5323

115

Upload: kotob-arabia

Post on 21-Jun-2015

510 views

Category:

Education


54 download

TRANSCRIPT

Page 1: 5323
Page 2: 5323

إشراقات جديدةإشراقات جديدة

قصص

دراسة

א א

Page 3: 5323

إهــــداءإهــــداء

إلى قطارات الوصل

Page 4: 5323

الفهرسالفهرس

٢............................................................................................داءإهــــ ٤.............................................................................................فجر المتاهة ١٣...........................................................................................صمت الغفوة ١٥..........................................................................................فقدان الحواس ١٧.............................................................................................ماء القصب ٢٢..........................................................................................يحالزمن الجر ٣٢................................................................................................يوم آخر

٣٥.......................................................................................ليل النفق الطويل ٤٠............................................................................................أنشودة القهر

٤٤................................................................................................احتضان ٤٧.................................................................................................صديقي ٤٩...................................................................................................خلسة

٥٠..........................................................................................قضبان الروح ٥٩...................................................................................صوت المطر والريح

٦٥................................................................................................ظل باب ٧٠.................................................................................................الوليمة

٧٤..............................................................................................آالم البحر ٧٩...............................................................................................الوافــد ٨٢.........................................................................................خطوة.. خطوة ٨٦.................................................................................................التالميذ

٩١.............................................................................................تأرجــح ٩٣..........................................................................................طوق الصخب ٩٥..............................................................................................ولد صغير ٩٧..............................................................................................طعام الليل

٩٩.....................................................................................صباح اللب المروع ١٠٠.............................................................................................الوديعـة

١٠٤.........................................................................................محطة الخواء ١١٠.......................................................................................مدن وضواحي

Page 5: 5323

فجر المتاهةفجر المتاهةغادرت العربة األجرة أحمل حقيبتي، ورأسي مغبش، وثقيل، يناضل سطوات النـوم

.المهاجمال يزال الليل يتوسد الميدان، ينطرح فوق الصمت المتكدس بالزوايا، يستبيح األعـين

ورة األبـواب ومقاعـدها الفارغـة غالمقاهي مف . .حوانيت الفاكهة ودكاكين األكل .. الساهرةالمرصوصة ترقب األسفلت المندى وخطو بعض المارة، والفجـر المتـواري وراء البيـوت

عيون تراخت أبدانها فوق الكراسي وأسفل المصابيح فوق أعمـدة توقفـت كحـرس .. العالية .منوع وعلى قضبان الترامبائتة كانت بسائقيها في الم.. يقظان للميدان الفسيح وعربات األجرة

. صمت راكب يزيد الرأس ثقال، ويشعر المرء بالتفردصالة .. منتشيا بالرحيل عبر تمسك الليل بالبقاء وقدوم الفجر . أجرجر قدمي .. وحدي . التذاكر تحتويني

.. ناشرون األذرع والسـيقان .. نائمون.. عيال الليل والتسول، هنا، إلى جوار الحوائط ونساء الزمن المكدود تناثرن بأركان أخرى منكمشات بجانب .. صل شتاء النكمشوا لو كان الف

قفف وأقفاص، يقاومن أثقال الرءوس، رجال القمصان والعمائم والجالليب، تربعوا أسفل شباك وال أحـد . وحـدي . أعرف جهتي.. التذاكر الموصدة، تعلوه عبارة درجة ثالثة لجميع الجهات

.غيري يعرفوال . أغمض عيني .. يسندني حاجز حديدي، أرتاح إليه، وأتثاءب .. بالطابور أنا الثالث

ويظهـر الموظـف وآخـذ . قليل وينفرج الشـباك .. أرى غير ظالم رائق من شوائب العالم . تذكرتي، وأتابع خطوي إلى الرصيف وأركب، أغفو حتى يغادر القطار المدينة

) ممكن تقطع لي معك تذكرة؟-(الوحيد الذي .. وأنا المزنوق بين طابور تطاول . خارج الطابور هو .. اختلجت أجفاني

. قبالتي يده المعروقـة .. رفعت جفني . تجاهلت تهدج صوته شبه المتضرع .. اختارني. انتقاني هأعـاد صـوت .. تمردت يدي بصمتي الممـتعض .. نقود ورقية ومعدنية . تحمل الثمن . تختلج

..المتهدج المتوسل )و تكرمت؟ ممكن تذكرة معك، ل-(

.امتدت يدي بسأم.. يلهب عيني.. يراوغني.. وغبش الفجر يحشو تالفيفي ) إلى أين؟-(

Page 6: 5323

موليا لي جانبه األيسر . أودع النقود في راحتي قبل أن ينطق، وكان يتلفت حوله بلهف ..تجاهلته. ضاق نفوري. سلبني ارتخاء المشاعر.. فاأليمن– والغيظ يعتريني –

..قال ) إلى القاهرة؟ أذاهب أنت-(

..تهكم غيظي، وهو يبتعد .) أعتقد-( ) أنا أيضا ذاهب إلى القاهرة-(

فرفعت ذراعي بثمن ؛وباختفائه تيقظت مشاعري . بلحظة دفعة مفاجئة بظهري اختفى . بأنني هنا موجود– لو كان يراني – ألبرهن له ؛التذاكر

..لمت نفسي لرفعي الذراع ولشعوري باليقظة له أكثر من مائة رجل يشـملهم ضـجر السـهر ،امي وأواجه الشباك بالخلف رجالن أم

التهب رأسي لشعور الضـآلة . كسول. مستاء. والوقوف، وجهامة موظف بدين وراء الزجاج كيف؟. استخدمني.. فكرت في إعادة الثمن للرجل الذي ومض بذهني ليحتويني.. المداهم

يتكـاثر .. لكـن .. با يعترضـني توقعت صوتا غاض .. أدركتني أعين رجال الطابور إن كان بشـارب أو بـدون، .. مالمح. لم أر للرجل وجها . تنبهت.. الزحام عند كل الشبابيك ! لعلني أبحث عن وجهه.. أصلع الرأس أو بشعر

أو تراه واقفـا .. وربما يعتقد أنني سأختفي .. ال بد أنه يراني اآلن، وقد سجلني برأسه .فتي حول نفسي باحثا عن مكانهبالجوار يرصدني في لحظة تل

كل الشكوك .. كسول الموظف ومنبعج األجفان .. حثني الذي بالوراء ألتقدم من الشباك وأتعرف على شكله الـذي يلـح .. ويأخذ تذكرته وينفض األمر .. المراوغة سوف تزول عنده ..علي، ونفترق، أللوذ بنفسي

.نبهني صوت الموظف المقتضب ) ؟ تأخذ تذكرة-( . ان يقول وقلمه ينبش على دفتر تذاكرهك ) اثنين-(

.قطع التذكرة ودفعها إلي.. و.. تأهب صعود الرفض تأخر بداخلي

Page 7: 5323

اثنـان .. التف الرجل حول عنقي .. أثار أحشائي . ضغطني قيد مباغت، عرقل لساني بورقة في حجم الكف، وبعربة واحدة، وربما فوق كرسي واحد؟؟! بتذكرة واحدة

انخلعـت مـن الطـابور .. ناجاة نفسي بين صخب البشر الغرباء لكـن تستهويني م التـف حـولي، لعلـه . واقفا بوسط الصالة بين تعارض المهرولين عبر األبواب .. المضغوط

تبصرني أعين مندهشة، فذراعي المرفوعة بالتذكرة جعلتهم يلتفون بفضـول .. يراني ويجيء .حارق

.. انتظرت أن يأتي .. ا بصحوي اإلجباري مرهق. أشفقت على مهانتي وأنزلت ذراعي .وتطلعت خلفي لعله يتبعني بصباح أبيه األسود. تحركت نحو فناء األرصفة.. يسألني

. أعادني البغض إلى الصالةيشير لي بيده اليسرى، ويده اليمنـى فـوق .. لمحت رجال متواريا بجوار بروز حائط

تين المتحـركتين بـذعر، تجوبـان مشغوف الحدق .. جيب قميص خارج عن بنطلون مهرول ، وهـو يرءوس كل الظاهرين تباعا عبر حدود األبواب، بتوجس مرتاب فاق هاجس الشك لد

أشرت له بالمجيء وأنا أشـرئب، .. مشاعر الريبة تهيج روحي .. يشير علي باالنتظار والتأني . فقد فصلت بيننا حركة الربكة والهلع

وكان يمسح رءوس المقبلـين بنظـرة .. ساكتا وكنت –أشار علي بالصبر والسكوت ونظرات الخافت الـرأس .. فأشار إلي بتذمر أن أصمت . لوحت له بذراع البغض .. المرجف

عندما جاورني .. حين هرول نحوي وليته ظهري .. الخائف تدفع جسده من ظل بروز الحائط .المسير قال بنبرة تضرع

) وأنت ساكتمشا. أرجوك-(ن، ملتمسا إرضائي بوضع يده على صدره حيـث جيـب قميصـه تجاوزني بخطوتي

.المتهدل )هات تذكرتي.. ال تؤاخذني-(

.بطرف جيبه تبرز ورقة بيضاء، استرعت نظري، ورقة أوالها اهتماما ظاهرا . تهكمت بامتعاضي

) أنا وأنت تذكرة واحدة-( :قال. توجه إلى الفناء المزحوم بالبشر

بين ارتيـاب ..) وانتقالي.. ضل حتى ال يعرف أحد بخطواتي نعم، أف .. هذا أفضل -( ..وهو يتابع حديثه.. المندهش، تلفت حوله بحذر

Page 8: 5323

وأبتعد نحو ظالل كشك الجرائـد الموصـد ). حتى تغطيني . وهذا أفضل لنا، نعم -( .ارتعدت، وهرعت مأخوذا بحنقي أالحقه".. تغطيني"مخلفا برأسي قوله الغامض

)تقصد أتستر عليك؟.. أغطيك..! ها-( .أشاح بيده كأنه يصرفني

تفقدني .. تفور.. تأججت برأسي اليقظة ).. كون صحبة نأقصد .. ليس هكذا بالضبط -(ـ .. ال تقلق هكـذا -(ويقول .. توازني، تجرفني مشاعر االرتياب فأبتعد موليا له ظهري لخ

.. ال تخلهـا معـك أنـت ولمـاذا : (أقـول .. واجهته وأبدان البشر تفصـلنا ).. التذاكر معك ).وتخلصني؟وانطوى بظالل الكشك مرسال عينيه نحـو ).. أنت رجل طيب .. أنا مطمئن معك -(

شغلتني أمعائي المنقبضـة، موقنـا مـن إمسـاك سـيعتريني .. األبواب، مالمسا الورقة بيده رميت بخوفه وحذره عرض أكتاف البشر، رافعـا .. ويصدعني ويقرف رحلتي فقررت الفرار

