم اكتشفت وأنا أذرف دمعة رجالية مكابرة للرجولة أيضاF أن تنكgس أعالمها، وترفض حتى لعبة

الكبرياء الرجالي.. وأننا في المجاملة.. أو منطق.النهاية لسنا أسياد أجسادنا كما نعتقد

تساءلت بشيء من السخرية المرة، إن كان ذلك يومها بهذه القديس )السان فالنتان( قد استجاب لدعوتي

!السرعة.. وحوgلني حقاF إلى عاشق متقاعد

آنذاك، وشعرت بشيء أذكر أنني لعنتك.. وحقدت عليك من المرارة المجاورة للبكاء.. أنا الذي لم أبك حتى يوم

ذراعي، كان يمكن أن أبكي يومها وأنت تسرقين بترت.منgي آخر ما أملك

Page 220: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

!رجولتي تسرقين

..".ذات يوم سألتك "هل تحبينني؟

xقلت:

!أدري.. حبك يزيد وينقص كاإليمان ال-

يمكن أن أقول اليوم، إن حقدي عليك كان يزيد..وينقص أيضاF كإيمانك

:يومها أضفت بسذاجة عاشق

-xمؤمنة؟ وهل أنت

xصحت:

وفرائضه.. طبعاF.. أنا أمارس كل شعائر اإلسالم-

وهل تصومين؟-

المدينة.. طبعاF أصوم.. إنها طريقتي في تحدgي هذه- .في التواصل مع الوطن.. ومع الذاكرة

بت لكالمك. ال أدري لماذا gعك هكذا. تعجgلم أكن أتوق كان في مظهرك شيء ما يوهم بتحررك من كل

.الرواسب

:أبديت لك دهشتي قلتx عندما

كيف تسمgي الدين رواسب، إنه قناعة؛ وهو ككل- ..قضية ال تخصg سوانا قناعاتنا

ال تصدق المظاهر أبداF في هذه القضايا. اإليمان عاطفة سرية نعيشها وحدنا في خلوتنا الدائمة كالحب

درعنا السرية.. إلى أنفسنا. إنها طمأنينتنا السرية،

Page 221: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وهروبنا السري إلى العمق لتجديد بطرياتنا عند.الحاجة

الذين يبدو عليهم فائض من اإليمان، فهم غالباF ما أما الداخل ليعرضوا كل يكونون قد أفرغوا أنفسهم من

!إيمانهم في الواجهة، ألسباب ال عالقة لها بالله

!أجمل كالمك يومها ما كان

كان يأتي ليقلب ثنايا الذاكرة، ويوقظ داخلي صوت.صباحات قسنطينة المآذن في

كان يأتي مع الصلوات، مع التراتيل، مع صوت كتاتيب قسنطينة القديمة. فأعود إلى )المؤدgب( في

الحصير نفسه أجلس عليه باالرتباك الطفولي نفسه، أردgد مع أوالد آخرين تلك اآليات التي لم نكن نفهمها

ذلك اللوح ونحفظها كيف بعد، ولكننا كنgا ننسخها على ما كان، خوفاF من "الفاالقة". وتلك العصا الطويلة التي

.تتربص بأقدامنا لتدميها عند أول غلطة كانت

لم أصم من كان يأتي ليصالحني مع الله، أنا الذي.سنين

ضني ضد هذه المدينة gكان يصالحني مع الوطن، ويحر منgي كلg يوم مساحة صغيرة من اإليمان.. التي تسرق

.ومن الذاكرة

أيقظت مالئكتي وشياطيني كنتx يومها المرأة التي.في الوقت نفسه

ساحة يتصارع ثم راحت تتفرج عليg بعدما حوgلتني إلى!الخير والشر فيها.. دون رحمة

***

.للمالئكة في ذلك العام.. كان النصر

Page 222: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

قررت أن أصوم وقتها ربما بتأثير كالمك، وربما أيضا الله. أما قلت "العبادة درعنا للهروب منك إلى

".السرية

..إذن قلت سأحتمي من سهامك باإليمان

رحت أحاول أن أنساك وأنسى قطيعتك.. وأنسى حتى.نفسها وجودك معي في المدينة

كم من األيام قضيتها في تلك الغيبوبة الدينية. بين أحاول بترويض جسدي على الجوع.. الرهبة والذهول

Fضه على الحرمان منك أيضاgأن أرو.

أستعيد سلطتي على حواسي التي كنت أريد أن.وحدك تسللت إليها، وأصبحت تتلقي أوامرها منك

كنت أريد أن أعيد لذلك الرجل الذي كان يوماF أنا، هيبته.. حرمته.. مبادئه.. وقيمه. مكانته األولى قبلك

.التي أعلنت عليها الحرب

ذلك بعض الشيء ولكنني لم أعترف أنني نجحت فيFأنجح في نسيانك أبدا.

وأنا أكتشف أنني كنت. كنت أقع في فخg آخر لحبك.أثناء ذلك أعيش بتوقيتك ال غير

اإلفطار معك. وأصوم وأفطر كنت أجلس إلى طاولة.معك

ر وأمسك عن األكل معك، أتناول نفس أطباقك gأتسح ر بك.. ال غير gالرمضانية، وأتسح.

gد معك في كل gسوى التوح Fشي دون لم أكن أفعل شيئا .علمي

كنت في النهاية كالوطن. كان كلg شيء يؤدي إليك..إذن

Page 223: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.مثله كان حبgك متواصالF حتى بصدgه وبصمته

Fبإيمانه وبفكره مثله كان حبك حاضرا.

فهل العبادة تواصل أيضاF؟

***

انتهى رمضان. وها أنا أنزل من طوابق سموgي العابر، ذلك الشهر الذي كنت. وأتدحرج فجأة نحو حزيران

.أملك أكثر من مبرر للتشاؤم منه

، ذكريات67عدا حزيران فقد كان في ذاكرتي ما 71موجعة أخرى ارتبطت بهذا الشهر، آخرها حزيران

بعضه في سجن للتحقيق والتأديب، الذي قضيت..بعد يستضاف فيه بعض الذين لم يبتلعوا ألسنتهم

أما أول ذكرى مؤلمة ارتبطت بهذا الشهر فكانت تعود الذي دخلته يوماF في قسنطينة مع( إلى سجن )الكدية

حيث تمgت1945مئات المساجين إثر مظاهرات ماي .محاكمتنا في بداية حزيران أمام محكمة عسكرية

،Fحزيران كان األكثر ظلما gوأية تجربة كانت األكثر أي ألماF؟

الذي أصبحت أتحاشى طرح هذه األسئلة، منذ اليوم.أوصلتني أجوبتي إلى جمع حقائبي ومغادرة الوطن

Fلزنزانته؛ ال الوطن الذي أصبح سجنا Fال عنوان معروفا اسم رسمياF لسجنه؛ وال تهمة واضحة لمساجينه، والذي

Fمعصوب العينين محاطا ،Fأصبحت أ�قاد إليه فجرا أيضاF. شرف بمجهولين، يقودانني إلى وجهة مجهولة

.ليس في متناول حتى كبار المجرمين عندنا

Page 224: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F بحماسه وعنفوانه وتطرف هل توقعت يوم كنت شابا أحالمه أنه سيأتي بعد ربع قرن، يوم عجيب كهذا،

دني فيه gجزائري مثلي من ثيابي.. وحتى من يجر ساعتي وأشيائي، ليزجg بي في زنزانة )فردية هذه

ة gالمرة( زنزانة أدخلها باسم الثورة هذه المر..

دتني gمن ذراعي الثورة التي سبق أن جر!

أكثر من سبب وأكثر من ذكرى كانت تجعلني أتطيgر من قضم الكثير من سعادتي على مرg ذلك الشهر الذي

.السنوات

شت بالقدر gعلى تراني في ذلك العام تحر gأكثر، ليرد تشاؤمي بكل تلك الفجائع المذهلة التي حلgت بي في

واحد؟ شهر

أم فقط، كان ذلك هو قانون الفجائع والكوارث التي ال واحدة "كي تجxي تيجبها شعرة.. وكي تأتي سوى دفعة

".تروح تقطgع السالسل

الحياة، التي يكفي لمصادفة رفيعة كانت تلك عبثيgة كشعرة أن تأتيك بالسعادة والحب والحظg الذي لم تكن

.تتوقgعه

ولكن.. عندما تنقطع تلك الشعرة الرفيعة، فهي تكسرF إليها، معتقداF معها كلg السالسل التي كنت مشدودا

!أنها أقوى من أن تكسرها شعرة

أنتبه إلى أن لقاءك ذات يوم، بعد ربع قرن قبلها لم كشعرة التي من النسيان، كان تلك المصادفة الرفيعة

عندما جاءت جرت معها سعادة العالم بأكمله، وعندما األحالم، وسحبت من تحتي رحلت قطعت كل سالسل

.سجاد األمان

gسنوات، تعود تلك الشعرة التي ها هي ذي وبعد ست ، gالسقف علي gاليوم لتكسر آخر أعمدة بيتي، وتهد

دفعت ما يكفي82حزيران بعدما اعتقدت أنني في

Page 225: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

من الضريبة لينساني القدر بعض الوقت، بعدما لم يبق قائم في حياتي، يمكن أن أخاف عليه من شيء واحد

..السقوط

:األولى في قانون الحياة كنت أجهل حين ذاك المادة

إن مصير اإلنسان إنما هو خالصة تسلسالت حمقاء.."".غير ال

***

طعم المرارة الغامضة، ومذاق82كان لبداية صيف اليأس القاتل، عندما يجمع بين الخيبات الذاتية القومية

ة واحدة gمر.

أعيش بين خبري»ن: خبر صمتك المتواصل، وخبر وكنت.الفجائع العربية

بي هذه المرة من طريق آخر. فقد كان قدري يتربgص جاء اجتياح إسرائيل المفاجئ لبيروت في ذلك الصيف،

وإقامتها في عاصمة عربية لعدة أسابيع.. على مرأى عربي.. جاء ينزل من أكثر من حاكم.. وأكثر من مليون

.بي عدgة طوابق في سلgم اليأس

F انفرد بي وقتها وغطgى على بقية أذكر أن خبراF صغيراFاألخبار. فقد مات الشاعر اللبناني خليل حاوي منتحرا بطلقات ناريgة، احتجاجاF على اجتياح إسرائيل للجنوب

أن يتقاسم هواءه الذي كان جنوبه وحده، والذي رفض..مع إسرائيل

كان لموت ذلك الرجل الذي لم أكن قد سمعت به من.قبل، ألم مميgز فريد المرارة

وال يجد.. فعندما ال يجد شاعر شيئاF يحتجg به سوى موته ورقاF يكتب عليه سوى جسده.. عندها يكون قد أطلق

Page 226: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F .علينا النار أيضا

..ذهب قلبي طوال تلك األيام عند زياد

الشعراء فراشات تموت في: "كان قديماF يقول الصيف". كان وقتها مولعاF بالروائي الياباني "ميشيما"

F أيضاF بطريقة أخرى احتجاجاF على الذي مات منتحرا..خيبة أخرى

من وحي أحد عناوين ميشيما: تراه قالها يومها "الموت في الصيف"، أم أنها فكرة مسبقة مادام

بسرد قائمة بأسماء الشعراء الذين اختاروا يدافع عنهاهذا الموسم ليرحلوا؟

إليه آنذاك، وأحاول أن أقابل نظرته كنت أستمع التشاؤمية للصيف بشيء من السخرية، خشية أن ينقل

. فأقول له مازحاF: "يمكنني أن أسرد عليك gعدواه إلي !".يموتوا في الصيف أيضاF عشرات األسماء لشعراء لم

فيضحك ويردg: "طبعاF.. هناك أيضاF من يموتون بين فال أملك إال أن أجيبه: "يا لعناد الشعراء..! " صيفين»

!".وحماقتهم

الذاكرة. ورحت أتساءل فجأة أين يمكن عاد زياد إلىأن يكون في هذه األيام؟

في أية جبهة.. في أي شارع، وكل.. في أية مدينةللموت؟ الشوارع مطوقة، وكل المدن مقابر جاهزة

منذ رحل لم تصلني منه سوى رسالة واحدة قصيرة، ضيافتي. كان ذلك منذ رحيله.. منذ يشكرني فيها على

الحين؟ ثمانية أشهر. فماذا تراه أصبح منذ ذلك

لم أكن قلقاF عليه حتى اآلن. فقد عاش دائماF وسط والقصف العشوائي. كان رجالF المعارك والكمائن،

.بالجملة يخافه الموت أو يحترمه، فلم يشأ أن يأخذه

Page 227: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وبرغم ذلك كانت عاطفة غامضة ما توقظ مخاوفي. أتذكgر كالمه عن الصيف.. وموت ورحت أتشاءم وأنا

F .ذلك الشاعر منتحرا

يقلgدون بعضهم في الموت أيضاF؟ ماذا لو كان الشعراء ماذا لو لم يكونوا فراشات فقط؟ لو كانوا مثل حيتان

البالين الضخمة يحبgون الموت جماعياF في المواسمذاتها؟ نفسها.. على الشطآن

تاركاF خلفه1961لقد انتحر )همنغواي( أيضاF صيف ".األخيرة "الصيف الخطر مسودgة روايته

فأية عالقة بين الصيف وبين كلg هؤالء الروائيينوالشعراء الذين لم يتالقوا؟

وكأنني كان ال بد أال أتعمgق كثيراF في تلك الفكرة، أستدرج بها القدر أو أتحداه، فيعطيني في ذلك الصيف

منها بعد، برغم مرور تلك الصفعة التي لم أنهض.السنوات

***

..مات زياد

من مربع صغير في وها هو خبر نعيه يقفز مصادفة جريدة إلى العين.. ثم إلى القلب.. فيتوقgف الزمن.

ة في حلقي، فال أصرخ.. وال أبكي يتكوgر النبأ gغص.

.الفجيعة أصاب بشلل الذهول فقط، وصاعقة

كيف حدث هذا؟. وكيف لم أتوقع موته ونظراتهأكثر من وداع؟ األخيرة لي كانت تحمل

مازالت حقيبته هنا، في خزانة غرفتي تفاجئني عدة.وأنا أبحث عن أشيائي مرات في اليوم

Page 228: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لقد عاد هناك دون أمتعة. أكان يعرف أنه لن يحتاج إلى كثير من الزاد لرحلته األخيرة، أم كان يفكر في العودة

كما كنت أتوهم تحت ليستقرg هنا ويعيش إلى جواركتأثير غيرتي؟

الصمت لم أسأله يومها عن قراره األخير. لقد سكن بيننا في األيام األخيرة. وأصبحت أتحاشى الجلوس

لي بأمر أخشاه أو بقرار إليه. وكأنني أخاف أن يعترف.أتوقعه

صغيرة. قال لم يقل شيئاF وهو يسافر محمgالF بحقيبة يد لي معتذراF فقط: "أال يزعجك أن أترك هذه األيام

أن مضايقات المطارات الحقيبة عندك.. أنت تدري كثيرة هذه األيام، وال أريد أن أنقل أشيائي مرة أخرى

.."إلى آخر من مطار

ثم أضاف بما يشبه السخرية: "خاصة أن ال شيء!".األخير ينتظرني في المطار

لم يخطئ حدسه إذن.. لم يكن في انتظاره سوى.الموت رصاصة

مازلت أذكر قوله مرة: "لنا في كل وطن مقبرة.. على.."باسم كل الثورات وباسم كلg الكتب.. يد الجميع متنا

!هويته فقط ولم تقتله قناعاته هذه المرة.. قتلته

.نخب ضحكته سكرت ذلك المساء

.الذي ال يعادله حزن نخب حزنه المكابر أيضاF.. ذلك

.نخب رحيله الجميل.. نخب رحيله األخير

..المساء بكيته ذلك

ذلك البكاء الموجع المكابر الذي نسرقه سراF من

Page 229: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.رجولتنا.أي رجل فيه كنت أبكي األكثر وتساءلت

ولxمw البكاء؟

أراد.. ذات صيف كما أراد. مقاتالF لقد مات شاعراF كماFفي معركة ما كما أراد أيضا.

.حتى بموته لقد هزمني

تذكgرت وقتها تلك المقولة الرائعة للشاعر والرسام الذي كتب يوماF سيناريو فيلم يتصور فيه" "جان كوكتو

موته مسبقاF، فتوجه إلى بيكاسو وإلى أصدقائه القالئل الذين وقفوا يبكونه، ليقول لهم بتلك السخرية

:يتقنها الموجعة التي كان

ال تبكوا هكذا.. تظاهروا فقط بالبكاء.. فالشعراء ال"!".يتظاهرون بالموت فقط يموتون. إنهم

وماذا لو كان زياد يتظاهر بالموت فقط؟ لو فعل ذلك عناد.. ليقنعني أن الشعراء يموتون حقاF في عن

الفصول؟ الصيف ويبعثون في كل

xوأنت..

تراك تدرين؟ هل أتاك خبر موته؟ أم سيأتيك ذات يوموسط قصة أخرى وأبطال آخرين؟

لتبني له وماذا ستفعلين يومها؟ أستبكينه.. أم تجلسينتي كتاب، كما gمن الكلمات، وتدفنيه بين دف Fضريحا

كلg من أحببت وقررت تعودت أن تدفني على عجلقتلهم يوماF؟

العنق هو الذي كان يكره الرثاء، كراهيته لربطاتوالبدالت الفاخرة، بأية لغة سترثينه؟

.هزمني في الواقع.. لقد هزمك زياد كما

Page 230: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وضعك أمام الحد الفاصل بين لعبة الموت.. والموت..للموت على الورق فليس كل األبطال قابلين

هنالك من يختارون موتهم وحدهم.. وال يمكننا قتلهم.رواية لمجرد

.وكان يكذب.. كبطل جاهز لرواية

وحدها أمgه. ويعترف كان يكابر ويدgعي أن فلسطين أحياناF فقط بعد أكثر من كأس، أن ال قبر ألمه، تلك

مقابر جماعية لمذبحة أولى كان اسمها التي دفنت في(.)تلg الزعتر

Fتذكارية، ورفعوا عالمات النصر وإنهم أخذوا صورا .جثgتها ووقفوا بأحذيتهم على جثث.. قد تكون بينها

.ولحظتها فقط كان يبدو لي أنه يبكي

لxمw البكاء wزياد؟ ف

في كل معركة كانت لك جثgة. في كلg مذبحة تركت ذا تواصل بموتك منطق األشياء. قبراF مجهوالF. وها أنت

.فال شي كان في انتظارك غير قطار الموت

من أخذ قطار تلg الزعتر، وهنالك من أخذ قطار هنالك..وشاتيال ( أو قطار صبرا82)بيروت

وهناك من هنا أو هناك، مازال ينتظر رحلته األخيرة،..بقايا بيت، أو في بلد عربي ما في مخيgم أو في

.وبين كلg قطار وقطار.. قطار

gموت وموت.. موت بين كل.

فما أسعد الذين أخذوا القطار صديقي. ما أسعدهم!أمام كلg نشرة أخبار وما أتعسنا

Page 231: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

بعدهم كثرت "وكاالت السفريات" و "الرحالت أصبحت ظاهرة عربية يحترفها كلg نظام". الجماعية

..على طريقته

محطة. وأصبحت في أعماق بعدهم أصبح الوطن مجرد كلg منgا سكgة حديدية تنتظر قطاراF ما.. يحزننا أن

.ويحزننا أن يسافر دوننا.. نأخذه

..رحل زياد إذن

المنسيgة في ركن خزانته، منذ وإذا بحقيبته السوداء عدة شهور، تغطgي فجأة على كل أثاث البيت، وتصبح

.الوحيد، حتى أنني ال أرى غيرها أثاثي

وأنني على عندما أعود إلى البيت. أشعر أنها تنتظرني موعد معه. عندما أترك بيتي، أشعر أنني أهرب منها

.على صدري، دون أن أدري وأنها كانت بلغزها جاثمة

ولكن كيف الهروب منها وهي تتربص بي كل مساء، أطفئ جهاز التلفزيون، وأجلس وحيداF ألدخن عندما

..العذاب سيجارة قبل النوم فيبدأ

وأعود إلى السؤال نفسه: ماذا داخل هذه الحقيبة..بها؟ وماذا أفعل

أحاول أن أتذكgر ماذا يفعل الناس عادة بأشياء الموتى.Fأ( إلى بثيابهم مثال gوحاجاتهم الخاصة. فتعود )أم

وتلت الذاكرة ومعها تلك األيام المؤلمة التي سبقت.وفاتها

أتذكgر ثيابها وأشياءها، أتذكر )كندورتها( العنابي التي. لم تكن gأجمل أثوابها، ولكنها كانت أحب أثوابها إلي

.المناسبات فقد تعودت أن أراها تلبسها في كل

كانت الثوب الذي يحمل األكثر عطرها ورائحتها شيء من العنبر، شيء من المميزة، رائحة فيها

عرقها، وشيء شبيه بالياسمين المعتgق. مزيج من

Page 232: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.بدائية، كنت أستنشق معها األمومة عطور طبيعية

ا( )سألت عن تلك )الكندورة( بعد أيام من وفاة gأم فقيل لي بشيء من االستغراب إنها أعطيت مع أشياء

الالتي حضرن إلعداد الطعام أخرى للنساء الفقيرات،.في ذلك اليوم

ولكن خالتي الكبرى.." صرخت: "إنها لي.. كنت أريدها قالت: "إن أشياء الميت يجب أن تخرج من البيت قبل

عدا بعض األشياء الثمينة التي يحتفظ خروجه منه.. ما".بها للذكرى أو للبركة

ا gذلك السوار الذي لم يفارق معصمها(.. ومقياس )أم به؟ يوماF وكأنها ولدت به، ماذا تراهم فعلوا

.لم أجرؤ على السؤال

ان الذي لم يكن يتجاوز السنوات gالعشر، كان أخي حس ا( وغيابها gمما يحدث حوله سوى وفاة )أم Fال يعي شيئا

.النهائي

رن كل وكنت gبحشد من النساء الالتي كن يقر Fمحاطا :لهن شيء. كأن ذلك البيت أصبح فجأة

ا؟ من األرجح أن يكون قد أصبح من gأين )مقياس( أم ربما استحوذ عليه أبي مع نصيب إحدى الخاالت، أو

.بقية صيغتها ليقدgمها هدية لعروسه الجديدة

عدت إلى هذه الذكرى وتفاصيلها، ازدادت عالقتي كلماFبهذه الحقيبة تعقيدا.

لبعض األشياء على بساطتها، قيمة ال عالقة فقد كان فماذا أفعل. لها بمقاييس اآلخرين للتركة والمخلفات

بحقيبة تركها صاحبها منذ ثمانية أشهر دون أية وصيةومات؟.. أو توضيح خاص

هل أتصدق بها على الفقراء، مادامت أشياء الموتى

Page 233: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أحتفظ بها كذكرى من صديق يجب أن تلحق بهم، أممادمنا ال نحتفظ إال باألشياء الثمينة؟

أم أمانة؟.. أهي عبء

وإذا كانت عبئا.. لماذا أخذتها منه دون مناقشة، لماذابحملها معه، بحجة أنني قد أترك باريس مثالF؟ لم أقنعه

بموت صاحبها إلى وصية. وإذا كانت أمانة.. ألم تتحول فهل نتصدgق بوصايا الشهداء.. هل نضعها عند بابنا

عابر سبيل؟ هدية ألول

Fوكنت أدري خالل تلك األيام التي عشتها مسكونا أنني أرهق نفسي هباءF، وأن بهاجس تلك الحقيبة

محتواها وحده يمكن أن يحدد قيمتها وصفتها، ويحدد ما يمكن أن أفعله بها. ولذا بدأت أخافها فجأة، بالتالي

.قبل أنا الذي لم أكن أعيرها اهتماماF من

ترى أكان موت زياد هو الذي أضفى عليها ذلك الطابع الحقيقة، كنت أخاف أن تحمل لي المربك، أم أنني في

ك، تحمل شيئا عنك كنت أخاف أن أعرفه؟ gسر

***

.الشكg كان ال بد أن أفتح تلك الحقيبة.. ألغلق أبواب أخذت ذلك القرار ذات ليلة سبت، بعد مرور أسبوع

.زياد على قراءتي خبر استشهاد

كان هناك احتمال آخر فقط، ال يخلو من الحماقة، كأن المنظمة وأسلgمها ألحدهم هناك، آخذها إلى مقر

ل بإرسالها إلى أقرباء زياد في لبنان أو في gليتكف ..مكان آخر

ولكنني عدلت عن هذه الفكرة الساذجة وأنا أتذكgر أنه من أهل في لبنان. فلمن سيسلgمها لم يعد لزياد

مصيرها؟ هؤالء.. وعند أية قبيلة وأية فصيلة سينتهي

Page 234: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

من سيكون "أبوها".. وهنالك أكثر من "أبو" يعتقد أنه بأبوgة القضية الفلسطينية، وأنه الوريث ينفرد وحده

خونة؟ الشرعي الوحيد للشهداء.. وأن اآلخرين

ومن أدراني على يد من مات زياد؟

على يد المجرمين على يد المجرمين "اإلخوة".. أم األعداء؟ أما كان يقول: "لقد حوgلوا "القضية" إلى

يمكنهم قتلنا تحت تسمية أخرى غير قضايا.. حتى.."الجريمة

الشباب الفلسطيني فبأية رصاصة مات زياد.. وخيرةقتل برصاص فلسطيني.. أو عربي ال غير؟

ارتجفت يدي وأنا أفك أقفال تلك.. في ذلك المساء.الحقيبة

gر أنني أملك يداgواحدة شيء ما جعلني أتذك.

لم تكن الحقيبة مغلقة بمفتاح وال بأقفال جانبية. يتركها لي شبه مفتوحة كما يترك أحد وكأنه تعمgد أن

.للدخول الباب موارباF، في دعوة صامتة

شعرت بشيء من االرتياح لهذه "االلتفاتة"، ولهذا المتأخر عن أوانه، الذي منحه لي زياد اإلذن السابق أو

..لدخول عالمه الخاص دون إحراج

فعل ذلك ألنه كان يكره األقفال المخلوعة، تراه وألقدام واألبواب المفتوحة عنوة كراهيته للمخبرين

العسكر؟

أم ألنه كان يتوقgع يوماF كهذا؟

لم تمنع قشعريرة من أن تسري كل هذه االفتراضات..في جسدي، وفكرة أخرى تعبرني

مسبقاF أنه ذاهب إلى الموت. وهذه لقد كان يعرف

Page 235: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أن الحقيبة كانت معدgة لي منذ البداية. وكان بإمكاني أفتحها منذ عدة شهور. فهي لم تعد موجودة بالنسبة

.البيت إليه منذ أن غادر هذا

.إنها طريقته في قطع جذور الذاكرة.. كالعادة

الفوقي للحقيبة، بعد أن وضعتها على رفعت النصف.فيها طرف السرير.. وألقيت نظرة أولى على ما

وإذا بالموت والحياة يهجمان عليg معاF، وأنا أرى ثيابه كنزته الصوفية الرمادية، وجاكيته أمامي، ألمس

..الجلدي األسود الذي تعوgدت أن أراه به

أنا أملك حجة حضوره، وحجة موته.. وحجة حياته. ها معاF وبالقوة وها هي رائحة الحياة والموت تنبعثان

.نفسها من ثنايا تلك الحقيبة

.بقاياه ها أنا معه ودونه.. أمام

gثياب.. ثياب.. أغلفه خارجية لكتاب بشري.

.من زجاج واجهة قماشية لمسكن انكسر المسكن وظلgت الواجهة، ذاكرة مثنية في

.الواجهة؟ حقيبة، فلماذا ترك لي

بين الثياب قميص حريري سماوي اللون، مازال في الشفاف.. لم يفتح بعد. أستنتج دون جهد غالفه الالمع

.أنه هدية منك

موسيقية، أحدها لتيودوركيس، ثم ثالثة أشرطة واألخرى مقطوعات كالسيكية أضعها جانباF وأنا أتذكر

زياد كلما سافر ترك لي أشرطة وكتباF.. وثياباF.. أنFأيضا Fقاgمعل Fاgوحب.

هذه هي المرة األولى التي يترك أشياءه ولكن لنفسه مجموعة في حقيبة، مرتبة بعناية وكأنه أعدها

وجمع فيها مل ما يحب استعداداF لسفر ما. كأنه أراد

Page 236: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وحيث كان يريد أن يرتدي أن يأخذها معه حيث سيذهبل.. ويستمع إلى موسيقى gجاكيته األسود المفض

!تيودوركيس

وفجأة تقع يدي على روايتك أسفل الحقيبة. فأصابة أولى. ترتعش gيدي، تتوقف لحظات قبل أن بهز

تمسك بالكتاب. أجلس على طرف السرير قبل أن.سأفتح طرداF ملغوماF أفتحه. وكأنني

.أتصفح الكتاب بسرعة. وكأنني ال أعرفه

أتذكgر شيئاF.. وأركض إلى الصفحة األولى بحثاF عن ثم دون كلمة واحدة. دون.. اإلهداء، فتقابلني ورقة بيضاء

توقيع أو إهداء. فأشعر بنوبة حزن تشلg يدي، وبرغبة.للبكاء غامضة

لمن منgا أهديت نسختك المزوgرة؟ وكالنا يملك نسخةتوقيع؟ دون

من منا أوهمته أنه يسكن الصفحات الداخلية للكتاب_وأنه ليس في حاجة إلى إهداء؟_ كما يسكن قلبك

أنه وهل صدgقك زياد.. هل صدgقك _هو أيضاF_ لدرجةر أن يأخذ معه هذه الرواية ليعيد قراءتها، حيث gقر

!سيذهب.. هناك

تلك الصفحة البيضاء كافية إلدانتك. كانت تقول كانت يمكن أن كان بالكلمات التي لم تكتب، أكثر مما

تكتبي.. فهل كان مهماF بعد ذلك أال أجد أية رسالة لكالحقيبة؟ في تلك

لقد كنتx امرأة تتقن الكتابة على بياض.. ووحدي كنت.ذلك أعرف

ما عدا روايتك لم أجد سوى مفكرة سوداء متوسطة.الحقيبة_أيضاF_ كسرg عميق الحجم موضوعة أسفل

Page 237: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

البرتقالية" ما كدت أرفعها حتى وقعت منها "البطاقة التي كان يستعملها زياد للتنقلg بالميترو. داخلها

.أكتوبر( الشهر األخير الذي رحل فيه )قصاصة بتاريخ

أفكر إال في أنظر على تلك البطاقة على عجل، وأنا ال..اإلطالع على تلك المفكرة. ولكن صورته تستوقفني

..الموتى مربكة صور

ومربكة أكثر صور الشهداء. موجعة دائماF. فجأةFمن صورتهم يصبحون أكثر حزنا Fوأكثر غموضا.

.منهم فجأة.. يصبحون أجمل بلغزهم، ونصبح أبشع.فجأة.. نخاف أن نطيل النظر إليهم

!نتأمgلهم فجأة.. نخاف من صورنا القادمة ونحن.كwم» كان وسيماF ذاك الرجل

ال تفسير لها. ها تلك الوسامة الغامضة المخفيgة التي هو حتى في صورة سريعة تلتقط له في ثالث دقائق،

.يمكنه أن يكون مميزا بخمسة فرنكات،

يمكنه أن يكون حتى بعد موته مغرياF، بذلك الحزن.الساخر. وكأنه يسخر من لحظة كهذه الغامض

أحببته قبلك وأفهم مرة أخرى أن تكوني أحببته. لقد بطريقة أخرى. كما نحب شخصاF نعجب به ونريد أن

فنكثر من الجلوس إليه. نشبهه، لسبب أو آلخر والخروج برفقته والظهور معه. وكأننا نعتقد في

الجمال والجنون والموهبة والصفات التي أعماقنا أن إلينا عن تبهرنا فيه قد تكون قابلة للعدوى واالنتقال

.طريق المعاشرة

أية فكرة حمقاء كانت تلك! لم أكتف أنها كانت سبب كارثتي إال مؤخراF. عندما قرأت قوالF رائعاF لكاتب

عن الجمال..ألنك فرنسي )رسام أيضاF..( "ال تبحث!"عندما تجده، تكون قد شوgهت نفسك

Page 238: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.هذه الحماقة ولم أكن فعلت شيئاF غير

أعدت بطاقته وصورته إلى الحقيبة، ورحت أقلgب تلك..المفكرة

كنت أشعر أنها تحمل شيئاF قد يفاجئني، قد يعكر للعواصف المتأخرة عن مزاجي ويشرع الباب

مواسمها. فماذا تراه كتب في هذا الدفتر؟

الحقيقة تولد صغيرة دائماF. وكنت أشعر كنت أدري أن .أن الحقيقة هنا كانت صغيرة في حجم مفكرة جيب

..فخفت المفكرة

بحثت عن سيجارة أشعلها. واستلقيت على ذلك..على مهل السرير ألتصفح جرحي

كانت الصفحات تتالى مليئة بالمقاطع الشعرية وآخر. بالكتابات الهامشية.. ثم المبعثرة بين تاريخ

Fصفحتين أو ثالثا Fثم. بقصائد أخرى تشغل وحدها أحيانا خواطر قصيرة من بضعة سطور مكتوبة وسط الصفحة

أن يميزها عن بقية بلون أحمر دائماF.. وكأنه كان يريد.ما كتب

ربما ألنها لم تكن شعراF وربما ألنها كانت أهم من.الشعر

من أين أبدأ هذه المفكرة؟.. من أي مدخل أدخل هذه لزياد، التي حلمت دائماF بالتسلل إليها الدهاليز السرية

عساني أكتشفك فيها؟

تستوقفني، فأبدأ في قراءة قصيدة. كانت العناوين أحاول فك لغز الكلمات المتقاطعة.. أبحث عنك وسط

Fأحيانا Fالرموز تارة، ووسط التفاصيل األكثر اعترافا .أخرى

أتركها وألهث مسرعاF إلى صفحة أخرى، ثم ال ألبث أن بحثاF عن حجج أخرى، عن إيضاحات أكثر، عن كلمات

Page 239: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.تقول لي باألسود واألبيض.. ما الذي حدث

االنفعال ولكنني كنت في الواقع على درجة منgواألحاسيس المتطرفة المتناقضة التي كانت تكاد تشل

عن التمييز بين ما أقرأ وما تفكيري، وتجعلني عاجزا.أتوهم قراءته

أمامي بأشيائها كان منظر تلك الحقيبة المفتوحة المبعثرة، وبذلك الدفتر األسود الصغير الذي كنت

أخجل من نفسي في تلك اللحظة. ممسكاF به تجعلني وكأنني بفتحها لم أفعل شيئاF غير تشريح جثgة زياد

المبعثرة بأشيائها وأشالئها على سريري، ألخرج منها.غير هذا الدفتر الذي هو قلبه ال

قلب زياد الذي نبض يوماF لك، والذي هاهو اليوم حتى بين يديg على وقع الكلمات بعد موته بواصل نبضه

..المشحونة حسرة وخوفاF.. حزناF.. وشهوة

ي شفتيك على جسدي" gمررgروا غير تلك السيوف علي gفما مر

لهب أشعليني أيا امرأة منFبنا الحب يوما gيقر

Fيباعدنا الموت يوما..تراب ويحكمنا حفنة من

بنا شهوة للجسد gتقرFثم يوما

ا يصير بحجم gجسد يباعدنا الجرح لمتوحدت فيك

أيا امرأة من تراب ومرمر..سقيتك ثم بكيت وقلت

..عشقي أميرةأميرة موتي

تعالي!؟

كل كم من مرة قرأت هذا المقطع. بأحاسيس جديدة مرة، بشك³ جديد كل مرة، وتساءلت بعجز من ال يحترف

وأين يبدأ الواقع؟.. الشعر.. أين ينتهي الخيال

Page 240: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أين يقع الحد الفاصل بين الرمز والحقيقة؟

جملة تلغي التي سبقتها. وكانت المرأة هنا كانت كل الفصل أو جسداF ملتحماF باألرض إلى حد لم يعد فيه

Fالتمييز بينهما ممكنا.