.صوتي، معالجا بنفسي تيبس مصاريني بأريحية قرار الهرب )ها.. أنا ذاهب لدورة المياه.. سمعا -( ) لماذا؟-( ..)تعبان!.. لماذا؟-( ..)ذهبا.. طيب، ال تغضب.. طيب-( )أال تتوقع هروبي؟. هكذا بكل سهولة-(

.وصوته يعلو رويدا، ليجلو عن نفسه بعض القلقولمـاذا ال . "أحدث نفسـي .. ابتعد). سوف تأتي .. لتذكرة معك إلى أين ستهرب وا -( ؟"أهرب

.ي عبر صخب البشرنوهو يالحق أذني بصوت أكثر ارتفاعا ليصل ").الحوش" الدورة بالجانب اآلخر من -(

يراقبني وهو يدنو من .. تصدمني هرولة الناس وأنا أدير رأسي للوراء وأشرئب ألراه يدي ترتفع فوق مستوى الرءوس بالتـذكرة .. ألرصفة والحوش السور الحديدي الفاصل بين ا

.. تراودني فكرة التمـزق واإلبقـاء .. أخرج التذكرة، أتفرس فيها .. تواريني الدورة .. ليرانيمفكرا بإلغاء السفر، وقضاء بقية النهـار فـي . وقعدت أطرد مخلفاتي . أودعتها جيب قميص

ربما يكـون .. فألعط له التذكرة وأنتهي . ل مسافر الشوارع ليعلم العالمون بسفري بأنني بالفع .. لذلك يولي الورقة اهتماما بالغا؛قاتال، أو سارقا، أو مراقبا من جهة مباحثية عليا

Page 9: 5323

.. هو الطارق .. داهمتني دقة على الباب، توجست .. ارتعدت.. أهي أحد المنشورات؟ ؟..هو

طالعني وجـه عامـل .. فقسحبت الباب بر .. تكرر الدق .. نهضت بصمتي المترقب : الدورة بكوزه الصدئ وقطعة قماش المسح، قال

)أنسيت نفسك؟. تأخرت بالداخل يا فندي-(.. كتمت ارتعادي بحنقي المتوغل برأس انصرف للحظة عـن موعـد قيـام القطـار

.. والفجر ينشر لونه الرمادي على الكون. انغمست بين الزحام ..!الرجل ليس موجودا

كشك الجرائد الذي فتح بابه، هل تسلل وآثر الفرار؟هرعت إلى هل قبض عليه؟

باغتني .. لكن.. نزعته من دماغي وتوجهت صوب الرصيف .. تأخذني الوجوه الوافدة .قال وهو يتقدم. ومر بجواري حين تجاوزني

سبقني، ،، كان القطار قد استقر بجانب الرصيف ) القطار قادم من هناك، هيا نركب -( .قلت. فح الحنق برأسيوركض، ط ؟.. أنت هارب من أحد-

..قال وهو يتوارى بخواء القطارصعدت إلى السباب، يقيـدني .. تحليت بالسكوت ).. هذا ليس من شأنك يا صديقي -(

أطل برأسـه .. فألمض اآلن، أنعتق مع أول بوادر الفجر .. قرار الهرب الذي قررته ولم أنفذه :يقول.. من إحدى النوافذ

)هل غيرت رأيك؟. تصعد يا رجل ألن-(قفـص .. ربع ساعة ويغادر القطـار البلـد . هيا، اصعد . نعم. بك أو بدونك سأرحل

أطفال الدنيا السائبون يتسلقون بدن القطـار .. وأقفاص وركاب الهثون يتوافدون، يتصايحون .. ومضى برأسي خاطر أزعجني وعبر .. المجهد مع العسكر الكاكيين، يعتلون ظهره العجوز

جالسا إلـى .. خاطر دفعني إلى ممر القطار .. لحظة عبوره يخاطر ضغط روحي أثقل خطو جوار نافذة باطمئنان مراوغ، يلوح فوق وجهه المصمت المتواري وراء ورقته المنشورة يعيد

حين لمحني أتقدم أجفل، وطوى الورقة، ونظر إلي بحنو األسيان ليقول بحلق تقلص .. قراءتها .بغصة

Page 10: 5323

وأنا أقعد على الكرسي المقابل، شـاعرا بتسـرب غصـة ).. ن ال بد أن تصعد كا -(يحتويني .. ثم أنزل اليد ووضعها تحت فخذه . صوته الواهن، وقد قرب الورقة من جيبه بتردد

:يقول.. الصمت، رأسي الثقيل يغزوه صداع، وهو) !؟ التـذكرة لماذا؟ لماذا جئت إذن ودفعت ثمن . أراك حائرا بين الصعود والهبوط -(

أمضطر أنا لتحمل عواقب المجهـول؟ صـارت عينـاه . مشغول ذهني بتلك الورقة المخبوءة ..بوابتي دخوال وخروجا، يمر خاللها الوافدون، وال يستقر بالدماغ أحد بعد

والشـفتان ،لمحت القلق واضـحا فـي العينـين .. مزنوقة حقيبتي بين الجدار وبيني .قلت بصوت خافت.. تختلجان

) يظهر أنك مضطرب-( :فانطلق يقول على الفور

)ا، وخائفجد.. جدا -( ). هارب ومطارد-(

.سحب الورقة من تحت فخذه، أودعها جيبه )؟.. قتلت-(

..ىامتعض بأس !) هل شكلي شكل قاتل؟-(

: قال. ممصوص الوجه.. نحيف بدنه ).لومقت: قل-( )!؟.. مقتول-( .) مقتول ومطارد-( )؟..ي يطاردك من الذ-( )كلهم يريدون أكلي. أطفالي وزوجتي. كل الناس تطاردني، أمي العجوز، إخوتي-( ) أطفالك وزوجتك؟-(.. دائما يطالبونني . تصور؟ يعتقدون أنني أمتلك نقودا أكثر مما أقبض وأبخل عليهم -(

أقضي بقيـة و.. ع بيدها المرتب كله يأض.. بالمرتب الشهري أكيف نفسي . ألنني أكره السلف لبلـد .. ال بـد . فكرت في نقلي لبلد آخر .. لم أعد أحتمل .. ال.. تصور.. الشهر وحدي مفلسا

.ارتكن رأسي على الجدار، مراوغا صوته المتواصل بغضب). آخر

Page 11: 5323

بعـد نصـف الليـل .. هبدت الباب خلفي ومشيت . بالليل تشاجرت معهم ومشيت -( .كاءوالغصة تسد حلقي، وتشده لرغبة الب). مشيت

؟ ..تصور في الشارع .. فتحت الباب، وهرعت ورائي في الشارع . هي.. لكن هي -(.. وعيالي يجرون خلفهـا .. وأنا أجري، خذ طعاما معك .. هي تجري وتقول، خذ هدوما معك

..).هربت.. لكني هربت .بهدوء المتحسر. يناوشني.. يدخل تالفيفي.. أغمض عيني ألغفو

: يقول).. ن، إن كانوا عادوا إلى البيت، أم مازالوا يجرون في الشوارع ال أعرف حتى اآل -(

: وصوته المتأسي يصلني بوهن. القطار يتحرك، يهزني بقوة).. يجب أن أقدم نفسي لرئاسة الهيئة بالقاهرة، ال بد مـن فعـل شـيء يريحنـي -(

.مرخيا بدني المشحون بالتوتر.. ؟أتقاومأنا سأجد نفسي في أبعد فرع، ولو فـي أقاصـي على الواحد منا أن يجد نفسه، و -(

.. تحسست حقيبتـي .. كف صوته عن العبث برأسي ). ولن أفكر في العودة . الصعيد الجواني صحوت عندما سكت، لمحت جلد وجهه المشفوط يتقلص بإصرار وشرود فأغمضـت عينـي

.ثانية، وقد أجهدني صوته. أنني ال أملك غير راتبي الشهري أال تكفي عشرة أعوام زواج؟ لم أشعرها يوما ب -(

).هل يكفيك أنت؟لمحـت أذرعـا بأصـابع .. رأسي على صدري، فتحت عيني موشكا على االنفجار

أطفـال .. وسيقان رفيعة وقذرة ألطفال يتمطون أسفل الكرسي المقابل حيث يجلـس الرجـل الفائت بالقطار البائـت أدركهم الفجر الطالع والريح المعفر بحركة القطار الزاحف، بائتو الليل

غشي الرجل صمت ثقيـل .. لم أرفع رأسي عن صدري .. بمخزنه الوحشي القريب، يتمطون تيقنـت أن . مدليا رأسه ناظرا إلى أسفل مقعدي . ومباغت هدل تقلص جلد وجهه مختلج الشفاه

. د إصراره الذي فتر بقولهنهناك عياال آخرين، عا ).نعم السفر.. الحل هو السفر-(

حين فتحت رأيته ساندا رأسه فـوق .. أغمضت عيني لحظة .. كانت الغصة تحشو فمه كفه، متطرف الحدقتين إلى أسفل غائبا في أعضاء العيال المتناثرة، وصوته اآلتي من عمـق

:بئر يقول

Page 12: 5323

فأغمضـت ).. لو لم تجر المرأة خلفي، والعيال، ربما كنت غيرت رأيي ورجعت -(مـالذي اآلن .. ر ذراعيه، مالمسا بأنامل مرتجفة طرف الورقـة عيني وهو يربع على الصد

. يحدثني، ويدرك تجاهلي له.. لبشر آخرين. اللجوء لعربة أخرى ..). نقلي لبعيد أفضل-(

.أبتلع غصته المملوءة بالدموع .) ماذا يحدث لو ابتعدت؟ ال شيء-(

فاءات أراني فيها هائمـا فأرقني الوهن الذي ينتابني ويخدر بدني أثناء السفر فأغفو إغ .فوق فراشي أصارع النعاس ألصحو في مثل هذا الوقت من الصباح

.. يجرجر أقـدامي الحمـام .. يلفظني فراشي .. تقهرني أفكار الصبح المعتادة . أتململتتهدل فوق أكفـاني .. يغسلني الماء، تتناهى لسمعي أصوات النوم السائد فوق الزوجة واألبناء

ي حذائي لدرج يدحرجني لباب يزج بي لشارع محفور بالرأس، منذ عهد األب يسحبن.. اليومية.. تغتال الشمس آخر ما تبقى لدي من نعاس .. أو الريح أو المطر .. تحتويني الشمس .. الراحل

يتداخلون بصخب الصبح الطالع بشمس متواريـة وراء .. ركاب آخر الوقت يتوافدون، يلهثون بما يتفوه كالنا حين يجيء المحصل؟. .جدران المحطة تنذر بيوم قائظ

أم أنا الذي معه؟.. أهو معي –منشورة الورقة بين يديه، تخفي نصف وجهـه المصـمت المعانـد .. فتحت عيني

.مقطب الحاجبين، غائب النظر إلى أسفل، يرقب آخر العيال المنسلين ليتوهوا بين الزحام .لى الجداريميل رأسي ع.. يشق الضباب ويرجني.. والقطار يهتز