وبشهوتها ولكن كانت هناك كلمات ال تخطئ بواقعيتها:المفضوحة

"مرري على جسدي شفتيك""لهب أشعليني أيا امرأة من""تقربنا شهوة للجسد""توحدت فيك"

أ بها أكانت الثورة إذن حشواF من gالكلمات ال أكثر بر زياد نفسه؟

ل أن يهزمه الموت وال تهزمه gة كان يفضgامرأة. قضي ..".كبرياء.. مراوغة شخصية.. "أميرة موتي.. تعالي

جاء أخيراF. وأنت تراك جئت في ذلك ها هو الموتاليوم؟

رت على gأمر ..Fجسده شفتيك.. هل انفرد بك حقا د فيك.. وهل..؟ gأأشعلته.. أتوح

فتاريخ هذه. من األرجح أن يكون ذلك قد حصل.القصيدة يصادف تاريخ سفري إلى إسبانيا

بعاطفة غريبة ال عالقة لها كان القلب قد بدأ يطفح.بالغيرة

ال يمكن أن نحن ال نشعر بالغيرة من الموات.. ولكننا.نغيgر طعم المرارة في هذه الحاالت

يستوقفهما اللون األحمر، من فهل أمنع عيني اللتين

Page 241: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.أن تقرأ هذه الخاطرة.. دون دموع

العمر الكثير لم يبق من"أيتها الواقفة في مفترق األضداد

..أدرياألخيرة ستكونين خطيئتي

.أسألكحتى متى سأبقى خطيئتك األولى

بداية لك متgسع ألكثر من.وقصيرة كل النهاياتإني أنتهي اآلن فيك

!"ألكثر من نهاية فمن يعطي للعمر عمراF يصلح

..تستوقفني بعض الكلمات، وتستدرجني إلى الذهول الحبر األحمر فجأة لوناF شبيهاF بدم وردي خجول ويأخذ

..".األولى يتدحرج على ورق.. ليصبح لون "خطيئتك فأسرع بإغالق تلك المفكرة وكأنني أخاف إن أنا

أفاجئكما في وضع� لم واصلت قلب الصفحات، أن!أتوقعه

.بعيد.. يحضرني كالم قاله زياد مرة في زمن بعيد

قال: "أنا أكنg احترماF كبيراF آلدم، ألنه يوم قرر أن يكتف بقضمها، وإنما أكلها كلgها. ربما يذوق التفاحة لم

أنصاف كان يدري أنه ليس هناك من أنصاف خطايا وال ملذgات.. ولذلك ال يوجد مكان ثالث بين الجنة والنار.

Fللحسابات الخاطئة_ أن ندخل إحداهما وعلينا _تفاديا !"بجدارة

في الحياة. فما الذي كنت آنذاك معجباF بفلسفة زياديؤلمني اليوم في أفكار شاطرته إياها؟

تفاحته هذه المرة من حديقتي ترى كونه سرق السرية؟ أم كونه راح يقضمها أمامي.. بشهية من

اختياره وارتاح؟ حسم

ال تملك األشجار إال"

Page 242: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F أن تمارس الحب واقفة أيضانخلة عشقي.. قفي يا

وحدي حملت حداد الغابات التيأحرقوها

الركوع ليرغموا الشجر على"واقفة تموت األشجار"

تعالي للوقوف معيرجولتي أريد أن أشيgع فيك.."إلى مثواها األخير

.المفكرة فجأة بدأت أشعر بحماقة فتح تلك

.أتعبتني تأويالتي الشخصية لكل كلمة أصادفها

بالندم. فأنا برغم كل شيء ال أريد أن وبدأت أشعر.أكره زياد اليوم. ال أستطيع ذلك

منحه الموت حصانة ضد كراهيتي وغيرتي. وها أنا لقد.صغير أمامه وأمام موته

ال أملك شيئاF إلدانته، سوى كلماته القابلة ألكثر ها أناتأويلها األسوأ؟ من تأويل. فلماذا أصرg على

لماذا أطارده بكل هذه الشبهات، وأنا أدري أنه شاعر االغتصاب اللغوي، نكاية في العالم الذي لم يحترف

فهل. يخلق على قياسه، بل ربما خلق على حسابهأطلق النار عليه بتهمة الكلمات؟

األشجار. لقد ولد هكذا واقفاF.. وال قدر له سوى قدر فهل أحاسبه حتى على طريقة موته.. وعلى طريقة

حبgه؟

.عرفته واقفاF وأذكر اآلن أنني

أذكر ذلك اليوم الذي زارني فيه في مكتبي ألول مرة، أبديت له بعض مالحظاتي عن ديوانه، وطلبت عندما

.منه أن يحذف بعض القصائد

Page 243: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

صمته، ثم نظرته التي توقفت بعض الوقت عند أذكر التي كانت ذراعي المبتورة، قبل أن يقول تلك الجملة

بعد ذلك سبباF في تغيير مجرى حياتي. قال لي: "ال تبترgلي ديواني. سأطبعه في قصائدي..سيدي، رد

.."بيروت

أصفعه لماذا قبلت إهانته يومها، دون رد؟ لماذا لمبيدي الثانية غير المبتورة وأرمي له بمخطوطه؟

األشجار ووحدتها، في أألنني احترمت فيه شجاعةزمن كانت فيه األقالم سنابل تنحني أمام أول ريح؟

Fغادرني واقفا Fعرفت زياد.. وواقفا.

أما مخطوط تركني كأول مرة. ولكن دون أيg تعليق.هذه المرة

لقد أصبح بيننا _منذ ذلك الحين_ تواطؤ الغابات....صمتها واليوم

فجأة استيقظت داخلي بقايا مهنة سابقة. ورحتgب ذلك الدفتر وأعدgصفحاته وأتصفحها بعيني أقل

ناشر. وإذ بحماس مفاجئ يدبg في قلبي ويغطgي على.األحاسيس. وقرار جنوني يسكنني بقية

أسمgيها سأنشر هذه الكتابات في مجموعة شعرية، قد "األشجار" أو "مسودات رجل أحبك".. أو عنواناF آخر قد

.ذلك أعثر عليه أثناء

المهم.. أن تصدر هذه الخواطر األخيرة لزياد. أن أمنحه فيه.. فهكذا ينتقم الشعراء دائماF عمراF آخر ال صيف

من القدر الذي يطاردهم كما يطارد الصيف..الفراشات

إنهم يتحوgلون إلى دواوين شعر. فمن يقتل الكلمات؟

***

Page 244: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..أدري أنقذني دفتر زياد من اليأس دون أن

مشروع. فقد منحني مشاريع أليام كانت فارغة من أي أن قضيت ساعات بأكملها وأنا حدث في تلك األيام

أنسخ قصيدة، أو أبحث عن عنوان ألخرى، وأحاول تلك الخواطر والمقاطع المبعثرة، ترتيب فوضى

.لوضعها في سياق صالح� للنشر

..ومرارة معاF كنت أشعر بلذgة

لذgة االنحياز للفراشات، وبعث الحياة في كلمات� وحدي.وأدها في مفكرة، أو منحها الخلود في كتاب أملك حق

..ومرارة أخرى

التنقيب في أوراق شاعر مات، والتجول في مرارة دورته الدموية، في نبضه وحزنه ونشوته، ودخول عالمه المغلق السري دون تصريح وال رخصة منه،

اإلضافة والتصرف نيابة عنه في االختيار وفي.والحذف

أحقاF كنت أملك صالحية كهذه..؟ ومن يمكن أن يدgعيأو آلخر موكgل بمهمة كهذه؟ أنه لسبب

ولكن من يجرؤ أيضاF على الحكم بالموت على كلماتاآلخرين، ويقرر االستحواذ عليها وحده؟

الشعراء كنت أدري في أعماقي، أنه إذا كان لموت والكتgاب نكهة حزن إضافية، تميزهم عن موت اآلخرين،

وحدهم عندما يموتون يتركون فربما ت�عزى لكونهم على طاولتهم ككل المبدعين، رؤوس أقالم.. رؤوس

.ومسودات أشياء لم تكتمل أحالم،

.يحزننا ولذا فإن موتهم يحرجنا.. بقدر ما

Page 245: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أما الناس العاديون، فهم يحملون أحالمهم وهمومهم إنهم يلبسونها كل يوم مع. ومشاعرهم فوقهم

ابتسامتهم، وكآبتهم، وضحكتهم، وأحاديثهم، فتموت.معهم أسرارهم

في البدء، كان سر زياد يحرجني، قبل أن يستدرجني بكتاباته تخلق عندي رغبة ال تقاوم إلى البوح، وإذا

.للكتابة

التي كنت أشعر أن رغبة كانت تزداد في تلك المرات كلماته ال تطال أعماقي، وأنها أقصر من جرحي. ربما

النصف اآلخر للقصة، تلك التي كنت ألنه كان يجهل.أعرفها وحدي

الكتاب؟ متى ولدت فكرة هذا

F بإرث زياد ترى في تلك الفترة التي قضيتها محاصرا اللقاء غير المتوقع لي مع األدب الشعريg، في ذلك

والمخطوطات التي انفصلت عنها منذ انفصالي عنوظيفتي.. منذ عدة سنوات في الجزائر؟

مدينة حجز لي أم في لقائي غير المتوقع اآلخر، معالقدر نفسه موعداF متأخراF معها؟

وجهاF لوجه مع أكان يمكن لي أن أجد نفسي قسنطينة، دون سابق إنذار، دون أن تنفجر داخلي

..وجنون وخيبة الدهشة، شالالت شوق

!فتجرفني الكلمات.. إلى حيث أنا

الفصل الخامس

Page 246: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

مازلت أذكر ذلك السبت العجيب.. عندما رن الهاتف ذلك

.األخبار المساء بتوقيت نشرة

كان سي الشريف على الخط بحرارة وشوق أسعداني من رتابة صمتي الليلي في البداية، وأخرجاني

.ووحدته

التي كان صوته عندي عيداF بحد ذاته والصلة الوحيدة ظلت تربطني بك، بعدما سدgت كل الطرق الموصلة

.إليك

F به. إنه يحمل دائماF احتمال لقاء� وكنت أستبشر خيرا.بك بطريقة أو بأخرى

..لي أكثر من هذا ولكنه هذه المرة كان يحمل

راح سي الشريف يعتذر أوالF عن انقطاعه عني منذ األخيرة، بسبب مشاغله الكثيرة، وزيارات سهرتنا

المسؤولين التي ال تتوقف إلى باريس.. قبل أن:يضيف

إنني لم أنسك طوال هذه الفترة.. لقد علgقت لوحتك" أتقاسم معك البيت.. أتدري، في الصالون وأصبحت

لقد تركت التفاتتك تلك أثراF كبيراF في نفسي، وخلقت أكثر من حاسد.. وكل مرة ال بد أن أشرح لآلخرين لي

".الشباب صداقتنا وعالقتنا التي تعود إلى أيام

كنت أستمع له وكان القلب قد ذهب بحماقة على عجل..إليك

يكفي أن أعرف أن تلك المكالمة تأتي من بيت� كاناق أنتx فيه، ألعود عاشقاF مبتدئاF بكل gانفعاالت العش

.وحماقاتهم

:سألني ولكن صوته أعادني إلى الواقع عندما

أتدري لماذا طلبتك الليلة؟ إنني قررت أن أصحبك-

Page 247: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لقد أهديتني لوحة عن قسنطينة.. معي إلى قسنطينة..وأنا سأهديك سفرة إليها

باF صحت gمتعج:

قسنطينة.. لماذا قسنطينة؟-

:بشرى قال وكأنه يزفg لي

..لحضور عرس ابنة أخي الطاهر-

.التفكير ثم أضاف بعد شيء من

ربما تذكرها. لقد حضرت افتتاح معرضك منذ- .. ..ناديا شهور مع ابنتي

شعرت فجأة أن صوتي انفصل عن جسدي، وأنني.واحدة عاجز عن أن أجيب بكلمة

أيمكن للكلمات أن تنزل صاعقة على شخص بهذهالطريقة؟

للجسد أن يصبح إثر كلمة، عاجزاF عن اإلمساك أيمكنبسماعة؟

أتذكر فجأة أنني أملك يداF يحدث في لحظات كهذه، أن..واحدة

.عليه سحبت بقدمي كرسياF مجاوراF وحلست

وربما الحظ سي الشريف صمتي وحدوث شيء ما..:قائالF فقطع ذهولي

يا خويا.. ما الذي يخيفك في سفر� كهذا؟ لقد جاء- جلسة مع بعض األصدقاء في ذكرك منذ أيام في

األمن، وأكدوا لي أنه ال توجد أية تعليمات في شأنك، بإمكانك أن تزور الجزائر متى شئت. لقد تغيرت وأن

تعود إلى الجزائر األمور كثيراF منذ مجيئك، وال بد أن ولو في زيارة خاطفة.. إنني أتحمل مسؤولية عودتك..

Page 248: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

حسابي.. فما الذي يقلقك إلى ستسافر معي وعلىهذا الحد؟

:لتوتري أجبته وأنا أبحث عن مخرج

الحقيقة أنني لست مستعداF نفسياF بعد لزيارة كهذه..- ..تكون في ظروف أخرى وأفضgل أن

:قال

أنا واثق.. أنت لن تجد ظروفاF أحسن من هذه للعودة- ك هكذا من يدك هذه المرة، فقد gمن أنني إذا لم أجر

أن تعود إليها. هل تمضي عدة سنوات أخرى قبل ستقضي عمرك في رسم قسنطينة؟ ثم أال يسعدك

الطاهر؟ إنها ابنتك أيضاF، لقد حضور زواج ابنة سي عرفتها طفلة ويجب أن تحضر عرسها للبركة.. افعل

لوجه أبيها، يجب أن تقف معي في ذلك اليوم هذا..مكان سي الطاهر

يعرف نقطة ضعفي، ويدري مكانة كان سي الشريفى داخلي من gك ما تبق gسي الطاهر عندي. فراح يحر

.لماضينا وذاكرتنا المشتركة وفاء كان في ذلك الموقف شيء من السريالية

.والالمعقول

كنت أقف على الحد الفاصل بين العقل والجنون، بين..والبكاء الضحك

"Fلقد عرفتها طفلة.." ال يا صديقي! عرفتها أنثى أيضا المشكلة. "إنها ابنتك أيضاF.." ال لم تكن وهذه هي

يمكن ابنتي، كان يمكن فقط أن تكون زوجتي.. كان.أن تكون لي

:سألته

لمن ستكون؟-

Page 249: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:قال

لـ )سي....( لقد سهرت معه المرة أعطيتها- رجل الماضية.. ال أدري ما رأيك فيه، ولكنني أعتقد أنه

.طيب برغم ما ي�قال عنه

كان في جملته األخيرة جواب مسبق على رد� كان.يتوقعه

!سي....( إذن وال أحد غيره)

"Fصفته المميزة رجل طيب.." هل الطيبة هي حقا األولى؟ أعرف أنا أكثر من رجل طيب كان يمكن إذن

.زوجها أن يصبح

ولكن )سي....( كان أكثر من ذلك. كان رجل الصفقات األمامية. كان رجل العملة الصعبة السرية والواجهات

والمهمات الصعبة. كان رجل العسكر.. ورجل فهل مهم بعد هذا أن يكون طيباF أو ال. المستقبل

يكون؟

منعتني من أن أبدي تجمعت في الحلق أكثر من غصة، رأيي فعالF في ذلك الشخص، وأسأل سي الشريف

تراه يعتقد حقاF أن بإمكان رجل ال: سؤاالF واحداF فقطأخالق له.. أن يكون طيباF؟

gألنني كنت بدأت ال أفرق كثيرا بينه أم تراني صمت يمكن وبين "صهره" وأنا أسأل نفسي سؤاالF آخر.. هل

لشخص يتصاهر مع رجل قذر.. أن يكون نظيفاF حقاF؟

أخرستني الصدمات. فقدت فجأة شهية الكالم المتتالية في مكالمة واحدة. فاختصرت كل الكالم في

:ألكثر من تفسير جملة واحدة قابلة

..كل شيء مبروك-

:التقاليد رد سي الشريف حسب

Page 250: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..الله يهنيك.. ويبارك فيك-

:امتحان ثم أضاف بسعادة من نجح في

إذن سنراك..راني نعوgل عليك.. سنسافر بعد عشرة-Fيوليو.. أطلبني15فالزواج سيكون في أيام تقريبا

.سفرك هاتفياF كي نتgفق على تفاصيل

.انتهت المكالمة، وبدأت مرحلة جديدة من حياتي أعلنت يومها رسمياF خروجك منه. بدأ عمري اآلخر الذي

ولكن.. هل خرجت حقاF؟

أصبحت فارغة إال مني. أحسست أن رقعة الشطرنج كانت كل المربعات بلون واحد ال غير.. وكل القطع

!واحدة أمسكها وحدي.. بيد� واحدة أصبحت قطعة

أن فهل كنت الرابح أم الخاسر الوحيد.. كيف لي أعرف ذلك؟ لقد تقلصت الرقعة، ومعها مساحة األمل

نلعب جميعاF منذ البدء والترقب، حسمها طرف آخر، كنا!نيابة عنه: إنه القدر

أحياناF، ولكن كنت كثيراF ما كنت أحقد على ذلك القدر أستسلم له دون مقاومة. بلذgة غامضة وبفضول رجل

يعرف كلg مرة، إلى أي حد يمكن لها القدر أن يريد أن عادلة، وأن يكون أحمق، ولهذه الحياة أن تكون غير

تكون عاهرة ال تهب نفسها سوى لذوي الثروات المشبوه الذين يغتصبونها السريعة، وألصحاب السلوك

..على عجل

نفسي وعندها كنت أجد سعادتي النادرة في مقارنة بتفاهة اآلخرين. وأجد في هزائمي الذاتية، دليالF على

.متناول الجميع انتصارات أخرى ليست في

تراني في لحظة جنون كهذه قبلت أن أحضر عرسك،Fعلى مأتمي، وعلى الحقارة التي وأن أكون شاهدا

يمكن أن يصلها البعض دون خجل؟

Page 251: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

المبدعين، كنت مازوشيgاF بتفوق، وأصرg أم تراني ككل المطلق، في غياب السعادة المطلقة، أن أعيش حزني

وأن أذهب معك إلى أبعد نقطة في تعذيب النفس،ليشفى منك؟ فأمارس كيg هذا القلب بنفسي

.كرهتك ذلك اليوم بشراسة لم أكن عرفتها من قبل

عواطفي مرة واحدة إلى عاطفة جديدة، فيها انقلبت االحتقار مزيج من المرارة والغيرة والحقد.. وربما

Fأيضا.

ما الذي أوصلك هنا؟

يشعرن دائماF بإغراء.. وهل النساء حقاF مثل الشعوب،!منه؟ وبضعف ما تجاه البدالت العسكرية.. حتى الباهتة

ما زلت حتى اليوم أتساءل.. كيف قبلت يومها أنعرسك؟ أذهب إلى قسنطينة لحضور

كنت أعرف مسبقاF أن دعوتي لم تكن مجرد نية حسنة،.لرجل تجمعني به أكثر من قرابة والتفاتة ود وصداقة

واستعماالF ولكن كانت قبل كلg شيء، استغالالF للذاكرة سيئاF السم من األسماء القليلة التي ظلgت نظيفة في

.القذارة زمن انتشر فيه وباء

كان سي الشريف يدري أنه يسقوم بصفقة قذرة، وأنه أخيه، وأحد كبار شهدائنا مقابل يبيع بزواجه اسم

..منصب وصفقات أخرى

لم يكن ليقبلها لو كان وأنه يتصرف باسمه، بطريقةFحيا.

أنا وكان يلزمه أنا.. وال أحد غيري ألبارك اغتصابك،.صديق سي الطاهر الوحيد ورفيق سالحه

Page 252: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الذي بقي من ذلك أنا الهيكل المفتت األطراف األخير،.الزمن الغابر

ويعتقد كانت تلزمه مباركتي، لي�سكت بحضوري ضميره أن سي الطاهر سيغفر له، هو الذي عاش من اسمه

Fطويال.

الدخول في تلك اللعبة؟ لماذا قبلت دون فلماذا قبلتنقاش أن أسلمك ألظافرهم؟

أن مباركتي قضية شكلية، لن تقدم ولن أألنني أدري لكنت....( تؤخر في شيء، وأنه لو لم يزوgجك من )سي

.من نصيب )سي....( آخر من السادة الجدد

من أسماء األربعين فماذا يهم في النهاية، أي اسم!لصاF ستحملين

استسلمت لماذا قبلت السفر.. ألكل هذا أم ألننيي الذي كان يالحقني gإلغراء قسنطينة، ولندائها السر

يطارد نداء الحوريات في ويطاردني من األزل، كما الجزر المسحورة أولئك البحارة الذين نزلت على

..اآللهة بواخرهم لعنة

أم تراني كنت عاجزاF عن أن أخلف موعداF معك، حتىمناسبة زواجك؟ ولو كان ذلك

هنالك قرارات وليدة ضدها، فكيف يمكن لي اليوم أنFر قرارا gأخذته خارج المنطق؟ أفس

كنت كعالم فيزيائي مجنون، يريد أن يجمع بين صيغتينرتين في الوقت نفسه: أنت.. وقسنطينة، gمتفج صيغتين صنعتهما بنفسي في نوبة شوق وعشق

وجنون، قست قدرتهما التدميرية كال على انفراد،ب gكما تجر Fقنبلة ذرية في وأردت أن أجربهما معا

.صحراء

أردت أن أعيشهما معاF في انفجار داخلي واحد..

Page 253: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ني gوحدي.. يدمرني وحدي.. وأخرج بعده من وسط يهز .رجل الحرائق والدمار، إما رجالF آخر.. وأشالء

Fألم تقولي مرة إن هناك رغبة سرية تسكننا جميعا اللهب"؟ اسمها "شهوة

اكتشفت بعدها بنفسي التطابق بينك وبين تلك.المدينة

فيكما معاF، شيء من اللهيب الذي لم ينطفئ.. كان..الحرائق وقدرة خارقة على إشعال

ولكنكما معاF، كنتما تتظاهران بإعالن الحرب على المدن العريقة المحترمة.. ونفاق المجوس. إنه زيف

بنات العائالت.. أليس كذلك؟

***

جاء صوتك يوم االثنين هكذا دون مقدمات. دون أية نبرة حزن أو فرح مميزة.. دون ارتباك وال أي خجل

.واضح

، gثين إليgبدأناه ورحت تتحد Fوكأنك تواصلين حديثا البارحة، كأن صوتك لم يعبر هذا الخط الهاتفي منذ

.من ستgة أشهر أكثر

!ما أغرب عالقتك بالزمن.. وما أغرب ذاكرتك

-Fخالد.. هل أيقظتك؟ أهال

كان يمكن أن أقول ال، وكان من األصح أن أقول نعم.:قلت بصوت من يخرج من غيبوبة عشق ولكنني

..؟- xأنت!

Page 254: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الطفولية التي أسرتني يوماF ضحكت.. تلك الضحكة:وقلت

!صورتي؟ أعتقد أنني أنا.. هل نسيت-

:ثم أضفت أمام صمتي

كيف أنت؟-

..أصمد أحاول أن-

تصمد في وجه من.؟-

..في وجه األيام-

:الصمت.. وكأنك شعرت بذنب� ما قلت بعد شيء من

..كلنا نحاول ذلك-

xثم أضفت:

هل أخباري هي التي أزعجتك؟-

!تحبgين عجيب سؤالك. عجيب كذاكرتك. كعالقتك بمن

:قلت

.أخبارك ليست سوى جزء من تقلgبات األيام-

:ببراءة كاذبة أجبت

كنت أتوقع أن تستقبل خبر زواجي بطريقة أخرى.- يتحدث إليك أمس على الهاتف، لقد سمعت عمي

وتعجبت أن تكون قبلت المجيء إلى قسنطينة دون تردد. لقد أسعدني ذلك كثيراF، وقررت أن مناقشة أو

gعلي Fفأنا أريد أن.. أطلبك.. استنجت أنك لم تعد عاتبا ..تحضر إلى هذا العرس.. من الضروري أن تحضر

Page 255: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أعادتني كلماتك إلى مكالمتي السابقة ال أدري لماذا مع سي الشريف، وإلى ذلك الموقف العجيب، عندما

.كان يقنعني أنك ابنتي

شعرت مرة أخرى أنني أقف على الحد الفاصل بين..والالعقل، بين البكاء والضحك العقل

:سألتك بشيء من المرارة الساخرة

..أتمنى أن أفهم سر إصراركم جميعاF على حضوري-

xقلت:

على حضورك ال يهمني إطالقاF. سبب إصرار عمي- ولكنني أدري أنني سأكون تعيسة لو تغيgبت عن

..المجيء

:أجبتك بتهكم

هل السادية .. آخر هواياتك؟-

xبنبرة فاجأتني قلت:

.لقد أحببت هذه المدينة من أجلك-

نفسها التي أجبتني بها يوماF، وأنا أجبتك بتلك الطريقة ينبغي أعترف لك "لقد أحببتك يوم قرأتك" فقلتx "كان

..".أال تقرأني

:قلت�

..إذن كان ينبغي أال تحبgيها-

وإذا بجوابك يدهشني.. يوقظني.. ويبثg شحنة..جسدي كهربائية في

Page 256: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

!ولكنني أحببتك- ...

جدوى. فهل ها هي الكلمة التي انتظرتها عاماF دون أشكرك أم أبكي. أم أسألك لماذا اليوم.. لماذا اآلن..

العذاب إذن؟ ولماذا كلg هذا

:سألتك فقط

وهو؟-

:ال يعنيك تماماF أجبتني وكأنك تتحدgثين عن شيء

.إنه قدر جاهز-

:قاطعتك

ه. كنت أتوقع قدراF لكل شخص القدر- gالذي يستحق به؟ غير هذا.. كيف قبلت أن ترتبطي

xقلت:

أنا ال أرتبط به.. أنا أهرب إليه فقط من ذاكرة لم تعد- تصلح للسكن، بعدما أثثتها باألحالم المستحيلة

..والخيبات المتتالية

غي اسم والدك ولكن- gلماذا هو.. كيف يمكن أن تمر وطن، في مزبلة كهذه.. أنت لست امرأة فقط، أنت

أفال يهمgك ما سيكتبه التاريخ يوماF؟

:المرة أجبتx بشيء من السخرية

وحدك تعتقد أن التاريخ جالس مثل مالئكة الشر- ل انتصاراتنا الصغيرة والخير على جانبينا، gليسج

.المجهولة.. أو كبواتنا وسقوطنا المفاجئ نحو األسفل!التاريخ لم يعد يكتب شيئاF. إنه يمحو فقط

بالضبط. ولم أناقشك لم أسألك ما الذي تريدين محوه

Page 257: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..في نظرتك الخاطئة للقيم

:سألتك

تريدينه مني على التحديد؟ ما الذي-

:تريد قلتx كأنك طفلة يسألونها عن أيg حلوى

..أريدك-

خطر بذهني لحظتها أنك ربما كنت امرأة عاجزة عن رجل واحد، وأنه يلزمك دائماF رجالن. كانا في حب

.واآلخر.. الماضي زياد وأنا. وأصبحا اليوم أنا

:عاد صوتك يقول

أردتك خالد.. أتدري أنني أحببتك.. إنه حدث أن- دني من عقلي gالجنون.. شيء فيك جر gواشتهيتك حد

منك.. كانت عالقة حبgنا يوماF.. ولكنني قررت أن أشفى..عالقة مرضيgة، أنت نفسك قلت هذا

xسألتك:

لماذا عدت اليوم إذن؟-

xقلت:

أن تباركنا عدت ألقنعك بالمجيء إلى قسنطينة. أريد- تلك المدينة ولو مرة واحدة.. تباركنا ولو كذباF، لقد

وأوصلتنا إلى جنوننا هذا.. أدري أننا لن تواطأت معنا ولكن. نلتقي فيها.. قد ال نتحدث.. وقد ال نتصافح

سأكون لك ما دمنا فيها. سنتحداهم على مرأى منها.. ليلتي األولى.. أيسعدك ووحدها ستعرف أنني أمنحك

هذا؟

كم من ليلة أولى كنت تملكين؟ كم من ليلة وهميةxأولى كنت قادرة على أن تهبي على بياض، كما وهبت

Page 258: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لي ولزياد.. روايتك األولى.. نسختين مزوgرتينعتين على بياض gموق.

لمن ستكونين بعد كل ليلة وهمية؟ ومع من بدأتكذبتك األولى؟ لمن أهديت هديgتك الملغومة األولى؟

أضحك وأنا أشبgه نفسي عندما أذكر كالمك اليوم، آنذاك بأثيوبي جائع يسردون عليه قائمة من األطباق

لن يذوقها، ويسألونه بعدها كيف وجدها.. الشهية التي..وإذا كان ذلك يسعده

أضحك، بل ربما بكيت وأنا أجيبك ولكن وقتها لم..".بحماقة عاشق.. "يسعدني

كنت تمنحينني ليلةF وهمية، عليg أن لم أنتبه إلى أنك!فعلياF أتنازل عنها مباشرة لرجل آخر، سيستفيد منها

ولكن هل يهم ذلك.. مادمت أتنازل عن شيء ليس فيلي؟ جميع الحاالت

هكذا التاريخ دائماF عزيزتي وهكذا الماضي.. ندعوه فيل gبفتات الموائد المناسبات ليتكف.

نتحايل على الذاكرة، نرمي لها عظمة تتلهى بها، بينما.الموائد لآلخرين ت�نصب

F وهكذا الشعوب أيضاF، نهبها كثيراF من األوهام.. كثيرا األحالم المعلgبة، من السعادة المؤجلة، فتغضg من

..إليها النظر عن الوالئم التي لن تدعى

ولكن لم أعx كل هذا إال بعد فوات األوان. بعدما رفعت وانسحب الجميع ألبقى وحدي.. أمام فتات الموائد،.الذاكرة

:قلت�

..أراكx أريد أن-

Page 259: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

xصحت:

أفضل. ال.. لم يعد لقاؤنا ممكناF اآلن.. وربما كان هذا- تنا. لتكن gلقص Fيجب أن نبحث عن نهاية أقل وجعا

Fفال داعي لمزيد من.. قسنطينة لقاءنا وفراقنا معا .العذاب

ة سكgين gهكذا إذن.. قررت قتلي حسب األصول، بجر واحدة، ذهاباF وإياباF.. في لقاء� وفراق� واحد. فما أرأفك

!أغباني بي.. وما

أكثر من سؤال ظلg معلgقاF في الحلق، لم أطرحه عليك.يومها

..أكثر من لوم.. أكثر من عتاب.. أكثر من رغبة

انتهى كما جاء خارج الزمان، وأنا بين ولكن هاتفك.فراشي الصحوة واليقظة ممدد بذهول في

حتى أنني تساءلت بعدها: هل طلبتني حقاF في ذلكفقط؟.. الصباح أم أنني حلمت

..ها نحن مثل أطفال إذن على األرض لنرسم نمحو كل مرة آثار الطباشير

.قوانين لعبة جديدة

ثيابنا نتحايل على كل شيء لنربح كل شيء. فتتgسخ ونصاب بخدوش ونحن نقفز على رxج»ل واحدة من مربع

.مستحيل إلى آخر فخg نصب لنا، وفي كل مربع وقفنا وتركنا كل مربع

.أرضاF شيئاF من األحالم

Page 260: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أن نعترف أننا تجاوزنا عمر النط على رxج»ل كان ال بد مربعات واحدة، والقفز على الحبال، واإلقامة في

.الطباشير الوهيمة

..أخطأنا حبيبتي

والحب ال يكتب بطالء الوطن ال يرسم بالطباشير،.األظافر

أخطأنا.. التاريخ ال يكتب على سبورة، بيد تمسك..طباشير وأخرى تمسك ممحاة

.والمستحيل والعشق ليس أرجوحة يتجاذبها الممكن

دعينا نتوقف لحظة عن اللعب. لحظة عن الجري فينgا القط،. كل االتجاهات xن» مwنسينا في هذه اللعبة م

.مwن» ومwن الفأر.. ومن منا سيلتهم

Fنسينا أنهم سيلتهموننا معا.

شيء أمامنا سوى هذا لم يعد أمامنا متgسع للكذب. ال.المنعطف األخير. ال شيء تحتنا غير هاوية الدمار

.أننا تحطgمنا معاF فلنعترف

..لستx حبيبتي

تي أنتx مشروع حبي للزمن القادم. أنت gمشروع قص .القادمة وفرحي القادم.. أنتx مشروع عمري اآلخر

أحبgي من شئتx من الرجال، واكتبي.. في انتظار ذلك..ما شئتx من القصص

تك التي gفي كتاب. وحدي أعرف قص Fلن تصدر يوما وحدي أعرف أبطالك المنسيين وآخرين صنعتهم من

.ورق

وحدي أعرف طريقتك الشاذة في الحب، طريقتك

Page 261: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.لتؤثثي كتبك فقط.. الفريدة في قتل من تحبين

أنا الذي قتلتني لعدة أسباب غامضة، وأحببتك ألسباب.أخرى غامضة

أنا الرجل الذي حوgلك من امرأة إلى مدينة، وحولته من.حصى حجارة كريمة إلى

Fال تتطاولي على حطامي كثيرا.

عمق هذا الوطن لم ينته زمن الزالزل، وما زال في.حجارة لم تقذفها البراكين بعد

كفاك كل ما قلته من. دعينا نتوقف لحظة عن اللعب..كذب

.أعرف اليوم أنك لن تكوني لي

أنحشر معك يوم الحشر حيث تكونين، دعيني إذن،.ألكون نصفك اآلخر

Fلي إلى جوارك، ما دامت كل دعيني أحجز مسبقا Fمكانا األماكن محجوزة حولك هنا، وما دامت مفكgرتك مألى

..بالمواعيد حتى آخر أيامك

..يا امرأة على شاكلة وطن

أن نبقى معاF؟ أيهمg بعد اليوم

.حقيبة صغيرة فقط لمالقاة الوطن

شي سوى بدلة سوداء لحضور حفل زفافك. وال.زجاجتي» وسكي.. قمصان.. وشفرات حالقة

Page 262: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

رات الموت، وتنسى أن تنتج هنالك gأوطان تنتج كل مبر !شفرات حالقة

.أعود إلى الوطن على أصابع الجرح دون أمتعة شخصية، دون زيادة في الوزن وال زيادة

.حساب في وحدها الذاكرة أصبحت أثقل حمالF، ولكن من سيحاسبنا

بمفردنا؟ على ذاكرة نحملها

.مشياF على جرحي األخير أعود إليه على عجل

الغياب، وها هوذا الرجوع المفاجئ. عشر سنوات من..كنت أتوقع لقاءF غير هذا

مكاناF في الدرجة األولى مثالF. فيحدث كنت سأحجز لي الجلوس للذاكرة في مثل هذه المناسبات، أن ترفض

.في الكراسي الخلفية

ولكن، ال يهم سيدتي.. كانت كل الكراسي األمامية محجوزة مسبقاF، ألولئك الذين حجزوا كراسي الوطن

..أيضاF بأمر منه إذن، على كرسي جانبي فألعد إليه كما جئت

.للحزن

لين بحقائب نحشر فيها ما gفي نغادر الوطن، محم .خزائننا من عمر. ما في أدراجنا من أوراق

Fأحببناها، وهدايا لها ذكرى نحشر أبوم صورنا، كتبا..

نحشر وجوه من أحببنا.. عيون من أحبgونا.. رسائل.كتبت لنا.. وأخرى كنgا كتبناها

صغير آخر نظرة لجارة عجوز قد ال نراها، قبلة على خد.سيكبر بعدنا، دمعة على وطن قد ال نعود إليه

Fلغربتنا، ننسى عندما يضعنا الوطن نحمل الوطن أثاثا عند بابه، عندما يغلق قلبه في وجهنا، دون أن يلقي نظرة على حقائبنا، دون أن يستوقفه دمعنا.. ننسى

Page 263: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.بعدنا أن نسأله من سيؤثثه

وعندما نعود إليه.. نعود بحقائب الحنين.. وحفنة أحالم.فقط

نعود بأحالم وردية.. ال "بأكياس وردية"، فالحلم ال.تاتي" الرخيصة الثمن "يستودر من محالت

عار  أن نشتري الوطن ونبيعه حلماF في السوق هنالك إهانات أصعب على الشهداء من ألف. السوداء

!عملة صعبة

.صغيرة، هنا في الالمكان ها أنذا.. بحقيبة يد�

في هذه النقطة المعلقة بين األرض والسماء. بي من ذاكرة إلى أخرى. أجلس على مقعد والهاربة

.في الدرجة الثانية للنسيان

تضاريس حبgك. على ارتفاع تصعب معه أحلgق على الرؤية، ويصعب معه النسيان. وأتساءل رغم فوات

األوان: تراني أرتكب آخر حماقات عمري، وأهرب منك أنا الذي لم. إلى الوطن؟ أحاول أن أشفى منك به

أشف بك منه؟

ها هي اللوحة التي أحضرتها هدية لعرسك تشغل.الفارغ إلى جواري مكانك

..ها نحن نسافر _ أخيراF معاF _ أنا وأنت

طائرة واحدة ألول مرة. ولكن ليس للرحلة نأخذ.نفسها.. وال لالتجاه نفسه

..قسنطينة ها هي

F إلى الوراء .ساعتان فقط ليعود القلب عمرا

الطائرة، وال تتنبgه إلى أنها تشرع تشرع مضيفة  باب

Page 264: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

معه القلب على مصراعيه. فمن يوقف نزيف الذاكرةاآلن؟

من سيقدر على إغالق شبgاك الحنين، من سيقف في ليرفع الخمار عن وجه هذه وجه الرياح المضادة،

.المدينة.. وينظر إلى عينها دون بكاء

..قسنطينة إذن ها هي وها أنذا أحمل بيدي الوحيدة حقيبة يد، ولوحة تسافر

األخير، بعد خمس وعشرين سنة من معي سفرها.الحياة المشتركة

الناقصة عن قسنطينة، في ها هي "حنين"، النسخة..لقاء ليليg مع اللوحة األصل

سلgم الطائرة تعباF.. ودهشة.. تكاد مثلي تقع من علىFوارتباكا.

تتقاذفنا العبارات تتقاذفنا النظرات الباردة المغلقة، التي تنهى وتأمر. وكل هذه الوجوه المغلقة، وكل هذه

..الرمادية الباهتة الجدران

فهل هذا هو الوطن؟

..قسنطينة

اميمة.. واشك؟ كيف أنتx يا

أشرعي بابك واحضنيني.. موجعة تلك الغربة.. موجعة..العودة هذه

بارد  مطارك الذي لم أعد أذكره. بارد  ليلك الجبلي الذي.يذكرني لم يعد

Fريني يا سيدة الدفء والبرد معاgدث.

Page 265: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F لي خيبتي قليالF.. أجلي بردك قليال gأج.

قادم  إليك أنا من سنوات الصقيع والخيبة، من مدن.والوحدة الثلج

FF في مهب الجرح .فال تتركيني واقفا

بالعربية، وبعض الصور كانت اإلشارات المكتوبة الرسمية، وكل تلك الوجوه المتشابهة السمراء، تؤكد

أخيراF أقف وجهاF لوجه مع الوطن. وتشعرني لي أنني.العربية بغربة من نوع آخر تنفرد بها المطارات

، gعندما أطل Fمفاجئا Fان مألني دفئا gوحده وجه حس .األول.. مع ذلك المطار وأذاب جليد اللقاء

وعندما احتضنني، وأخذ عني حمولة يدي، وقال بلهجة:جزائرية مازحة وهو يحمل عني تلك اللوحة

ل في" gالطابلوهات..؟" ثم أضاف "آ واش.. مازلت تنق سيدي.. هذا نهار مبروك من هو اللي قال نشوفك

..!".هنا

شعرت أن قسنطينة أخذت فجأة مالمحه، وأنها أخيرا.بي جات ترحgب

وهل كان حسان غير تلك المدينة نفسها. غيرتها حجارتها.. قرميدها.. وجسورها gومدارسها.. وأزق

وذاكرتها؟

سا gى ودرس، وهنا أصبح مدرgلم. هنا ولد، وهنا ترب يغادرها إال نادراF في زيارات قصيرة إلى تونس أو إلى

.باريس

لزيارتي من سنة إلى أخرى، لكي يطمئنg كان يحضر ما عليg وليشتري بالمناسبة بعض لوازم عائلته التي

فتئت تكبر وتتضاعف. وكأن حسان قرر أن يتحمل العائلة، بعدما يئس بمفرده مسؤولية عدم اندثار اسم

Page 266: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

من تزويجي وأدرك بعد محاوالت إغراء فاشلة، أنه لن و ال بنون.. ما عدا تلك اللوحات التي يكون لي بنات

.تنفرد بحمل اسمي

الرجل الفارع القامة، المهذgب أكتشف اليوم، أن هذا المظهر، والذي يتحدث دائماF بحماسة األساتذة

وتكرارهم، وكأنه يواصل حديثه لتالميذه وعنادهم.وليس لآلخرين، هو أخي.. ال غير

!أجهل هذا؟ ال أكنت

ولكن في هذا اليوم االستثنائي األلم والخيبة.. أن قرابته بي تصبح األرض الصلبة والفرحة! أشعر

الوحيدة التي يمكن أن أقف عليها وسط زالزلي الداخلية، والصدر الوحيد الذي كنت لوال الكبرياء، بكيت

.اللحظة عليه في تلك

ات أن gعشر سنوات.. حدث خاللها في بعض المر (.أورلي الدولي )انتظرته أنا في مطار

كانت األدوار معكوسة. كان هو القادم.. وأنا المنتظر. أشعر آنذاك أنني أقوم بواجب عائلي لست� وكنت

تلك إحدى ملزما� به، ولكن كنت أحرص عليه. فقد كانت فرصي القليلة أللعب دور "األخ الكبير" بكل مسؤولياته

الذي لم أوفgق دائماF في أدائه. وواجباته. ذلك الدوران، حسان gعن حس Fبعيدا Fفقد عشت في الواقع دائما الذي كنت أدرك جوعه للحنان ويتمه المبكgر.. وتعلقه

.العاطفي بي

أيضاF تزوgج باكرا على عجل، وراح يكثر من ت�راه لهذاF بتلك العائلة التي حرم منها األوالد ليحيط نفسه أخيرا

دائماF في طفولته، والتي كنت عاجزاF عن أن أعوضهال من منفى إلى.. له بحضوري العابر gوغيابي المتنق

.آخر

Page 267: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

مقاييسي فلماذا يقلب لقائي بحسان اليوم كل السابقة، ويشعرني برغم فارق العمر، وبرغم أوالده

وأنه في هذه اللحظة يكبرني الستة، أنني األخ األصغر..بسبع سنوات، وربما بأكثر

حقيبتي ويمشي أمامي، ترى ألنه هو الذي يحمل ويسألني عن تفاصيل سفري.. أم أن هذا المطار الذي

دني من وقار عمري. يستفزg رجولتي gوكبريائي يجر فأترك حسان يتصرف فيه نيابة عني، وكأن تجربته مع هذه المدينة ومعايشته لطباعها المتقلgبة، جعلته اليوم

..يبدو أكبر

قسنطينة.. تلك األم المتطرفة العواطف، حباF أم تراها بوطأة قدم وكراهية.. حنانا وقسوة، هي التي حوgلتني

واحدة على ترابها، إلى ذلك الشاب المرتبك الخجولسنة؟ الذي كنته قبل ثالثين

نظرت إليها من زجاج سيارة كانت تنقلني من المطارأتراها تعرفني؟: إلى البيت، وتساءلت

هذه المدينة الوطن، التي ت�دخل المخبرين وأصحاب العريضة واأليدي القذرة من أبوابها الشرفيgة.. األكتاف

ار gالشنطة.. والبؤساء وتدخلني مع طوابير الغرباء وتج.

أتعرفني.. هي التي تتأمل جوازي بإمعان.. وتنسى أنتتأملني؟

ئلت أعرابية يوماF: "من أحبg أوالدك إليك؟" قالت: س� يعود.. ومريضهم حتى يشفى.. "غائبهم حتى

".وصغيرهم حتى يكبر

يعد.. ومريضها الذي لم يشف وكنت أنا غائبها الذي لم..وصغيرها الذي لم يكبر

سمعت بقول تلك ولكن قسنطينة لم تكن قد األعرابية. فلم أعتب عليها. عتبت على ما قرأت من

!العربي كتب التراث

Page 268: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..لم أنم تلك الليلة حسان، أكان ذلك العشاء الذي أعدته عتيقة زوجة

وكأنها تعدg وليمة، والذي استسلمت له بشهية أكاد سبب قلقي، بعدما تناولت أقول تاريخية، هو الذي كان

الكثير من أطباقه التي لم أذق معظمها من سنين؟

السبب هو صدمة لقائي العاطفي اآلخر مع ذلك أم أن جدرانه البيت، الذي ولدت فيه وتربgيت، والذي على

وأدراجه ونوافذه وغرفه وممراته، كثير من ذاكرتي، وأيام عادية أخرى، تراكمت.. من أفراح ومآتم وأعياد

ذكراها في أعماقي لتطفو اآلن فجأة.. كذكريات فوقتلغي كل شيء عداها؟ العادة

ها أنا أسكن ذاكرتي وأنا أسكن هذا البيت، فكيف ينامد ذاكرته؟ من gيتوس

مازال طيف الذين غادروه يعبر هذه الغرف أمامي.ا( العنابي يمر هنا، ويروح أكاد أرى ذيل gكندورة )أم

ويجيء بذلك الحضور السري لألمومة. وصوت أبي يطالب بالماء للوضوء، أو يصيح من أسفل الدرج

البيت أنه قادم "الطريق.. الطريق" لينبgه النساء في صحبة رجل غريب، وأن عليهن أن يفسحن الطريق

.البعيدة ويذهبن لالختباء في الغرف

أكاد أرى خلف الجدران الجديدة البياض آثار المسمار أبي يوماF شهادتي االبتدائية منذ أربعين الذي علق عليه

..أخرى سنة. ثم جوارها بعد سنوات شهادة

..وبعدها ال شيء

اهتمامه بأشياء أخرى، توقgف اهتمامه بي ليبدأ ومشاريع أخرى، انتهت بموت )أما( وزواجه الذي كان

.منذ مدة جاهزاF لالستهالك، ومعداF في ذهنه

أكاد أرى جثمان )أما( يخرج مرة أخرى من ها الباب قراء القرآن.. ونساء يحترفن الضيق يليه حشد من

Page 269: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.البكاء في المآتم

أسابيع، بعروس صغيرة أكاد أرى موكباF آخر يعود بعد.هذه المرة.. ونساء يحترفن الزغاريد والمواويل

الليلة التي قبgلت فيها حسان وودعته قبل أن ثم تلك.ألتحق بالجبهة

إلى أين كنت ذاهباF. كان حسان وهو لم يسألني ليلتها.بسنوات في عامه الخامس عشر، قد سبق عمره

كان مثلي جعله اليتم يكبر على عجل.. وعلgمه ذلgه أن.لنفسه باألسئلة يصمت ويحتفظ

:سألني

وأنا؟- ..

:نفسه وأجبته بالذهول

F يا حسان.. انتظرني- ..مازلت صغيرا

صوت )أما( وخوفها فقال وكأنه يتقمgص فجأةgعلي gالمرضي:

..عندك على روحك.. آ خالد-

.بالبكاء وأجهش

Fها هو الوطن الذي استبدلته بأمي يوما. على شفائي من عقدة كنت أعتقد أنه وحده قادر

.الطفولة، من يتمي ومن ذلgي

بعد أكثر من صدمة وأكثر اليوم.. بعد كل هذا العمر، من جرح، أدري.. أن هناك ي�تم األوطان أيضاF. هنالك

األوطان، ظلمها قسوتها، هنالك جبروتها مذلgة.وأنانيتها

Page 270: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.لها.. أوطان شبيهة باآلباء هنالك أوطان ال أمومة

***

.الصباح لم أنم ليلتها حتى ساعة متقدمة من

كان للقائي الليلي مع تلك المدينة مذاق مسبق لمرارة أغفو حتى أيقظني من غفوتي أصغر ما. وما كدت

أوالد حسان، الذي استيقظ باكراF وراح يبكي بكاء رضيع.يطالب بحضن أمه، ووجبته الصباحية

قول ما حسدت براءته وجرأته الطفولية.. وقدرته على.يريد دون كالم

في ذلك الصباح، وفي أول لقاء لي مع تلك المدينة،.لغتي فقدت

شعرت أن قسنطينة هزمتني حتى قبل أن نلتقي،!بذلك ال غير وأنها جاءت بي إلى هنا، لتقنعني

.ولم أشعر برغبة في مقاومة قدري

وا gقبلي، وصنعت من جنونهم بها لقد هزمت من مر .أضرحة للعبرة

..المجانين وأنا آخر عشاقه

أنا ذا العاهة اآلخر الذي أحبها، أنا"أحدب نوتردام" قسنطينة اآلخر.. ما الذي أوصلني إلى اآلخر، وأحمق

عمراF؟ جنون كهذا؟ ما الذي أوقفني عند أبواب قلبها

..وكانت تشبهك لتوgها تحمل اسمين مثلك، وعدة تواريخ للميالد. خارجة

Page 271: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.من التاريخ، باسمين: واحد للتداول.. وآخر للتذكار

Fسيرتا". قاهرة كانت.. كمدينة أنثى "كان اسمها يوما.

!العسكر وكانوا رجاالF.. في غرور

ينيسا.. ويوغررطة.. gصيفاكس.. ماس gمن هنا مر .آخرون وقبلهم

تركوا في كهوفها ذاكرتهم. نقشوا حبgهم وخوفهم.وآلهتهم

تماثيلهم وأدواتهم، وصكوكهم النقدية، أقواس تركوا..نصرهم وجسوراF رومانية

.رحلوا و..

لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من الذي منحه لها من" أسمائها سوى اسم "قسنطينة

".ستة عشرة قرناF "قسطنطن

المغرور، الذي منح أحسد ذلك اإلمبراطور الروماني اسمه لمدينة لم تكن حبيبته بالدرجة األولى.. وإنما

.ألسباب تاريخية محض اقترن بها

.وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي

أن أعاكس قانون الحماقات هذا. وربما لذلك، يحدث وأنادي تلك المدينة "سيرتا" ألعيدها إلى شرعيgتها

.األولى

".تماما.. كما أناديك "حياة

.قسطنطين ككلg الغزاة.. أخطأ

المدن كالنساء.. نحن ال نمتلكها لمجرد أننا منحناها.اسمنا

Page 272: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لقد كانت "سيرتا" مدينة نذرت للحب والحروب، وتتربgص بكل فاتح سبق أن تمارس إغراء التاريخ،

.ابتسمت له يوماF من علوg صخرتها

..بالفتوحات الوهمية كنسائها كانت تغري

!ولكن لم يعتبر من مقابرها أحد

الرومان.. والوندال.. والبيزنطيين.. هنا أضرحة والفاطميين.. والحفصيين.. والعثمانيين.. وواحد وأربعين باياF تناوبوا علها قبل أن تسقط في يد

.الفرنسيين

فرنسا سبع سنوات بأكملها على هنا وقفت جيوش.أبواب قسنطينة

، لم تفتح هذه1830 فرنسا التي دخلت الجزائر سنة ، سالكة1837المدينة الجالسة على صخرة، إال سنة

فيه نصف جيشها، وتركت فيه ممراF جبليا تركت.قسنطينة خيرة رجالها

جسر حول تلك المدينة، منذ ذلك اليوم، ولد أكثر من.وكثرت الطرقات المؤدية إليها

دائماF أكبر من الجسور، ألنها ولكن، كانت الصخرة!تدري أن ال شيء تحت الجسور سوى الهاوية

مدينة تتربص بكل فاتح.. تلف نفسها بمالءتها ها هيها عن كل gسائح السوداء وتخفي سر.

تحرسها الوهاد العميقة من كل جانب، تحرسها وليg صالح، تبعثرت كهوفها السرية وأكثر من

.أضرحتهم على المنعرجات الخضراء تحت الجسور

أقرب جسر لبيتي ولذاكرتي. أعبرها.. هنا القنطرة الدوار تلقائيا وكأنني أرسمها، مشياF على األقدام، بين

Page 273: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

المبهم والتذكار وكأنني أعبر حياتي، أجتاز العمر من.طرف إلى آخر

شيء كان يبدو مسرعاF على هذا الجسر. السيارات كل كان ينتظرهم والعابرون وحتى الطيور، وكأن شيئاF ما

.على الطرف اآلخر

قد ربما كان بعضهم يجهل آنذاك أن الذي يبحث عنه، يكون تركه خلفه، وأنه في الحقيقة، ال فرق بين

فوقه.. وما طرفي الجسر. الفرق الوحيد هو ما في.تحته

تلك الهاوية المخيفة التي يفصلك عنها حاجز حديدي ال والتي ال يتوقف أحد لبنظر إليها، ربما ألن أكثر،

.كثيرا.. اإلنسان بطبعه ال يحب أن يتأمل الموت

.وحدي تستوقفني هذه الهاوية الموغلة في العمق

أتيتها بأفكار مسبقة وذاكرة متوارثة؟ أم ترى ألننيجسر؟ سلكت هذا الطريق، ألنفرد بهذه المدينة على

***

موعداF مع هنالك حماقات يجب عدم ارتكابها، كأن تأخذ.ذاكرتك على جسر

Fخاصة عندما تتذكر فجأة، تلك القصة التي نسيتها تماما ..منذ سنين

قصة جدك البعيد الذي رمى بنفسه يوماF من جسر ربما توعده أحد البايات بالقتل.. عندما كان هذا.. بعدما

قسنطينة جاءه خبر خيانته وتآمره عليه مع بعض وجهاء لإلطاحة به. هو الذي كان مبعوثه ورسوله الخاص..

.ورجل ثقته

يومها أضعف من أن يقف بمفرده في وجه كان جدgي

Page 274: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أن ي�قاد ذلك األمر القاطع بالقتل. وكان أيضاF أكبر منFليقف بين يدي ذلك الباي ذليال..

إليه.. كان جدي ولذا عندما أرسل الباي من يحضره جثة في هوة سحيقة كهذه، أسفل وادي الرمال، فقد

.شرف قتله رفض أن يمنح الباي

سمعت هذه القصة مرة واحدة من فم أبي، يوم سألته.الذي نحمله عن سر هذا االسم

يبدو أنه كان ال يحب رواية هذه الحادثة. فقد كان حدg ذاته عاراF وكفراF في مجتمع قسنطيني االنتحار في

غرب الجزائر متدين. ولهذا هاجرت عائلتنا بعد ذلك إلى مستبدلة باسم نكرة اسمها األول. ولم تعد إلى

.وأكثر، باسم� لمدينة أخرى قسنطينة إال بعد جيل

.أعيد نظري إلى أسفل في هذا الجسر المعلgق ماذا تراني جئت أبحث هنا،

على ارتفاع مئة وسبعين متراF من جوف األرض، والذيالغربان على عجل؟ تعبره أسراب

تراني أبحث عن بقايا جدg ما، كان اسمه أحمد.. يقال وسيماF وذا مال� وعلم كبير، وأنه رمى يوماF كل إنه كان

Fلتلك العائلة شيء من هنا.. ليترك حزنه وجرحه إرثا.

..هذه هي قسنطينة

لها، تحرص على مدينة ال يهمها غير نظرة اآلخرين صيتها خوفاF من القيل والقال الذي تمارسه بتفوق.

تارة.. والب�عد والهجرة تارة وتشتري شرفها بالدم.أخرى

تراها تغيgرت؟

وأنا شاب بعائلة غادرت قسنطينة أذكر أنني سمعت فجأة إلى مدينة أخرى، بعدما شاع أن إحدى األغاني

التي ما يزال يغنgيها "الفرقاني" اليوم، قد نظمهاالF في إحدى gبناتها أحدهم تغز!

Page 275: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ويظل السؤال.. ما الذي جئت أفعل هنا فوق هذاالجسر؟

مع ذاكرتي، أم فقط مع لوحتي في تراني على موعدهذا الصباح؟

وال ألوان، وبال ها أنا أقف أمامها اليوم دون فرشاة.قلق أو خوف من مربgع القماش األبيض

امها وال أنا لست خالقها في هذه gاللحظة. لست رس مبدعها. أنا جزء منها. ويمكنني أن أصبح حتى جزءاF من

.تفاصيلها وتضاريسها يمكنني أن أجتاز هذا الحاجز الحديدي الذي يفصلني

وكأنني أجتاز إطار لوحة.. كأنني أخترقها عنها،.ألسكنها إلى األبد

الوادي الصخري العميق نقطة بشرية، أتدحرج نحو هذا قطرة للون� ما.. على لوحة� أبدية، لمنظر أردت أن

.أرسمه.. فرسمنيام، أن يتوحد مع لوحته gأليست هذه أجمل نهاية لرس

واحد؟ في مشهد

كنت أدري في تلك اللحظة وأنا أنظر إلى الوهاد األنفاق الصخرية التي العميقة تحتي، إلى تلك

يشطرها نهر الرمال ببطء زبديg، أن "الهاوية األنثى" تستدرجني إلى العمق، في موت شبقيg أخير، كانت

ربما كان فرصتي األخيرة للتوحد الجسديg مع قسنطينة، ومع ذاكرة جدg بدأت أشعر بتواطؤ غامض

.معه

هي التي أشعرتني ترى شهوة السقوط والتحطمعندئذ� بالدوار، وأنا معلgق على ذلك الجسر وحدي؟

أشعر فجأة بالخجل من هذه المدينة.. وأكاد وإذا بي بالدوار. فمتى أعتذر لها. وحدهم الغرباء هنا يشعرون

بالتحديد وضعتني قسنطينة في خانتهم؟

.أكن يومها مستعداF للموت ورغم ذلك أعترف، أنني لم

ليس تمسكاF منيg بالحياة. ولكن ألنني وصلت بذلك

Page 276: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الحزن الجارف العميق الذي اجتاحني منذ وطئت هذه.أخرى المدينة، إلى عاطفة غامضة متطرفة

لقد وصلت بمرارتي وخيبتي حد الطمأنينة والسعادة.المبهمة

تعلgمت أن أسخر من استفزاز األشياء لي، فلقد التهكم وأقابل تلك المواجهة مع الذاكرة بشيء من

gالمر.

ألم آت هنا إثر قرار� جنوني، ربما بحثاF عن الجنون في تكاد تحترفه! ولذا بدأت أتلذgذ سراF بهذه اللعبة مدينة

بمازوشيgة الموجعة، وأحرص على أن أعيش صدماتيدة. فربما كانت خيبتي اليوم مع هذه المدينة، هي gمتعم

.القادمة منجم جنوني وعبقريتي

وبرغم ذلك قررت فجأة أن أهرب من ذلك الجسر الذي.يوماF كان بداية جنوني

فجأة تطيgرت منه، أن الذي أولعت به طويالF وحولته بعدما أحطت نفسي بأكثر من إلى ديكور لحياتي،

.نسخة منه كنت أيكون ذلك اإلحساس جاءني، وأنا ألمح من حيث تلك السفوح الجبلية التي كانت يوماF مرشوشة

المنثور بين بشقائق النعمان.. وأزهار النرجس الممرات الخضراء، والتي كان أهل قسنطينة يأتون

لين بما أعدgته الستقبال إليها كل سنة gالربيع.. محم النساء لتلك المناسبة من "براج" وحلويات وقهوة..

تبدو اليوم حزينة، وكأن أزهارها غادرتها لسبب والتيغامض؟

محمد الغراب( الذي يعود أم تراه منظر مزار )سيديFفجأة إلى الذاكرة. وإذا بي أستعيد ما قرأته عنه مؤخرا

كتاب تاريخي عن قسنطينة. فتعبرني قشعريرة في.غامضة

أدري اللعنة التي الحقت ماذا لو الحقتني دون أن صالح باي أكبر بايات قسنطينة على اإلطالق بسبب

Page 277: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

هو الذي كان يريد أن يختم إنجازاته هذا الجسر؟ وهبها المعمارية الهائلة، وإصالحاته المختلفة التي

لتلك المدينة، بإصالح جسر القنطرة، اللسان الترابي المدينة بالخارج، والجسر الوحيد الذي كان يربط

.الوحيد الذي صمد من بين خمسة جسور رومانية

أسطورة شعبية، إن هذا الجسر كان أحد أسباب تقول..المفجعة هالك )صالح باي( ونهايته

فقد قتل فوقه )سيدي محمد(، أحد األولياء الذين كانوا بشعبية كبيرة. وعندما سقط رأس الرجل يتمتgعون

الولي على األرض، تحول جسمه إلى غراب، وطار متوجهاF نحو دار صالح باي الريفية التي كانت على تلك

F إياه بنهاية ال تقل قسوة وال السفوح. ولعنه واعدا.ظلماF عن نهاية الولي الذي قتله

باي إال أن غادر بيته وأراضيه إلى فما كان من صالح األبد، تطيgراF من ذلك الغراب، واكتفى بداره في

.المدينة هكذا أطلق الناس على ذلك المكان اسم "سيدي محمد

قرنين مزار المسلمين واليهود الغراب"، ليبقى بعد في قسنطينة، يأتونه في نهايات األسبوع وفي

لقضاء أسبوع كامل يرتدون خالله ثياباF المواسم، جيل، وردية، يؤدون بها طقوساF متوارثة جيالF عن

فيقدgمون له ذبائح الحمام، ويستحمgون في المياه كانت تستحمg السالحف، الدافئة لبركته الصخرية حيث

ويعيشون على شرب "العروق" ال غير، واالستسالم بدائية، في حلقات جماعية يؤدونها في لنوبات رقص

".الفقيرات "الهواء الطلق.. على وقع بندير

ولكن قسنطينة، لم تحقد على بايها الذي وهبها الكثير.والرفاهية من الوجاهة

.سوgت فقط بطيبة أو بجنون.. بين القاتل والقتيل

محمد الغراب( أشهر مزار وليg صنعت من )سيدي قسنطيني على اإلطالق، في مدينة يحمل كل شارع

.وليg فيها اسم

Page 278: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وخلgدت من بين واحد وأربعين باياF حكمها، اسم صالح أجمل أشعارها، وغنgت فجيعة باي وحده، فكتبت فيه

موته في أجمل أغنية رثاء. ومازالت تلبس حداده حتى!مع مالءات نسائها السوداء.. دون أن تدري اليوم

..هذه هي قسنطينة لعنتها ورحمتها، ال حاجز بين حبgها ال فرق بين

.وكراهيgتها، ال مقاييس معروفة لمنطقها.الخلود لمن تشاء، وتنزل العقاب بمن تشاء تمنح

يحسم فمن عساه يحاسبها على جنونها، ومن عساه موقفه منها، حباF أو كراهية.. إجراماF أو براءةF.. دون أن

كل الحاالت ضدgها؟ يعترف أنها تحمل في

***

في كل يوم كنت أقضيه في تلك المدينة، كنت أتورط أكثر في ذاكرتها، فرحت أبحث في سهراتي مع

تمتد بنا أحياناF حسان، وأحاديثنا الجانبية الطويلة، التي حتى ساعة متأخرة من الليل.. عن وصفة أخرى

.للنسيان

ذلك الجو العائلي الذي افتقدته طويالF عن أبحث في.طمأنينة أخرى خارج فضائها

في ذلك البيت العائلي الذي أعرفه كان لوجودي ويعرفني، تأثير على نفسيgتي في تلك األيام. وربما

عه. لقد كنت أعود إليه gالذي لم أتوق gكان سندي السري دهاليز طفولتي البعيدة، كل ليلة، وكأنني أصعد نحو

..ألصبح جنيناF من جديد

مازال مكانها هنا فارغاF أختبئ في جوف أم� وهمية،.منذ ثالثين سنة

يوم أقام عندي يحدث في تلك الليالي أن أذكر زياد، لبضعة أشهر في الجزائر، عندما رفض مستأجره أن

.البيت يجدgد له عقد إيجار

Page 279: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

تعوgدت وقتها أن أترك له سريري، وأنام على فراش.في غرفة أخرى آخر وضعته على األرض

Fوكان زياد يحتج ويشعر بشيء من اإلحراج، معتقدا .مجاملة له أنني أفعل ذلك

وكنت أوكgد له كل مرة، أنني اكتشفت بفضله أنني على األرض. فقد كان ذلك الفراش أسعد أكثر بالنوم

األرضي يذكgرني بطفولتي وبنومي إلى جوار أمي لعدة سنوات، على ذلك المطرح الصوفي الذي ما زلت أذكر

ا( لونه األزرق. بل وتلك األيام التي gصها )أمgكانت تخص كل خريف، لغسل الصوف وتجديد تلك المطارح

.األثاث األساسي لغرفة نومي الصوفية التي كانت

تمنgيت لو طلبت من عتيقة أن تضع لي في المستقبل فراشاF على األرض، تماماF كما تفعل مع أوالدها الذين

فراش أرضي مشترك ينامون في الغرف األخرى، على يوحي بالدفء والرغبة باالنزالق تحت أغطيته الصوفية

تثير غيرتي وحنيني لزمن� لم أعد أدري الجميلة التي.تخيgلته لبعده، إن كنت عشته حقاF.. أم

ولكن أيعقل أن أطلب هذا الطلب من عتيقة؟ هي بيتها، غرفة نومها العصرية التي أعطتني أجمل غرف

المعدgة الستقبال الضيوف، أكثر منها لقضاء ليال�للحب؟.. زوجية

Fلو فعلت هذا فلربما أحرجتها، ولما وجدت تفسيرا عتيقة تشارك أحياناF في لجنوني هذا. فقد كانت

Fرا gمتحض Fسهرتنا، وتحاول أن تستنجد بي، بصفتي رجال Fمن باريس، ألقنع أخي بالتخلي عن هذا البيت قادما

في العيش. العربي القديم، وهذه الطريقة المتخلgفة وتكاد تعتذر لي عن كل األشياء التي كانت تبدو في

.ونادرة.. نظري جميلة

وألنني لم أكن أملك القدرة على إقناعها برأيي، وال معاكسة رأيها، كنت أكتفي باالستماع إلى الجرأة على

نقاشها مع حسان، ذلك النقاش الذي يكاد يتحول أحياناF إلى شجار قبل أن تنسحب هي إلى النوم،

Page 280: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:ويعلgق حسان شبه معتذر

يمكن أن تقنع امرأة تشاهد مسلسل )داالس( على ال" الله.. ال بد أن التلفزيون، أن تسكن بيتاF كهذا وتحمد

يوقفوا هذا المسلسل، ماداموا عاجزين عن منح الناسFمحترما Fوحياة أفضل.. سكنا."..

.كنت أحسد قناعة حسان. وأعجب بفلسفته في الحياة

يقول: "لكي تكون سعيداF عليك أن تنظر إلى من كان ونظرت لمن تحتك. فإذا كان في يدك قطعة رغيف،

ليس في يده شيء، ستسعد وتحمد الله. وأما إذا في يدهم قطعة رفعت رأسك كثيراF ونظرت لمن

"كعك" فأنت لن تشبع، بل ستموت قهراF فقط..!".باكتشافك وتتعس

وهكذا ففي نظر حسان أن العيش في بيت كهذا برغم تبدو أحياناF مزعجة، بتفاصيلها كل سلبياته التي

الصغيرة التي تجاوزها العصر، يظل أفضل مما يعانيهFآالف الناس. بل وعشرات اآلالف الذين لم يجدوا بيتا

أوالدهم وزوجتهم. واسعاF كهذا يسكنونه بمفردهم مع بل كثيراF ما يتقاسمون مع أهلهم وأقاربهم، الشقة

.بيتاF لعائلتين لعدة سنوات الضيقة التي تكون

..هكذا كان حسان نظرة عمودية، فقد تعلم لقد كانت نظرته إلى األشياء"

..".كل ما تعلمه في صباه على سبورة بالحائطFإلى وكان سعيدا Fبتلك النظرة التي قد تعود أيضا

!األحالم عقليته كموظف محدود الدخل.. ومحدودبxمw يمكن أن يحلم أستاذ للعربية يقضي يومه في wف

وسرد سيرة الكتgاب والشعراء شرح النصوص األدبية، القدامى على تالميذه.. وتصحيح أخطائهم النحوية واإلنشائية، وال يجد متسعاF من الوقت _أو الجرأة_

أخطاء أكبر ترتكب لشرح ما كان يحدث أمامه، وتصحيح على مرأى منه باسم كلمات خرجت فجأة من اللغة،

.الشعارات والمزايدات؟ لتدخل قاموس كان في أعماق حسان مرارة غامضة تبدو على كل

Page 281: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.ولكنه كان يحتفظ بها لنفسه. تفاصيل حياته

أوالده من الواضح أنه كان متعباF وغارقاF في مشكالت الستgة وزوجته الشابة التي تحلم بحياة أخرى غير حياة

هو فلم يكن يجرؤ على الحلم، قسنطينة المغلقة. وأما أو باألحرى كان يحلم آنذاك بالعثور على شخص

!ليحصل على ثالجة جديدة.. ال غير يتوسط له

وأنا عندما عرفت أمنيته البسيطة الصعبة، حزنت أكتشف أننا لم نكن متخلgفين عن أوربا وفرنسا فقط،

األمر.. وبدا منطقياF. لقد كنا كما كنت اعتقد، وإال لهان متخلgفين عما كنgا عليه منذ نصف قرن وأكثر. يوم كنgا

.تحت االستعمار

.يومها كانت أمنياتنا أجمل.. وأحالمنا أكبر

تتأمل وجوه الناس اليوم وأن تسمع يكفي أن أحاديثهم وأن تلقي نظرة على واجهات المكتبات

.ذلك لتفهم يومها كنgا وطناF يصدgر األحالم.. مع كل نشرة أخبار إلى

.العالم كل شعوب

وكانت هذه المدينة بمفردها تصدgر من الجرائد تصدgره اليوم المؤسسات والمجالت والكتب ما ال

Fوال عدا ..Fالوطنية ال نوعا.