أبصر الرجل مغلوال بالصمت، طاويا الورقة بين أصابع يده .. أرفعه.. وينزلق.. أغفو .المرتخية فوق ساقه

ما رأيك؟-فـي .. وعيناي تزوغان بشكله الحائر داخل دماغي المرتبك .. كمن يحدث نفسه، سأل

ـ .. نيصمثل هذا الوقت من الصباح يبتلعني باب العمل، يمت أتـوق إلـى .. اريعتصرني النه :قال.. فزع.. تأبطت حقيبتي.. فجأة وثبت.. التحرر، االنعتاق

) إلى أين؟-( ..أندس بين األبدان

) مشوار وراجع-( ) أتتركني، ومعك التذكرة؟-(

Page 13: 5323

.يواريني الزحام ) تريدها معك أنت؟-(

..صاح بصوت متقطع النبرات ..شر الممرخترق بأ).. أنعس.. ربما.. ال، معك أنت أفضل.. ال-(

يزاول – محشور –أدركت أن العربة التالية خاصة بالدرجة الثانية، والمحصل هناك . شغله

.كان القطار يزحف ببطء، قريبا من محطة كفر الدوار، ويوشك على التوقفلكن التذكرة معي، وعيب ترك الرجـل .. هي أول بلدة بعد المدينة، فلتهبط، وتركض

.. والرجل ليس موجـودا .. كان مقعدي ال يزال فارغا .. ان المكابدة أتملص من بين أبد .. وحدهمؤكد ذهب . تزايد غيظي .. على مقعده رجل آخر، يحتضن طفلة، وطفل آخر فوق فخذه قاعدا

توافـد . أتطاول وقد توقف القطار .. أشرئب.. درت بعيني خالل تكدس األدمغة ..ليبحث عني .ر المزحومانحشروا بالمم.. ركاب آخرون بأحمالهم

.لعنته بسري، ومررت ألجلس متوقعا مجيئه. حين ضاق بي البحثفتافيـت .. ومتناثرة بركن الكرسي، وعلى أفريز النافذة . وجدت مزق أوراق صغيرة

وجلسـت .. جمعتها بهدوء.. بعضها بوسط مقعدي.. لكن لم تطر كلها . وطيرت. قطعت بعناية .. نـق .. رجـاء .. مقدمـة .. تكرم.. فقط : متفرقة كلمات.. أنظر، محاوال تجميع جملة واحدة

.ألقيت الورق.. نقل.. صعيد.. و.. ع.. تعب .أدور.. وكنت أدور بعين

م١٩٩٩/ ٩األهرام

Page 14: 5323

صمت الغفوةصمت الغفوة. محشور بأحشائه بشر مرهقـون . تمايل القطار كسكير عربيد يترنح، منبعج الجوف

متسـاقطون كـانوا فـوق .. لـم يغشاهم صمت مغزول بالهم واأل .. يترنحون بترنحه األهوج يسـتحلبون .. يتساندون.. مشبوحون باألذرع أسفل األعمدة الحديدية .. و.. مبلمون. الكراسي

.عصارة النوم الذي لم يكتمل يومانوم يقاوم بالصحو القسري، لكنه يتسرب إلى أجسادهم ليأكـل األعصـاب ورغبـات

ـ نوم مخت.. يغتال الضحك في الصدور .. التفوه بالكالم فبئ في خبايا الرؤوس، يخمـد التالفيينخر في األبدان لتبـدو كأشـجار . الوجوموصفرار طافح فوق السحنة، مطلي باال .. دودةالمك

.. إسناد األدمغة الثقيلة على الجـدران . وقون إلى إغماض األعين تي.. جوفاء تصفر فيها الريح ليعـودوا .. ناضلون به النعاس ي.. مشجوب نهارهم بالحدقات .. أو األرصفة .. المكاتب.. المكن

..المصالح واألسواق.. وكالة الخضر. ليال بما تجود به أيدي الورشكل يمضغ تثاؤبه، يخنق أعصابه ليرجع بفتات أعصاب ممصوصة تستحلبها الزوجـة

..والعيال، أو السهر في معالجة التوتر واألرق ..غفوةهنا يغتنمون فرصة ترنح القطار السكير ليسرقوا من الوقت

..انطلق الصوت. لكن من بين الدمدمة والغمغمة والهمهمة والشخير )؟..نهارده كام في الشهر العربيلهو ا(

خرج مـن .. ولكن انطلق صوت عجوز مرهق ..لم يعوه تماما .. في البدء لم يدركوه ..من فوق جاء أو من أسفل، من وسط التكدس.. النبرةيجل.. النعاس وعاد إلى النعاس

)؟.. كام في الشهر العربيهنهاردل اهو(كمـن . ثم غفا ثانية .. على الرغم من أنه قيل بتلقائية رأس خامل لرجل تنبه من غفوة

إال أن السؤال مر بإدراكهم . سؤاله من أحد نسأل نفسه وأجاب على نفسه، ولم ينتظر إجابة ع ة سراديب للتفكر الالئم واستقرت لتفتح في أمخاخهم المقفل . كومضة في دياجير معتمة بوعيهم

..توقظ أحاسيس مجهدة، لم يكونوا ينتظرون حدوثها اآلن صباحا.. الموحشا عن عمد حتى ال يالحظ البعض ت البعض ظاهري مشاعر الحرج الدفين المتبادل أنام

.. اآلخر بأن أكثرهم خاملون

Page 15: 5323

حـدقات لتـدور ال .. أثارها بيقظة مباغتة .. أهاج الرؤوس . فوق الصمت أطبق صمت ربما ألن أحدا لم يجبـه .. سكت.. بامتعاض خلسة، تبحث عن صاحب السؤال الذي لم يكرره

..سكت.. وربما هو يعرف، وأراد بسؤاله المباغت إيقاظ نفسه وتوكيد المعلومة لها.. فورالكنه قيل ليحرك رواكـد الـرؤوس المتأزمـة .. سؤال لم يكن له لزوم على اإلطالق

..لمجرد السماع )؟.. كام في الشهر العربيهو النهارده(

وجهـه .. أشيب الشـعر .. عجوزا كان قد سأل، وأسند دماغه على جدار العربة وغفا .شاربه المهوش تنفره أنفاس أنفه وفمه المفتوح في نوبة الغفوة.. المجعد ساكن المالمح

تناسـل لكن الصمت المشين المطبق .. كادت أعينهم تتصادم لتبادل االتهامات بالجهل أدار .. صمت ظل قائما ومستبدا .. كسا المشاعر بخيوط عنكبوتية .. وغمر األبدان وغلف الجو

.. صمت مخنوق مأسور .. األمخاخ الناهضة تتمطى بحنق النظر إلى العجوز السادر في غفوته .. رؤوس.. لم يفك أسره إال توقف القطار السكير المعربد ليلفظ أحشاء جوفه فوق الرصـيف

.تتوارى هاربة نحو أبواب الخروج.. تتباعد.. تتفرق جريدة المساء

Page 16: 5323

فقدان الحواسفقدان الحواسوجدت لنفسـي .. اندفعت ملهوفا اخترق زحام البشر .. حملني قطار الصباح .. كالعادة

..مقعدا بجوار النافذة فألسند الرأس، أغفوي هـذا تكاثر البشر، فداخلتني طمأنينة كلما اشتد الزحام، تعسر وصول المحصل لركن

لو فكرت في العودة بـنفس .. مصروف يدي اليومي لم يعد كافيا .. القصي، ربع جنيه بالجيب .المواصلة سأحرم الجوف من ساندوتش الضحى

كان القطار ينطلق نحو الفراغ البعيد وكنت أرهف السمع، رغم تكاثر البشر، لصوت المدينة لتأكلهم المصـالح برؤوس ركاب الصباح المتجهين نحو ئتمزيق ورق التذاكر وقع سي

وقع يربط الشعور بين رغبة منح التذكرة واالحتفاظ بالثمن والتناسي وتوقع لحظة ،واإلدارات .المطالبة واإلحراج

كانت عيني بالخارج، وحواسي المتجمعة بأذني لعله يجيء يقترب فأستظل بالصـمت .. على نصف يكونف ونص،ربع على ربع يكون نصفا.. والسرحان، واصطناع بالتفكير

.يشد من عصب العيال.. وهكذا نوفر للبيت ثمن كيلو لحم مثلج ..يركب آخرون.. ينزل الناس.. وتتوالى المحطات

كانا يتهامسان ويختلسـان لـوجهي .. كان الكرسي المقابل لي مشغوال برجل وامرأة .المتجه شطر الخارج نظرات ال تكاد تبين إال أنني ألمحهما جيدا

.. أن أغض مـن بصـري ني بالخجل وقد أوضحا بالعيون أنني فضولي وعلي اأشعرلكن الرجل غض .. التفت بوجهي نحوهما متعمدا . ارتبت ربما يتحدثان عني يحسان بشعوري

..بصره وقال المرأته سائال أين تركت البنت؟-

.. تيكانت المرأة تختلس النظر نحو الممر المزدحم كأنها تراقب بالسمع ما سوف يـأ ..أعاد هو السؤال

أو عند أختك؟.. عند أمك- .هذا مثل ذاك.. قالت

.. قال هو وكأنه بالفعل مشغول الذهن أقول؟. أين هي

: قالت وهي شبه غائبة عن الوعي

Page 17: 5323

..قلت لك عند ماما أنت قلت؟- ! طبعا قلت- لكني لما أسمع؟- .. هأنت قد سمعت-

.مائة مرة ال تتركي البنت عند أمكماما قلت لك .. ماما.. قال بضجر خفي مالها؟.. ومال ماما؟ ها-ال .. خـالص .. لن تراعي البنت جيدا، قالت بتهكم واقتضـاب .. أمك امرأة عجوز -

.تزعل نفسك أقعد أنا بالبيت وأرعى البنتسكت على مضض وهو يتجه بالنظر صوب األبدان المتالصقة بنظرة مألوفة تتجمـع

بعـد النـزول ..قال اسـكتي اآلن .. ذنين ليفقد المرء حواسه بعد النزول بها كل الحواس باأل .نتفاهم

أسـلمت أمـري .. اخترق أذني صوت تمزيق الورق وقرع القلم فوق ظهور المقاعد .لظروف لم تزل غامضة ربما أفقد قروشي القليلة

وهـو أ القطار مـن سـرعته ده.. كان المحصل بعيدا بالنسبة لمكاننا المحاط بالبشر .يقترب من المحطة، والزوجان يعالجان بجسديهما عملية التملص من بين الركاب

وقفا هناك والمحصل يقترب قاطعا تذاكره لمن صادفه من الركاب مصطنعي الصمت .والشرود

وكنت ألمحهما وهما يتجهان .. حين توقف القطار نزل الزوجان بخفة طفلين صغيرين .لكائن بآخر الخطمعا نحو مبنى هيئة البريد ا

انشغلت بشكل جدي عن .. تعمدت االنشغال بهما فقد هيمن دنو المحصل على حواسي والزوجان يسرعان فوق الرصيف قبيل تحرك القطار ليصعدا مرة .. تمزيق الورق وقرع القلم

أخرى من الباب اآلخر لنفس العربة حيث ال يوجد محصل هناك؟ جريدة المساء

Page 18: 5323

ماء القصبماء القصب

-- ١١ -- عائدين كانوا مـن بيـوتهم القميئـة .. الثانية ظهرا، قبضوا عليه متلبسا بالقصب في

المتطرفة بحذاء المدينة وكان يحمل فوق كتفه حزمة القصب، يتخطى فلنكات السكة الحديديـة بخطو وئيد واهن، وبين الحين واآلخر، وبعد كل مسافة، ينظر إلى الوراء، يستطلع أفق السكة

ع المتاخمة للمدينة، يطمئن قلبه لخلو القضبان البعيدة، يعـدل نفسـه، تـدور التي بين المزار ..الحزمة، ويواصل المسير الوئيد

وهناك فوق الرصيف، كانوا ينتظرون قطار الضواحي وينظـرون إليـه، ينتظـرون بارتياب منهك، حوطوا بدنه الضئيل المجـوف حامـل .. قدومه وهو يصعد منحدر الرصيف

بعد يوم عمل شاق .. أوجس.. واد بيض مربوطة بحزام من قش الزعازيع عشرة أع .. القصبفي ربط مسامير الفلنكات والتأكد من سالمة القضبان، ومروره اليومي ذهابـا وعـودة بكبـد

أوقـف .. تنذر بالغموض والخطر .. مصمتة.. وجوه داكنة وجهمة .. يرتعد.. يوجس. الشمسالتصقت قدماه .. توقف: أقدام الحذر المتحفزة تحركت.. تحرك خطوة .. نظر وأجفل .. التوجس

"..المنتعلة حذاء مكعوبا يحف بطين متيبسوا لصوصـا كمـا سال لي .. فكر. أدرك أنهم مخبرون ريفيون يزاولون العمل التعسفي

بقصـب " يتلفـع "إنهم يقصدونه، فليس بالمكان آدمي آخر .. مخبرون.. ظن، أو قطاع طرق حسبوا صمته خداع لص يبغي المراوغة .. ون تصلب جسده المنذعر يرقب.. ظل مبهوتا .. سواه

.. فكر، لو كانوا لصوصا لهان األمر، لترك لهم الحزمـة ومضـى .. والهرب فحاذروا وتدنوا : قال األول.. لكن فظاظة األكف تثاقلت فوق الكتف والقصب

.. وقعت يا لص الحقول يا نتن- :قال الثاني بصوت المندهش

؟.. القصب أنت إذن لص- ...عبثا راحت محاوالته لعتق الكتف من القبضات

-أنا عامل ضمن عمال المقاول التابع لهيئة السكة.. ا أنا لست لص.. ..تعال.. أي هيئة يا لص-

كف الرجل مطرقة .. نحيلة متربة . انخلعت القدم عن الحذاء . الثالث الذي بالوراء دفعه :توسل.. ارتجت الحزمة وكاد ينكفئ. الوجه الرهقلفظ سعاال احتقن له .. دقت الظهر

Page 19: 5323

سـخروا فـي .. اشتريتها من بائع كان يسرح على مدخل كفر الدوار . هذه حزمتي - :مجون وقالوا

..! وجئت من كفر الدوار وهو هكذا فوق كتفك؟ غلبان- ماشيا تعد الفلنكات؟. يا عيني- .. مسكين يا لص يا نتن-

ارتج البدن الخـائر .. يد الثالث تدفع مؤخرة الحزمة .. نعق قطار الضواحي من بعيد صوت النعيق يزاحم تجـاويف الضـآلة فـي .. صعب هو االنعتاق .. مع صوت النعيق اآلتي

..دوار.. دوار.. البدن .. قل هذا الكالم الفارغ في النقطة-

: مشدوها قال وال أحـد منذ زمن بعيد أشتري القصب من تلك النواحي، وأركـب بـه القطـار، - : فقط ألنكم مستجدون وال تعرفونني. يعترضني

. اغتاظ، وسحب عود قصب من األمام ليجرجر به الرجـل . احتقن وجه المخبر األول كسر العود علـى .. أصابه الحرج . لكن العود انسحب بيده وحده، مجرجرا المخبر إلى الوراء

.. راح يمتصه بلذة. ساقه إلى ثالث قطع .. ء هيا القطار جا-

: أمعن به النظر والثاني يقول. قال المخبر الثالث الذي بالوراء، وشد عودا .. لو كان غير مسوس هات عقلة-

. أعاده إلى الكتف وسحب آخر والقطار يدخل الرصيف بـوهن . ا بالسوس روخكان من : واألول يقول باستغراب

!؟..قصبا.. تسرق قصبا يا غبي-أسـند .. أقعى الرجـل .. أصوات تقزز .. تطحن.. عصرأضراس سوداء ت .. يركبون

.. والحزمة إلى جواره . بدا ككومة قش مربوطة بجلباب رث .. قرفص. ظهره إلى ظهر مقعد ..قال بصوت متخاذل

.. على كل حال الصول الذي بالنقطة يعرفني-وبنـزق، يقـذفون المصاصـة مـن . يقشرون. بلذة يمتصون . واسعة أشداق الرجال

..النوافذ

Page 20: 5323

-- ٢٢ -- .. حين توقف القطار بمحطة مصر، كانت حزمة القصب قد امتص نصفها

ـ .. الثالثة النظر تبادل المخبرون يجتـر صـمت حزنـه يفكروا بترك الرجل المقع.. فليأخذ النصف المتبقي ويمضي لحال سبيله لكن صمته المطمـئن مريـب .. للمجهول اآلتي معرفة سلطوية أكبر من الصول من– رغم أسماله –لعله متمكن . همأوجس رؤوس ..

يكتفـون و أ ،يتوجب حيال توجسهم المشبوه تبرئة أنفسهم بعمل محضر فعلي بالنقطة ..بتسليمه بنصف الحزمة خمسة عيدان، وهناك يتم التصرف بمعرفة مسئول النقطة

-- ٣٣ -- لمـس .. شد أطراف سترته البيضاء . ارتدى غطاء الرأس . استعد الصول لالنصراف

توقف على باب النقطة يتابع بالضجر وجـوه البشـر .. أزرارها النحاسية المطموسة بأصابعه صـوب قطـار – بعد انفراج أبواب المصالح عـنهم –يسعون بدأب . المتوافدة عبر األبواب

تقزز فقد توجب تواجده اآلن قبل حلول الساعة .. لم يلمح وجه صول النوبة الثانية .. الضواحي .. انصرافه قد آن موعد– تذمر –الثالثة

يؤرجح بندقيته . قاعدا كان فوق حجر، ساندا للحائط ظهره . أشار لجندي حراسة الباب العتيقة بين ساقيه، يطالع بنظر كسول عنوان جريدة لرجل سائر بخطو وئيد يقـرأ مانشـيت

: قال الصول وقد تجاوز الجندي..) القضاء على اإلرهاب.. (والجندي يفكر. الرياضة ..الصول الجديد على وصول.. الك من النقطة خذ ب-

جـاء .. لم يأت الصـول . طيب.. طيب.. وانصرف والجندي يومئ برأسه المرتخي المخبرون الثالثة، يحيطون بالرجل المضعضع وقد ازداد ضآلة تحت حزمة القصـب حافيـة

..يجرهما.. قدماه ومشققةفكروا في مزاولـة .. لتوجسأهمد برؤوسهم ا .. فراغ النقطة أوحى للمخبرين بالسكون

ضـمن –االنسحاب خلسة .. المرور فوق األرصفة، حول القطارات .. العمل اليومي المألوف إلى خارج المحطة حيث السوق المزحـوم بـالخلق والباعـة لتصـريف الوقـت –المرور

..والحصول على ثمن الرضا والبقاء من باعة احتلوا جوانب الشوارعووضعوا الرجل في .. وبة إلى جانب مكتب الصول الغائب وضعوا الحزمة بحجرة الن

:تمطى، وقال. اطمأن المخبر األول.. غرفة الحجز، وأوصدوا بابها ؟.. بماذا نبدأ-

Page 21: 5323

: قال الثالث وهو يتحرك .أنا مزنوق.. نبدأ بدورة المياه-

: قال الثاني وهو يغادر إلى الرصيفعندما يأتي أن يحرر محضرا بواقعـة نترك خبرا لجندي الحراسة أن يبلغ الصول - ..القصب : قال.. تبع األول خطو الثانيأ

. أو نفتح نحن المحضر غدا- : قال بأسى مفتعل. لحق بهما الثالث

.. العيال يريدون اليوم طبخ سبانخ باللحم- أيوجد سبانخ في الصيف يا رجل؟- .. المرأة نفسها في السبانخ- .. يـ يـ يـ ـدحديـ.. في السبانخ حديد-

: تخابث الثاني وضحك .. تريد طلوع الجبل بالليلك لعل- .. بالليل وكل ليل وشرفك النصف نصف-

وتالشوا وسط الزحام، ويذكر أحدهم ترك الخبر لجندي الحراسـة الـذي . تضاحكوا ..فتوقف وهو يؤرجح البندقية فوق كتفه. أتعب مؤخرته الحجر

-- ٤٤ -- احتوت األرصفة القطارات في نوبة بيات، والصمت .. جاثما.. حط الليل فوق المحطة

ه طول التجول، وبندقية يؤرجحها بـذراع لطـرد ديجوس البواكي مع جندي هزيل ه . يتوالد ..النعاس المراوغ

..تهاوت النقطة في الصمتتعبث يده .. وحيدا. كان الصول قاعدا وراء مكتبه الصفيحي الصدئ، فوضوي الشكل

القضاء . (يفتح جريدة المساء . تراوده حزمة القصب .. دفتر األحوال بذهن غائب المعروقة في كسر . مجاورة الحزمة وفي متناول اليد .. يطوي الجريدة .. والحزمة تراوده ..) على اإلرهاب

امتصها بلذة حين رأى العود قصيرا وسط الحزمة، أخذه، وابتلـع ريقـا . عقلة من أسفل عود .. إلى جانب السوق هي. أمتع كثيرا.. العمل بنقطة ميدان الشهداء أفضلنوبات .. فكر.. حلوا

Page 22: 5323

. رائع هناك الليل، يؤنسه الباعة واألضواء والحركـة .. قشره.. سحب العود القصير الصمت هنـا .. قشر بأسنان قاطعة وحادة .. وأشياء أخرى تمد الجوف بالدفء وتوقظ الدماغ

هناك في الميـدان تمتـد أيـدي سـائقي .. ل والخطر والوحشة الليلية تسوق البدن إلى الخمو بين ضفتي الشهر نهر غير آمن، يتوجب العـوم فيـه .. بثمن المرور في الممنوع " المشروع"

..والطفولمن .. نقص من الحزمة عود .. تحت القدمين والمكتب تراكمت مصاصة العود األول ..ا ناقصة؟هذه الحزمة؟ من جاء بها لحده؟ ما موقف صاحبها عندما يجده