المفكرين والعلماء.. والشعراء يومها كان لنا منF .بعروبتنا والظرفاء والكتاب، ما يمألنا زهواF وغرورا

اليوم.. لم يعد أحد يشتري الجرائد ليحتفظ بها في.في الجرائد ما يستحق الحفظ خزانة، إذ لم يعد

Fم منه شيئاgلقد. ولم يعد أحد يجلس إلى كتاب ليتعل أصبح البؤس الثقافي ظاهرة جماعية، وعدوى قد

Fح كتابا gتنتقل إليك وأنت تتصف " .Fلقد كانت الكتب دائما Fا فصيحاgعلى صواب في ذلك العهد، وكان الواحد من

..".تتكلم الكتب يتكلم كما

Page 282: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

واليوم أصبحت الكتب تكذب أيضاF.. مثلها مثل الجرائد. تقلgص صدقنا.. وماتت فصاحتنا، منذ أصبح حديثنا ولذا

!المفقودة يدور فقط حول المواد االستهالكية

عندما قلت يومها هذا الكالم لحسان، ظل يتأملني شيئاF لم ينتبه له من قبل.. ثم بذهول وكأنه اكتشف

:قال بشيء من الحسرة

أهدافاF صغيرة ال عالقة لها صحيح.. لقد خلقوا لنا- بقضايا العصر. وانتصارات فردية وهمية، قد تكون

للبعض الحصول على شقة صغيرة بعد سنوات بالنسبة أو من االنتظار.. أو قد تكون الحصول على ثالجة،

التمكن من شراء سيارة.. أو حتى دواليبها فقط! وال واألعصاب ليذهب أكثر من أحد عنده متسع من الوقت..هذا، ويطالب بأكثر من هذا

دة نحن متعبون.. أهلكتنا gهموم الحياة اليومية المعق .التي تحتاج دائماF إلى وساطة لحل تفاصيلها العادية فكيف تريد أن نفكgر في أشياء أخرى، عن أيg حياة

نا الحياة ال gغير.. وما عدا هذا ثقافية تتحدث؟ نحن هم ترف.. لقد تحولنا إلى أمة من النمل، تبحث عن قوتها

..ال أكثر فيه مع أوالدها وجحر تختبئ

:سألته بسذاجة

الناس؟ وماذا يفعل-

Fقال مازحا:

..الناس..؟ ال شيء.. البعض ينتظر.. والبعض يسرق- والبعض اآلخر ينتحر، هذه مدينة تقدم لك االختيارات

!والحجة نفسها.. الثالثة بالمبررات نفسها

يومها خفت على حسان من تلك المدينة.. وانتابتني.مبهمة فجأة قشعريرة

Page 283: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

سألته دون تفكير.. وكأنني أسأله أي الوصفات الثالثة:أختار

وهل لك أصدقاء هنا تلتقي بهم.. وتخرج معهم؟-

يسعد الهتمامي أجابني وكأنه يعجب لسؤالي، أو:المفاجئ بكل تفاصيل حياته

الثانوية.. ما لي أصدقاء معظمهم مدرسون معي في- عدا هذا ليس لي أحد.. لقد فرغت قسنطينة من أهلها،

.القديمة التي عرفناها ورحلت كل العائالت

وراح يسرد عليg أسماء عائالت كبيرة هاجرت أو راحت تستقر في العاصمة أو في الخارج، لتترك تلك المدينة

المدن الصغيرة آلخرين.. جاء معظمهم من القرى و.المجاورة

قبل أن يضيف تلك الجملة التي لم تستوقفني والتي أخذت بعد ست سنوات كل أبعاد القدر ساعتها،

:األحمق، قال

المدينة األصليون، ال يزورونها لقد أصبح سكان هذه- !سوى في األعراس.. أو في المآتم

:أعلgق على كالمه، أضاف وكأنه تذكgر شيئاF وقبل أن

الطاهر.. من المؤكد سأعرفك على ناصر ابن سي- أنه سيأتي بعد غد� لحضور زواج أخته. سترى.. لقد

Fمنذ أصبح رجال gبطولك وبضخامتك، وهو يتردد علي ر أن يستقر في قسنطينة. إنه gبضعة أشهر، منذ قر

الوحيد الذي قام بهجرة معاكسة. لقد رفض حتى منحة هذا.. عندما سألته إلى الخارج.. تصور! ال أحد يصدgق

لماذا لم يسافر مثل اآلخرين ويهرب من هذا البلد، إن سافرت أال أعود أبداF.. كل أصحابي قال لي: "أخاف

..".الذين سافروا لم يعودوا

أكتشف هذا التطرف الذي يذكgرني بك، ضحكت وأنا

Page 284: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وكأنه سمة عائلية. وشعرت برغبة في إطالة ذلك..الحديث الذي كان يؤدي إليك بطريقة.. أو بأخرى

:سألته

اآلن؟ وماذا يفعل-

لقد أعطوه بصفته ابن شهيد محالF تجارياF وشاحنة- F، يعودان عليه بدخل كبير. ولكنه مازال ضائعاF مترددا

في يفكر أحياناF في مواصلة دراسته، ثم أحياناF أخرىغ للتجارة. والحقيقة أنني عاجز عن نصحه. فمن gالتفر

دراسته العليا، ألنه المؤسف أن ينقطع إنسان عن سيظل يشعر بذلك النقص طوال حياته.. ومن ناحية

تفيد الشهادات اليوم في شيء حسب أخرى، لم تعد قوله، وهو يرى شباباF بشهادات عليا عاطلين عن

لون في سيارات مرسيدس gالعمل، وآخرين جهلة يتنق Fللعلم.. إنه ويسكنون فيالت فخمة.. ليس هذا زمنا

طارة.. فكيف يمكن أن تقنع اليوم صديقك أو gزمن الش في المعرفة؟. لقد اختلت حتى تلميذك بالتفاني

Fالمقاييس نهائيا..

:قلت لحسان

اإلنسان ما هو هدفه الحقيقي في المهم أن يعرف الحياة.. هل المال هو مشكلته األولى.. أم المعرفة

وتوازنه الداخلي؟

Fحسان مازحا gرد:

نحن شعب نصف.. توازن..؟ عن أي توازن تتحدث- . ال أحد فينا يدري ما يريد بالضبط.. وال ماذا gمختل

إن المشكل الحقيقي هو هذا الجو.. ينتظر بالتحديد .الذي يعيشه الناس، وهذا اإلحباط العام لشعب� بأكمله

إنه يفقدك شهية المبادرة والحلم والتخطيط ألي الجاهلون وال مشروع. فال المثقفون سعداء.. وال

البسطاء وال األغنياء. قل لي يرحم والديك.. ماذا يمكن إذا كنت ستنتهي موظفاF يعمل تحت أن تفعل بعلمك

Page 285: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

د في منصبه مصادفة ليس xإشراف مدير جاهل، و�ج معرفته، وإنما.. لكثرة معارفه وعرض أكتافه.! لسعة

مثالF.. وماذا يمكن أن تفعل بأموالك في قسنطينة سوى أن تدفعها عمولة لتحصل على شقة غير صالحة

تقيم عرساF بها يغنgي للسكن في معظم األحيان.. أو فيه "الفرقاني"؟ أما إذا كان كل ما تملكه ال يتجاوز

ألف دينار.. فيبقى أمامك أن تدفعها "شراب العشرين آخر، قهوة" لمسؤول محليg يختبئ خلف أيg موظgف

. وهكذا يمكنك أن تؤدي gليبيع جوازات سفر إلى الحج في اآلخرة.. بعدما فريضتك وتحجز لك غرفة صغيرة

!ضاقت بك الدنيا

Fصحت عجبا:

هل يبيعون جوازات سفر إلى.. واش.. أحقاF تقول- الحج بمليونين!؟

الحجاج كل عام طبعاF.. ألن الحكومة حددت عدد- بسبب تكاليفهم الباهظة بالعملة الصعبة، بعدما

عدة مرات ألسباب ال اكتشفت أن معظمهم يسافر عالقة لها بالحج، وإنما ألغراض تجارية محض. وإال

يكون بعضهم قد حج ست مرات أو كيف تفسر أن سبعاF دون أن يكون ذلك واضحاF على سلوكه وأخالقه؟

أعرف حاجاF "سوكارجي" ال تفارق الخمرة بيته، أنا و"البزنيس".. وتغيير وأعرف آخر متفرغاF للترافيك

العملة الصعبة في األسواق السوداء.. هؤالء مازالوا عام للحج. يمكنهم أن يحصلوا على يسافرون كل

عشرين ألف دينار بسهولة. وأما أنا فمن أين لي هذا المبلغ ألقوم بتأدية فريضتي، ودخلي ال يتجاوز األربعة

الشهر؟ آالف دينار في

:قلت له وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى

الحج؟ عالش.. هل تنوي-

طبعاF.. ولم ال.. ألست مسلماF؟ لقد عدت إلى الصالة- إيماني ألصبحت مجنوناF. كيف يمكن منذ سنتين ولوال

Page 286: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أن تصمد أمام كل هذا المنكر وهذا الظلم دون إيمان؟ وحدها التقوى تعطيك القدرة على الصمود.. انظر

النتيجة وربما حولك: لقد توصgل جميع الناس إلى هذه الشباب أكثر من غيرهم ألنهم الضحية األولى في هذا

نفسه أصبح يصلgي منذ عاد إلى الوطن.. وحتى ناصر ..قسنطينة، ربما لهذا السبب وربما ألن الدين كالكفر

عدوى أيضاF! والله يا خالد.. لو رأيتهم يوم الجمعة تضيق بهم يتجهون إلى المساجد باآلالف حتى

جدرانها.. وتفيض بهم الشوارع.. لوقفت معهم تصلي!لماذا دون أن تتساءل

لم أجد شيئا أعلgق به على كالم حسان في تلك السهرة طالت بنا حتى الثانية صباحاF. فقد كان العجيبة، التي

F ببدء العطلة الصيفية حسان سعيداF بوجودي، وسعيدا التي تسمح له بالسهر والتحدث إليg طويالF بعد كل هذه

.باعدتنا السنوات التي

فتركته يتحدث.. ويعري أمامي هذا الوطن الذي كنتFكسوته حنينا Fوجنونا Fوعشقا.

أكان يخاف عليg من خيبتي،ويخشى أن يفقد فرحة هذا الوطن مرة أخرى، عندما كان عودتي إليه وإلى

يتوقف أحياناF عن الحديث لينتقل بي إلى موضوع آخر؟ كأن يستدرجني مثالF بطريقة غير مباشرة إلى الدين

بالتوبة، وكأن وجودي وإلى التقوى واإليمان. ويغرينيF .في فرنسا بحد ذاته قد أصبح ذنبا وكفرا

.حسان؟ أهذا هو

لم أمنع نفسي ساعتها من االبتسام وأنا أتذكر أنني..زجاجتي» ويسكي كالعادة أحضرت له معي

تساءلت ليلتها وأنا في فراشي عن ذنوبي. حاولت أن ألخصها، أن أحصرها.. فلم أجدها أكبر من ذنوب غيري،

..بدرجات بل وربما وجدتها أقل

لم أكن مجرماF.. وال مقامراF.. وال كافرا.. وال كاذباF.. والFوال خائنا ..Fيراgسك..

.آخر لم تكن لي زوجة وال سرير شرعي استبدلت به

Page 287: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

خمسون سنة من الوحدة. نصفها تماماF ما يمكن أنيه "السنوات gالمعطوبة" تلك التي قضيتها بذراع� أسم

.واحدة، مشوgه الجسد واألحالم

النساء؟. لم أعد أذكر. منذ حبgي األول كم أحببت من الممرضة لتلك الجارة اليهودية التي أغريتها. إلى تلك

التونسية التي أغرتني. إلى نساء أخريات.. لم أعد أذكر تناوبن على سريري ألسباب أسماءهن وال مالمحهن،

FF جسدية محض، وذهبن محمالت بي ألبقى فارغا..منهن

xأنت xوجئت... المرأة xالوحيدة أكبر ذنوبي على اإلطالق كنت أنت

Fالتي لم أمتلكها، والذنب الوحيد الذي لم أقترفه حقا. معك، هي ما يمكن أن أسميه "ذنوب لقد كانت ذنوبي

..اليد اليمنى".. اليد الوحيدة التي رسمتك بها!واستحضرتك بها.. واغتصبتك بها.. وهما

يترك لي فهل سيعاقبني الله على ذنوب يد� لمسواها!؟

ال أذكر من قال: "ليس الفضيلة تجنgب الرذيلة،!تشتهيها الفضيلة في أال

Fفاضال Fوأعتقد أنني بهذا المفهوم فقط.. لم أكن رجال... وأال أبدأ رذيلتي معك. فقد كان xال بد أال أشتهيك أنت

التي يجب كان لحبك طعم المحرمات والمقدسات.تجنgبها، والتي كنت أنزلق نحوها دون تفكير

حقاF في قصتي معك، أن تكون لقد كان األمر المدهش المبررات التي جعلتني أحبك، هي التي كان يجب أن

أعدل عن حبك. ولهذا ربما كنت أحبك وأعدل تجعلني نفسه عن حبك.. أكثر من مرة في اليوم. وبالتطرف

.كل مرة

وأنا ال أفعل شيئاF في النهاية هنا، سوى البحث عن حد�

Page 288: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

المدg والجزر العاطفي الذي أعيشه معك كل لهذا.لحظة

ال يمكن أن يقرر كنت أدري أن العاشق مثل المدمن، بمفرده الشفاء من دائه، وأنه مثله يشعر أنه ينزل

أكثر نحو الهاوية. ولكنه ال يمكن أن تدريجياF كل يوم يقف على رجليه ويهرب، مادام لم يصل إلى أبعد

نقطة في الجحيم، ويالمس بنفسه قعر الخيبة.والمرارة القصوى

..تلك الليلة وكنت سعيداF في تلك السعادة الغامضة المرة، ألنني كنت أدري أن كل

اليومين القادمين، وأنني شي سوف يحسم في.بطريقة أو بأخرى سأنتهي منك

السهرة منهمكة في إعداد كانت زوجة حسان في تلك نفسها للحدث الهام، ولمرافقة الموكب النسائي في

.الحمام، ثم إلى ليلة الحنة الغد إلى

وكانت كثيرة الحركة ومشغولة عنا وعن أوالدها بهمومها النسائية، وبما ستأخذه في حقيبتها من ثياب

العادة كل شيء للحمام، حيث ستستعرض النساء مثل حتى ثيابهن الداخلية.. ليتظاهرن بغناهنg الكاذب في

ليقنعن أنفسهن فقط، أنهن مازلن معظم األحيان.. أو برغم كل شيء قادرات على إغراء رجل، تماماF مثل

لنها بحسد تلك gالعروس التي يرافقنها.. والتي يتأم gسري.

F تبدأ طقوس أفراحك.. وينتهي ذلك الزمن فليكن.. غدا.الذي سرقناه من الزمن

.انتظار غدك أجمل األحالم إذن سيدتي في

!ولتصبح على خير.. أيها الحزن

***

Page 289: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

يوقظني الحب المضاد في هذا الصباح الصيفي...بي في الشوارع ويرمي

قررت حال استيقاظي أن أهرب من البيت، ومن ينقطع عن مراسيم الحفل، وعن حديث عتيقة الذي ال

أسماء الشخصيات والعائالت الكبيرة التي جاءتFلتحضر ذلك الحدث الذي لم تشهد قسنطينة خصيصا

.مثله منذ سنوات:لتواصل حديثها ولكنها لحقت بي حتى الباب

على بالك.. يقال إنهم حضروا كل شيء من فرنسا..- والطائرة تنقل لوازم العرس.. لو رأيت جهاز منذ شهر

قال لك "واحد.. العروس وما لبسته البارحة.. يا حسرة..!"عايش في الدنيا.. وواحد يوانس فيه

الباب، وكأنني أغلق بعنف أجبتها وأنا أغلق خلفي:أبواب قلبي

أيضاF. ويمكنهم أن ما عليهش.. البلد لهم والطائرات- !يجلبوا إليه كما أخذوا منه ما شاؤوا

أين أهرب؟

أنا أوصدت الباب خلفي، وإذا ال شي أمامي.. ها.سواي

أفواج المارة الذين رميت بخطاي دون تفكير وسط.يجوبون الشوارع هكذا كل يوم دون جهة محددة

تملك الخيار بين أن تمشي، أو تتكئ على هنا.. أنت جدار، أو تجلس في مقهى لتتأمل الذين يمشون أو

..يتكئون أمامك.. على حائط الرصيف المقابل

Page 290: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..رحت أمشي

ما، أننا نطوف جميعاF حول هذه شعرت في لحظة المدينة الصخرة، دون أن ندري تماماF.. ماذا يجب أن

نفعل بغضبنا، ماذا يجب أن نفعل ببؤسنا.. وعلى من.جيوبنا الفارغة نرمي هذا الحصى الذي امتألت به

جم في هذا الوطن؟ من؟ ذلك الجالس gمن األو»لى بالر الجميع.. أم أولئك الجالسون فوقنا؟ فوق

األصفار.. "حضرني لحظتها عنوان رواية لمالك حداد".تدور حول نفسها

تمنيت لو أنني قرأتها، عساني أجد تفسيراF لكل هذه.الدوائر التي تحولنا إليها

ثم قادتني أفكاري إلى مشهد شاهدته يوماF في تونس لجمل مغمض العينين، يدور دون توقف في ساحة

أمام متعة )سيدي بوسعيد(، ليستخرج الماء من بئر.السواح ودهشتهم

استوقفني يومها عيناه اللتان وضعوا عليهما غمامة ليتوهم أنه يمشي إلى األمام دائماF، ويموت دون أن

مفرغة.. وأنه قضى يكتشف أنه كان يدور في حلقة!عمره دائراF حول نفسه

يكاد ينتهي من دورة ترانا أصبحنا ذلك الجمل الذي ال حتى يبدأ أخرى تدور به بطريقة أو بأخرى حول همومه

اليومية؟ الصغيرة

ت�رى هذه الجرائد التي تحمل لنا أكياساF من الوعود بغد� سوى رباط عينين، يخفي عنا صدمة أفضل، ليست

الواقع وفجيعة الفقر والبؤس الحتمي الذي أصبحمرة يتربص بنصف هذا الشعب؟ ألول

وأنا.. تراني لم أعد أعرف المشي إلى األمام في خط مستقيم ال يعود بي تلقائياF إلى الوراء.. إلى هذا

Page 291: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الوطن الذاكرة؟

الوطن.. من أين له هذه القدرة الخارقة على لwيg وهذا!وأصفار.. المستقيمات، وتحويلها إلى دائرة

.ها هي الذاكرة سياج دائري يحيط بي من كل جانب أضع قدمي خارج البيت. وفي كل تطوgقني أول ما

..البعيدة اتجاه أسلكه تمشي إلى جواري الذكريات

فأمشي نحو الماضي مغمض العينين.. أبحث عن التي كان لكل عالم أو وجيه المقاهي القديمة تلك

مجلسه الخاص فيها، حيث كانت تعد القهوة على الحجري وتقدم بالجزوة.. ويخجل نادل أن الوجاق

.عنده يالحقك بطلباته. كان يكفيه شرف وجودك

في ذلك الزمن كان البن باديس المقهى الذي كان طريقه إلى المدرسة. كان يتوقف عنده، وهو في

(.اسمه )مقهى بن بامينة

حيث كان مجلس( وكان هنالك )مقهى بو عرعور بلعطgار وباشتارزي وحيث كنت ألمح أبي أحياناF وأنا أمر

.الطريق بهذا

أين ذلك المقهى ألحتسي فيه هذا الصباح فنجان قهوةذكراه؟ نخب

كيف أعثر على مقهى لم يكن كبيراF سوى بأسماء هذا الزمن الذي كبرت فيه رواده؟ كيف أجده.. في

المقاهي وكثرت، لتسع بؤس المدينة. وإذا بهاكوجوه الناس؟ متشابهة وحزينة

لم يعد يميزها شيء. حتى تلك الهيبة التي كانت سمة وذلك الشاش والبرنس المتألق بياضاF، أهل قسنطينة،

FF وباهتاF اليوم .أصبح نادرا

أول ما لفت نظري ذلك الصباح، ذلك الزيg ربما كاند لتلك المدينة التي تستيقظ كما تنام gبحزن الموح

Page 292: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

غامض. ذلك اللون القاتم المتدرج والمشترك بين.الجنسين

بمالءاتهن السوداء التي ال يبدو منها النساء ملفوفات.شيء سوى عيونهن

الرمادية أو البنية التي ال تختلف والرجال في بدالتهم عن لون بشرتهم.. وال لون شعرهم. والتي يبدون

.وكأنهم اشتروها جميعاF عند خياط واحد

ضوء، أو لون وقلما كان يبدو من بين الحشود نقطة.زاه� لفستان� أو لبدلة� صيفية

تلك المدينة، بعيون تراني كنت أنظر ذلك الصباح إلى رسام ال تلفت نظره سوى األلوان، ويكاد ال يرى

أم تراني كنت أراها فقط بعيون. سواها في كل شيءالماضي وخيبة الحاضر؟

الرجال الضائعين مثلي في رميت بنفسي وسط أمواج.أشبههم تلك المدينة. شعرت ألول مرة أنني بدأت

مثلهم أملك وقتاF ورجولة ال أدري ماذا أفعل بها. فال أمشي ساعات في الشوارع كما يمشون.. أملك إال أن

.اآلخر محمالF ببؤسي الحضاري.. وبؤسي الجنسي

ها نحن نتشابه فجأة في كل شيء. في لون شعرناgأحذيتنا وخطانا الضائعة على ولون بدلتنا وجر

.األرصفة

ولكن هل. نتشابه في كل شيء، وأنفرد وحدي بكيغير ذلك شيئاF؟

حبك الذي استدرجني حتى هذه المدينة، أعادني إلى تخلgفي دون علمي. رمى بي وسط هذه الجموع

الصيفية، دون الرجالية، التي تسير ببطء تحت الشمس وجهة محددة، ودون أن تدري ماذا تفعل بتلك األشعة

المحمومة في النهار، وتنفقها التي تختزنها األجساداF في الليل.. في الملذات gالفردية األيدي البائسة سر.

Page 293: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F تتوقف فجأة خطواتي أمام جدران بيت ال يشبه بيوتا.أخرى

كانت أكبر "دار مغلقة" يرتادها الرجال. وكان لها هنا.مختلفة ثالثة أبواب تؤدي إلى شوارع وأسواق

لقد كانت في الواقع داراF مغلقة مشرعة، مدروسة من أية جهة، ويخرجوا منها من ليتسلل إليها الرجال

.أية جهة أخرى

هرباF من المدن كان الرجال يؤمونها من كل صوب،.والقرى المجاورة، التي ال ملgذات فيها وال نساء

الجميالت والبائسات، يأتين أيضاF من كل وكانت النساء المصفرة، المدن المجاورة ليختفين خلف هذه الجدران

التي ال يخرجن منها إال عجائز لينفقن ثروتهن في األيتام في موسم الصدقات والحسنات، وتطهير

.توبتهن األخيرة

..!ورجولته هنا أنفق أبي ثروته

أحاول أال أتوقف عند ذلك البيت االستثنائي، الذي كان سبب حزن أمي السري، وربما موتها لعدة سنوات

Fقهرا.

السرية، وأحالمي وكان لعدة سنوات أيضاF سرg نشوتي المكبوتة أيام صباي، يوم كنت أحلم به وال أجرؤ على

خوفاF من أن ألتقي بأبي هناك، وربما أيضاF دخوله، ربما المسروقة فوق ألنني كنت مكتفياF بمغامراتي العابرة

السطح تارة، أو في غرف المؤونة التي قلما يفتحها..أحد

لم يعد أبي هناك ليمنعني احتمال وجوده في اليوم.هذا "البيت" من الدخول

بعدما ترك تاريخه بامتياز خلف هذه الجدران، لقد رحل على تماماF كما يفعل أيg فلسطيني ثري ومحترم

.أيامه

Page 294: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ألم تكن جدتي تقول وقتها لتعلم أمي الصبر، وتعودها الخيانة بفخر: "إن ما يفعله الرجال.. على تقبgل تلك

ز على أكتافهم gطر."!

ز gعلى جسد وكان أبي يطر Fووشما Fمغامراته جرحا ا( دون أن يدري gأم(.

..لست أدري" ماذا أصبح هذا "البيت ي�قال إنهم أغلقوه وربما ظل له باب واحد فقط..

األخرى، في إطار سياسة تقليص بعدما أغلقت أبوابه الملذات في هذه المدينة، أو احتراماF لعشرات المساجد التي نبتت على صدر هذه الصخرة، والتي يرتفع صوتها

الناس بمزايا اإليمان مجتمعة مرات في اليوم، ليذكgر..والتوبة

المدينة، وكنت في تلك اللحظة، كمعظم رجال هذه أقف في الحد الفاصل بين شهوة الجسد وعفة الروح.

السري لتلك الغرف يتجاذبني إلى أسفل النداء المظلمة الشبقية.. حيث تحلو الخطايا.. ويسمو بي

النداء اآلخر، لتلك المآذن التي افتقدت إلى أعلى ذلك إلى طويالF تكبيرها، ورهبة آذانها الذي كان يدعو

الصالة، فيخترق بقوته دهاليز نفسي، ويهزني ألول.مرة منذ سنوات بضعة أيام رجالF مزدوجاF كهذه المدينة، لقد أصبحت في

باألضداد وبدأت أعي أن ليس في هذا العالم المسكون.من مدن بريئة. ومدن فاجرة

Fفقط هنالك مدن منافقة.. وأخرى أقل نفاقا..

وليس هناك من مدن بوجه واحد.. وحرفة واحدة..وجوهاF.. وتناقضاF وقسنطينة أكثر المدن

ها هي مدينة تستدرجك إلى الخطيئة. ثم تردعك.التي تستدرجك بها بالقوة نفسها

كل شيء هنا دعوة مكشوفة للجنس.. شيء ما في

Page 295: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

يغري بالحب المسروق: قيلوالتها التي ال هذه المدينة الموحش تنتهي.. صباحاتها الدافئة الكسلى.. وليليها

المفاجئ. طرقاتها المعلgقة بين الصخور.. أنفاقها منظر جبل الوحش وما.. السرية الموبوءة الرطوبة

حوله من ممرات متشعgبة.. غابات الغار والبلgوط.. وكل.المغارات واألنفاق المختبئة تلك

ولكن.. عليك أن تكتفي بالتفرج على عادات النفاق المتوارثة هنا من أجيال، وتتحاشى النظر إلى هذه

!وترتبك.. المدينة في عينيها حتى ال تربكها

فالجميع هنا يعرفون أن خلف شوارعها الواسعة تختبئة الضيقة gالملتوية، وقصص الحب غير الشرعية، األزق

واللذة التي تسرق على عجل خلف باب.. وتحت السوداء الوقور، تنام الرغبة المكبوتة من مالءتها

قرون. الرغبة التي تعطي نساءها تلك المشية القسنطينية المنفردة، وتمنح عيونهن تحت )العجار(،

.ذلك البريق النادر النساء هنا منذ قرون، على حمل رغبتهنg تعوgدت

من كقنبلة موقوتة، مدفونة في الالوعي. ال تنطلق كبتها إال في األعراس، عندما تستسلم النساء لوقع

يستسلمن للحب، البندير، فيبدأن الرقص وكأنهن بخجل ودالل في البداية. يحركن المحارم يمنة ويسرة

الزندالي".. فتستيقظ أنوثتهن المخنوقة "على وقع.تحت ثقل ثيابهن وصيغتهن

.إغرائهن المتوارث يصبحن أجمل في تهتز الصدور وتتمايل األرداف، ويدفأ فجأة الجسد

.الحب الفارغ من

تشبg فيه فجأة الحمى التي لم يطفئها رجل. ويتواطأ النساء مسبقاF مع الجسد المحموم، البندير الذي تسخنه

فتزيد الضربات فجأة قوة وسرعة. وتنفك ضفائر النساء، وتتطاير خصالت شعرهن، وينطلقن في حلبات

Fولذة في حفلة الرقص كمخلوقات بدائية تتلوى وجعا جذب وتهويل، يفقدن خاللها كل عالقة بما حولهن،

أجسادهن، من ذاكرتهن وكأنهن خرجن فجأة من وأعمارهن، ولم يعد يمكن أحدا أن يعيدهن إلى

Page 296: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.السابق هدوئهن

وكما في طقوس اللذة.. وطقوس العذاب، يدري ضربات البندير، وال قطع الجميع أنه ال يجب وقف

وقعها المتزايد، قبل أن تصل النساء إلى ذروة ال ولذتهن، ويقعن على األرض مغمى عليهن، شعورهن

تمسكهن نساء من خصورهن، وترشهن أخريات والعطر الجاهز لهذه المناسبات.. حتى يعدن بالريحة

.تدريجياF إلى وعيهن

!النساء الحب.. وwه»ماF في قسنطينة هكذا تمارس

وقبلت قسنطينة التي أغرتني.. بليلة حب وهمية،.صفقتها السرية، مقابل شيء من النسيان

منعطف يتربص بي فأين النسيان قسنطينة.. وفي كلجرح؟

هل الحنين وعكة صحية؟.مريض أنا بك قسنطينة

بتها للشفاء، فقتلتني الوصفة كان gموعدنا وصفة جر. المسموح بها في تراني تجاوزت معك جرعة الشوق

هذه الحاالت؟ لم أشتركx في صيدلية جاهزة في طريق، ألرفع دعوى

.بائع األقدار الذي وضعك في طريقي على لقد صنعتك أنا بنفسي، وقست كل تفاصيلك على

..مقاييسي أنت مزيج من تناقضي، من اتgزاني وجنوني، من

..عبادتي وكفري.طهارتي وخطيئتي. وكل عقد عمري أنت

.الفرق بينك وبين مدينة أخرى.. ال شيء كنت فقط المدينة التي قتلتني أكثر من مرة لعلك

.لسبب مناقض لألول.. كل مرة الفاصل بين جرعة الشفاء وجرعة الموت فأين الحد

مشروباF هذه المرة؟ وفي مواسم الخيبة، تصبح الذاكرةF ي�بتلع دفعة واحدة، بعدما كان حلماF مشتركاF ي�حتسى مرا

مهل؟ على

Page 297: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

هنا تبدأ الذاكرة المشتركة، وشوارع يسكنها التاريخ.بها وينفرد

.بعضها مشيتها مع سي الطاهر وأخرى مع آخرين تذكر عبوره. وها أنذا هنا شارع يحمل اسمه.. وشوارع

Fلم نكمله معا Fأتوحد بخطاه وأواصل طريقا.

العروبة معي من حيg إلى آخر. ويملؤني فجأة تمشي.شعور غامض بالغرور

تنتمي لهذه المدينة، دون أن تحمل ال يمكن أن.عروبتها

من التحدgي العروبة هنا.. زهو ووجاهة وقرون.والعنفوان

مازالت لحية )ابن باديس( وكلمته تحكم هذه المدينة.موته حتى بعد

مازال يتأملنا في صورته الشهيرة تلك. ملتحياF وقاره،�لنا إليه بعده متgكئاF على يده، .يفكر في ما أ

النشيد. ومازالت صرخته التاريخية تلك بعد نصف قرنFغير الرسمي الوحيد.. الذي نحفظه جميعا.

العروبة ينتسب» شعب الجزائر مسلم *** وإلىمن قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب»

Fله *** رام المحال من الطلب» أو رام إدماجا

.نمت صدقت نبوءتك لنا يا ابن باديس.. لم

فقط ماتت شهيgتنا للحياة. فماذا نفعل أيها العالمالفاضل؟

ع لنا الموت يأساF. كيف يموت شعب ال gأحد توق يتضاعف كل عام؟

وبك الصباح قد اقترب» *** يا نشء أنت رجاؤنا

Page 298: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

مذ ذلك النشء الذي تغنيت به.. لم يعد يترقب الصباح، حجز الجالسون فوقنا.. الشمس أيضاF. إنه يترقب

.بالهرب البواخر والطائرات.. وال يفكر سوى أمام كل القنصليات األجنبية تقف طوابير موتانا،

.الوطن تطالب بتأشيرة حياة خارج دار التاريخ وانقلبت األدوار. أصبحت فرنسا هي التي

على "فيزا" إليها ولو أليام.. ترفضنا، وأصبح الحصول"!هو "المحال من الطلب

قهراF. فوحدها اإلهانات تقتل لم نمت ظلماF.. متنا.الشعوب

قسنطينة. في زمن ما كنا نردد هذا النشيد في سجن كان يكفي أن ينطلق من زنزانة واحدة، لتردده زنزانات

.سياسيين أخرى، لم يكن مساجينها

كان لكلماته قدرة خارقة على توحيدنا. اكتشفنا.الواحد مصادفة هناك صوتنا

كنا شعباF واحداF ترتعد الجدران لصوته. قبل أن ترتعد.التعذيب أجسادنا تحت

هل بحg صوتنا اليوم.. أم أصبح هناك صوت يعلو علىهذا الوطن لبعضنا فقط؟ الجميع. مذ أصبح

***

الشارع، ولدت كل هذه األفكار في ذهني وأنا أعبر ذلك سنة مع جدران سجن كنت يوماF أراها37وألتقي بعد .من الداخل

يصبح السجن شيئاF آخر لمجرد أننا ننظر إليه ولكن هل الذاكرة اليوم، من الخارج، وهل يمكن للعين أن تلغي

وهل يمكن لذاكرة أن تلغي أخرى؟

Page 299: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ذاكرتي األولى التي لن كان سجن "الكديا" جزءاF من.تمحوها األيام

قدميg على وها هي الذاكرة تتوقف أمامه وترغم الوقوف، فأدخله من جديد كما دخلته ذات يوم من سنة

ألقيg عليهم القبض بعد مع خمسين ألف سجين1945. ماي الحزينة الذكر8مظاهرات

Fقياسا ،Fإلى الذين لم يدخلوه يومها وكنت أكثر حظا.

ت gخمسة وأربعون ألف شهيد سقطوا في مظاهرة هز الشرق الجزائري كله بين قسنطينة وسطيف وقالمة

اطة gوخر. لشهداء الجزائر. جاء وكانوا أول دفعة رسمية

.استشهادهم سابقاF لحرب التحرير بسنوات

أنساهم؟ هل

أأنسى أولئك الذين دخلوه ولم يخرجوا منه، وظلgت التعذيب؟ وأولئك الذين ماتوا بأكثر جثثهم في غرف

من طريقة للموت، رفاقنا الذين اختاروا موتهموحدهم؟

هنالك إسماعيل شعالل. كان مجرد عامل في البناء. وثائق "حزب الشعب" وأرشيفه وكانت له مهمة حفظ

ى زيارة االستخبارات العامة gالسري. وكان أول من تلق وا باب غرفته الصغيرة الشاهقة صارخين gالذين دق

"."البوليس..افتح

يفتح إسماعيل شعالل الباب.. فتح نافذته وبدل أن هو الوحيدة. ورمى بنفسه على وادي الرمال، ليموت

ه في وديان قسنطينة العميقة gوسر.

إسماعيل أيمكن اليوم، وحتى بعد نصف قرن، أن أذكر دون دموع، هو الذي مات حتى ال يبوح بأسمائنا تحت

التعذيب؟

Page 300: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

صوت )عبد الكريم بن وطاف( الذي كانت وهنالك صرخات تعذيبه تصل حتى زنزانتنا، خنجراF يخترق

جسدنا أيضاF ويبعث فيه الشحنات الكهربائية نفسها. ويصفهم بالكالب وصوته يشتم بالفرنسية معذgبيه

.وأخرى والنازيgيين والقتلة.. فيأتي متقطgعاF بين صرخة

"criminels.. assassins.. salauds.. nazis"

.باألناشيد الحماسية والهتاف فيرد عليه صوتنا

.ويصمت صوت بن وطاف

أقرب صديق إلى سي الطاهر،( وهنالك )بالل حسين.أحد رجال التاريخ المجهولين، وأحد ضحاياه

F. لم يكن رجل علم ولكن على يده تعلgم كان ارا gبالل نج القائم تحت جسر جيل بأكمل الوطنية. فقد كان محلgه

.)سيجي راشد( مقرg االجتماعات السرية

وأنا أمرg بمحلgه متجهاF إلى أذكر أنه كان يستوقفني ثانوية قسنطينة، فيعرض عليg قراءة جريدة "األمة" أو

Fسريا Fمنشورا.

وكان خالل سنتين يهيؤني سياسياF لالنخراط في ويضعني أمام أكثر من امتحان". "حزب الشعب

ميداني، كان ال بد لكل عضو أن يمر به قبل أن يؤدي االنخراط في الحزب. ويبدأ نشاطه في إحدى قسم

.الخاليا التي كان يحددها بالل

ذلك المحل الذي ال أثر له اليوم، كان يلتقي القادة في تعليماته األخيرة.( السياسيون. ويعطي )مصالح الحاج

وفيه نوقشت الشعارات التي رفعها المتظاهرون،.الالفتات لتكون مفاجأة فرنسا وك�تبت ليالF على

وعندما انطلقت تلك المظاهرة من فوق جسر )سيدي راشد( كما خطط لها بالل ألسباب تكتيكية، يسهل

Page 301: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كل الطرقات معها تجمع المتظاهرين ثم تبعثرهم من المؤدية للجسر. أدهشت القوات الفرنسية بدقتها

بالل أول من أ�لقي ونظامها غير المتوقع. وكان.القبض عليه يومها.. ومن عذgب للعبرة

كغيره. قضى سنتين في السجن ولم يمت بالل حسين.والتعذيب. ترك فيهما جلده على آالت التعذيب

أنه ظلg لعدة أيام عاري الصدر، عاجزاF حتى أن أذكر بجراحه يضع قميصاF على جلده، حتى ال يلتصق

المفتوحة، بعدما رفض طبيب المستشفى تحمل.مسؤولية عالجه

محكوماF عليه بالنفي والرقابة المشددة. ثم خرج المجهولة، وعاش بالل حسين مناضالF في المعارك

F مالحقاF مطارداF حتى االستقالل. ولم يمت إال مؤخرا ، في1988 ماي 27والثمانين في في عامه الواحد

.الشهر نفسه الذي مات فيه ألول مرة

.بائساF، وأعمى، ومحروماF من المال والبنين مات

لصديقه الوحيد، أنهم اعترف قبل موته ببضعة أشهر عندما عذgبوه تعمدوا تشويه رجولته، وقضوا عليها إلى

.األبد

..وأنه في الواقع مات منذ أربعين سنة

أنصاف المسؤولين لمرافقته يوم وفاته، جاء حفنة من إلى مثواه األخير. أولئك الذين لم يسألوه يوماF بماذا

.يعيش، وال لماذا ال أهل له كان

مشوا خلفه خطوات.. ثم عادوا إلى سياراتهم.الرسمية، دون أدنى شعور بالذنب

سنة لم يكن أحد يعرف سره الذي احتفظ به أربعين.كاملة، بحياء رجل من جيله ومن طينته

Page 302: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الكتمان؟ فهل كان يستحق ذلك السر، كل ذلك

..كان بالل حسين آخر الرجال في زمن الخصيان

..زمن عميت فيه البصائر وكان المبصر في

فهل أنسى بالل حسين؟

***

(..ها هوذا سجن )الكديا

نتأمل جدران سجن أول، دخلناه كما ندخل أتأمله كما.حلماF مزعجاF لم نكن مهيأين له

FF آخر، كان مرت سنوات كثيرة، قبل أن أدخل سجنا يكن له من جالدوه هذه المرة جزائريين ال غير. ولم

ا( طريقه إليg فيأتيني gعنوان معروف، ليعرف طيف )أم هنا في الماضي، باكية كما كانت تأتي لزيارتي

عة لكل حارس gمتضر..

مؤلمة، وأخرى ها هوذا سجن )الكديا(.. كم من قصص مدهشة عرفها هذا السجن، الذي تناوب عليه أكثر من

.ثورة ثائر، ألكثر من

8.. أي عشر سنوات بالضبط بعد أحداث 1955سنة للصدارة، بدفعة جديدة . عاد هذا السجن1945ماي

Fلهم عقابا gلسجناء استثنائيين كانت فرنسا تعد Fاستثنائيا.

.. المعدة النتظار الموت. كان8في الزنزانة رقم الثورة ورجالها األوائل، ينتظرون ثالثون من قادة

موثقين، تنفيذ الحكم باإلعدام عليهم، بينهم مصطفى بن بولعيد والطاهر الزبيري ومحمد اليفا وإبراهيم

.وآخرون الطيب رفيق ديدوش مراد وباجي مختار

Page 303: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كان كل شيء معداF للموت يومها، حتى أن حالق الشهيد القائد مصطفى مساجين الحق العام، أخبر

بولعيد في الصباح، أنهم غسلوا المقصلة باألمس، وأنه".نفذوا "حلم أنهم

وكانت هذه الكلمة تحمل معنيي»ن بالنسبة لمصطفى بن يعدg منذ أيام خطة للهرب من بولعيد، الذي كان

)الكديا(.. وكان شرع مع رفاقه منذ عدة أيام، في حفر سري تحت األرض، أوصلهم في المرة األولى إلى ممر

من جديد، ساحة مغلقة داخل السجن. فأعادوا الحفر.ليصلوا بعد ذلك إلى خارج السجن

المغرب، وبين الساعة ، بعد صالة1955 نوفمبر 10يوم السابعة والثامنة مساءF بالتحديد، كان نصطفى بولعيد

آخرون من رفاقه، قد هربوا من )الكديا(، ومعه عشرة يغادرها أحد وقاموا بأغرب عملية هروب من زنزانة لم

.ذلك اليوم.. سوى إلى المقصلة

وا بعد ذلك سقط القائد مصطفى بولعيد gوبعض من فر معه، شهداء في معارك أخرى ال تقل شجاعة عن

برحيلهم كتب التاريخ عملية فرارهم، فتصدgروا.الجزائري، وأهم الشوارع والمنشآت الجزائرية

ذ حكم اإلعدام، في من ظلgوا بالزنزانة، دون بينما ن�ف�.أن يتمكنوا من الهروب

يبق اليوم من السجناء األحد عشر الذين هربوا من ولم ومات الرجال. الكديا، سوى اثنين على قيد الحياة

الثمانية والعشرون الذين جمعتهم الزنزانة رقم ثمانية.مقرراF أن يكون.. واحداF يوماF، لقدر� كان

كلما وقفت أمام الجدران العالية لهذا السجن تبعثرت ذاكرتي، وذهبت ألكثر من وجه، ألكثر من اسم، وألكثر

أبواب سجون أخرى من جالد. وشعرت برغبة في فتحF مازالت مغلقة على أسرارها، دون أن تجد كاتباF واحدا

وا بها يردg دين من gمر.

Page 304: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وقتها كنت أحسد ذلك الرفيق الذي جمعتني به زنزانة.أسابيع هنا لبضعة

. وربما كنا آنذاك.. أنا وهو، أصغر معتقلين» سياسيين».يصغرني ببضعة أشهر كان ياسين

.كان عمره ستة عشر عاماF فقط

سراحي لصغر سنgي، فقد رفضوا ورغم أنهم أطلقوا أن يطلقوا سراح ياسين. وبقي في سجن )الكديا(

F. يحلم بالحرية.. وبامرأة تكبره بعشر أربعة عشر شهرا عمرها.. سنوات، كانت في السادسة والعشرين من

"!وكان اسمها "نجمة

وبينما عدت أنا بعد ستة أشهر من السجن إلى الدراسة، راح ياسين يكتب بعد عدة سنوات رائعته

"."نجمة

التي ولدت فكرتها األولى هنا. تلك الرواية الفجيعة، في ذلك الليل الطويل، وفي مخاض المرارة والخيبة

.واألحالم الوطنية الكبرىFكان مسكونا .Fدائما Fأذكر أن ياسين كان مدهشا

.وبرغبة في التحريض والمواجهة بالرفض

نستمع ولذا كان ينقل عدواه من سجين إلى آخر. وكنا إليه، ونجهل وقتها أننا أمام )لوركا( الجزائر، وأننا

يوماF، اكبر ما أنجب هذا نشهد ميالد شاعر سيكون.الوطن من مواهب

ياسين في مرت عدة سنوات، قبل أن ألتقي بكاتب.منفاي اإلجباري اآلخر بتونس

.يتغير اكتشفت بفرح ال يخلو من الدهشة أنه لم مازال يتحدث بذلك الحماس نفسه، وبلغته الهجومية

كل من يشتمg فيهم رائحة نفسها، معلناF الحرب على.الخضوع لفرنسا أو لغيرها

اإلهانات المهذبة، وضد لقد كانت له حساسية ضد!قابلية البعض لالنحناء.. الفطري

Page 305: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

محاضرة في قاعة كبرى بتونس، كان يومها يلقي عندما راح فجأة يهاجم السياسيين العرب، والسلطات

.التونسية بالتحديد.ولم يستطع أحد يومها إسكات ياسين

بعدما قطعوا عليه صوت فقد ظل يخطب ويشتم حتى الميكروفون، وأطفأوا األضواء ليرغموا الناس على

.القاعة مغادرة

يومها دفعت في جلسة تحقيق مع البوليس ثمن وهتافي على ياسين حضوري في الصف األمامي

.."."تعيش.. آ ياسين

قوا. ولكن بعض لم ينتبه أحد وقتها إلى وجوه من gصف من كان يعنيهم األمر انتبهوا إلى يدي الوحيدة

Fالمرفوعة تأييدا ..Fوإعجابا.

يومها اكتشفت البعد اآلخر لليد الواحدة. فقدر صاحبها معارضاF ورافضاF، ألنه في جميع الحاالت.. أن يكون

!عاجز عن التصفيق

وقلت: "ياسين.. لو رزقت ولداF احتضنته بعدها.."سأسميه ياسين

والمتعة، كأنني أقول له وشعرت بشيء من العنفوان.أجمل ما يمكن أن نقوله لصديق أو لكاتب

وهو يربت على كتفي بيد� عصبية كعادته فضحك ياسين.عندما يربكه اعتراف ما

بالفرنسية: "أنت أيضاF لم تتغير.. مازلت وقالFمجنونا"!

.أخرى وضحكنا لنفترق لعدة سنوات

تراني كنت أريد أن أكون وفيgاF لذاكرتنا المشتركة، أم أن أعوgض بذلك عن عقدتي تجاه فقط، كنت أريد

"نجمة"، الرواية التي لن أكتبها، والتي كنت أشعر أنها

Page 306: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

تي أيضاF. بأحالمي gبطريقة أو بأخرى، كانت قص ا( الواقفة على gحافة اليأس وخيباتي، بمالمح )أم

والجنون، الراكضة بين السجن واألولياء الصالحين، محمد الغراب، والعموالت لحارس تقدgم الذبائح لسيدي

السجن اليهودي، الذي كان جارنا.. حتى يأتيني بينا( التي gه لي. )أمgة األكل الذي تعد gالحين واآلخر بقف

السجن بعد ستة أشهر، كدت ال أعرفها عندما غادرت والتي أمام انشغال أبي عني وعنها، بتجارته

تطلب من الله إال عودتي لها. وعشيقاته، أصبحت ال وكأنني الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبرر وجودها،

.والشاهد الوحيد على أمومتها وأنوثتها المسلوبة

Fبقصة واحدة، بجنون األمهات نعم كنا في النهاية جيال المتطرفات في الحب، بخيانة اآلباء المتطرفين في

وبقصص حب وهمية، وخيبات عاطفية، يصنع القسوة، آخرون منها البعض روائع عالمية في األدب، ويتحول

.على يدها إلى مرضى نفسانيين

سوى محاولة تراني ال أفعل شيئاF بكتابة هذا الكتاب،الهروب من صنف المرضى إلى صنف المبدعين؟

العالم منذ ذلك اللقاء.. منذ ذلك آه ياسين.. كم تغير..الوداع

:لسان ذلك البطل أنت الذي أنهيت روايتك قائالF على

وداعاF أيها الرفاق.. أيg شباب عجيب ذاك الذي"!."عشناه

لم تكن تتوقع وقتها، أن عمرنا سيكون أعجب من!بكثير سنوات شبابنا

..غداF سيكون عرسكx إذن ذلك، وأمشي في شوارع وعبثاF أحاول أن أنسى

.قسنطينة، يسلgمني زقاق إلى آخر.. وذاكرة إلى أخرى

Page 307: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

قلتx إنك لي مادمنا في هذه المدينة؟ أما

أي زقاق من أين تكونين اآلن إذن؟ في أي شارع.. في هذه المدينة المتشعgبة الطرقات واألزقة كقلبك، والتي

وغيابك الدائم، وتشبهك حد تذكgرني بحضوركاالرتباك؟

..لستx لي

اآلن لليلة حبك القادمة. يعدgون أدري أنهم يعدgونك جسدك لرجل آخر ليس أنا. بينما أهيم أنا على جرحي

.ألنسى الذي يحدث هناك

مليئاF كان يومك، كيوم عروس، وفارغاF كان يومي،.موظgف متقاعد كيوم

منذ زمان أخذ كلg واحد منا طريقاF مخالفاF لآلخر. وها، إحداهما للفرح نحن كرتين متناقضتين» gنعيش بمف

وأخرى للحزن. فكيف أنسى ذلك؟

كل الطرق تؤدي إليك، حتى تلك التي سلكتها كانت.فيها للنسيان، والتي كنت تتربgصين لي

gالمدارس والكتاتيب العتيقة.. كل المآذن.. كل gكل كلg السجون.. كل المقاهي.. كل".. "البيوت المغلقة

الحمامات التي كانت تخرج منها النساء أمامي جاهزات للحب، كل الواجهات التي تعرض الصيغة والثياب

التي ألقيت الجاهزة للعرائس. وحتى.. تلك المقبرة نفسي في سيارة أجرة، ورحت أبحث فيها عن قبر

ا(، وأستعين بسجالت gحارسها ألتعرف على أرقام )أم الممرات التي كانت توصل إليها.. أوصلتني إليك ال

.غير

ا(.. لماذا قادتني قدماي إليها ذلك اليوم بالذات،) gأم بالذات؟ أرحت أزورها فقط.. أم رحت في ليلة عرسك

Fتها يوما gأمي؟ أدفن جوارها امرأة أخرى توهم

Page 308: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

عند قبرها الرخامي البسيط مثلها، البارد كقدرها.. كقلبي، تسمgرت قدماي، وتجمgدت تلك والكثير الغبار

.والخيبة الدموع التي خبأتها لها منذ سنوات الصقيع

ا(.. شبر من التراب، لوحة رخامية تخفي gها هي ذي )أم من كنوز. صدر األمومة الممتلئ.. كل ما كنت أملك

ضحكتها.... رائحتها.. خصالت شعرها المحنgاة.. طلgتها..".حزنها.. ووصاياها الدائمة.. "عندك يا خالد يا ابني

أ) gضتها بألف امرأة أخرى.. ولم أكبر( أمgعو.

أرتوx. عوgضت عوgضت صدرها بألف صدر أجمل.. ولم.حبها بأكثر من قصة حب.. ولم أشف

لوحة غير قابلة للتقليد. كانت عطراF غير قابل للتكرار.وال للتزوير

األصل فلماذا في لحظة جنون تصوgرت أنك امرأة طبق عنها؟ لماذا رحت أطالبك بأشياء ال تفهمينها، وبدور

لن تطاليه؟

.الحجر الرخاميg الذي أقف عنده أرحم بي منك هذا.بالبكاء لو بكيت اآلن أمامه.. ألجهش بدوره

دت حجره البارد، لصعد من تحته ما يكفي من gلو توس .الدفء لمواساتي

ا..( ألجابني ترابه مفجوعاF "واش بيك آ لو gناديته )يا أم ".ميمة..؟

ا( من العذاب، هي ولكن كنت gأخاف حتى على تراب )أم .غير التي كانت حياتها مواسم للفجائع ال

كنت أخاف عليها حتى بعد موتها من األلم، وأحاول.عنها ذراعي المبتورة كلgما زرتها أن اخفي

ماذا لو كان للموتى عيون أيضاF؟

المقابر ال تنام.. كم كان يلزمني من ماذا لو كانتبعدها؟ الكالم وقتها ألشرح لها كل ما حلg بي

Page 309: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

gلم أجهش ساعتها بالبكاء، وأنا أقف أمامها بعد كل .ذلك العمر

.نبكي دائماF فيما بعد نحن

رت فقط يدي على ذلك الرخام، وكأنني أحاول أن gمر .عنه غبار السنين وأعتذر له عن كل ذلك اإلهمال أنزع

..فاتحة على ذلك القبر ثم رفعت يدي الوحيدة ألقرأ

بدا لي وقتها ذلك الموقف، وكأنه موقف سريالي. يدي الوحيدة الممدودة للفاتحة وكأنها تطلب وبدت

..الرحمة بدل أن تعطيها

.وأخفيت يدي.. فتنهgدت

ألقيتها داخل جيب سترتي.. وألقيت بخطاي خارج.والرخام.. مدينة التراب

***

كان ترقب حسان وزوجته للعرس، واستعداداتهما الدائمة له، للقاء كل الذين سيحضرونه من شخصيات

أحياناF، وكأنني وعائالت كبيرة، يجعلني أستمع لهماgأستمع إلى أطفال يتحدثون عن "سيرك"، سيحل

جون من قبل بمدينة لم يزرها سيرك gوال مهر.

.وكنت لذلك أشفق عليهما.. وأعذرهما

قسنطينة في النهاية، مدينة ال يحدث فيها لقد كانت ينتظران شيء ما عدا األعراس. فتركتهما لفرحتهماار"، واحتفظت لنفسي بخيبتي ."السيرك عم)

ذلك اليوم. وكنت أعرف كان كل شيء استثنائياF في.مسبقاF برنامجه من أحاديث السهرة

Page 310: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

حاجاته في الصباح، ثم يصلgي سيذهب حسان لقضاء صالة الظهر في المسجد، وبعدها سيمر بي صحبة

.لنذهب جميعاF إلى حضور العرس( )ناصر

لترافق أما عتيقة فقد تأخذ األوالد وتذهب منذ الصباح العروس إلى الحالق. ثم تبقى هناك لتقوم مع نساء

.الطاوالت أخريات بخدمة الضيوف وإعداد

كنت أشعر برغبة� في البقاء في سريري في ذلك قبل الظهر، ربما بسبب متاعب الصباح، وعدم مغادرته

البارحة، وربما استعداداF للسهر والمتاعب األخرى التي..تنتظرني في ذلك اليوم

وربما فقط ألنني لم أعد أدري أين يمكنني أن أذهب، بعدما قضيت أسبوعاF وأنا أهيم على وجهي في تلك

كل شارع. المدينة التي كانت تتربgص بذاكرتي في..وكنتx تختبئين لي فيها خلف كل منعطف

السرير هو المكان الوحيد وجدت بعد تفكير قصير، أن الذي يمكن أن أهرب منك إليه. أو على األقل ألتقي

.بلذgة وليس بألم فيه معك

..ولكن

هل سأجرؤ حقاF على استحضارك اليوم.. في هذهFلين فيها استعدادا gاللحظة التي كنت أدري أنك تتجم

لرجل آخر؟

استحضارك في هذا الصباح.. وهل هل سأجرؤ على سيغفر لك جسدي حقاF في لحظة نزوة كلg خياناتك

!!والالحقة؟ كان ذلك جنوناF في جنون السابقة

النهاية، عندما ولكن أليس هذا الذي كنت تريدينه في..".قلت: "سأكون لك في تلك الليلة

.في ذلك الصباح كنت أشعر برغبة في امتالكك

Page 311: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وكأنني أريد أن أسرق منك كل شيء، قبل أن أفتقدك اليوم لن تكوني لي، وستنتهي هذه إلى األبد. فبعد

.قبلك اللعبة الموجعة الحمقاء التي لم تكن هوايتي

.موجعاF كان لقائي معك ذلك الصباح.الغامضة فيه كثير من الشراسة والمرارة

.فيه كثير من الحقد والشهوة الجنونية..لو كنتx لي

ذلك الصباح.. في ذلك السرير الكبير آه لو كنتx لي بذكريات الفارغ البارد دونك. في ذلك البيت الشاسع

الطفولة المبتورة.. وشهوة الشباب المكبوت الذي مر.على عجل

لي.. المتلكتك كما لم أمتلك امرأة هنا. لو كنت لحوgلتك إلى. العتصرتك بيدي الوحيدة في لحظة جنون

قطع.. إلى مواد أولية.. إلى بقايا امرأة.. إلى عجينة إلى أي شيء غيرك أنت، أي شيء.. تصلح لصنع امرأة

Fوجبروتا Fظلما gأقل ..Fوكبرياء Fغرورا gمنك أقل.

أنا الذي لم أرفع يدي الوحيدة في وجه امرأة، ربما حدg األلم، ثم أحببتك حد األم، كنت ضربتك ذلك اليوم

..ثم جلست إلى جوار جسدك أعتذر له

شيء فيك، أمحو بشفتيg حمرة أطرافك أقبgل كلبwل، عساك مك بشراسة الق� gبة بالحناء، ألوش gالمخض

عندما تستيقظين تكتشفينني مرسوماF على جسدك ال يرسم إال كالوشم، بذلك اللون األخضر الوحيد الذي

!على الجسد

من أين جاءني كلg ذلك الجنون؟ أكنت أريد أن أنفرد وأمتلكك قبله، أم كنت أدري يومها بحدس� أو بقرار� بك

اللذgة، وأنني مسبق أنني أنفق معك آخر رعشاتسأضعك خارج هذا السرير بعد اليوم إلى األبد؟

معك مجرد شهوة. لو كانت لحسمتها لم تكن مشكلتي.يومها بطريقة أو بأخرى يمكن أن يمتلكها رجل دون هنالك أكثر من امرأة هنا

Page 312: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.جهد

هنالك أكثر من باب نصف مفتوح ينتظر أن يفتحه.رجل

هناك جارات تتقاطع خطواتي بهنg مراراF في هذه وأدري رغبتهن السرية في البيوت العربية المشتركة،

.الحب

تعلمت مع الزمن، أن أفكg رموز نظرات النساء المحتشمات.. والمبالغات في اللياقة والمفردات

.المؤدبة

نظرتهن ودعوتهن الصامتة إلى ولكنني كنت أتجاهل.الخطيئة

عن مبدأ.. لم أعد أدري اليوم.. إن كنت أتصرف كذلكأم عن حماقة وشعور غامض بالغثيان؟

وأحتقر أزواجهن.. كنت في الواقع أشفق عليهن..الذين يسيرون كالديوك المغرورة دون مبرر

مة سوى أنهم يمتلكون في gالبيت دجاجة ممتلئة متشح !لم يقربها أحد ربما عن قرف

نة حسب التقاليد وال يتوقع أو أخرى شهيgة gومدج صاحبها أنg جناحيها القصيرين.. مازاال يمارسان

Fالقفز.. فطريا!

!يا لحماقة الديوك

وشرف كل الرجال إذا كانت كل النساء عفيفات هنا، مصوناF، فمع من يزني هؤالء إذن؟ وكلهم دون استثناء

ح في gالمجالس الرجالية بمغامراته؟ يتبج

أن أليس كل واحد منهم يضحك على اآلخر.. وال يدري!هناك من يضحك عليه؟

Page 313: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كم أكره ذلك الجو الموبوء بالنفاق.. وتلك القذارة!المتوارثة.. بنزاهة

، أن أستعيد قولك gيحدث عندما تتقاطع نظراتي بهن عندما أبديت لك دهشتي مما جاء في روايتك مرة،

.مشبوهة األولى.. ورحت أستجوبك بحثاF عن ذاكرة

xقلت:

"Fال يوجد شيء تحت الكلمات. إن امرأة.. ال تبحث كثيرا تكتب هي امرأة فوق كل الشبهات.. ألنها شفافة

ر مما يعلق بنا gمنذ لحظة بطبعها. إن الكتابة تطه !"الوالدة.. أبحث عن القذارة حيث ال يوجد األدب

المتوارثة أمامي في كل مكان، في وكانت القذارة.عيون معظم النساء الجائعات ألي رجل كان

عصبية الرجال الذين يحملون شهوتهم تراكماF قابالF في.أنثى لالنفجار.. أمام أول

ولكن كان عليg أن أقاوم رغبتي الحيوانية ذلك اليوم..تستدرجني إلى الحضيض وأال أترك تلك المدينة

فهنالك مبادئ ال يمكنني التخلgي عنها مهما حدث. كأن.أعاشر امرأة متزوجة، تحت أي مبرر كان

أدري أن وربما كان هذا سر حزني اآلخر. فقد كنت مستحيالF آخر قد أضيف إلى مستحيالت أخرى يومها،

.اليوم وأنك لن تكوني لي أبداF بعد

.لم أكن خجوالF من يدي اليمنى ذلك اليوم

االرتياح، وأنا أكتشف أنني برغم كل شعرت بشيء من.ما حلg بي مازلت أحترم جسدي

هذه الحاالت، أال نفقد احترام جسدنا ونحن المهم في.نمنحه ألول عابر سبيل

أن نسكن بعد ذلك إن نحن أهنgاه.. وإن فأين يمكن

Page 314: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

رفض أن ينسى ذلك؟

واتgجهت نحو النافذة وأشرعتها رميت فجأة بالغطاء، وكأنني أفتحها ليخرج طيفك منها إلى األبد، ويدخل

.النور إلى تلك الغرفة

في هذه المدينة المسكونة بالجنg والسحرة، ماذا لو جنgية تتسلل إليg مع العتمة، تنام إلى جواري، كنت

حلg سحري تقصg عليg قصصاF عجيبة، تعدني بألف لمأساتي.. ثم تختفي مع أول شعاع وتتركني

لهواجسي وظنgي؟

طيفك حقاF يومها من سريري.. من غرفتي هل خرج!أدري وذاكرتي. وهرب من تلك النافذة؟ ال

أدري فقط أن قسنطينة، دخلت من تلك النافذة.فتحتها نفسها، التي قلgما

وإذا باألذان يفاجئني من أكثر من مئذنة في آن واحد، مكاني أمام األقدام المسرعة في كل ويسمgرني في

.االتجاهات

بدوره منهمكاF في وكان جسر )سيدي راشد( يبدو حركة دائمة كامرأة تستعد لحدث� ما.. مأخوذاF بهمومه

.وبحماس نهايات األسبوع اليومية،Fوجدت في انشغاله عن حزني ذلك الصباح بالذات شيئا

Fبالخيانة.. وعدم العرفان بالجميل شبيها.

وجهي.. قررت بدوري أال أجامله.. فأغلقت في وجههدwد»ت النافذة wور..

وفجأة.. انتابتني رغبة جارفة للرسم. زوبعة شهوة األلوان.. تكاد توازي رغبتي الجنسية السابقة

Fفا gوتطر Fوتساويها عنفا.

أعد في حاجة إلى امرأة.. شفيت من جسدي لم..وانتقل األلم إلى أطراف أصابعي

Page 315: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

النهاية لم يكن السرير مساحة للذgتي وال لطقوس في المشدودة إلى جنوني. وحدها تلك المساحة البيضاء

.الخشب كانت قادرة على إفراغي من ذاتي

لعنتي، أبصق مرارة عمر� من فيها أريد أن أصبg اآلن.الخيبات

لهذه أفرغ ذاكرة انحازت للون األسود.. مذ انحزت المدينة الملتحفة _حماقة_ بالسواد منذ قرون، والتي

.مثلث أبيض لإلغراء تخفي وجهها _تناقضاF_ تحت

سالماF أيها المثلث المستحيل.. سالماF أيتها المدينة التي تعيش مغلقة وسط ثالوثها المحرم ) الدين –

(.الجنس – السياسة

عباءتك السوداء.. ابتلعت من رجال. فلم يكن كم تحتع أن تكون لك طقوس مثلث gبرمودا( )أحد يتوق

..وشهيته لإلغراق

كانت األفكار الرمادية تتوالد في ذهني في ذلك الصباح. والغيظ يملؤني تدريجياF كلما تقدgمت الساعة

لمرافقتي إلى ذلك واقترب وقت قدوم حسان وناصر.البيت، ألحضر عرسك

من أن وكان غيظي وخيبتي قد شال يدي ومنعاني حتى.أحلق ذقني أو أستعد لذلك الفرح المأتم بعصبية مدمن كنت أذهب وأجيء فجأة في تلك الغرفة

.تنقصه رشفة أفيونه

اليوم كيف لم أتوقع أن أشعر بهذه الحاجة المرضيgة إلمساك فرشاة، وبهذه الرغبة الجارفة للرسم؟ تلك

تصبح ألماF في أطراف الرغبة التي ال تقاوم، والتياألصابع، وتوتراF جسدياF ينتقل من عضو إلى آخر؟

أريد أن أرسم.. وأرسم.. حتى أفرغ من كل كنتFإرهاقا gأو مغمى علي ..Fونشوة شيء. وأقع ميتا.

من األرجح أنني هذه المرة لن أرسم جسوراF والFبمالءات سوداء.. ومثلثات قناطر. ربما رسمت نساء

Page 316: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

بيضاء.. وعيون كاذبات، واعدات بفرح ما. فاللون كاذب في معظم األحيان.. تماماF مثل األسود لون

.اللون األبيض

F أمام وقد ال أرسم شيئاF، وأموت هكذا واقفاF، عاجزا.لوحة بيضاء

ببياض، وننسحب فهل أروع من أن نوقgع مساحة بيضاء على رؤوس األصابع، مادمنا لم نوقgع شيئاF في النهاية،

ع حياتنا، وتفعل بنا ما تشاء؟ ووحدها األقدار gتوق

المراوغة؟ لماذا التحايل على األشياء إذن.. لماذا

أما كنتx لوحتي؟ ما فائدة أن أكون رسمتك ألف مرة، توقيعه عليك اليوم، سيضع بصماته مادام آخر سيضع

الثبوتية؟ على جسدك، واسمه جوار أوراقك

وماذا تفيد عشرات المساحات التي غطيتها بك، أمامجسدك.. ويخلgد أنوثتك األبدية؟ سرير سيحتوي

سيضع أيg جدوى لما أرسمه.. إذا كان هناك دائماF منتوقيعه نيابة عني كالعادة؟

***

في تلك اللحظة المتقدمة من اليأس، دقg فجأة الهاتف، وأخرجني للحظة من وحدتي وهواجسي.

.ألردg عليه فرحت أسرع نحو الغرف البعيدة األخرى،

:كان حسان على الخط. سألني دون مقدمات

تعمل..؟ واش راك-

:أجبته بشيء من الصدق

Page 317: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

-Fشيئا Fما كنت غافيا..

:قال

حسناF إذن.. توقعت أن تكون جاهزاF وتنتظرني منذ- أريد أن أخبرك أنني قد أتأخر بعض الوقت. مدة. كنت

.أحلgه هنالك مشكل صغير يجب أن

Fسألته متعجبا:

أيg مشكل؟-

:قال

طلع لي ناصر اليوم؟ إنه ال يريد أن يحضر تصور بماذا- ..عرس أخته

:فضوالF قلت وأنا أزداد

لماذا؟-

:قال

يلتقي بالضيوف وال إنه ضد هذا الزواج.. وال يريد أن- !بالعريس.. وال حتى بعمgه

:سألته كدت أقاطعه "معه حق".. ولكنني

وأين هو اآلن؟-

:قال

إنه يفضgل أن يقضي لقد تركته في المسجد. قال لي- ا gيومه هناك بدل أن يقضيه مع هؤالء "القو!"...

ضحكت من قلبي. ولم أستطع أن أمنع وألول مرة:نفسي من التعليق بصوت عال�

Page 318: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

".!والله "نستعرف بيه.. رائع ناصر-

ولكن حسان قاطعني بصوت� فيه شيء من العتاب:والعجب

واش بيك هبلت إنت تاني.. عيب.. شفت واحد ما- ..واش يقولوا الناس.. يروgحش لعرس أختو

الناس.. الناس.. يقولوا واش يحبوا.. خلينا يا راجل- ..يرحم والديك

:وقبل أن أقول له شيئاF قال

عليم حال ما انتهي. ابق في البيت إذن.. سأمر- سنتحدث في هذا الموضع فيما بعد، فأنا أحدثك من

..!(.من الناس )... على بالك مقهى، وحولي كثير

:ثم أضاف

..لك عتيقة ستجد في المطبخ أكالF أعدgته-

.وضعت السماعة. وعدت إلى غرفتي

كنت فقط أشعر بشيء من. لم أكن في حاجة إلى أكل الظمأ الصباحي، وبشيء من المرارة التي صار لها

.الهاتف، مذاق السعادة الغامضة فجأة بعد ذلك

شخصاF لقد مألني موقف ناصر غبطة. شعرت أن هناك آخر يشاركني حزني دون علمه، ويقف معي ضدg هذا

..طريقته الزواج، ولكن على

.فحل  ناصر، جدير بأن يكون ابن سي الطاهر

ولكن أتوقع أن يكون )راسو خشين..(. لم ألتقx به بعدFومباشرا Fمثله مثل أبيه. أن يكون عنيدا.