في هذه النقطة المعزولة، تتكاثر .. ابتلع سكره بنهم النشوة .. امتصه.. عودا آخر شده تحويل النشالين إلـى القسـم الرئيسـي، أو .. المهاترات وفك التحام المشاجرات بين الركاب

..استدعاء اإلسعاف لنقل جثة مهروسةسـنان النهمـة عصـر األ .. أسـعده . صوت التقشير الذي يخرق الصـمت أبهجـه

وتـه رغـم تعديـه قتحريك الشدقين والفكين يمنحه شعورا عظيما يؤكد مـدى . واألضراسكانت الحزمة قد صـارت .. عندما أوغل الليل في القدم، وتطايرت نسمات البرودة .. الخمسين

. لملم المصاصة من تحـت المكتـب .. نفض ثيابه، سلك أسنانه .. قشورا معصورة وزعازيع ..وخرج

حين انتهى، فـتح .. بين القضبان والقطارات . ا، متفرقة، ومتباعدة فوق الفلنكات نثره ..ولذة.. راح يتبول بكثرة.. نظر حوله.. أزرار بنطلونه

م١٩٩٨مجلة الثقافة الجديدة

Page 23: 5323

الزمن الجريحالزمن الجريحانكمشت فـي الوجـه .. تثاءب.. تعهد القيود والمفتاح .. تسلم الشرطي أوراق المتهم

..بل باب غرفة الحجز المواجهة لمكتب الصولاستق.. التجاعيد ..بإهمال في زوايا الغرفة.. متجهمين، وملقين.. رجال الليل والشراسة.. تناثروا

لكـز .. بإصـبع تكلـس جلـده .. فركوا العيون المصدومة بضوء انفتاح الباب القذر :مرتكز على الحائط المسود.. الشرطي رأس مسترخ

. قوم قدامي-.. وفي بـطء .. تثاءب.. نهض البدن الكسول .. متخم بالتعب والنعاس تحرك الرأس ال

..سبق الحارس إلى الخارج وتوقف يراقب وجه الصول : قال.. وجاور المتهم الواقف.. أوصد الحارس البابأودع .. وأغلق الطـوق بالمفتـاح .. لف الحارس حولها القيد .. مد المتهم يده اليسرى

..وغادر باب القسم.. آلخر بيدهوأمسك الطوق ا.. المفتاح جيبه ..توقفا على الرصيف المواجه للمبنى المهيب

وعيون الصـول تتبعثـر فـوق .. الشارع تزاحم أشجاره السيارات المالكي واألجرة :قال.. التاكسيات المارقة

أمعك نقود؟- .. معي- .. أنا ليس معي- .. أعرف-

..صمت الحارس على مضض ..وتابع سيل السيارات

: ل المتهمقا ؟.. أتريد نقودا- .. ال أحب السلف- ؟.. وهل تعتقد أني أسلفك- ؟.. لماذا سألتني إذن-

Page 24: 5323

:وأنا أعرف أنكم دائما مفلسون.. ألنك سألتني- .. لكن لي راتبا- ..! مالليم- إذن لن تسترد حقك مني؟- وكيف أسترد حقي؟ هل سأراك ثانية؟ - ..كن ألموي.. يمكن- ..ألني سأغيب في السجن هذه المرة.. ال. . طبعا- .. وأنا أتنقل كثيرا بين األقسام-

قـال .. ومرق.. لم يبال السائق .. أشار إلحدى سيارات األجرة .. تقدم الحارس خطوة ..المتهم

؟.. عملك هو حراسة المتهمين فقط- .حراسة المتهمين.. فقط- .. لم يهرب أحدهم منك مرة- ؟..أين سيذهب.. ه؟، ولو هرب كيف يهرب وأنا مع- ..جدهت سوف -

تقدم خطوة أخرى ليكون في وسـط .. في عيني الحارس الح أتوبيس قادم على البعد مخلفا فوق الرصيف، أخذ المتهم يراقب ذراع الحارس تلوح لسائق نفاه بهـزة رأس .. الشارع

..وتجاوزه مارقا :مكررا.. للمتهم الساكنقال .. تراجع إلى جوار المتهم مغتاظا ومتواعدا

؟.. معك نقود- ؟..أليس معك.. وأنت- لندفع ثمن تذكرة األتوبيس.. فقط- ؟..وأين تذهب نقودك.. آه- ؟.. نقودة إي- .. راتبك- ..؟ يذهب للبيت..المالليم.. المرتب .. - ؟.. وال تأخذ منه مليما-

Page 25: 5323

.. يضيع في أول يوم من الشهر- ؟..عندك عيال إذن.. آه- .. عندي- يخنقونك- .. مصاريف كثيرة- في مدارس؟- ..ومعاهد.. مدارس- ..ومالبس.. وطعام- ..سألتني كثيرا.. وناس بال رحمة.. وغالء فاحش- ..صعبان علي.. اإلرهاق.. يبدو عليك اإلجهاد- ؟..أال يصعبون عليك.. والذين تسطو على جيوبهم- ..لكن ال عمل لي سواه.. ني أكرههمع أ.. وال أتقن غيره.. عملي- . أكل عيش ومجبر عليه- ا؟هل اخترت أن تكون شرطي.. لى عملك مثل إجبارك ع- .. كنت فالحا جاء من الريف وفرح بالبدلة العسكرية والنفوذ- لماذا لم تترك هذا العمل وتبحث لك عن غيره؟- .. رأيت الخوف في عيون المجرمين- ..منك لكني لست خائفا - ..لكن المجرمين الجدد يخافون.. أنت تعودت على اإلجرام- ؟.. كلهم- ..ا يأكل من عرق جبينهليصبح مواطنا عادي.. من أول مرة بعضهم تعود - ؟..الممصوص.. كيف يأكل من عرقه المسلوب- .. أتسخر؟ هؤالء العائدون أفضل منك- ؟.. هل صاحب العرق يأخذ أجر عرقه كامال-

.والضرائب تتولى الباقي.. صاحب العمل يأخذ النصفبل . أنا ال أفكر هكذا-

Page 26: 5323

؟.. كيف تفكر إذن- .. أن أقضي يومي في سالم- ؟.. أيوجد سالم- .. يقولون ذلك- .. يضحكون عليك- .. مثلك- ؟..ما رأيك لو ركبنا أتوبيسا ... - .. أنت معك نقود- ؟..وأنت.. معي--؟..ا أم نأخذ تاكسي .. األتوبيس أفضل- ..فهو مجال عملك.. طبعا- ..أنا ال أحب اللصوص.. لعلمك يا صديقي- النشل؟وغير السرقة .. هذه، وما تهمتك اآلن" ال تحب اللصوص" حلوة - .. أشعر بأنني آخذ بعض حقي- تأخذ حقك من دم الغالبة؟- ..مسكين.. وأنا.. بل من الذين يملكون- .. ألنك فاشل-أرني واحدا، واحدا فقط ممن يركبون .. ما سرقت .. حصل على حقي يوما أ كنت لو -

..هناك من يسرق البلد.. السيارات واألتوبيسات ال يسرق !؟.. البلد- ..البلد اآلن في الجيوب.. البلد لم يعد في الرؤوس- .. في السجن سوف تغير رأيك- وال فائدة.. دخلت السجن كثيرا- ؟..ك لو ركبنا القطارما رأي ... -

.. بنهايته حي الظاهرية.. طويال.. مواجها كان الشارع لباب القسم

Page 27: 5323

..هناك محطة قطار الضواحي ..سلكاه

وتـالل .. رجال شرسون .. قميئة.. فهناك مساكن قديمة .. توغال في أحراشه الموبوءة النظر الناري والغضـب يقاومون االرتياب ب .. حوانيت وباعة متجهمون .. أقبية ..مقاه.. قمامة

: شباب السيوف والخنجر والمدى..لكل عابر غريب يطأ أرض الحي : حين صارا بوسط المكان قال المتهم

؟.. أتعرف أين أنت اآلن- ..أخفاها وراء صدر قميصه بجوار البطن. سحب يده المطوقة بالقيد من يد الحارس

:قال الحارس وهو يفرك يده ..بين أهلك وعشيرتك .. - ؟.. كيف عرفت-. تسكن مع أمك المريضة بـالربو .. أوراقك تقول ذلك، حالتك الجنائية واالجتماعية -

وأخـوك .. وأختـك الكبـرى متزوجـة ".. القلل"والدك بائع القلل الفخارية وقد مضى زمن ..يقولون إنه أفضل منك.. الحالق

؟..وأنا هنا. ألم تشعر بالخوف مني اآلن- ك تخبئ القيود في صدرك؟وقد تركت.. لماذا- إذن، أنت تحترمني؟- .. بل أحترم نفسي- .. لكن أنا ال أحترمك- . وال أنا أحترمك- .. وممكن أهرب منك- .. لن تقدر- ؟..ماذا تفعل.. ولو فعلت- ..سأقيد نفسي معك.. لو فكرت- فقط؟- !! فقط- .. أنت رجل طيب-

Page 28: 5323

..القطار على وشك الوصول.. هيا بنا- ..أريد سجائر - .. أذهب وهات-

لمح المـتهم يتحـدث مـع .. أخرج منديله وتمخط فيه .. سكن الحارس بعيدا .. هرول :الخردواتي المجاور لمقهى قريب :عاد المتهم وهو يقول

.. السجائر السوبر أصبحت مغشوشة وناشفة- .. كل شيء أصبح مغشوشا وناشفا- حتى الوضع الحالي؟- ..وال.. وال مزاج.. وال أخالق.. ال نقود.. أبشع- ؟..الصحة أفضل أم النقود.. أشعل.. خذ- ماذا تفعل الصحة بال نقود؟.. بعدها الصحة.. النقود--ا أن تكون قوي.. .. القوة بالنقود- ؟.. أتحب النقود- ؟.. وهل يوجد من ال يحب النقود- ..على الصحة.. لذلك أنا آخذ النقود وأحافظ- كرامتك؟ وتفقد- ؟.. كرامتي- ..كأنك خروف.. وأنت مسحوب هكذا.. نظر لنفسكا - ؟.. خروف- .. بل عهدة، مثل البدلة والبيريه- ؟.. والحذاء- .. ولو فقدت هذه األشياء- .. بغيرهايء أج- ؟.. ولو فقدتني أنا-

Page 29: 5323

.. سأفقد نفسي طبعا- ؟.. وهل أنت اآلن غير مفقود- ..سيال تذكرني بنف.. أرجوك- ..هيا.. هيا- .. بنا- ..ونعدل المزاج.. تعال أوال نشرب شايا- على مقهى اللصوص؟- ؟.. هل تخاف اللصوص- .. وال هم يخافون مني- ؟. لماذا- .. اسألهم-

وضـع المـتهم .. واألوراق.. وضع الحارس ذراعه .. تفصل جسديهما منضدة .. قعدا ..و ينهضعلبة السجائر إلى جوار الذراع وقال وه