Page 319: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

وإذا كان فعالF مثله فلن ينجح حسان أبداF في تغيير.رأيه

أذكر عناد سي الطاهر وقراراته النهائية دائماF، مازلت.عنها التي ال يمكن ألحد أن يزيحه

وقتها كنت أجد في تلك المواقف شيئاF من مع الزمن، أدركت أنه الدكتاتورية، وغرور القائد. ثم

كان ال بد للثورة في أيامها األولى من رجال� مثل سي بذلك العناد، وتلك الثقة المطلقة بالنفس، الطاهر،

ليس حباF حتى يفرضوا رأيهم وسلطتهم على اآلخرين، بالجاه والسلطة، إنما للمg شمل الثورة وعدم ترك

الشخصية، وحتى ال تموت مجال للخالفات واالعتبارات..تلك الشعلة األولى وتبعثرها الرياح

الطاهر فجأة. في لحظة لم أحجزها عادت ذكرى سي..له

أفرغوها وعادت طلgته، موجعة كتلك الرصاصات التي في جسده يوماF، وأودت به قبل أن يشهد استقالل

.الجزائر بأشهر

ليحضر هذا اليوم االستثنائي الذي سيخلف أين هو موعده أيضاw؟

فرحتين؟ أكان قدره أن يخلف رحل كما جاء، سابقاF لزمنه، وكأنه أدرك أنه لم يخلق

أعي بشيء من المرارة، أن كلg للزمن اآلتي. كنت.الذين أحبgوكx لن يحضروا عرسك هذا

فرحك كل الذين كنتx فرحتهم. سي سيتغيب عنFالطاهر وزياد.. وناصر أيضا.

عليg تلك القرعة، وقادتني األقدار لماذا وحدي وقعتإليك؟

الذاكرة والحنين.. ولماذا استدرجتني حتى هنا، باسم وذلك الحب الجنوني المستحيل، وقلت تلك الجملة

األحالم وهماF.. "سأكون لك مادمنا التي مألت جيوب

Page 320: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..".في قسنطينة

وجئت؟.. كيف صدgقتك

وكنت أدري انك تكذبين، وتهدينني الغيوم البيضاء..من يقاوم مطر الكذب الجميل؟.. لصيف طويل. ولكن

هنالك أكاذيب نحاول أن نصدgقها حتى نحرج النشرات الجوية. لكن عندما تنهطل األمطار داخلنا.. من يجفف

دمع السماء؟

.كنتx امرأة ساديgة، وكنت أعرف ذلك في الواقع هتلر ابنة أذكر ذلك اليوم الذي قلت لك فيه: "لو خلgف

!".في هذا العالم.. لكنتx ابنته الشرعية

حاكم جبgار واثق من ضحكتx يومها. ضحكت.. ضحكة قوgته. وعلgقت أنا بسذاجة الضحية: "ال أدري ما الذي

حبك، أنا الهارب من حكم الجبابرة.. أوصلني إلى..!".طاغية أيمكن بعد هذا العمر أن أقع في حبg امرأة

ابتسمت فجأة.. ثم قلت بعد شيء من الصمت:ر فيg أكثر من موضوع "مدهش أنت عندما تتحدث، gتفج

..".للكتابة.. سأكتب يوماF هذه الفكرة

!ذات يوم.. صحيح أنها تصلح لرواية اكتبيها إذن

ملجئي الوحيد، ألنسى في ذلك الصباح، كانت الخمرة.خيبتي معك

ونافذة تطل في تلك الغرفة التي يؤثثها سرير فارغ، على المآذن والجسور، وطاولة فارغة من لوازم

نجاة سوى بضع أوراق الرسم، لم أجد لي من طوق وأقالم فقط، وزجاجة ويسكي أحضرتها لحسان قبل

في حقيبتي تنتظر. فأحضرتها أن يتوب، ومازالت ورحت أشرب ذلك الصباح نخب زياد وسي الطاهر..

Page 321: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.قسنطينة ونخب

تذكgرت مسرحية أعجبت بها يوماF. فكتبت أعلى".التفكير "كأسك يا قسنطينة الصفحة، دون كثير من

وضحكت لهذا الدور الذي كان جاهزاF لي في هذه المدينة التي تمنع عنك الخمرة، وتوفر لك كل أسباب

.شربها

أنني كنت أخطg خالصة خيبتي لم أكن أدري وقتها، كلمتين قد تصلحان عنواناF لهذا الكتاب، الذي ربما

.فكرته يومها ولدت كانت بي رغبة لتحديك وتحدgي هذه المدينة.. وهذا

.الكاذب الوطن

رفعت كأسي المآلى بك.. نخب ذاكرتك التي تحترف.عينيك اللتين خلقتا لتكذبا مثله النسيان. نخب

نخب فرح الليلة الجاهز للبكاء.. نخب بكائي العاجز عن.الدموع

أنت التي صالحتني مع الله، وأعدتني يوماF إلى العبادة. ليلة جمعة.. تحلgين دمي، وتطلقين ها أنت تخونينني

..عليg رصاص الغدر

F يا ترى.. فلماذا ال أسكر اليوم !من أكثرنا كفرا

في الواقع، لم تكن الخمرة هوايتي. كانت مشروب وحزني التطرف. ولذا ارتبطت بك وبتقلباتك فرحي

لحدث� الجنونية. ففي كل مرة شربت فيها كنت أؤرخ.ما في قصتنا التي ال تنتهي

وأرتكب.. وها أنا أفتح على شرفك زجاجتي األخيرة جنوني األخير. فال أعتقد أنني قد أسكر بعد اليوم.

اليوم.. وأشيgعك على ألنني سأغسل يدي منك.طريقتي

وحده أمر ناصر يعنيني اآلن، أخيك الذي يصلي في هذه اللحظة في أحد مساجد هذه المدينة، لينسى

Page 322: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

الليلة.. وأن هناك مثلي، أنهم سيتناوبون على وليمتك..من سيتمتع بك في غفلة� منا

!ال غير.. في الواقع.. كنت أسكر نخبه

..إيه ناصر

.أنا.. وأنت.. وهذه المدينة

معنا في التطرف والجنون. مدينة مدينة تواطأت ."سادية" تتلذذ بتعذيب أوالدها. حبلت بنا دون جهد

ووضعتنا كما تضع سلحفاة بحرية أوالدها عند شاطئ األمواج وتمضي دون اكتراث، لتسلمهم لرحمة

..والطيور البحرية

إفكروا.. وإال الله ال يجعلكم تفك�روا.." يقول" الفكرون" في ذلك المثل الشعبي وهو يتخلى عن"

.أوالده

نبحث عن قدرنا بين الحانات.. وها نحن بال أفكار.والمساجد

حتى ال ها نحن سلحفاة تنام على ظهرها. قلبوها..تهرب، قلبوها في محاولة انقالب على المنطق

في المدن العريقة، حيث نولد فكم يشبه الميالد الموت!ونموت وسط مجرى الهواء والرياح المضادة

!أكبر يتم السالحف في هذه المدينة وما

Fأكتب أمام عندما جاء حسان بعد ذلك، وفاجأني جالسا تلك الطاولة وأمامي زجاجة ويسكي نصف فارغة، كاد

إلي مدهوشاF وكأنني يشهق من العجب. وظل ينظرF، أو جنgاF أطلقته في بفتح تلك الزجاجة أخرجت له ماردا

.البيت

:حاولت أن أمازحه فسألته بسخرية

Page 323: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ترw زجاجة كهذه قبل لماذا تنظر إليg هكذا.. ألم- اليوم؟

ولكنه دون أي رغبة في المزاح أخذ الزجاجة من أمامي، وذهب بها إلى المطبخ، وهو يسبg ويتحدث

.يصلني لنفسه كالماF لم يكن

وعندما عاد قال لي بنبرة فيها شيء من اليأس وبقايا:ناصر من متاعب

يا أخي واش بيكم.. البالد متgخذة وأنتما واحد التي- التي يسكر.. كيفاش نعمل معاكم؟ يصلي.. وواحد

عدة توقف سمعي عند ذلك التعبير الذي لم أسمعه منذ سنوات "البالد متgخذة" والذي يعني أن البالد قائمة

Fوالذي هو في الواقع قاعدة.. أو تشهد حدثا ،Fاستثنائيا .تعبير جنسي محض

قدرة هذه المدينة ابتسمت وأن أكتشف مرة أخرى على زجg الصور الجنسية في كل شيء. وذلك ببراءة

..مدهشة

:رفعت عيني نحوه وقلت له بشيء من السخرية المرة

الجزائر يا حسان.. البعض يصلgي.. والبعض هذه هي- .."!البالد يسكر.. واآلخرون أثناء ذلك "ياخذوا في

ولكن حسان لم يبد� على استعداد للتمادي معي في.النقاش

ربما ألنه بعد ذلك الوقت الذي قضاه في إقناع ناصر المزيد من المناقشة. فقال وهو لم يعد قادراF على

:يقاطعني

وتطير عنك سأذهب ألحضر لك القهوة، حتى تفيق- هذه السكرة.. ثم نتحدث. إن الناس ينتظروننا هناك

Page 324: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ك منذ wسنوات. يجب أال تذهب إليهم في وبعضهم لم ير !هذه الحالة

:سألته عندما عاد بعد لحظات بالقهوة

ماذا فعلت مع ناصر؟-

:قال

وقت العشاء إرضاءF لقد وعدني أنه سيمر هناك- لخاطري فقط، ولكنه لن يمكث طويالF. وبرغم ذلك

فعالF. ال أفهم عناده هذا.. إنه ال أشك في أن يحضر يقف يملك سوى أخت واحدة في النهاية.. وال يمكن أال

.في عرسها أمام الناس

!جنون

حسب كنت أحتسي تلك القهوة حتى يطير سكري، تعبير حسان. ولكن كنت أشعر في الواقع أنني أزداد

F أو جنوناF، وأنا أستمع .إليه سكرا

كتلك اللحظة التي سألته فيها عن سبب مقاطعة ناصرنا إلى أكثر من موضوع لهذا العرس، وإذا gبالحديث يجر.

:قال

F إنه على خالف مع عمه. فهو- يعتقد أنه استفاد كثيرا من اسم سي الطاهر، وأنه قلgما اهتم بمصير زوجة

وأوالده. وهذا العرس ال هدف له غير أسباب أخيه اختيار عمه وصوليgة ومطامع سياسية محض.. فهو ضد

لهذا العريس السيئ الصيت سياسياF وأخالقياF. فالجميع التي يتقاضاها في صفقاته يتحدgث عن العموالت

المختلفة.. وعن حساباته في الخارج.. وعن عشيقاته الجزائريات.. واألجنبيات. إضافة إلى كون هذا الزواج

F يقارب عمرهم عمر زواجه الثاني، وأن له أوالدا..عروسه الجديدة

Page 325: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:سألته

طبيعياF؟ وهل تجد أنت هذا الزواج-

:قال

ال أدري بأي منطق تريد أن أحكم عليه. من المؤكد- بمنطق األشياء عندنا زواج طبيعي. إنه ليس أول أنه

إن لمعظم.. زواج من هذا النوع، ولن يكون األخير الرجال المهمgين هنا أكثر من عشيقة. وكلهم تخلgوا

زوجاتهم وأوالدهم، ليتزوجوا بطريقة أو بأخرى عن من عروس جديدة أصغر عمراF وأكثر جماالF وثقافة من

األولى.. إنك ال تستطيع أن تمنع رجالF عندنا زادوا له امرأة في بيته، أو تمنع نجمة على أكتافه، من أن يزيد

رجالF حصل على منصب جديد لم يحلم به، من أن يبدأ.عن فتاة أحالمه في البحث

:وأضاف

أنا حاولت فقط أن أقنع ناصر أن عمه لم يقصد- بالضرورة القضاء على مستقبل أخته بهذا الزواج. بل

المصاهرة.. إن أي شخص سواه كان سيرحgب بهذه ويسعى إليها الهثاF.. إنها الطريقة الوحيدة ليحل

مرة واحدة، ويوفر عليها مشكالته ومشكالت ابنته..كثيراF من المتاعب

:سألته

وخطبها منك هذا الرجل، أكنت لو كانت لك بنت- زوgجته منها؟

:قال

الزواج حالل.. الحرام هو ما طبعاF.. ولم ال؟ إن- يمارسه بعضهم بطرق� عصرية. كأن يرسل أحدهم ابنته

زوجته.. أو أخته لتحضر له ورقة من إدارة، أو تطلب أوة أو رخصة لمحل تجاري نيابة gعنه، وهو يعلم أن ال شق

Page 326: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أحد هنا يعطيك شيئاF بال مقابل. لقد خلق البسطاء أخرى للتداول ويقضون بها حاجاتهم.. بأنفسهم عملة

!هات امرأة.. وخذ ما تشاء

:بذهول تمتمت

أحق ما تقول؟-

:أجاب

مدينة.. وفي العاصمة إنه ما يحدث اآلن في أكثر من- بالذات.. حيث يمكن ألي فتاة تمرg بمكتب ما في الحزب

على شقة أو خدمة أخرى.. والجميع يعرف أن تحصلع الشقق gويعرف اسم من يوز ،Fوالخدمات العنوان طبعا

على النساء والشعارات على الشعب بالتساوي.. يكفي الالتي يدخلن هناك لتفهم كل أن ترى منظر الفتيات

..شيء

:سألته

بها؟ ومن أدراك-

Fقال متذمرا:

من؟ لقد سمعته بأذني وشاهدته بعيني يوم ذهبت- هناك منذ بضعة أشهر ألقابل صديقاF موظgفاF في

سلك التعليم. الحزب.. عساه يساعدني في الخروج من تصور.. حتى البواب لم يكلف نفسه مشقة الحديث

.. وعبثاF رحت أشرح gله أنني قادم من قسنطينة إلي لهذا الغرض. وحدهن النساء كن جديرات بالعناية

اش" أجابني.. هناك gري "لألخ الفرgوعندما أبديت تذم الزائرات بشيء من العصبية، و"التشناف" أن معظم

موظفات في االتحادات الحزبية.. أو مناضالت. وكدت تمر أمامي "بأي "عضو" ناضلن أسأله وأنا أرى إحداهن

gعلى التحديد..؟" ولكنني سكت.

روح.. كل شي أصبح يمر بالنساء اليوم. إيه.. يا ولدي

Page 327: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

بالسهرات.. المجالس الخاصة. ولذا لو كنت أملك الخيار لزوgجت ابنتي من واحد يمكنه بهاتف أن يأتيها

مثلي يعيش معها بكل شيء. على أن أعطيها لواحد في البؤس كما أعيش أنا.. أو يدخل في هذه الحلقة

تدقg على مئة باب؟ القذرة.. ويبعثها

ربما الحظ وقتها آثار الصدمة المدهشة على مالمحي.. المرارة التي أسكتتني من الهول، عندما أضاف وتلك

:وكأنه يستدرك ليخفف من خيبتي

على كل حال.. لن يحدث هذا. حتى لو عرضت ابنتي- بها. إنهم ال على )سي....( فمن المؤكد أنه لن يقبل

يتزوجون إال من بعضهم. ففالن ال يريد إال بنت فالن، في دقيقنا.!" ويضمنوا ألنفسهم حتى "يبقى زيتنا

التنقل من كرسي سلطة إلى آخر، فكيف تريد في هذا أن يستطيع شابÁ بسيط أن يبني حياته؟ كل الجو

والرجال البنات يبحثن عن المسؤولين والمديرين الجاهزين.. وهؤالء يعرفون ذلك فيزيدون من

العوانس يزيد كل يوم.. شروطهم كل مرة.. بينما عدد.إنه قانون العرض والطلب

فإنك حتماF تعذر سي إذا رأيت األمور بهذه العين، الشريف. المهم أن يستر بنت أخيه، ويضمن لها

Fقدر اإلمكان ولنفسه مستقبال Fسعيدا.

أما كون العريس سارقاF وناهباF ألمالك الدولة.. فماذااق ومحتالون. هنالك من gتريد أن تفعل؟ كلهم سر

يحافظ على انفضحت أموره، وهنالك من عرف كيف!مظهر محترم.. فقط

.أصبت بذهول وأنا أستمع إليه

له إنه في النهاية على حق. وربما كان سي كدت أقول.أدري الشريف أيضاF على حقg.. ال

ولكن كان هناك شيء ما في هذا الزواج، يرفض أن.به عقلي وأقتنع يدخل

Page 328: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

السادس الفصل

.لعرسك لبست بدلتي السوداء!يمكن أن يلبس لألفراح.. وللمآتم. مدهش هذا اللون

لماذا اخترت اللون األسود؟ أحببتك أصبحت صوفياF، وأصبحتx أنتx ربما ألنني يوم

.مذهبي وطريقتي. وربما ألنه لون صمتي.لغته. قرأت يوما أن األسود صدمة للصبر لكل لون

مرة قرأت أيضاF أنه لون يحمل نقيضه. ثم سمعت مصمم أزياء شهيراF، يجيب عن سر لبسه الدائم لألسود

: قال

F بيني وبين اآلخرين إنه لون يضع" ".حاجزا

ولكني. ويمكن أن أقول لك اليوم الكثير عن ذلك اللون.سأكتفي بقول مصمم األزياء هذا

Fبيني وبين فقد كنت في ذلك اليوم أريد أن أضع حاجزا كل الذين سألتقي بهم، كل ذلك الذباب الذي جاء

.فرحك ليحط على مائدةFبيني وبينك أيضا F .وربما كنت أريد أن أضع حاجزا

ألواجه بصمت ثوبك األبيض، لبست طقمي األسود، المرشوش بالآللئ والزهور، والذي يقال إنه أعدg لك

Fفي دار أزياء فرنسية خصيصا..هل يمكن لرسام أن يختار لونه بحياد؟

Fدت لي المرآة. وكنت أنيقاgأك .Fفللحزن أناقته أيضا وقال ذلك. ونظرة حسان، الذي استعاد فجأة ثقته بي،

بلهجة جزائرية أحبها، وهو يتأملني: "هكذا نحبك آ..!".إهلكهم.. خالد

gولكني صمت ..Fنظرت إليه.. كدت أقول له شيا.

المشرع للسيارات، وأفواج القادمين، عند الباب..استقبلني سي الشريف باألحضان

Page 329: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

-Fزارتنا البركة.. يعطيك الصحة أهال ..Fسي خالد.. أهال .اليوم اللي جيت.. راك فرحتني

اختصرت ذلك الموقف العجيب مرة أخرى في كلمة.:قلت

..مبروك كل شيء-

وضعت قناع الفرح على وجهي. وحاولت أن أحتفظ به.السهرة طوال تلك

يمتلئ البيت زغاريد. ويمتلئ صدري بدخان السجائر وتحرقني. يمتلئ قلبي حزناF. ويتعلم التي أحرقها

وجهي تلقائياF االبتسامات الكاذبة. فأضحك مع اآلخرين. أجالس من أعرف ومن ال أعرف. أتحدث في

أخلو بك لحظة الذي أدري والذي ال أدري. حتى ال.واحدة.. حتى ال أفاجئك داخلي.. فأنهار

يقبgلني بشوق صديق قديم لم أسلgم على العريس الذي:يلتق به منذ مدة

موش هاذا العرس.. هاك جيت للجزائر آ سيدي.. كان- !ما كناش شفناك

يتحدث إليg أحاول أن أنسى أنني أتحدث لزوجك، لرجل مجاملة على عجل، وهو يفكر ربما في اللحظة التي

..الليل سينفرد فيها بك في آخر

أتأمل سيجاره الذي اختاره أطول للمناسبة.. بدلته التي يلبسها _أو تلبسه_ بأناقة من الزرقاء الحريرية

أحاول. تعوgد على الحرير. أحاول أال أتوقف عند جسدهى بالنظر إلى وجوه الحاضرين gأال أتذكر. أتله.

..وتطلgين

في موكب نسائي، يحترف البهجة والفرح، كما تدخلين

Page 330: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.أحترف أنا الرسم والحزن

مرة، بعد كل أشهر الغيبة تلك، تمرين قريبة أراك ألول األثواب وبعيدة، كنجمة هاربة. تسيرين.. مثقلة

ات البندير. وأغنية gوالخطى، وسط الزغاريد ودق طفالF أركض في بيوت تستفزg ذاكرتي، وتعود بي

قسنطينة القديمة. في مواكب نسائية أخرى.. خلف.أكن أعرف عنها شيئاF يومذاك عروس أخرى.. لم

آه كم كنت أحب تلك األغاني التي كانت تزفg بها العرائس، والتي كانت تطربني دون أن أفهمها. وإذا

!بها اليوم تبكيني

عي" gالباب يا أم العروس.." يقال إن العرائس شر .األغنية يبكين دائماF عند سماع هذه

تراك بكيت يومها؟

دمعي كانت عيناك بعيدتين.. يفصلني عنهما ضباب.وحشد الحضور. فعدلت عن السؤال

.األخير اكتفيت بتأمgلك، في دورك

ها أنت ذي تتقدgمين كأميرة أسطورية، مغرية شهية، االنبهار واإلعجاب.. مرتبكة.. مربكة، محاطة بنظرات.بسيطة.. مكابرة

ه كالعادة.. ها أنت ذي، يشتهيك كل gرجل في سر ..تحسدك كل النساء حولك كالعادة

.أواصل ذهولي أمامك_ وها أنذا _ كالعادة

وها هوذا "الفرقاني".. كالعادة.. يغنgي ألصحاب النجوم.والكراسي األمامية

يصبح صوته أجمل، وكمنجته أقوى عندما يزفg الوجهاء.القرار والنجوم الكثيرة وأصحاب

تعلو أصوات اآلالت الموسيقية.. ويرتفع غناء الجوقة

Page 331: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:صوت� واحد لترحب بالعريس في

..يا ديني ما أحاللي عxرسو.. بالعوادة"..يقطعلو عادة الله ال

"وانخاف عليه.. خمسة. والخميس عليه

.وتتساقط األوراق النقدية.. تعلو الزغاريد

تدفع ما أقوى الحناجر المشتراة. وما أكرم األيدي التي!كما تقبض على عجل

..ها هم هنا

.كالعادة.. كانوا هنا جميعهم

أصحاب البطون المنتفخة.. والسجائر الكوبية...على أكثر من وجه والبدالت التي تلبس

أصحاب كل عهد وكل زمن.. أصحاب الحقائب المهمات المشبوهة، أصحاب الدبلوماسية، أصحاب

السعادة وأصحاب التعاسة، وأصحاب الماضي.المجهول

..هم هنا ها

اق سابقون.. gوزراء سابقون.. ومشاريع وزراء. سر اق gمديرون وصوليون.. ووصوليون. ومشاريع سر

يبحثون عن إدارة. مخبرون سابقون.. وعسكر.ثياب وزارية متنكgرون في

..ها هم هنا

أصحاب. أصحاب النظريات الثورية، والكسب السريع العقول الفارغة، والفيالت الشاهقة، والمجالس التي

.الجمع يتحدث فيها المفرد بصيغة

ها هم هنا.. مجتمعون دائماF كأسماك القرش. ملتفون

Page 332: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..المشبوهة دائماF حول الوالئم أعرفهم وأتجاهل معظمهم "ما تقول أنا.. حتى يموت

!"الحارة كبار

.أعرفهم وأشفق عليهم

علمهم وفي ما أتعسهم في غناهم وفي فقرهم. في جهلهم. في صعودهم السريع.. وفي انحدارهم

!المفجع

ذلك اليوم الذي لن يمدg فيه أحد يده ما أتعسهم، في.حتى لمصافحتهم

العرس عرسهم. فليأكلوا في انتظار ذلك.. هذا وليطربوا. وليرشقوا الوراق النقدية. وليستمعوا

كما في كل عرس قسنطيني أغنية للفرقاني يردد"."صالح باي

للعبرة، لتذكgر أهل تلك التي مازالت منذ قرنين ت�غنgى هذه المدينة بفجيعة )صالح باي( وخدعة الحكم والجاه

..ألحد الذي ال يدوم

والتي أصبحت ت�غنgى اليوم بحكم العادة للطرب دون أن..أحداF تستوقف كلماتها

كانوا سالطين ووزراء *** ماتوا وقبلنا عزاهم»هم.. ال غناه�م» نالوا من المال gك�ثرة» *** ال عز

.."مال�و قالوا العرب قالوا *** ما نعطيو» صالح وال

أتذكر وأنا أستمع لهذه الكلمات، أغنية عصرية أخرىل وصلتني كلماتها gمن مذياع بموسيقى راقصة.. تتغز

..".عجبوني بصالح آخر "صالح.. يا صالح.. وعينيك

إيه يا قسنطينة، لكل زمن "صالحه".. ولكن ليس كلFصالح" بايا" ..Fوليس كل حاكم صالحا!

ها هوذا الوطن اآلخر أخيراF أمامي.. أهذا هو الوطن

Page 333: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

حقاF؟

في كل مجلس وجه أعرف عنه الكثير. فأجلسلهم، وأستمع لهم يشكون gرون أتأمgويتذم.

.ال أحد سعيد منهم حسب ما يبدو

Fالذين يبادرونك بالشكوى، المدهش أنهم هم دائما .وبنقد األوضاع.. وشتم الوطن

!الظاهرة عجيبة هذه

كأنهم لم يركضوا جميعاF خلف مناصبهم زحفاF على كل جزءاF من قذارة الوطن. كأنهم شيء. كأنهم ليسوا

..ليسوا سبباF في ما حلg به من كوارث

على )سي مصطفى(. لقد أصبح وزيراF منذ ذلك أسل�م ورفضت أن. اليوم الذي زارني فيه ليشتري مني لوحة

.أبيعه إياها

نات )سي الشريف( إذن، فقد راهن gلقد نجحت تكه ..رابح على حصان

:أسأله مجاملة

واش راك سي مصطفى؟-

:بالشكوى فيبدأ دون مقدمات

..!رانا غارقين في المشاكل.. على بالك-

مصادفة، مقولة لديغول: "ليس من تحضرني وقتها، حق وزير أن يشكو.. فال أحد أجبره على أن يكون

Fوزيرا."!

..أحتفظ بها لنفسي وأقول له فقط

Page 334: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..بالي إيه.. على-

نعم.. كنت )على بالي..( بتلك المبالغ الهائلة التي كعمولة لتجديد معدgات إحدى تقاضاها في كندا

الشركات الوطنية الكبرى. ولكنني كنت أخجل أن أقول ذلك، ألنني أدري أن الذين سبقوه إلى ذلك له

.منه المنصب.. لم يفعلوا أحسن

اكتفيت فقط باالستماع إليه وهو يشكو، بطريقة تثير..مسكين شفقة أي مواطن

بينما كان حسان مشغوالF عني بالحديث مع صديقF للعربية.. قبل أن يصبح فجأة.. قديم.. كان أستاذا

!سفيراF في دولة عربية

ذلك؟ كيف حدث

يقال إنه ردg دين.. وقضية "تركة" وصداقة قديمة تجمع إحدى الشخصيات.. وأنها ليست ذلك األستاذ بوالد

!"الحالة الدبلوماسية" الوحيدة

الذي أعرفه جيداF والذي كان مدير( مثل )سي حسينF للنشر. إحدى المؤسسات الثقافية، يوم كنت أنا مديرا

وإذا به بين ليلة وضحاها يعيgن سفيراF في الخارج..ه بضعة بعدما طلعت رائحته في gالداخل. فتكفلوا بلف

أشهر وبعثه إلى الخارج مع كل التشريفات!علم الجزائر الدبلوماسية خلف

.ها هوذا اليوم هنا.. في جوgه الطبيعي

قضية احتيال وتالعب بأموال الدولة لقد استدعي إثر ..في الخارج، ليعاد دون ضجيج إلى وظيفة حزبية

.ولكن على كرسي جانبي هذه المرة

!شرفيgة هنالك دائماF في هذه الحاالت.. سلة مهمالت

في مجلس آخر، مازال أحدهم ينظgر ويتحدث وكأنه

Page 335: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

سيليها من ثورات. وإحدى ثورات مفكgر الثورة وكل ما هذا الشخص.. أنه وصل إلى الصفوف األمامية في

غ لتقديم طالباته إلى ظروف gمشبوهة، بعدما تفر ..الصغيرات مسؤول عجوز مولع بالفتيات

..هذا هو الوطن

السيرك "وها هو عرسك الذي دعوتني إليه. إنهجين، ولمن gار".. سيرك ال مكان فيه إال للمهر gعم

البهلوانية.. والقفز على المراحل.. يحترفون األلعابيwم والقفز على الرقاب.. والقفز على xالق.

سيرك يضحك فيه حفنة على ذقون الناس، ويروgض.الغباء فيه شعب بأكمله على

!فكم كان ناصر محقاF عندما لم يحضر هذا الكرنفال

بحدس� ما أنه لن يحضر.. ولكن أين هو كنت أدرياآلن.؟

لكي ال يلتقي.. تراه مازال يصلي في ذلك المسجدبهم. وهل تغيgر صالته.. أو يغيgر سكري شيئاF؟

gعن الصالة يا ابني. لقد أصبحوا آه يا ناصر! كف ..يصلgون أيضاF ويلبسون ثياب التقوى. كفg عن الصالة

وتعال نفكgر قليالF. فأثناء ذلك ها هوذا الذباب يحطg على.الوليمة كل شيء، والجراد يلتهم هذه

كلما تقدم الليل، تقدم الحزن بي، وتقدم بهم الطرب. األوراق النقدية عند أقدام نساء الذوات، وانهطل مطر

أشهر المستسلمات لنشوة الرق، على وقع موسيقى..أغنية شعبية

ي»ن انبات�و *** فوق فراش حرير" wإذا صاح الليل و .."ومwخدgات�و

..أمان.. أمان

Page 336: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..إيه آ الفرقاني غwن�

لهذه األغنية بأزمة السكن، كما قد يبدو من ال عالقة الحمراء الوهلة األولى. إنها فقط تمجيد لليالي

ة الحريرية التي ليست في متناول الجميع gواألسر.

.."عين ما تبكيش ع اللي ماتوا ع اللي ماتوا.. يا"

.أمان.. أمان

.لسي الطاهر.. وال لزياد لن أبكي.. ليست هذه ليلة

ليست للشهداء وال للعشاق. إنها ليلة الصفقات التي.يحتفل بها علناF بالموسيقى والزغاريد

ام» بالريحيgة» *** يا" gندراش» للغير وإال خارجة من الحمxل gلي"..

.أمان.. أمان

السؤال. اآلن أعي أنكx للغير لن أطرح على نفسي هذا ولستx لي. تؤكد ذلك األغنيات، وذلك الموكب الذي

.بك، ويرافقك بالزغاريد إلى ليلة حبgك الشرعية يهرب

ين بي، عندما gتمرين.. وأنت تمشين مشية وعندما تمر العرائس تلك، أشعر أنكx تمشين على جسدي، ليس

بتين بالحناء.. وأن" "بالريحيgة gوإنما بقدميك المخض Fق داخلي، ويعبرني جرساgيوقظ خلخالك الذهبي يد

..الذاكرة

..قفي

على قسنطينة األثواب مهالF! ما هكذا تمرg القصائد!عجل

ز بخيوط الذهب، والمرشوش بالصكوك gثوبك المطر

Page 337: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كتبتها قسنطينة جيالF بعد آخر الذهبية، معلgقة شعر على القطيفة العنابي. وحزام الذهب الذي يشد

.لتتدفgقي أنوثة وإغراءF، هو مطلع دهشتي خصرك،.شعر� عربيg هو الصدر والعجز في كل ما قد قيل من

لي gفتمه.. دعيني أحلم أن الزمن توقgف.. وأنك لي. أنا الذي قد

أموت دون أن يكون لي عرس، ودون أن تنطلق.الزغاريد يوماF من أجلي

لو سرقت كل هذه الحناجر النسائية، كم أتمنى اليوم!لتبارك امتالكي لك

ذلك البطل الخرافي الذي" لو كنت "خطgاف العرائس، لجئتك أمتطي gيهرب بالعرائس الجميالت ليلة عرسهن

..وفرساF بيضاء.. وخطفتك منهم الريح

كل لو كنتx لي.. لباركتنا هذه المدينة، ولخرج من شارع عبرناه وليg يحرق البخور على طريقنا.. ولكن ما

!قسنطينة.. أحزن الليلة ما أتعس أولياءها الصالحين.. وحدهم جلسوا إلى

وحجزوا لذاكرتي األخرى.. طاولتي دون سبب واضحFأماميا Fاgكرسي..

عليهم واحدا وإذا بي أقضي سهرتي في السالم..واحدا

..سالماF يا سيدي راشد سيدي محمد الغراب.. يا سالماF يا سيدي مبروك.. يا

سيدي سليمان.. يا سيدي بوعنgابة.. يا سيدي عبد سيدي مسيد.. يا سيدي بومعزة.. يا سيدي المؤمن.. يا

..جليس

تها سالماF يا من تحكمون شوارع هذه gالمدينة.. أزق .وذاكرتها

فال.. قفوا معي يا أولياء الله.. متعب أنا هذه الليلةتتخلوا عني.. أما كان منكم أبي؟

د؟ wعن ج Fأبي يا "عيساوي" أبا الذي كنت في تلك الحلقات المغلقة، في تلك أنت

Page 338: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ذلك الطقوس الط�رقيgة العجيبة، تغرس في جسدكF.. فيتخرق جسدك من السفود األحمر الملتهب نارا

تكون عليه قطرة طرف� إلى آخر، ثم تخرجه دون أندم؟

ر حديده الملتهب والمحمgر كقطعة gأنت الذي كنت تمر .فينطفئ جمره من لعابك، وال تحترق جمر،

.أنزف علgمني الليلة كيف أتعذgب دون أن.علgمني كيف أذكر اسمها دون أن يحترق لساني

الذي كنت تردد مع علgمني كيف أشفى منها، أنت جماعة "عيساوة" في حلقات الجذب والتهويل، وأنت

Fباللهب ترقص مأخوذا:

.."أنا سيدي عيساوي.. يجرح ويداوي"

من؟.. من يداويني يا أبي

..وأحبها

في هذه الساعة المتأخرة من األلم، أعترف أنني.أحبها.. وأنها لي مازلت

أتحدgى أصحاب البطون المنتفخة.. وذلك صاحب الصلعة.. وأولئك أصحاب النجوم اللحية.. وذلك صاحب

التي ال تعدg.. وكل الذين منحتهم الكثير.. واغتصبوها.في حضرتي اليوم

.أتحداهم بنقصي فقط التي سرقوها بالذراع التي لم تعد ذراعي، بالذاكرة

.منgي، بكل ما أخذوه منgا

أحبها دون أتحداهم أن يحبوها مثلي. ألنني وحدي.مقابل

وأدري أنه في هذه اللحظة، هناك من يرفع عنها ثوبها عجل. يخلع عنها صيغتها دون كثير من ذاك على

االهتمام ويركض نحو جسدها بلهفة رجل في.يضاجع صبية الخمسين

Page 339: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.حزني على ذلك الثوب.. حزني عليه

زته، gوكم من النساء تناوبن عليه، كم من األيدي طر ليتمتع اليوم برفعه رجل واحد. رجل يلقي به على

كيفما كان، وكأنه ليس ذاكرتنا، كأنه ليس كرسي.الوطن

بأكملها، لينعم بها فهل قدر األوطان أن تعدgها أجيالرجل واحد؟

أتساءل الليلة.. لماذا وحدي تستوقفني كل هذه التفاصيل. وكيف اكتشفت اآلن فقط، معنى كل

قبل؟ األشياء التي لم يكن لها معنى من

أتراه ع�شق هذا الوطن.. أم البعد عنه، هو الذي أعطىقداسة ال يشعر بها غير الذي حرم منه؟ األشياء العادية

وتغتال قداسة أألن المعايشة اليومية تقتل الحلم األشياء كان أحد الصحابة ينصح المسلمين بأن يغادروا

من مراسيم الحج، حتى تبقى لتلك مكة، حال انتهائهم المدينة رهبتها وقداستها في قلوبهم، وحتى ال تتحول بحكم العادة إلى مدينة عادية يمكن ألي واحد� أن يسرق

رهبة؟ ويزني ويجور فيها دون

إنه ما يحدث لي منذ وطئت قدماي هذه المدينة. وحدي.العادة أعاملها كمدينة فوق

F أعامل كل حجر فيها بعشق. أسلم على جسورها جسرا أخبار أهلها، عن أوليائها وعن جسراF. أسأل عن

Fواحدا ..F ..رجالها، واحدا

أتألها وهي تصلي، وتزني أتأملها وهي تمشي، وتمارس جنونها وال أحد يفهم جنوني وسرg تعلgقي

.الجميع بالهرب منها بمدينة يحلم

هل أعتب عليهم؟

Page 340: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ويجيئون على هل يشعر سكان أثينا أنهم يمشون ذاكرة التاريخ.. وعلى تراب مشت عليه اآللهة، وأكثر

أسطوري؟ من بطل

هل يشعر سكان الجيزة في بؤسهم وفقرهم، أنهم وأن الفراعنة مازالو بينهم، يعيشون عند أقدم معجزة،

يحكمون مصر بحجرهم وقبورهم؟

قرأوا تاريخ اليونان والفراعنة، وحدهم الغرباء الذين في كتب التاريخ، يعاملون تلك الحجارة بقداسة،.ويأتون من أطراف العالم لمجردg االقتراب منها

واقترفت حماقة االقتراب تراني أطلت المكوث هنا، من األحالم حتى االحتراق، وإذا بي يوماF بعد آخر،

، وخيبة بعد gأخرى، أشفى من سلطة اسمها علي وأفرغ من وهمي الجميل.. ولكن ليس دون الم؟

هذه اللحظة، ال أريد لهذه المدينة أن تكون أكثر في.من رصاصة رحمة

تلك الزغاريد التي انطلقت في ساعة ولذا أتقبgل متقدgمة من الفجر، لتبارك قميصك الملطgخ ببراءتك،

كآخر طلقة نارية تطلقها في وجهي هذه المدينة، فأتلقاها. ولكن دون كاتم صوت.. وال كاتم ضمير

جامداF.. مذهول النظرات كجثة، بينما أرى حولي من.المعروض للفرجة يتسابق للمس قميصك

ها هم يقدمونك لي، لوحة ملطgخة بالدم، دليالF على.اآلخر. دليالF على جريمتهم األخرى عجزي

. ليس من حق مشاهد gولكنني ال أتحرك وال أحتج لمصارعة الثيران، أن يغير منطق األشياء، وينحاز

بيته وال يحضر للثور. وإال كان عليه أن يبقى في"!"كوريدا" خلقت أساساF لتمجيد "الموتادور

المشحون بالزغاريد والزينة شيء ما في هذا الجو وموسيقى "الدخلة".. والهتافات أمام ثوب موقgع

يذكgرني بطقوس الكوريدا. وذلك الثور الذي بالدم، راقصة يدخل يعدgون له موتاF جميالF على وقع موسيقى

بها الساحة، ويموت على نغمها بسيوف� مزيgنة للقتل،

Page 341: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F باللون !األحمر.. وبأناقة قاتله مأخوذا

والذي من منgا الثور؟ أنتx أم أنا الم�صاب بعمى األلوان،ال يرى اآلن غير اللون األحمر.. لون دمك؟

بكبرياء حيوان ال يهزم إال ثور يدور في حلبة حبgك،دعة، ويدري أنه محكوم عليه بالموت xالمسبق خ.

Fالواقع أن دمك هذا يربكني، يحرجني، ويمألني تناقضا.

أتحرق دائماF لمعرفة نهاية قصتك معه، هو أما كنتشيء؟ الذي أخذك مني، تراه أخذ منك كل

سؤال كان يشغلني ويسكنني حد الجنون، منذ ذاك زياد( أمامك. ووضعتك أمام )اليوم الذي وضعت فيه

.قدرك اآلخرنة، وأذللت gأبراجك تراك فتحت له قالعك المحص

العالية، واستسلمت إلغراء رجولته؟

له؟ تراك تركت طفولتك لي، وأنوثتك

Fها هو الجواب يأتيني بعد عام من العذاب. ها هو أخيرا gعمره لحظات.. لزج.. طري ..gأحمر.. وردي.

،Fمحرجا ،Fعه، مقحما gها هو الجواب كما لم أتوق wمxفل الحزن؟

ما الذي يؤلمني األكثر هذه الليلة.. أن أدري أننيFبظني، وأنه مات دون أن يتمتع بك، وأنه ظلمت زيادا

في النهاية كان هو األجدر بك الليلة؟ أن تكوني فقط، مدينة فتحت اليوم عنوة بأقدام أم

العسكر، ككل مدينة عربية؟

الذي يزعجني أكثر الليلة؟ أن أكون قد عرفت لغزك ماF، أم كوني أدري أنني لن أعرف عنك شيئاF بعد أخيرا

اليوم، ولو تحدgثت إليك عمراF، ولو قرأتك ألف مرة؟

Page 342: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

xعذراء إذن، وخطاياك حبر على ورق؟ أكنت

أهديتني فلماذا أوهمتني إذن بكل تلك األشياء؟ لماذاF للغيرة؟ كتابك وكأنك تهدينني خنجرا

سطر.. وكذبة بعد لماذا علgمتني أن أحبكx سطراF بعد!أخرى.. وأن أغتصبك على ورق

..فليكن

أنك من بين كل الخيبات.. كنت خيبتي عزائي اليوم،.األجمل

***

يسألني حسان: لماذا أنت حزين هذا الصباح؟

سعيد اليوم؟ أحاول أال أسأله: ولماذا هو

أدري أن غياب ناصر ومقاطعته البارحة للعرس، قد مزاجه. ولكنه لم يمنعه من أن ينسجم مع عكgر نوعاF ما

Fمن أغاني "الفرقاني"، وأن يضحك.. ويحادث كثيرا .الناس الذين لم يلتق بهم من قبل

لسعادته الساذجة كنت أالحظه. وكنت سعيداF شيئاF ما،.تلك

كان حسان سعيداF أن ت�فتح له أخيراF تلك األبواب التي قلما تفتح للعامة، وأن يدعى لحضور ذلك العرس الذي

المجالس أليام؛ ويصفه يمكنه اآلن أن يتحدث عنه في لآلخرين الذين سيالحقونه باألسئلة، عن أسماء من

د�م من أطباقي.. وما لبست العروس حضروا وما ..ق� صيغتها ويمكن لزوجته أيضاF أن تنسى أنها استعارت والثياب التي حضرت بها العرس من الجيران

على الجميع بما واألقارب، وتبدأ بدورها في التفاخر رأته من بذخ� في ذلك العرس، وكأنها أصبحت فجأة

Page 343: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ج على خيرات طرفاF فيه، فقط ألنها gدعيت للتفر .اآلخرين

:قال فجأة

F للغداء عنده. ال تنسw أن إن سي الشريف يدعونا- غداFتكون في البيت وقت الظهر لنذهب معا..

:بصوت غائب قلت له

.غداF سأعود إلى باريس-

:صاح

-Fما.. كيف تعود غدا .. gآخر على األقل Fمعنا أسبوعا wابق الذي ينتظرك هناك؟

لي بعض االلتزامات، وأنني بدأت حاولت أن أوهمه أن.أتعب من إقامتي في قسنطينة

:يلحg ولكنه راح

يا أخي عيب.. على األقل احضر غداء سي الشريف- ..سافر غداF ثم

:أجبته بلهجة قاطعة لم يفهم سببها

.نروgح فرات.. غدوة-

كان يحلو لي أن أحدgثه بلهجة قسنطينية. كنت أشعر أنه قد يمر وقت طويل قبل أن مع كل كلمة ألفظها،

.ألفظها مرة أخرى

عدم رفض تلك قال حسان وكأنه يقنعني بضرورة:الدعوة

والله سي الشريف ناس مالح.. مازال برغم منصبه-

Page 344: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F لصداقتنا القديمة. أتدري أن البعض يقول هنا إنه وفيgا علينا في ذلك اليوم قد يصبح وزيراF. ربما يفرجها الله

..على يده

قال حسان هذه الجملة األخيرة بصوت شبه خافت،..وكأنه يقولها لنفسه

!مسكين حسان

عليه بعد ذلك. أكان مسكين أخي الذي لم يفرجها الله من السذاجة بحيث يجهل أن ذلك العرس هو صفقة ال

ى شيئاF ما مقابله. غير، وأن سي gأن يتلق gالشريف ال بد دون نوايا.. نحن ال نصاهر ضبgاطاF من الدرجة األولى

.مسبقة

أما بالنسبة لما يمكن أن يربح حسان من وراء منصب.المحتمل.. فمجرد أوهام سي الشريف

المؤمن يبدأ بنفسه، وقد تمر سنوات قبل أن يصل دور.حسان.. وينال بعض ما يطمح إليه من فتات

Fسألته مازحا:

تحلم أن تصبح أنت أيضاF سفيرا؟ هل بدأت-

:قال وكأن السؤال قد جرحه نوعاF ما

يا حسرة يا رجل.. "اللي خطف.. خطف بكري.." أنا- وأن أستلم ال أريد أكثر من أن أهرب من التعليم،

وظيفة محترمة في أيgة مؤسسة ثقافية أو إعالمية، أية وعائلتي حياة شبه عادية.. كيف وظيفة أعيش منها أنا

تريد أن نعيش نحن الثمانية بهذا الدخل؟. أنا عاجز عن أن أشتري سيارة. من أين آتي بالماليين حتى

الفخمة التي ألشتريها؟. عندما أتذكgر تلك السياراتة أمس في ذلك العرس، أمرض وأفقد gكانت مصطف

هذه المهنة، أنت ال تشعر شهية التعليم. لقد تعبت من بأية مكافأة مادية أو معنوية فيها. لقد تغيgر الزمن الذي

Page 345: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كاد فيه المعلم أن يكون رسوالF".. اليوم حسب تعبير" شيفوناF( وخرقة ال )زميل لي "كاد المعلم أن يكون

.أكثر

لقد أصبحنا ممسحة للجميع. فاألستاذ يركب الحافلة" و "يطبgع" مثلهم. ويشتمه الناس gمع تالميذه. و "يدز

ح أمامهم. ثم يعود مثل زميلي gدروسه ويصح gهذا، ليعد ة بغرفتين، يسكنها ثمانية أشخاص gاالمتحانات في شق

.وأكثر

تين وثالثاF بحكم وظيفته أو gبينما هناك من يملك شق أن يستقبل فيها عشقياته أو يعير واسطاته.. يمكنه

. مفاتيجها لمن سيفتح له أبواباF أخرى

ة gعليك يا خالد.. أنت تعيش بعيدا عن هذه الهموم، صح بالكش واش صاير في حيgك الراقي بباريس.. ما على

.!في الدنيا

المرارة آه حسان.. عندما أذكر حديثنا ذلك اليوم، تصبحFتصبح دمعا، تصبح ندما ،Fة في الحلق، تصبح جرحا gغص

.وحسرة

.أن أساعدك أكثر، صحيح كان يمكن

كنت تقول: "اطلب شيئاF يا خالد مادمت هنا، ألست مجاهداF؟ ألم تفقد ذراعك في هذه الحرب؟ اطلب محال

شاحنة، إنهم لن تجارياF.. اطلب قطعة أرض.. أو يرفضوا لك شيئاF. هذا حقك. وإذا شئت دعه لي

أنا وأوالدي.. أنت يحترمونك ألستفيد منه وأعيش عليه ويعرفونك، وأما أنا فال يعرفني أحد. إنه جنون أال تأخذ حقك من هذا الوطن. إنهم ال يتصدgقون عليك بشيء.

لم يقم بشيء أكثر من واحد يحمل شهادة مجاهد وهو.."في الثورة. أنت تحمل شهادتك على جسدك

أن هذا هو الفرق الوحيد إيه حسان.. لم تكن تفهم بيني وبينهم. لم تكن تفهم أنه لم يعد ممكناF اليوم، بعد

هذه السنوات، وكل هذا العذاب، أن أطأطئ رأسي كل

Page 346: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.وطنية ألحد.. ولو مقابل أية هبة

ربما كنت فعلت هذا بعد االستقالل. ولكن اليوم مع.ذلك مستحيال مرور الزمن، أصبح

لم يبق من العمر الكثير أخي. لم يبق من العمر الكثير،.قبل الموت ألطأطئ رأسي

أريد أن أبقى هكذا أمامهم، مغروساF كشوكة في يخجلوا عندما يلتقوا بي، أن ضميرهم. أريد أن

يطأطئوا هم رؤوسهم ويسألوني عن أخباري، وهم أعرف كل أخبارهم، وأنني شاهد على يعرفون أنني

.حقارتهم

!آه لو تدري حسان

لذgة أن تمشي في شارع مرفوع الرأس، أن لو تدري تشعر تقابل أيg شخص بسيط أو هامg جداF، دون أن

.بالخجل

هناك من ال يستطيع اليوم أن يمشي خطوتين على بعدما كانت كل الشوارع محجوزة قدميه في الشارع،

.الرسمية له. وكان يعبرها في موكب من السيارات

لم أقل شيئاF لحسان. وعدته فقط كمرحلة أولى أن له: "تعال معي، واختر سيارة أشتري له سيارة. قلت

تناسبك. تأخذها معك من فرنسا. ال أريد أن تعيش هكذا..".هذه الحالة بعد اليوم في

فرح حسان يومها كطفل. شعرت أن ذلك كان حلمه الذي كان عاجزاF عن تحقيقه، وعاجزاF عن طلبه الكبير

أزره منذ مني. ولكن كيف لي أن أعرف ذلك وأنا لمسنوات؟

عندما أذكر حسان اليوم، وحدها تلك االلتفاتة تبعث شيئاF من السعادة، ألنني أسعدته بعض في قلبي

.الوقت، ومنحته راحة لبضع سنوات.أكن أتوقع أن تكون األخيرة سنوات.. لم

Page 347: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:عاد حسان إلى موضوعه قال

حقاF على السفر غداF؟ هل أنت مصر-

:قلت له

..غداF نعم.. من األرجح أن أسافر-

:قال

إذن ال بد أن تطلب سي الشريف اليوم، لتعتذر منه.- ..يسيء تفسير موقفك.. ويأخذ على خاطره فقد

:لحسان فكرت قليالF فوجدته على حقg. قلت

..اطلب لي رقم سي الشريف ألعتذر إليه-

األمور هناك. ولكن سي كنت أتوقع أن تتوقفgب بي.. ويحرجني بلطفه، ويلحgالشريف راح يرح

..ولو في ذلك الحين ألحضر لزيارته

:قال

نراك قبل أن تعال إذن وتغدg معنا اليوم.. المهم أن- تسافر.. ثم يمكنك أن تقدم هديتك بنفسك للعروسين

Fهذا المساء قبل أن يسافرا أيضا..

لم يكن هناك من مخرج. وجدت نفسي مرة أخرى، الذي قررت السفر على عجل، أواجه قدري معك. أنا

حتى أنتهي من العيش في هذه األجواء التي كانت.بطريقة أو بأخرى حولك تدور كلها

ها أنا مرة أخرى ألبس بدلتي السوداء نفسها، أحمل توقgفت أمامها يوماF وكانت سبب كل ما حلg بي لوحة

..الغداء بعد ذلك. وأذهب مع حسان إلى

Page 348: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ها هما قدماي تقودانني مرة أخرى نحوك. كنت أدريxهذه المرة. كان هناك حدس مسبق أنني سألتقي بك

.يشعرني أننا لن نخلف هذا الموعد اليوم

الذي قاله سي الشريف ذلك اليوم؟ ما الذي قلته ما أطباق على ومن قابلت من الناس؟ وماذا قدم لنا من

.تلك السفرة.. لم أعد أذكر

يهمني كنت أعيش لحظات حبك األخيرة. ولم يكن شيء في تلك اللحظة، سوى أن أراك.. وأن أنتهي

!نفسه منك في الوقت

ولكن.. كنت أخاف حبك. كنت أخاف أن يشتعل حبك الكبير، يظلg مخيفاF حتى من رماده مرة أخرى. فالحب

.يحتضر في لحظات موته.. يظلg خطراF حتى وهو

..وجئت

أكثر اللحظات وجعاF، أكثر اللحظات جنوناF، أكثر اللحظات سخرية، كانت تلك التي وقفت فيها ألسلم

، وأضع على وجنتيك قبلتين xبريئتين، وأنا أهنئك عليك بالزواج، مستعمالF كل المفردات الالئقة بذلك الموقف

.العجيب

كم كان يلزمني من القوة، من الصبر ومن التمثيل،ة ألوهم اآلخرين أنني gبك قبل اليوم، سوى مر xلم ألتق

رأساF عابرة، وأنكx لم تكوني المرأة التي قلبت حياتيعلى عقب؟

المرأة التي تقاسمني سريري الفارغ منذ عدة أشهر،!البارحة.. لي والتي كانت حتى

كم كان يلزمني من التمثيل، ألهديك تلك اللوحة، دون إضافي، دون أية إشارة توضيحية، وكأنها لم أي تعليق

خمس قصتي معك منذ تكن اللوحة التي بدأت بها.وعشرين سنة

وكم كنتx مدهشة أنتx في تمثيلك، وأنتx تفتحينها

Page 349: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

معجبة عليها، وكأنك ترينها ألول مرة! وتلقين نظرة:يوماF فال أستطيع إال أن أسألك يتواطؤ سري جمعنا

هل تحبين الجسور؟

Fكلحظة ويخيم بيننا فجأة صمت قصير، يبدو لي طويال .تسبق حكماF باإلعدام.. أو العفو

xقبل أن ترفعي عينيك نحوي وينزل حكمك gعلي:

!نعم أحبها-

!كلمتين كم من السعادة منحتني لحظتها في

gشعرت أنك تبعثين لي آخر إشارة حب.

مشروع لوحة قادمة. أكثر شعرت أنك تهديني أكثر من من ليلة وهمية.. وأنك رغم كل شيء ستظلgين وفيgة

المشتركة.. ولمدينة تواطأت معنا، ومدgت كل لذاكرتنا.هذه الجسور.. لتجمعنا

أكنت حبيبتي حقاF؟ في تلك اللحظة التي كان.. ولكن لم تشبعهما رجل آخر فيها إلى جوارك. يلتهمك بعينين

ليلة حب كاملة، في تلك اللحظة التي كان فيها ستزورينها في شهر الحديث يدور حول المدن التي

العسل، وكنت أنا أشيgعك بصمت، لسفرك األخير عن..قلبي

لقد كانت تلك هزيمتك األولى معي.. انتهى كل شيءF، أكان هذا اللقاء يستحق كل إذن. ها أنا قابلتك أخيرا

ذلك االنتظار، كل ذلك األلم؟

كان حلمي به جميالF! وكم هو اليوم مدهش كم وكم هو ومسطgح في واقعه! كم كان مليئاF بانتظارك،

!فارغ.. موجع بحضورك

Page 350: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أكانت نصف النظرة التي تبادلناها بين نظرتين،تستحق كل ذلك الوجع، كل ذلك الشوق والجنون؟

،Fوتتلعثم الكلمات.. تتلعثم تريدين أن تقولي لي شيا .النظرات

.. ولم أعد gلقد نسيت عيناك الحديث إلي gأعرف فك .رموزك الهيروغليفية

ندري؟ فهل عدنا يومها إلى مرتبة الغرباء، دون أن..افترقنا

قبلتان أخيرتان على وجنتيك. نظرة.. نظرتان.. وكثير.التمثيل، وألم سري صامت من

.األخير تبادلنا جميعاF كلمات المجاملة والتهاني والشكر

تبادلنا عناويننا، بعدما أصرg زوجك على أن يعطيني البيت وفي المكتب في حالة ما احتجت رقم هاتفه في

.إلى شيء

.المسبق وانصرفنا كل بوهمه.. وقراره

عندما عدت إلى البيت بعد ذلك، نظرت طويالF إلى تلكسها طوال الطريق بشيء من البطاقة التي كنت gأتحس

الذهول.. ومذاق ساخر للمرارة. وكأنك انتقلت معها.قلبي إلى جيبي تحت اسم ورقم هاتفي جديد من

رت ودون كثير من التردد.. أو التعمgق gفي التفكير، قر قها فوراF، مادمت أملك القدرة على ذلك، gأن أمز

أن ينتهي كل شيء هنا في ومادمت مصمماF على قسنطينة.. كما أردتx يوماF، وكما أصبحت أريد أنا

.اليوم

***

هاتفك ما الذي كنت تريدينه ذلك المساء؟ عندما جاء

Page 351: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

فجأة ليخرجني من دوامة أفكاري وأحاسيسيالمتناقضة؟

الهاتف وقال: "هناك امرأة تريد حين مدg حسان نحوي.أنتx أن تتحدث إليك.." توقgعت كل شيء إال أن تكوني

:سألتكx بدهشة

ألم تسافري بعد؟-

xقلت:

بعد ساعة.. أردت أن أشكرك على اللوحة.. سنسافر- ..لقد وهبتني سعادة لم أتوقgعها

:لكx قلت

أنا لم أهبك شيئاF.. لقد أعدت لكx لوحة كانت جاهزة- وعشرين سنة.. إنها هدية قدرنا الذي لكx منذ خمس

تعجبك، تقاطع يوماF. وأما أنا فلي هدية أخرى أتوقع أن..سأقدمها لك ذات يوم فيما بعد

أحد قلتx بصوت خافت وكأنك تخافين أن يسترق:السمع إليك أو يسرق منكx تلك الهدية

ستهديني؟ ماذا-

:قلت

.إنها مفاجأة.. لنفترض أنني سأهبك غزالة-

xمدهوشة قلت:

!إنه عنوان كتاب-

:قلت

Page 352: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

-Fعندما نحب فتاة نهبها. أدري.. ألنني سأهبك كتابا اسمنا. عندما نحب امرأة نهبها طفالF. وعندما نحب

.نهبها كتاباF. سأكتب من أجلك رواية.. كاتبة

واالرتباك.. أحسست في صوتك بشيء من الفرح شيء من الدهشة والحزن الغامض. ثم قلتx فجأة

:منك بنبرة عشقية لم أعهدها

خالد.. أحبك.. أتدري هذا؟-

وحزني، ونبقى وانقطع صوتك فجأة، ليتوحد بصمتي هكذا لحظات دون كالم. قبل أن تضيفي بشيء من

:الرجاء

قل شيئاF.. لماذا ال تجيب؟.. خالد-

:قلت لك بشي من السخرية المرة

..األزهار لم يعد يجيب ألن رصيف-

هل تعني أنك لم تعد تحبني؟-

:غائب أجبتك بصوت

أنا ال أعني شيئاF بالتحديد.. إنه عنوان لرواية أخرى- !نفسه للكاتب

ماذا قلت لك بعدها، ال أذكر. من األرجح أن يكون هذااعة، ونفترق لعدة آخر ما قلته لك gقبل أن أضع السم

.سنوات

***

".هنا ال تطرقي الباب كل هذا الطرق.. فم أعد"

Page 353: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ال تحاولي أن تعودي إليg من األبواب الخلفية، ومن وثنايا األحالم المطويgة، ومن الشبابيك ثقوب الذاكرة،

.التي أشرعتها العواصف

..تحاولي ال

فأنا غادرت ذاكرتي. يوم وقعت على اكتشاف مذهل: لي، وإنما كانت ذاكرة مشتركة لم تكن تلك الذاكرة

أتقاسمها معك. ذاكرة يحمل كل منا نسخة منها حتى.نلتقي قبل أن

ال تطرقي الباب كل هذا الطرق سيدتي.. فلم يعد لي.باب

تخلgت عني الجدران يوم تخلgيت عنك، وانهار لقدب أشيائي gوأنا أحاول أن أهر gالمبعثرة السقف علي

.بعدك

.فال تدوري هكذا حول بيت كان بيتي

تدخلين منها كسارقة. لقد سرقت ال تبحثي عن نافذةgي، ولم يعد هناك من شيء يستحقgشيء من gكل

.المغامرة

..ال تطرقي الباب كلg هذا الطرق الموجع

الذاكرة الفارغة دونك، ويأتي هاتفك يدقg في كهوفFومخيفا Fالصدى موجعا.

الوادي بعدك، كما يسكن أال تدرين أنني أسكن هذاالحصى جوف "وادي الرمال"؟

لي سيدتي gإذن تمه..

ين على جسور قسنطينة. فأية زلة gلي وأنت تمر gتمه الحجارة. وأي سهو منك قدم سترميني بسيل� من

.سيرميك هنا عندي لتتحطمي معي

Page 354: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ثياب أمي.. في عطر أمي وفي يا امرأة متنكgرة فيgخوف أمي علي..

أنا مثلها بين متعب أنا.. كجسور قسنطينة. معلgق.صخرتين وبين رصيفين

األمهات أنت، فلماذا كل هذا األلم..؟ ولماذا.. أكذبوأحمق العشاق أنا؟

أنا ال.. ال تطرقي أبواب قسنطينة الواحد بعد اآلخر.أسكن هذه المدينة.. إنها هي التي تسكنني

هي لم تحملني مرة.. ال تبحثي عني فوق جسورها،.وحدي أنا حملتها

بخبر� قديم _جديد، ال تسألي أغانيها عنgي، وتأتني الهثة..وأغنية كانت تغنgى للحزن فصارت تغنgى لألفراح

العرب قالوا *** ما نعطيو» صالح وال مال�و قالوا".."باي البايات قالوا العرب هيهات *** ما نعطيو» صالح

أعرف عن ظهر قلب ما قاله العرب، وما لم يجرؤوا.قوله اليوم على

وأدري.. كان "صالح" ثوب حدادك األول حتى قبل أن قسنطينة.. وكنت أنا وصيgته تولدي. كان آخر بايات

األخيرة: "يا حمودة.. آخ يا وليدي تها الله لي في..".الدار.. آه.. آه

أي دار يا صالح.. أي دار توصيني بها؟

سوق العصر( وشاهدت دارك فارغة من )لقد زرت .ذاكرتها. سرقوا حتى أحجارها، وشبابيكها الحديدية

Fت واقفة، هيكالgبوا ممراتها وعبثوا بنقوشها.. وظل gخر F يبول الصعاليك ا gوالسكارى على جدرانه مصفر.

Page 355: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

أيg وطن هذا الذي يبول على ذكرته يا صالح؟

وطن هذا؟ أي

ها هي ذي مدينة تلبس حداد رجل لم تعد تذكر اسمه...ال أحد يعرف قرابتها بهذه الجسور وها أنت ذي طفلة

وجهك فانزعي "ماليتك" بعد اليوم.. وارفعي عن..الخمار، وال تطرقي الباب كل هذا الطرق

.أنا فلم يعد صالح هنا.. وال

..افترقنا إذن

..الذين قالوا الحب وحده ال يموت، أخطأوا كتبوا لنا قصص حب بنهايات جميلة، ليوهمونا والذين

يفهمون أن مجنون ليلى محض استثناء عاطفي.. ال.شيئاF في قوانين القلب

Fكتبوا لنا أدبا ،Fفقط إنهم لم يكتبوا حبا

العشق ال يولد إال في وسط حقول األلغام، وفي انتصاره دائماF في المناطق المحظورة. ولذا ليس

..النهايات الرصينة الجميلة

!الخراب الجميل فقط إنه يموت كما يولد.. في

..افترقنا إذن

البراكين، ويا فيا خرابي الجميل سالماF. يا وردةFياسمينة نبتت على حرائقي سالما.

األرضية! لقد كان خرابك يا ابنة الزالزل والشروخ..األجمل سيدتي، لقد كان خرابك األفظع

Page 356: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F بأكمله داخلي، تسللت حتى دهاليز ذاكرتي، قتلت وطنا..فقط نسفت كل شيء بعود ثقاب واحد

!من علgمكx اللعب بشظايا الذاكرة؟ أجيبي

أيضاF_ بكل هذه األمواج _من أين أتيت هذه المرة المحرقة من النار. من أين أتيت بكل ما تال ذلك اليوم

دمار؟ من

..افترقنا إذن

كنتx لم تكوني كاذبة معي.. وال كنتx صادقة حقاF. الxابنتي.. وال كنت xال كنت .Fخائنة حقا xعاشقة.. وال كنت

Fأمي حقا.

.فقط كهذا الوطن.. يحمل مع كل شيء ضده كنت

أتذكرين؟

في ذلك الزمن األول، يوم كنت في ذلك الزمن البعيد،.تحبينني وتبحثين فيg عن نسخة أخرى ألبيك

:مرة قلت

انتظرتك طويالF.. انتظرتك كثيراF، كما ننتظر األولياء- ننتظر األنبياء.. ال تكن نبياF مزيفاF يا الصالحين.. كما

!خالد.. أنا في حاجة إليك

وقتها أنكx لم تقولي أنا أحبك. قلتx فقط "أنا الحظت"..في حاجة إليك

بالضرورة األنبياء. نحن في حاجة إليهم نحن ال نحب.فقط.. في كل األزمنة

:أجبتك

Page 357: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

-Fأنا لم أختر أن أكون نبيا..

:قلت مازحة

!رسالتهم، إنهم يؤدgونها فقط األنبياء ال يختارون-

xأجبتك:

-Fتهم أيضاgوال يختارون رعي .xولذا لو حدث واكتشفت أنني نبيg مزيgف.. قد يكون ذلك ألنني بعثت لرعية

!الردgة تحترف

:ضحكت.. وبعناد أنثى يغريها التحدgي قلت

لفشلك المحتمل معي، أليس أنت تبحث عن مخرج- ..كذلك؟

لن أمنحك مبرراF كهذا. هات وصاياك العشر وأنا.أطبقها

نظرت إليك طويالF يومها. كنت أجمل من أن تطبgقي أن تحملي ثقل التعاليم وصايا نبي، أضعف من

السماوية. ولكن كان فيك نور داخلي لم أشهده في..بذرة نقاء لم أكن أريد أن أتجاهلها.. امرأة قبلك

فينا؟ أليس دور األنبياء البحث عن بذور الخير

:قلت

دعي الوصايا العشر جانباF واسمعيني.. لقد جئتك- ..الحادية عشرة فقط بالوصية

:ضحكت وقلت بشيء من الصدق

النبي المفلس.. أقسم أنني هات ما عندك أيها- !سأتبعك

وأقول. لحظتها شعرت برغبة في أن أستغلg قسمك

Page 358: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

لك: "كوني لي فقط.." ولكن لم يكن ذلك كالم نبي. أمثgل أمامك الدور الذي وكنت دون أن أدري قد بدأت

اخترته لي.. فرحت أبحث في ذهني عن شيء يمكن:يباشر وظيفته ألول مرة.. قلت أن يقوله نبي

بالضرورة احملي هذا االسم بكبرياء أكبر.. ليس- بغرور، ولكن بوعي عميق أنك أكثر من امرأة. أنت

ليس من حق الرموز أن وطن بأكمله.. هل تعين هذا؟م.. هذا زمن حقير، إذا لم ننحز فيه إلى القيم gتتهش

في خانة القاذورات والمزابل. ال تنحازي سنجد أنفسنا ضميرك.. لشيء سوى المبادئ.. ال تجاملي أحداF سوى

!ألنك في النهاية ال تعيشين مع سواه

:قلت

!فقط؟.. أهذه وصيتك لي-

:قلت

ال تستهيني بها.. إن تطبيقها ليس سهالF كما- ..ستكتشفين ذلك بنفسك ذات يوم.. تتوهgمين

كان ال بد أال تسخري يومها من وصية ذلك النبي..!المفلس.. وتستسهليها إلى هذا الحد

ت ستg سنوات على ذلك gالسفر. على ذلك اللقاء، مر .ذلك الوداع

حاولت منذ. حاولت خاللها أن ألملم جرحي وأنسى عودتي، أن أضع شيئاF من الترتيب في قلبي. أن أعيد

األول، دون ضجيج وال تذمgر، دون األشياء على مكانها أن أكسر مزهرية، دون أن أغيgر مكان لوحة، وال مكان

القيم القديمة التي تكدgس الغبار عليها داخلي منذ.زمن

Page 359: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

إلى الوراء، دون حقد وال حاولت أن أعيد الزمانFغفران أيضا.