؟.. ماذا تشرب- .. سحلب- .. توارى في المقهى-

راودته رغبة في .. واختلس نظرة نحو باب المقهى .. تناول الحارس سيجارة وأشعلها .. رفع إصبعه ليقرب العلبة من كوعه .. أخذ سيجارة أخرى وإخفائها في جيبه قبل عودة اآلخر

.. ضـايقه .. ق شيء في صـدره خف.. حين أطلت رؤوس السجائر .. ضرب مؤخرتها بإصبع أعاد العلبة باإلصبع إلى مكانها برفق وهو ينظر لبـاب المقهـى .. جعد فمه وغضون الوجه

قال المـتهم وهـو .. شعر براحة وقد لمح المتهم قادما .. ثم أزاح السجائر المطلة .. مضطربا .. يسحب سيجارة بإصبعين

؟.. لماذا سحلب بالذات- :ئه وهو يقولهرس الحارس سيجارته بحذا

.. لم أفطر بعد- ؟.. ما رأيك في فول وفالفل- .. ماشي-

Page 30: 5323

..ألقى المتهم سيجارته فوق المنضدة دون إشعال وهرول مبتعدايمكنه اآلن أخذ هذه وإخراج لفافة أخرى ووضعها .. إلى جوار الكوع كانت السيجارة

..خذهافليأ.. فقد ألقاها المتهم بضيق كمن يود التخلص منها.. مكانها ..اغتاظ من نفسه لتتفاقم غضون الوجه.. إال أن تفكيره لم يساعده لفعل شيء

..جاء المتهم بالفول والفالفل والخبز الساخن ..قرب فمه الغليظ من أذن المتهم.. وجاء الساقي بالماء

؟.. إلى أين يا صديقي-اكان همسه فظقال المتهم.. ا وعالي :

.راحة.. فترة نقاهة-قال الحـارس .. راحا يلتهمان وجها لوجه .. ك في تناول الطعام منها الحارس قد كان

:وفمه المملوء يلوك األكل ..وال هناك.. ال هنا.. ال توجد راحة- ؟.. هل جربت السجن- .. أنا في السجن منذ دخلت الخدمة- .. كل- .. كل-

* * * ارتكن الحارس بظهره المجهد ،يأكل األرض .. بطيئا.. يحمزدحما كان قطار الضوا

يتطلع عبر النافـذة حيـث يتسـحب .. وغفا إلى جواره المتهم يدخن في صمت .. على المقعد حدس بأن الحارس اللئيم يتناوم ويرقبـه بطـرف .. راوده شعور بالخبث .. الكون إلى الخلف

نافـذة فـي ومضى ينقل النظر بين الحارس وال .. ابتسم.. كلما توجه بنظره نحو النافذة .. عينتساقطت من .. لكن حين أرعش الشخير شفتي الحارس .. محاولة لضبط العين متلبسة بالمراقبة

..تأكد المتهم من سوء تفكيره.. يده األوراقا جيدا وأودعها صدره إلى جـوار طواه.. تناول األوراق بهدوء .. نىهز رأسه وانح

..قيده المخبوء

Page 31: 5323

أدناها مـن .. أخرج شيئا من جيبه .. بةوبإصبع مدر .. ببطء شديد .. على حذر نهض ثم أغلق الزر وجلس كمـا .. ودس شيئا في الجيب األيسر .. فتح الزر برفق .. جيب الحارس

..كان ..لمح أعين الركاب المجاورين تتجسس بفضول غبي

ثم ركـن رأسـه .. أعاد العيون لمحاجرها بنظرة وعيد وتجعيدة وجه مزمجر وشرس .وغفا.. على مسند المقعد

* * * ..استقر القطار فوق الرصيف في ظل المحطة الكبيرة

..أبدان جموع غفيرة تسعى.. لفظ ركابه واإلنهاك .. امتدت يد الحارس لجيب السترة األيمن

: أخرج مفتاح القيود وهو يقولوال نريـد .. الضباط أكثر من الهـم علـى القلـب .. هات القيد ألربط نفسي معك - ..مضايقة

:قال الحارس.. قا طريقهما بين األبدان المنهكةش.. مقيدان .. يبدو أننا تأخرنا عن النيابة- .. ال تشغل بالك نذهب غدا- ؟..وأين أقضي الليل! غدا- .. عندي في البيت- .. هات األوراق.. ال سوف نلحق- : أخرج األوراق من صدره، وقال- ؟.. وتركبني تاكسيا على حسابك- ..ش تجدفت.. أنت معك- .. بل معك أنت-

..كان الميدان مغمورا بالشمس والبشر ..أخفى المتهم القيود بيده وراء القميص.. أخرج الحارس المفتاح وفك طوق يده

غمـره .. شعر بوجود نقود ورقية بالداخل .. حين أعاد الحارس المفتاح لجيبه األيسر :واطمأن قائال.. سرور

Page 32: 5323

؟.. هل سرقت أحدهم في القطار- ..أخذتها من صديق في المقهى.. أبدا- ..السجن يحتاج إلى نقود.. خذها.. إذن- ..وأنا أتصرف في السجن.. أنت تحتاج إلى النقود أكثر مني- .. ملعون أبو النقود- .. ملعون أبو النقود- ..أريد أن أتبول ... - .. اذهب إلى محطة البنزين بجوار مديرية األمن- ..وال تظهر القيود، ربما يراها أحد الضباط فيؤذيني.. انتظرني هنا..سأدخل.. نعم- ..سأنتظر.. ذهب وال تخفا -

..توارى الحارس وراء باب المبولةمطمـئن .. نظر بنصف عين إلى ظهـر الحـارس .. اقترب المتهم من الباب المفتوح

ومحاوالت إرضـاء .. شاردا كان بكل حواسه متذكرا امرأته وأوالده والعمر المنصرم .. القلب ..في الجيب تقبع النقود.. وموعد العودة مساء.. الجميع

.. كان المتهم قاعدا فوق السور القصير الذي يحوط مبنى المديرية .. ابتسم وقفل عائدا ..ينتظر

تقدما نحو المدخل الكبير المدجج بجنود .. قيد نفسه مع المتهم .. أخرج الحارس المفتاح .. هناكوتواريا.. الحراسة

م١٩٩٥جريدة الشعب

Page 33: 5323

يوم آخريوم آخر) إنه باإلنتاج :ا على سؤال وجه إليه من أحد أعضاء المجلس وقد قال السيد الوزير رد

).نستطيع االرتفاع بمستوى الفرد .. الشاي-

أطحن الجـبن والخبـز بأضراسـي .. وولتني ظهرها .. الكوب فوق المائدة وضعتعادت .. أكملت فطوري .. أقفلت المذياع ..) و.. نرتقي بالمجتمع وباإلنتاج .. ( بالشاي اأزيحهم :لتقول

.. القطار سيفوتك.. أسرع- : تناولتني الساللم، قالت في أثرى.. استعذت باهللا وتوكلت.. دخلت في حذائي

..ال تنس البرتقال.. مع السالمة- قطـار أصعد جسـر .. أتفادى أطفال المدارس .. زجألرض الل أمد الخطى في طين ا

تمنيت طويال لو ارتقيت السلم الوظيفي وحصلت على مرتب يمكنني من تغييـر .. الضواحي . هذه المواصلة السلحفاة

.تحسست جيبي، بقاعه بعض سجائري عنـدما جـاء، –تحفز الناس . حين ظهر القطار من بعيد –شديدا كان زحام المحطة

أسي، أستنشق هواء ال يخلو من دخـان أشرئب بر .. حشرت نفسي بين اللحم والثياب والعرق على عمل من يـوم . قرقعة العجالت .. ترتج كتل اللحم مع ارتجاج العربات .. غريب الرائحة صـرخت .. سمعت صوت المحصل مددت ذراعي ألستخرج ثمـن التـذكرة .. أمس لم ينجز

تأوهـت .. محشـورا كـان .. الجيب بعيد عن متناول يدي .. شخط رجل .. بكى طفل .. امرأة .أسواق وسط المدينة أرخص.. رفعت أخرى سلة خضار فارغة إلى أعلى.. امرأة

.. تسـاؤالت –سادت القالقل والغمغمـة .. تهادى القطار بين الظاهرية وسيدي جابر ..تداخلت أصوات رويدا.. ضيق

ال مواصالت .. توقف القطار تماما .. زأر الرجال في غضب .. بدأ القطار في التوقف ! وبعـدين؟ .. تعلو.. اختلطت أصوات .. تذمرت النساء .. تحركت أبدان .. منطقةأخرى بهذه ال

المفـروض .. األرض نفسها تعبانة .. خل بالك .. يلعن.. ؟ زفت ..متى يطلع طوالي ! كل يوم؟ ننزل وندفع .. يا عالم عيب .. ؟ اتأخرنا ..فلنر آخرتها .. ها نحن هنا قاعدون .. يلغوا هذا الخط

..هأ هأ هأ.. القطار

Page 34: 5323

أبصرت القضبان الممتدة بطول الطريـق قـد .. نت كل شيء، هبطت مع الهابطين لعمتقـابلون .. قاعـدون علـى القضـبان .. واقفون على مضـض وصـمت .. زرعت بالناس

يتطلعون إلى الفضاء المترامي آملين في تحرك القطار، يتمنون حدوث معجـزة .. ومتفرقونالوقت يمتطي التجاويف، يلهـب .. يوم آخر تهبط من أعلى تدفع العربات وتنقذهم من ضياع

.تناثرت أبدان أخرى عند األودية المؤدية إلى شارع أبي قير، ذلك البعيد.. األجساد بالقلق –ونصف أفراد المدينة .. فكرت في إمكانية وجود موضع لقدم اآلن في أي أتوبيس ..