يجعلنا بسعادة ال.. نحن ال نغفر بهذه السهولة لمن عابرة، نكتشف كم كنا تعساء قبله. ونغفر أقل، لمن

.دون أدنى شعور بالجريمة يقتل أحالمنا أمامنا

.ولذا لم أغفر لك.. وال لهم

أتعامل معك ومع الوطن بعشق أقل. حاولت فقط أن.واخترت الالمباالة عاطفة واحدة نحوكما

يحدث ألخبارك أن تصلني عن طريق المصادفة، كان صعوده وأنا أستمع إلى من يتحدث عن زوجك، عن

المستمر.. وعن صفقاته وشؤونه السرية والعلنية.المجالس التي تشغل أحاديث

وكان يحدث ألخبار الوطن أن تأتيني أيضاF تارة في مجالس أخرى. وتارة عندما زارني جريدة، وتارة في

حسان بعد ذلك آلخر مرة ليشتري تلك السيارة التي..وعدته بها

وكل مرة، كنت أواجه كل ما أسمعه بالالمباالة نفسها.أن يولgدها سوى اليأس األخير التي ال يمكن

بدأت أتعلgق بحسان فقط، وكأنني اكتشفت فجأة وجوده. أصبح أمره وحده يهمني بعدما وعيت أنه كل ما

ى لي في هذا العالم، وبعدما gاكتشفت تلك الحياة تبق البائسة التي كان يعيشها، والتي كنت أجهل كل شيء

.إلى قسنطينة عنها قبل زيارتي

أصبحت أطلبه هاتفياF بانتظام. أسأله عن أخباره وعن وعن البيت الذي كان ينوي أن يقوم فيه ببعض األوالد،

ل gبمصاريف ترميمه اإلصالحات، والذي وعدته أن أتكف .وتجديده

Page 360: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كانت معنوياته تنخفض وترتفع من هاتف إلى آخر. كان يحدثني تارة عن بعض مشاريعه، وعن بعض االتصاالت

العاصمة.. ثم يعود ويفقد التي يقوم بها ليتم نقله إلى.فجأة حماسه

:مكالمته كنت أعرف ذلك عندما يسألني في آخر

متى ستأتي يا خالد؟-

إشارة ضوئية أشعر عندئذ� أنه باخرة تغرق، وتبعث.تطلب النجدة مني

وبرغم ذلك، كنت أسايره فقط، وأعده كل مرة أنني قد أزوره في الصيف القادم. وكنت أعرف في الوطن أعماقي أنني أكذب، وأنني قطعت الجسور مع

.حتى إشعار آخر

في الواقع، أصبحت عندي قناعة بانعدام األمل. كان القطار يسير في االتجاه المعاكس، وبسرعة لم يكن

شيء، غير الذهول ممكناF معها أن نفعل شيئاF.. أي.وانتظار كارثة االصطدام

أن أدري في وكنت أحزم حقائب القلب.. وأمضي دون.اتجاه� آخر أيضاF، في االتجاه المعاكس للوطن

بالنسيان. أصنع من المنفى وطناF رحت أؤثث غربتي.فيه آخر لي، وطناF ربما أبدياF، عليg أن أتعود العيش

بدأت أتصالح مع األشياء. أقمت عالقات طبيعية مع نهر ميرابو.. مع كل المعالم التي كانت السين.. مع جسر

معاداة تقابلني من تلك النافذة، والتي كنت أعيش في.لها دون سبب

اخترت لي أكثر من عشيقة عابرة. أثثت سريري الجنونية.. بنساء كنت أدهشهن كل مرة أكثر، بالملذgات

منكx في وأقتلك بهن كل مرة أكثر، حتى لم يبق شيء.النهاية

Page 361: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

فه وحماقاته gنسي هذا الجسد شوقه لك، نسي تطر .لذة ما عدا لذgتك الوهمية وإضرابه عن كل

.األولى تعمدت أن أفرغ النساء من رموزهن

من قال إن هناك امرأة منفى، وامرأة وطناF، فقد..كذب

مساحة للنساء خارج الجسد. والذاكرة ليست الطريق ال طريق واحد ال الذي يؤدي إليهن. في الواقع هنالك

!أكثر.. يمكنني أن أجزم اليوم بهذا

FF ال بد أن ..أقوله لك اليوم اكتشفت شيئا

الرغبة محض قضية ذهنية. ممارسة خيالية ال أكثر. لحظة جنون نقع فيها عبيداF لشخص واحد، وهم نخلقه

عالقة ونحكم عليه بالروعة المطلقة لسبب غامض ال.له بالمنطق

رغبة تولد هكذا من شيء مجهول، قد يعيدنا إلى ذكرى..لعطر رائحة أخرى.. لكلمة، لوجه آخر.. أخرى

الجسد، من رغبة جنونية تولد في مكان آخر خارج الذاكرة أو ربما من الالشعور، من أشياء غامضة

وإذا بك األروع، وإذا بك تسللت إليها أنتx ذات يوم،xاألشهى، وإذا كل النساء أنت.

تلقائياF يوم قتلت قسنطينة في أفهمت لماذا قتلتكداخلي؟

.سريري ولم أعجب يومها وأنا أرى جثتك ممدة في

.لم تكونا في النهاية سوى امرأة واحدة

هذا الكتاب إذن؟ وسأجيبك ستقولين: لماذا كتبت لي أنني أستعير طقوسك في القتل فقط، وأنني قررت

Page 362: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.كتاب ال غير أن أدفنك في

فهناك جثث يجب أال نحتفظ بها في قلبنا. فللحب بعد كريهة أيضاF، خاصة عندما يأخذ ب�ع»د الموت، رائحة

.الجريمة

واحدة في هذا الحظي أنني لم أذكر اسمك مرة الكتاب. قررت هكذا أن أتركك بال اسم. هنالك أسماء ال

.الذكر تستحق

لنفترض أنك امرأة كان اسمها "حياة"، وربما كان لهااسمك حقاF؟ اسم آخر.. فهل مهم

وحدها أسماء الشهداء غير قابلة للتزوير، ألن من نذكرهم بأسمائهم كاملة. كما من حق حقهم علينا أن

هذا الوطن علينا أن نفضح من خانوه، وبنوا مجدهم على دماره، وثروتهم على بؤسه، مادام ال يوجد هناك

.من يحاسبهم

إشاعة ما إن هذا الكتاب لك. أؤكد لك وأدري.. ستقول.سيدتي تلك اإلشاعة

اد يمارسون gعن أشياء أخرى، سيقول نق Fالنقد تعويضا إن هذا الكتاب ليس رواية، وإنما هذيان رجل ال علم له

.بمقاييس األدب

أؤكد لهم مسبقاF جهلي، واحتقاري لمقاييسهم. فال سوى مقياس األلم، وال طموح لي سوى مقياس عندي

، وأن أبكيك أنت، لحظة تنتهين من xأن أدهشك أنت ..قراءة هذا الكتاب

.فهناك أشياء لم أقلها لك بعد

وأحرقي ما في خزانتك من كتب�.. اقرئي هذا الكتاب.العشاق ألنصاف الكتاب، وأنصاف الرجال، وأنصاف

من الجرح وحده يولد األدب. فليذهب إلى الجحيم كل

Page 363: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

ل، دون أن ينزفوا.. دون أن يفقدوا الذين أحبوك gبتعق ..وزنهم وال اتزانهم

حيني بشيء gحين ألبوم تصف gمن الخجل.. كما تتصف xة، لطفلة كانت أنت gصور مصفر.

ضة كما تطالعين gلمفردات قديمة معر Fقاموسا .لالنقراض والموت

،Fسريا Fفي كما تقرأين منشورا Fعثرت عليه يوما .صندوق بريدك

.افتحي قلبك.. واقرأيني

Fأريد أن أحدثك عن سي الطاهر وعن زياد كنت يوما .وعن آخرين.. عن كل ما كنت تجهلين

مات حسان.. ولم يعد اليوم وقت للحديث عن ولكن.شهيد الشهداء.. أصبح كل واحد منا مشروع

يحزنني أال أهبك غزالة. "الغزالن ال تكون غزالناF إال حيgة". ولم يبق لي ما يمكن أن أهديكx عندما تكون

.اليوم

الواحد بعد اآلخر، لقد أخذت مني كل من أحببت، بطريقة أو بأخرى. وتحول القلب إلى مقبرة جماعية

ا( ينام فيها دون gترتيب كل من أحببت. وكأن قبر )أم Fقد اتسع ليضمهم جميعا.

شاهد قبر لسي الطاهر.. لزياد ولم أعد أنا سوى.ولحسان. شاهد قبر للذاكرة

حماقة القدر، الكثير عن ظلمه كنت أدري الكثير عن.وعن عناده، عندما يصرg على مالحقة أحد

أكان يمكن لي أن أتوقع أن شيئاF كذلك يمكن أن ولكنيحدث؟

Page 364: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

القدر األحمق ما فيه كنت اعتقد أنني دفعت لهذا الكفاية، وأنه حان لي بعد هذا العمر، وتلك السنوات

F التي تلت .فجيعة زياد، وفجيعة زواجك، أن أرتاح أخيرا

أخي، أخي الذي لم فكيف عاد القدر اليوم ليأخذ مني يكن لموته من منطق. ال كان في جبهة، وال كان في

ميتة سي الطاهر، وميتة زياد، رمياF ساحة قتال ليموتFبالرصاص.. أيضا.

***

، جاء خبر موته هكذا صاعقة88ذات يوم من أكتوبر يحملها خط هاتفي مشوش، وصوت عتيقة الذي تخفيه

.الدموع

وتردد اسمي، وأنا أسألها ظلت تجهش بالبكاءFمفجوعا:

"واش صار..؟- "

ت البالد، والتي كنت على علم بتلك gاألحداث التي هز بنقلها كانت الجرائد ونشرات األخبار الفرنسية تتسابق

.مصور، مفصلة، مطوgلة، باهتمام ال يخلو من الشماتة وأدري أنها مازالت وهي في كنت أعرف تفاصيلها،

يومها الثاني مقتصرة على العاصمة. فمن أين لي أنالذي حدث؟ أتوقgع

Fعاgكان صوت عتيقة يردد مقط:

..قتلوه قتلوه.. آ خالد.. يا وخيدتي-

Fوصوتي يردد مذهوال:

كيفاش.. كيفاش قتلوه؟-

Page 365: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

حسان؟ كيف مات

Fهل مهم السؤال، وموته كان أحمق كحياته، ساذجا .كأحالمه

كل الجرائد ألفهم كيف مات أخي، بين الحلم أقرأ.والحلم.. بين الوهم والوهم

الذي ذهب به إلى العاصمة ليقابل "جماعة" هناك، ما.نادراF هو الذي لم يزر العاصمة إال

.ذهب هكذا في نهاية أسبوع.. ليبحث عن نهايته

قسنطينة، ولم توصله جسورها الكثيرة إلى ضاقت به.شيء

خيوط". ستوصلك "قالوا له: "في العاصمة ستكون لك!".الطرق القصيرة هناك.. ولن توصلك الجسور هنا

وذهب إلى العاصمة ليقابل "فالناF" من صدgق حسان،..قبل "فالن" آخر

قضيته أخيراF هذه المرة، بعد عدة وكان مقرراF أن تحل سنوات من الوساطات والتدخالت، ويغادر نهائياF سلك

التعليم، لينتقل إلى العاصمة ويعيgن موظفاF في.مؤسسة إعالمية

.الذي حسم "ملفه" هذه المرة ولكن القدر هو

بين "فالن" و "فالن" مات حسان، خطأ برصاصة.خاطئة، على رصيف الحلم

فالحلم ليس في متناول الجميع أخي.. كان عليك أال!تحلم

أحقاF "إن الشقاء يعرف كيف يختار صفاته" ولهذا كل هذه الفجائع المذهلة، اختارني أنا، واختار لي

Page 366: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.ألنفرد بها وحدي

..أهبك غزالة أنا الذي لم أكن أحلم سوى بأن

كيف لي أن أفعل ذلك.. وأنت تهبينني كل هذا الدمار..الخراب؟ كل هذا

***

.البال ويعود فجأة، حديث قديم بيننا إلى

ت عليه اليوم ست سنوات. في ذلك الزمن gحديث مر شبهاF بيني وبين "زوربا". الرجل الذي كنت تجدين فيه

الذي أحببته األكثر حسب تعبيرك، والذي كنتx تحلمين.بكتابة رواية كروايته، أو حب رجل مثله

كتلك، اكتفيت ترى ألنك كنت عاجزة عن كتابة رواية بتحويلي إلى نسخة منه، وجعلتني مثله أتعلم أن

..أحبها بأكلها حتى التقيؤ أشفى من األشياء التي

جعلتني أعشق الخراب الجميل، وأتعلم كطائر يذبح أن..أرقص من ألمي

Fثتني عنه يوماgها هوذا الخراب الجميل، الذي حد :لم يثر شكوكي، يوم قلتx بحماس� مدهش

مدهش أن يصل اإلنسان بفجائعه حد الرقص. إنه تميز" في الخيبات والهزائم أيضاF. فليست كل الهزائم في

أحالم فوق العادة، متناول الجميع. ال بد أن تكون لك وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك

..".الطريقة إلى ضدها بهذه

!آه سيدتي لو تدرين

الخراب الذي كم كانت أحالمي كبيرة. وما أفظع هذا

Page 367: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

!تتسابق قنوات التلفزيون على نقله اليوم

وما أحزن جثة أخي الملقاة على ما أفظع هذا الدمار،!رصيف، يخترقها رصاص طائش

تنتظرني اآلن في ثالجة الموتى ما أحزن جثته، وهي.ألتعرف عليه، وأرافقه جثماناF إلى قسنطينة

..هي ذي قسنطينة مرة أخرى ها تلك األم الطاغية التي تتربص بأوالدها، والتي أقسمت

.تعيدنا إليها ولو جثة أن

ها هي قد هزمتنا، وأعادتنا إليها معاF. في تلك اللحظة التي اعتقدنا فيها أننا شفينا منها، وقطعنا معها صلة

.الرحم

سيغادرها إلى العاصمة.. وال أنا سأقدر على ال حسان..الهرب منها بعد اليوم

..نعود إليها معاF ها نحن

.أحدنا في تابوت.. واآلخر أشالء رجل

gأيتها الصخرة.. أيتها األم الصخرة وقع حكمك علي..

افسحي.. فأشرعي مقابرك، وانتظريني. سآتيك بأخي له مكاناF صغيراF جوار أوليائك الصالحين، وشهدائك،

.على طريقته وباياتك.. كان حسان كل هذا

Fكان غزاال..

جي على gكل هذا في انتظار ذلك.. تعالي سيدتي وتفر !الخراب الجميل

فبعد قليل سيحضر زوربا ليمسك بكتفي ولنبدأ الرقصFمعا.

Page 368: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..تعالي

ال بد أال تخلفي هذا المشهد، سترين كيف يرقص.عندما يفلسون حقاF األنبياء

تعالي.. سأرقص اليوم كما لم أرقص يوماF، كما..أرقص في عرسك ولم أفعل اشتهيت أن

سأقفز وكأن جناحين» قد التصقا بقدمي فجأة، وكأن.ذراعي المفقودة قد نبتت من جديد لتصبح ذراعي

أشاركه يوماF في تعالي.. وليعذرني أبي الذي لم".طقوس "عيساوة

في حفل جذبه ورقصه الجنوني، وغرسه ذلك السفود جسده من طرف إلى آخر.. بنشوة األلم الذي في

.يجاور اللذة

وليس لأللم وطن على للحزن أكثر من طقس،!الصالحون التحديد. فليعذرني األنبياء واألولياء

ليعذروني جميعا. ال أدري ماذا يفعل األنبياء بالتحديديحزنون، ماذا يفعلون في زمن الردgة؟ عندما

هل يبكون أم يصلون؟

أرقص. الرقص تواصل أيضاF. الرقص أنا قررت أنFعبادة أيضا..

.واحدة سأرقص لك فانظر أيها األعظم.. بذراع

ما أصعب الرقص بذراع� واحدة يا ربي! ما أبشع الرقص

..واحدة يا ربي! ولكن بذراع�

.ستعذرني أنت الذي أخذت ذراعي األخرى

.أنت الذي أخذتهم جميعاF.. ستعذرني

Page 369: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F !ستعذرني.. ألنك ستأخذني أيضا

مصاب حقاF؟.. أن ترى تلك مقولة خلقت هل المؤمن امتالك لتعلمنا الصبر فقط، لتبيعنا بدل مصائبنا فرح

شهادة بالتقوى؟

..فليكن

ي�حمد على مكروه شكراF لك أيها األعظم، أنت الذي ال.سواه

..أنت الذي ال تخصg بمصابك سوى المؤمنين من عبادك.واألتقياء منهم

!اعترف أنني لم أكن احلم بشهادة حسن سلوك كهذه

.منك سيدتي وأمتلئ لحناF يونانياF أفرغ

تتقدم موسيقى "زوربا" نحوي، دعوة للجنون.المتطرف

تأتي على شريط تعودت االستماع إليه بمتعة غامضة. القادم اليوم وسط الخراب والجثث، وإذا بذلك اللحن

.يأخذ فجأة ب�عده األول الحقيقي

فجأة من أريكتي وهو يفاجئني، وأصرخ كما فأنتفض..".الرقص في تلك القصة "هيا زوربا.. دربني على

ها هوذا "الخراب الجميل" الذي جعلتنا نشتهيه. لم أكن يكون بشعاF إلى هذا الحد.. موجعاF إلى هذا أعتقد أن

!الجد

نحوي. وتخترقني نغمة.. تزحف موسيقى تيودراكيسFجرحا ..Fنغمة. جرحا.

.بكاء بطيئة.. ثم سريعة كنوبة

Page 370: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.خجولة.. ثم جريئة كلحظة رجاء

.أمام كأس حزينة.. ثم نشوى كتقلبات شاعر

.مترددة.. ثم واثقة كأقدام عسكر

في غرفة شاسعة، فأستسلم لها. أرقص كمجنون.تؤثثها اللوحات والجسور

الصخرة وأقف أنا وسطها وكأنني أقف على تلك الشاهقة، لرقص وسط الخراب، بينما جسور قسنطينة

.حجارة نحو الوديان الخمسة تتحطم وتتدحرج أمامي

!إيه زوربا

وكانت تحبك أنت. تزوجت تلك المرأة التي كنت أحبها، وكنت أريد أن أجعلها نسخة مني، فجعلتني نسخة

.منك

زياد.. ذلك الصديق الذي اشترى هذا الشريط ومات ألنه كان ألنه ربما كان يحبك أيضا من اجلها، وربما

يتوقع لي يوماF كهذا، ويعد لي على طريقته كل.القادم تفاصيل حزني

اه هدية منها.. وورثته أنا في جملة ما gوربما يكون تلق .أحزان أورثني من

ومات حسان.. أخي الذي لم يكن يهتم كثيراF باإلغريق،.اليونانية وباآللهة

.كان له إله واحد فقط، وبعض األسطورات القديمة سوى الفرقاني.. وأم كلثوم.. وصوت مات وال حب له

.عبد الباسط عبد الصمد

الحصول على جواز سفر للحج.. وال حلم له سوى.وثالجة

Page 371: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

F. لقد أهداه الوطن لقد تحققت نصف أحالمه أخيرا ثالجة ينتظرني فيها بهدوء كعادته، ألشيعه هذه المرة

.األخير إلى مثواه

.لو عرفك، ربما لم يكن ليموت تلك الميتة الحمقاء

بتمعgن، لما نظر إلى قاتليه بكل االنبهار، لما لو قرأك..أجمل حلم بمنصب في العاصمة، بسيارة وبيت

لبصق في وجه قاتليه مسبقاF.. لشتمهم كما لم يشتم:يصافحهم في ذلك العرس، لقال أحداF، لرفض أن

ادون.. السراقون.. القتلة. لن- " gتسرقوا دمنا أيها القو أيضاF. امألوا جيوبكم بما شئتم. أثثوا بيوتكم بما شئتم..

بأية عملة شئتم.. سيبقى لنا الدم وحساباتكم والذاكرة. بهما سنحاسبكم.. بهما سنطاردكم.. بهما

".سنعمgر هذا الوطن.. من جديد

F أيضاF آه زوربا.. مات زياد وها هوذا حسان يموت .غدرا

.آه لو تدري يا صديقي، لم يكن أحدهما ليستحق الموت

حسان نقياF كزئبق، وطيباF حد السذاجة. كان يخاف كان.قتلوه حتى أن يحلم، وعندما بدأ يحلم

وكان زياد.. آه كان يشبهك بعض الشيء. لو رأيت يتحدث.. يكفر.. يلعن.. يبكي.. ضحكته، لو سمعته

يسكر.. لو عرفتهما، لرقصت.. حزناF عليهما الليلة كما.لم ترقص من قبل

ولكن ال يهم.. أدري بأنك أنت أيضاF لن تحضر الليلة.، كما في تلك الرواية، بعد أن لعنت ربما gألنك مت

قبل الكاهن الذي جاء ليناولك القربان المقدس..الموت

أو ربما ألنك لم توجد يوماF أبداF على هذه األرض. ألنك لزمن كان الناس يبحثون فيه عن خرافة بطل خرافي

Page 372: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

كهذه. عن آلهة إغريقية جديدة، تعلgمهم الجنون.والتحدي.. وعبثية الحياة

جميعاF؟ فهل مهم أن تتغيب الليلة، كما تغيبوا

لن أعتب عليك يا صديقي. أنت لست مسؤوالF في أن يرتكب من حماقات بسبب النهاية عن كل ما يمكن

!رواية

ولكن أجبني فقط.. أنت الذي قتلت من األتراك، وقتلوا من رفاقك الكثيرين. هل هناك من فرق بين

القتلة؟

سي الطاهر.. وعلى يد على يد الفرنسيين مات اإلسرائيليين مات زياد.. وها هو حسان يموت على يد

.اليوم الجزائريين

فهل هناك درجات في االستشهاد؟ وماذا لو كانمعاF؟ الوطن هو القاتل والشهيد

فكم من مدينة عربية دخلت التاريخ بمذابحها الجماعية،!على مقابرها السرية ومازالت مغلقة

كم من مدينة عربية أصبح سكانها شهداء.. قبل أن!مواطنين يصبحوا

فأين تضع كل هؤالء.. في خانة ضحايا التاريخ، أم فيالشهداء؟ خانة

!وما اسم الموت عندما يكون بخنجر عربي

***

:صاحت ما كادت كاترين تراني في ذلك الصباح حتى

Page 373: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

!إن لك وجه رجل يستيقظ من ليلة سكر-

:والتلميح الواضح ثم أضافت بشيء من السخرية

الحالة؟ ماذا فعلت أمس أيها الشقي، لتكون في هذه-

:قلت

!ال شيء.. ربما لم أنم فقط-

على الصالون، وتبحث بفضول قالت وهي تلقي نظرة امرأة عن آثار تدلها على نوعية من قضيت معهم

:السهرة

هل استقبلت أصدقاء أمس؟-

.أجيبها: نعم ابتسمت لسؤالها، شعرت برغبة في أن

يحدث للحزن عندما يجاور الجنون، أن يبدأ هكذا في..نفسه السخرية من

:واصلwت»»

وهل قضوا الليلة هنا؟-

:قلت

..رحلوا.. ال-

:أضفت� بعد شيء من الصمت

!دائماF أصدقائي يرحلون-

وربما لم يقنعها كالمي، أو زاد في فضولها فقط. البحث وسط فوضى الغرفة، فراحت تواصل بعينيها

.والحقيبتين المفتوحتين في الصالون عن شيء ما

Page 374: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

هكذا دائما: ال يرين أبعد من أجسادهن، ولذا لم النساء زياد وحسان يكن في إمكان كاترين أن تكتشف آثار

.وزوربا.. في ذلك البيت

Fتعيش على في الحقيقة.. لقد كانت كاترين دائما .هامش حزني

وال ربما اقتنعت دون كثير من الكالم أنني أستيقظ من.حب ليلة

سألتني وكأنها ال تجد فجأة مبرراF لوجودها عندي في:تلك اللحظة

لماذا طلبتني على عجل؟-

:قلت

..ألسباب كثيرة-

:فجأة ثم أضفت

كاترين.. هل تحبين الجسور؟-

:التعجب قالت بنبرة ال تخلو من

ال تقل لي إنك أحضرتني في هذا الصباح لتطرح علي- !السؤال هذا

:قلت

.ال.. ولكن أود لو أجبتني عليه-

:قالت

ال أدري.. أنا لم أسأل نفسي سؤاالF كهذا قبل اليوم.- فيها. ما عدا باريس لقد عشت دائماF في مدن ال جسور

..ربما

Page 375: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:قلت

أال تحبيها. يكفي أن ال يهم.. فأنا أفضgل في النهاية- ..تحبي رسمي

:أجابت

راهنت دائماF على انك طبعاF أحب ما ترسمه.. لقد- ..رسام استثنائي

:قلت

.اللوحات لك فليكن إذن.. كل هذه-

:صاحت

أأنت مجنون؟ كيف تهبني كل هذه اللوحات؟ إنها- Fإليها يوما gمدينتك.. قد تحن.

:قلت

بعد اليوم، أنا عائد لم يعد هناك من ضرورة للحنين- إليها. أهبها لك، ألنني أدري أنك تقدgرين الفن، وأنها

..تضيع معك لن

قالت كاترين وصوتها يأخذ نبرة جديدة لحزن وفرح:غامض

بها جميعاF.. فلم يحدث لرجل أن أهداني سأحتفظ- ..يوماF شيئاF كهذا

نظرة أخيرة على جسدها المختبئ داماF قلت وأنا ألقي:تحت األثواب الخفيفة الفضفاضة

..يحدث المرأة قبلك أن منحتني غربة أشهى ولم-

:قالت

Page 376: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

-Fوتشتاق إلى إحدى هذه اللوحات.. أخاف أن تندم يوما .اعلم أنك ستجدها دائماF عندي

:قلت

ربما سيحدث ذلك.. فنحن في جميع الحاالت نندم- ..على شيء ما

:اكتشفت جدية الموقف تقاطعني وكأنها

-Mais ce n'est pas possible .. ال يمكن أن نفترق !هكذا

أو� كاترين.. دعينا نفترق على جوع. لقد حكم علينا- من بعض تماماF.. وال نحب بعضنا التاريخ أال نشبع

تماما.. ألكثر من سبب. إنك تملكين اليوم أكثر من نسخة مني.. علgقي على جدرانك ذاكرتي، حتى ولو

Fفيها كانت ذاكرة مضادة.. لقد كنت أيضا Fطرفا!

.ال تفهم كاترين لماذا كل هذه الرموز اليوم

الحديث الغامض الذي لم أعوgدها عليه؟ ولماذا هذا

يفهم. وربما فهمت، ولكن جسدها كان يرفض أن جسدها يخرج عن الموضوع دائماF. جسدها موظف

Fبالمزيد.. يفرط في فرنسي يحتج دائما. يطالب دائما .حرية التعبير، في حرية اإلضراب

..ولكن

سآتي بالكلمات التي ستشرح لها حزني؟ من أين

أن أقول من أين سآتي بالصمت الذي سيقول لها دون شيئاF، إن حسان هناك في مدينة أخرى، ينتظرني في

.يعد لهم غيري ثالجة، وأن أوالده الستة لم كيف أشرح لها سر قدميg الباردتين، والصقيع الذي

Page 377: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

تقدمت بي الساعات، وكلما راحت يزحف نحوي كلما.العادة يداها تفتحان أزرار قميصي دون انتباه.. بحكم

..كاترين.. ليس لي شهية للحب، اعذريني- وماذا تريد إذن؟- .أريد أن تضحكي كالعادة- لماذا أضحك؟- .ألنك عاجزة عن الحزن- وأنت؟- وأنا سأنتظر أن تذهبي ألحزن. حزني مؤجل فقط-

..كالعادةلي هذا اليوم.؟ ولماذا تقول- ..ألنني متعب.. وألنني سأرحل بعد ساعات- تسافر. لقد ألغوا كل الرحالت إلى ولكن ال يمكنك أن-

..الجزار تقلع. ال بد سأذهب، وأنتظر في المطار أول طائرة-

..أن أسافر اليوم أو غدا. هناك من ينتظرني

لها: "لقد مات أخي.. أخي الوحي كان يمكن أن أقول يا كاترين.." وأجهش بالبكاء. فقد كنت في حاجة إلى

.أبكي أمام أحد يومها أن

ولكن لم أكن قادراF على ذلك معها. لعلها عقدة..فالحزن قضية شخصية، قضية أحياناF وطنية.. قديمة

أواصل ولذا احتفظت بجرحي داخلي. وقررت أن حديثي كالعادة. لعلني في يوم آخر سأخبرها بذلك.

.أكبر ولكن ليس اليوم. الصمت اليوم

.شعرت فجأة أنني أسأت للفراشات

:قلت

كانت قصتنا جميلة، أليس كذلك؟ كانت كاترين.. لقد- معقدة بعض الشيء.. ولكنها جميلة برغم ذلك. لقد

كنت المرأة التي كانت دائماF، على وشك أن تكون ما عجزت حبيبتي. وربما سينجح الفراق في تحقيق

Page 378: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..كل سنوات القرب هذه من تحقيقه

هل ستحبني عندما نفترق؟-

F. إنه منطق- ال أدري.. من المؤكد أنني سأفتقدك كثيرا من عادة. وال بد لي بعد األشياء. لقد كان لي معك أكثر

..اليوم أن أغيgر عاداتي

وهل ستعود؟-

قبل مدة طويلة.. ال بد أن أتعلم اآلن الوجه ليس- سهالF أن نجتاز اآلخر للنسيان. الغربة أمg أيضاF ليس

..الجسر الذي سيفصلنا عنها

الجسور؟ خالد.. لماذا تحيط نفسك بكل هذه-

أنا ال أحيط نفسي بها.. أنا أحملها داخلي. هناك- على جسر معلgق. جاؤوا إلى العالم أناس ولدوا هكذا

لxدوا وسط مجرى . و� تين» gبين وصيفين» وطريقين» وقار الرياح المضادة، وكبروا وهم يحاولون أن يصالحوا بين

هؤالء.. في الحقيقة األضداد داخلهم. ربما كنت من. اكتشفت أنني ال أحب الجسور. gدعيني أبوح لك بسر

كراهيتي لكل شيء له طرفان، ووجهتان، وأكرهها.اللوحات واحتماالن، وضدان. ولهذا تركت لك كل هذه

كنت أود إحراقها، راودتني هذه الفكرة. ولكن لستار في شجاعة طارق بن gزياد. ربما ألن إحراق بح

لباخرته في معركة حربية، يظلg أسهل من إحراق..للوحاته في لحظة جنون رسام

وبرغم ذلك، أريد أن أحرقها حتى أقطع على قلبي.العودة إلى الخلف طريق

ال أريد أن أقضي حياتي، وأنا أسلك هذا الجسر في.االتجاهين

..أريد أن أختار لقلبي مسقطه األخير الجالسة فوق صخرة، أريد أن أعود إلى تلك المدينة

وكأنني أفتحها من جديد. كما فتح طارق بن زياد ذلك

Page 379: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

..اسمه الجيل، ومنحه

منذ غادرتها أضعت بوصلتي. قطعت عالقتي بالتاريخ.. ووقفت سنوات على نقطة استفهام،. وبالجغرافية

.خارج خطوط الطول والعرض

يقف العدوg؟ أيهما أمامي وأيهما أين يقع البحر وأينورائي؟

أمامي وال شيء وراء البحر سوى الوطن.. وال شيء..سوى زورق الغربة.. وال شي بينهما سواي

سوى الحدود على من أعلن الحرب وال شيء حولياإلقليمية للذاكرة؟

..شيئاF نظرت إليg كاترين، ولم تفهم

FF ضحية سوء فهم وقصر نظر. لقد كانت عالقتنا دائما التقينا منذ أكثر من قرن، دون أن نعرف فافترقنا كما

دائماF بعضنا حقاF.. دون أن نحب بعضنا تماماF.. ولكن.بتلك الجاذبية الغامضة نفسها

***

xوقلت:

".هو كل ما لم يحدث الحب هو ما حدث بيننا.. واألدب"

..نعم ولكن

أخرى، ال بين ما حدث وما لم يحدث، حدثت أشياء.عالقة لها بالحب وال باألدب

سوى فنحن في النتيجة، ال نصنع في الحالتين الكلمات. ووحده الوطن يصنع األحداث. ويكتبنا كيفما

.حبره شاء.. مادمنا

غادرت الوطن في زمن لحظر التنفس.. وها أنا أعود

Page 380: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

.آخر لحظر التجول إليه مذهوالF في زمن أتذكر وأنا أواجه وحدي هذه المرة مطار تلك المدينة

بالحداد كالماF قاله حسان منذ ست سنوات الملتحفة.واضح واستوقفتني كلماته دون سبب

قال: "إن قسنطينة فرغت من أهلها األصليين. لقد".في األعراس و في المآتم أصبحوا ال يأتونها سوى

يذهلني اكتشافي.. ها أنا أصبحت إذن االبن الشرعي.لهذه المدينة التي جاءت بي مكرهاF مرتين

فما الفرق بين. مرة ألحضر عرسك.. ومرة ألدفن أخي االثنين؟ لقد مات أخي في الواقع مثلما متg أنا منذ

.العرس ذلك

..قتلتنا أحالمنا

.الكبيرة هو ألنه أصيب بعدوى األحالم الفارغة

.أحالمي وأنا ألنني غادرت وهمي.. ولبست نهائياF حداد

يسألني جمركيg عصبي في عمر االستقالل لم استوقفته ذراعي.. فراح يصرخ يستوقفه حزني وال

في وجهي، بلهجة من أقنعوه أننا نغترب فقط لنغنى،ب دائماF شيئاF ما في حقائب غربتنا وأننا gنهر..

ح أنت؟- gبماذا تصر

.جسدي ينتصب ذاكرة أمامه.. ولكن لم يقرأني كان

.أميgاF يحدث للوطن أن يصبح كان آخرون لحظتها يدخلون من األبواب الشرفيgة

.دبلوماسية بحقائب أنيقة

وكانت يداه تنبشان في حقيبة زياد المتواضعة، وتقعان األوراق.. فتكاد دمعة مكابرة بعيني على حزمة من

Page 381: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

:تجيبه لحظتها

ح بالذاكرة.. يا- gابني أصر..

ولكنني أصمت.. وأجمع مسودgات هذا الكتاب المبعثرة.أقالم.. ورؤوس أحالم في حقيبة، رؤوس

1988 باريس _ تموز

: الكتاب غالف على

الجسد( ألحالم مستغانمي، وأنا قرأت رواية )ذاكرة جالس أمام بركة السباحة في فندق سامرالند في

.بيروت بعد أن فرغت� من قراءة الرواية، خرجت» لي أحالم من

كسمكة دولفين جميلة، وشربت تحت الماء األزرقFمعي فنجان قهوة وجسدها يقط�ر ماء..

وأنا نادراF ما أدوخ أمام رواية من. روايتها دوgختنية أن النص الذي قرأته wو»خwيشبهني الروايات وسبب الد

إلى درجة التطابق، فهو مجنون، ومتوتر، واقتحامي، وشهواني.. وخارج على القانون ومتوحش، وإنساني ،

Page 382: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

مثلي. ولو أن أحداF طلب مني أن أوقع اسمي تحت الرواية اإلستثنائية المغتسلة بأمطار الشعر.. لما هذه

..ترددت لحظة واحدة

كانت أحالم مستغانمي في روايتها )تwكت�ب�ني( دون هل الورقة البيضاء، أن تدري.. لقد كانت مثلي تهجم على

gلها.. جنون� ال حد gلها.. وشراسة� ال حد gبجمالية� ال حد ...له

الرواية قصيدة مكتوبة على كل البحور.. بحر الحب، اإليديولوجية، وبحر الثورة وبحر الجنس، وبحر

الجزائرية بمناضليها ومرتزقيها، وأبطالها وقاتليها،..ومالئكتها وشياطينها، وأنبيائها وسارقيها

الجسد فحسب، ولكنها هذه الرواية ال تختصر ذاكرة تختصر تاريخ الوجع الجزائري، والحزن الجزائري،

..الجزائرية التي آن لها أن تنتهي والجاهلية

في وعندما قلت لصديق العمر سهيل إدريس رأيي رواية أحالم، قال لي: ال ترفع صوتك عالياF.. ألن أحالم

...عنها، فسوف ت�جنg إذا سمعت كالمك الجميل

.. ألن األعمال اإلبداعية الكبرى ال gأجبته: دعها ت�جن !!يكتبها إال مجانين

1995 / 8 / 20لندن نزار قباني

__________________

تحيات الســاخرموقع : مع

Page 383: رواية ذاكرة الجسد،لأحلام مستغانمي

www.alsakher.com