.بشر بقيامهوال بشير ي.. بقيت.. تحملهم هذه القطارات كل صباح–العاملين ..اقعد.. خذ يا رجل-

افترشتها مثلـه علـى .. قالها رجل إلى جواري، وناولني صفحة من جريدة الصباح .القضيب وقعدت

.. نصف عمرنا يضيع في هذه المواصالت- :قال.. دخنا في صمت.. قدمت له سيجارة

.بين قطار معطل وحادثة.. إجازاتي كلها انتهت هنا- ..حمون المتأخرين في المصلحة ال ير- ..كة الحديد قضبانهاس يجب أن تصلح ال- .قلنا ماشي.. التذكرة أصبحت بشلن-

أسرعت متباعدة وهي تحمل عمـود .. تعلقت سيدة بسياج الباب، مدت قدمها وهبطت تفحصت عمودا بدأ نصفه من الجريدة التي تحتي، أتابع حروفه، كنت – نكست رأسي –طعام

انتهيت أمس من توصـيل خطـوط الوصـلة ]..وبارتقاء اإلنتاج وجودته [أفكر بالوقت نفسه كبة الـدول المتقدمـة، فلـدينا يمكن التقدم ومالحقة الركب وموا [.. األولى من الكابل المعطل

. إن لم ينته الكابل اليوم سأضطر للمساءلة]..من ما تـدهش المهارات.. [مونني بتعطيل مائة خط تليفوني ويلز.. يبدو أنه لن يتحرك -

.]..عقول العالم األكثر تقدما.. يا بنـت ياسكت.. اسكت يا ولد –طوال النهار .. وجودي في البيت غلط .. يلعن -

البالوعـة .. ]فلو وضعنا تلك المهـارات [.. كالم فارغ .. تعال ساعدني .. هات فلوس ..) فلو(قـدم : كان يقول . .خذ ولع .. قلت أسلكها حين أعود .. مسدودة من أمس، انحشرت فيها خشبة

.وسكت.. سيجارة

Page 35: 5323

بعـض ... كان القطار النـائم –يوم آخر تصطلي فيه رؤوسنا تحت الشمس وندوخ : وهو يقول–أشعلت لصديقي سيجارته .. غارقين كانوا في صمت غريب.. الركاب

..وأسلك البالوعة.. أرجع أحسن إلى البيت- : وأردفت أقول.. قلت وأنا أنهض خذني معك

..وافترقنا.. لم يرد.. يلو البرتقال؟ بكم ك-

م١٩٩٧السعودية " المنهل"نشرت في مجلة

Page 36: 5323

ليل النفق الطويلليل النفق الطويلمنحوني نقودا لزوم السفر واالنتقال وأكـدوا .. كتبوا العنوان فوق المظروف األصفر

على أن أجد العنوان، وإقناع الرجل بالحضور، فهـو أعـدل الرجـال لمناقشـة محتويـات ت النقود في جيب قميصي، وشبكت كم البلوفر المثقوب بـدبوس وانتويـت المظروف، أودع

.الرحيلأخوض األرض المنداة إلى محطة القطار يحدوني أمـل . استقبلني غبش الفجر البارد .. انغمست مع الركاب الفجريين مكدودين لحـد النعـاس ،بهيج بلقاء األحبة القائمين بالقاهرة كراريس بأعين كابية تتحـدى اإلجهـاد، باعـة جـائلون طالب منهكون يراجعون الكتب وال

نساء منكمشات ملتفعات بفوط .. يحاولون تسليك الحناجر بنداءات معلقة بها بقايا نوم لم يكتمل .وبرد مدبب ينسل عبر فتحات النوافذ المكسورة ينخر العظام، وينغرس.. الوجه والجالليب

بدا .. قت فتحة قميصي الدبوس وأغل نزعت .. بدايات شق الدماغ .. ارتجفت، وانكمشت ا كبقعة بيضاءالثقب دائري..

دعوت أال يتسرب الصداع لرأسي كعادتـه فـي .. فارتعدت.. ارتعد القطار وتحرك مغبشة كانـت . أوقدت سيجارة على جوف خاو، أخرجت كتابا مخبوءا بالصدر .. أوقات السفر

أنفـاس الركـاب أدخنـة .. قسـرا كل السطور، مطموسة الكلمات، ورأس بارد لم يستوعب ..تتقابل.. تتقاطع

تـدفئ الحديـد .. تغمر الكـون .. وراء الحقول .. لو ترتفع الشمس من مكمنها النائي الشمس في األعالي، وأنا علـى .. غادرت باب الحديد .. المنطلق، وتحمص األبدان المرتعشة

.. بحثت بعين متحدية شعاع الشمس عن تمثال رمسيس،األرض ارتعدمتشامخا فوق حوض الماء المتسع والمتجدد دائما يرطب برذاذه وجوه .. كان واقفا هنا

ربما .. م طول االنتظار ئأو س .. ربما نقلوه لمكان آخر؟ أو أحالوه على التقاعد .. ، فكرت هدائري ..تلمظوا عليه وأشاحوا عنه الوجوه

بـاب المحطـة، ة وقوفه علـى مثر الرحيل لبلد آخر يعرف أهله قي آفحمل حوضه و ..يستقبل الغرباء ويحرس الزمن .. والشمس تنفذ لمسامي.. أوعزت ذلك لنفسي

ن أهـل القـاهرة إفكرت حين رأيت البشر، .. اتجهت لموقع التمثال حيث مهبط النفق .جميعا متواجدون في الميدان، يمشون

Page 37: 5323

ـ .. ينزلون النفق .. أمامك. كل البشر - ى التـوق أنزل وأسأل أحالني جفاف الريق إلبالموافقة، البشر . فألفعل حين أعود . لطبق الكشري المألوف عند امتثالي لوجه القاهرة المتغير

فكرت، هل القاهرة تعيش في األنفاق؟.. يتدفقون بال انقطاع نحو مهبط المترو أملس الدرجيتوجب اآلن نزع الدبوس . يتوجع، بخطو وئيد، أهبط الدرج .. أحمل رأسي لئال يرتج

أعين المتطفلـين تخـتلس النظـر، .. لم أجده ينبغي موارة الثقب .. لصدر وإخفاء الثقب عن ا ثنيت الذراع فوق المظروف كطلبـة ،يتيحون الفرص ليواري المثقوبون ثقوبهم .. ويتغاضون

أال بد من هذا الرجل؟ .. قدامي للتبرع بالسفرإلعنت وقت . المدارس المرفهين، اختنق ؟...أليس هناك عادلون غيره

من أن أغلب أهل القاهرة الدنيويين مثلي – اآلن وفوق رصيف النفق –لكن، متأكد أنا متواجدون بالنفق، واألثرياء مروضو التماسيح معاشرو الخنازير، يجوسون بأعلى خالل أذرع

. الجدرانةسمالب امروع النظر ومبهور.. قطعت تذكرة لحلوان.. وأعين العسكري المصلوب.. وري تحتوي على تماثيل لملـوك الفراعنـة ناديق من الزجاج البل ص ،أرض ملساء

كيـف انكمـش .. ها هو تمثال رمسيس محبوس في صندوق زجاج صغير .. حدقت مدهوشا وتوارى في النفق؟

هـو .. متواجد أنا في حضرة السـادات .. أدركت.. سم أنور السادات بارز بالجوار ا .. معلقا فوقيعلى الحائط .. لم يمت بعد.. أيضا متواجد . يسحبني مظروفي أجوس وسطهم متعمدا بطء الخطو.. البشرقتأل

..أرجو أال يتسع الثقب.. حامال رأسي المثقوبجلست إلى جانبي امرأة . حوط بدني المترو، قعدت بجوار نافذة، توارى الثقب جوارها

. عجوز، متصابية، ومتأنقة لحد الفت للنظرحيث بـدأ .. ختنق، سعلت موجها فمي شطر النافذة أ.. واحامتألت برائحة عطرها الف

لـم ألتفـت .. بعينين معكوستين في الزجاج ظالم النفق بانطالق المترو تنظرني بتقزز وتعال أخرجـت المـرآة ورأيـت . أحاول جاهدا أن أشغل النفس بالتركيز على شيء محدد .. أخذت

وجهها المتصلب يحدق في. غـبش الوجـع .. العنوان رباعي .. االسم الثالثي .. وففوق ساقي المظر .. تشاغلت

. وثقب يتسع.. بالعينين

Page 38: 5323

ستنشـق العطـر أ.. تركت المرأة وجهها المتصلب برأسي ونهضت بعطرها الفـواح .. وضعت يدي فوق المقعد الخالي مائال بجسدي المنهمك فوق الـذراع .. بعمق، أزفره بتعب

.هة صديق له كان جالسا يكمالن حديثا قد انقطعأزاح أحدهم يدي، نفخ المقعد وقعد في مواج .حتى اآلن لم يفرج الجمرك عن السيارات على مبلغ تافه.. تخيل- .ممكن، يسلك لنا األمور.. لدي صاحب يعمل هناك.. ال تشغل بالك-

التفت لوجهي بتعمد، تطلعت إليه، وحولت نظري إلى الفتة .. صمت المجاور لي بغتة .لمثبتة فوق البابأسماء المحطات ا

نفس . مستغرب ومستدرك برأسي ذلك الشبه الغريب بين المجاور لي والمرأة العجوز .المالمح والتصلب

المقابـل هلمحت صديق . لم يصرف عني بعض نظراته .. أفرغ الدهش في عتمة النفق أغوص داخـل . لكن الصمت نسج خيوط التوتر .. ة يستفسر بعين متحفزة عما ضايقه آفي المر .. نظيف هو البدن، مغسول أمس بالماء والصابون لم تفح مني أية روائح تثير الغضب . نفسي

أو . أو عبق البشريين بالدرجة الثانية ما يزال عالقـا بـي .. ربما مغبرا وجهي من أثر السفر الشق بائن برأسي إلى حد اجتذاب النظر؟

..لكن هذا نظر متقززا علبة سجائري، والمظـروف يتـأرجح بـبطء فـوق انتشلت.. فليقتل الغيظ سيادتهما

. تعلقت السيجارة بين شفتي .. أدركني شعور بالعري . أحس بعرق يتفصد فوق مسامي .. الساق .. كانت مالمحهما تتشابه رويدا،السجائر تزيد فجوة الدماغ ال مفر بعد من االنشغال عنهما

هم نطق كلمة الرفض علـى أنظر إلى الواقفين، رأيت نظرات مستنكرة لم يكلفوا أنفس موقنا بأن التـدخين هنـا .. د عود إيقاوقد شرعت في .. تمردي، ويدي تخرج مشط الكبريت

وبين رغبة نزعها . متهدلة السيجارة بين الشفة والشارب .. تصلب األصبع على العود .. ممنوعهتزت ومقاومة النظرات، ورمي العود وكبت إحراجي، والسيجارة تتهاوى فوق المظروف، فا

فأشرت إليه بـأنني أعـرف . أشار رجل بآخر الممر بأن التدخين ممنوع .. الساق قبل السقوط ي فانحنيـت ئثم سقط العود واهتز المظروف واستقرت السيجارة بين حذا .. وأنني لم أدخن بعد

تـأفف المجـاور لـي ، لمحت بجانب النعل ذلك الخيط السميك المحيك به الحذاء ،ممددا يدي تقاربـت ،عور باالرتباك ولما أردت االعتدال، وعفوا هـرس الحـذاء السـيجارة اعتراني ش دخل محطة جديدة غـادر المجـاور .. كان المترو يهدئ من سرعته . الخلق ينحشر ،الجدرانوا ء مسكت رأسي بقبضتي أضم الشق بين ركاب جـدد بـد ،ذهبا مع ركاب آخرين . وصديقهمزركشو الثياب، هلعـون يحلمـون بفـراغ . رجال مخنثون، ونساء مسترجالت .. يصعدون

Page 39: 5323

المقاعد، على مضض وقفوا، يشاركوا الوقوف مشاعر التألق الزائف والقدرة على الوقـوف، . لنفحة هواء نقي يأتي من الوسع والنهارقفالجالسون منهكون، يدق الصداع أم الرأس، أتو

رض؟ أما زال الوقت طويال لبلوغ حلوان، متى يصعد المترو على وجه األ ئدا آلخر الخط؟اأيمكن أن يظل الظالم س

شبكت ذراعي فوق المظـروف .. ليغفو الدماغ لبرهة، ليلتئم صداعي، تتفتت رغباتي فتحت عيني عندما قعـد بجـاني ،وقلبي أغمض، الوجع متجسد على شكل رجال يتصارعون

عرة يفضحهما سيقان الرجل بيضاء، وسمينة ومش .. ذو لحية .. رجل بدين ضغطني إلى النافذة نظرني وهو يثني ذراعه ليدخل جيبه فلكزنـي بـالكوع، وأنـا أعـالج ،قفطان أبيض شفاف

لم يعتذر، ولم أبال كل شـيء .. يبدو أن كل البشر هنا متشابهون، مالمح متقاربة .. اندهاشي ثم ، وهو يوجه غالفه نحوي متعمدا هفتح. أخرج ديوان شعر .. أصبح مباحا وغير قابل للدهشة

اختلست إليه نظـرة . أودع النقود جيبه ولكزني ثانية .. رج أوراقا نقدية من بين الصفحات أخ.. وهو يطالع الديوان بانهماك مصطنع، تصيبني عدوى القراءة لكن رأسي تدق فيه مطـارق

توجست مسـتغربا . لمحت الملتحي يحدق في بنفس االنهماك ،نظرت إلى ظالم خارج النافذة أكيد عندك صداع؟:قائالباغتني . ولم أنظر

: قلت،رأسي مقبوض بين كفي . قليال-

تخوفـت كـان يحـاول .. وضعت المظروف بيني والجدار أخرج هو بعض أقراص ابتلع واحدة اآلن فـورا تصـبح آخـر :والمترو يغادر المحطة قال .. الدخول إلى شق الرأس

.جمال :نه بتجهم قالفأعاد أقراصه، وطالع ديوا. أعدت يده الممتدة شاكرا

..و.. متعب.. هكذا قطار الفجر-أهو كان معي؟ ركـب معـي؟ هـذه اللحيـة .. اندهشت قسماته توحي بكل المخاوف

:مستعارة، واصل يقولعشت فيها أروع أيامي كان لي دكان أنتيكات عند باب عشـرة . اإلسكندرية جميلة -

صور ال يوجد أجمل من شباب ت ،وكان لي أصدقاء في حي الجمرك والورديان . شارع النصر غمزنـي . وأغلق ديوانه. أأكون مراقبا؟ فرك لحيته.. الورديان يضربون األرض تخرج فلوس

.. ألوان ثيـابي .. أنواع طعامي . حويصبأسئلة غريبة وتوقعت كالما آخر عن كيفية نومي و .عدد أخواتي وأوالدهم، واصل غرس كالمه في رأسي

Page 40: 5323

كنـت .. وفارق الثمن بسيط .. مكيف –سادسة صباحا كان عليك أن تركب قطار ال -تتداخل تالفيفي، اسـتبد هـو بالـدماغ .. ستأتي إلينا مرتاحا، لكنك أردت توفير بعض النقود

: المشطور، تتوقف أفكاري يقول . بكم أجمل أيامي، تلك التي عشتها في محر-

تح وإغالق األبواب و، كيفية ف جثم وخم على الجسد، انشغلت بالنظر إلى جدران المتر اآلي.

غادرني ،كان الوجوم والصمت ينطبق على الجميع لمجرد اقتراب المترو من المحطة سؤالي عن استمرارية ،والمترو يزحف في الظالم .. الرجل بين انشطار الرأس وخواء الجوف

ـ وال سير المترو هكذا في األنفاق، حتى حلوان يؤكد الركاب الجدد جهلي بأمور المتـرو وأح .القاهرة

آثرت السكوت وإسناد الرأس على الجدار تاركا لبدني حرية االسترخاء أتطلع بعـين شـعور باالرتيـاح .. يتهدالن ..ميل بذراعي نت.. تقاوم النعاس وضبابية أبدان ركاب مكدودين

.يغمرني ؟.. األخ نازل-

نفـق؟ حملـت متى خرج المترو من ال .. سؤال، ويد توقظني، كان النهار يغمر الدنيا قتل التعب رغبات التسكع بجوار .. ها هي حلوان النائية .. رأسي المشقوق فوق مفاصل صدئة

وليس بالوقت متسع .. تأمل قصار البيوت ورؤية غسيل الشرفات المنشور .. الحوانيت والباعة اتجهت نحو عسكري المرور الواقف بمنتصف الميـدان نفـس .. لشرب الشاي بأحد األكشاك

.عسكري األول ال يهمالوجه لل ..عـدوت .. التفـت مـذعورا –المظروف، المظروف .. شرعت بالسؤال ورفع اليد

أهرع أسأل، أرأيت مظروفا .. مترو يغادر ومترو يسكب ركابا ..عدوت.. حلوان ترتج برأسي لعـل . لعل أحـدهم رآه معـي .. أسأل.. عدوت الميدان المكتظ بالخلق .. ؟أصفر عليه عنوان

..لعل.. ه لعل أحدهم رآني مع..ث عنيأحدهم يبح مجلة الثقافة الجديدة

Page 41: 5323

أنشودة القهرأنشودة القهر .أنا غير مسئول.. إن خلص الفول

شق األدمغة .. نطلق بين الصمت وركود ركاب ترام خط الورديان ا. يغني صوت مدو .. ةباغتهم بقوة انطالق العقير .. في لحظة الدهشة المباغتة ومشاعر النعاس .. الشاردة واستقر

يغني بكل مشاعر األسى الكامن، انطلق، .. صاعدا من بين األبدان المتكدسة في تالصق أليف .وكأن قارورة سائل متفاعل ارتجت، وفارت وانتزع غطاؤها فانفجر بين الزحام

لم تكن الدهشة لسـماع األسـى المتفجـر .. يغني باختالج شجن غريب أثار الفضول الصوت في هذا الوقت من الصباح، المدهش، والذي أنـاخ والصاعد من القلب، وال النطالق

يوجهوا النظر واآلذان تلك الكلمـات المنغمـة، ل الرقاب وأدار المناكب، ىبعض الرؤوس ولو .. الموزونة، والمزوقة بأنغام بالغة الوجد والصدق والحنـان لحـد إثـارة مشـاعر الوجـع

موال صعد من جـوف أجـوف، ..استحضرت األمخاخ أشكال األطباق، األقراص والحبوب .مدفونة فيه الصرخة منذ القدم

.وأعيد وأقول.. وأفضل أقول ..فول يا فول.. ا.. ا.. يا

رقيق الخلـق .. مألوف.. يحشو تجاويف الدماغ .. مطبوع باألذهان .. المحور الشاغل ع وأروقة الجائل والمتجول بالشوار .. السيد والمسود .. هو الدائم والمتبقي والمنظور .. المقهور

.الصامد أبدا بأغلب األجواف.. المصالح ودهاليز البيوتولكن أن يصرخ متغنيا به، فهذا هو العجب .. مؤكد.. هو كذلك اآلن .. أرهفوا األسماع

والغرابة إلى الحد الذي شد انتباه البشر واستحوذ على المشاعر فأخذتهم نوبـة مـن الشـرود فمالت ؛ فتنهد البعض بمخبوء القهر ؛ عنهم قبلة التعب وكأن الصوت الصادر امتلك .. والتوهان

.المتواري بين الزحام.. وتطاولت رؤوس تنشد رؤية المغني المقهور.. الرؤوس شجناكأن الصوت يدنو رويدا، من منتصف العربة األولى، بينما العيون تفتش بين األبـدان

؟..أهو قصير القامة؟ قاعد هو.. بحثا عنه ..).فول.. ا.. ا ..يا.. يا فول(

.. وأيقن البعض أن الرجل، أكيد، معتـوه . كورس.. ردد القول بعض الواقفين بالوراء .. فكروا. ممزق الثياب، يتدلى لعابه فوق صدره.. مخبول الدماغ

.وأعيد وأقول.. وأفضل أعيد

Page 42: 5323

.إن خلص الفول، أنا غير مسئول .عقبت أصوات االستحسان، وطلبت المزيد

نفـس الـنغم .. أصوات أطفال المدارس المتكدسين في العربة الثانية رددت النغمات .األسيان المقرون بقهر طالع

والدهشة تخبو في العيون لتبدو على الوجوه انفراجات األذهان الواجمة، وتوشك على بدأت رؤوس السيدات الوقورات المحجبة تشرئب، في محاولـة لكبـت .. باستحياء.. الضحك

..المقهور.. المنشد.. ة المغنيالمشاركة بتوق رؤيصبيان الـورش، وتالميـذ .. تعالت طبقات الصوت بمشاركة أصوات أطفال آخرين

كـانوا يـودون .. والتصق به آخرون .. أفسح له الذين بالجوار .. المدارس، كان الصوت يدنو ..يحثونه على المواصلة بالتوسل.. االلتصاق به واالمتزاج ليعبر بأصواتهم المحبوسة

".والنبي قول كمان "–اهللا .. اهللا- .اهللا.. من تاني-

كثيرا ما رأيت وجهه الوقـور يشـاركنا .. مألوف المالمح .. كان رجال مهندم الثياب ـ .. الركوب من محطة الورديان إلى محطة منيا البصل حيث يختفي .. بصـمت ودود املفوف

.يزين رأسه األصلع بعض شعيرات بيض ..وليا فول يا ف.. يا فول

.يرددون.. تتكاثر.. تتواصل أصوات األطفال .وأنا غير مسئولتحدثوا بأصوات عالية .. هزوا رؤوسهم في تعجب .. بدا فراغ األفواه .. ضحك الشيوخ

.عوضا عن صراخ الحسرة الكامن .أي واهللا مسكين.. مسكين- .لكن هو عنده الشجاعة.. كلنا مساكين-

واإلخـوة .. باحترام مذهل، تمايلوا وطـووا الجرائـد واألفندية المتأنقون، القاعدون الملتحون، أغلقوا المصاحف، اقشعرت جلودهم والمشاعر فراحوا يدندنون بمـا تـوارى فـي القيعان، فقد تفاقمت مظاهر الصمت الوقور الزائف والشرود شديد التصنع الذي يوحي بغليان

يـا :، فانطلقت منهم الحناجر تـردد الصدور، كما لو كانوا يعدون أنفسهم لنوبة صراخ عارم ..يا فول يا فول.. فول

.أطلق عقيرتي.. تمنيت لو أقول

Page 43: 5323

.. أنهم صـم بكـم .. ال بد .. خمنت. تهيبت من أولئك الذين افتعلوا السكوت والمهابة .كانت أعينهم تدور، وتتساءل

ارتفعت بشكل منسق مع أصوات رجال شون القطن وعمال .. تداخلت أصوات الطلبة ..أصوات جهورية، غطت على أطفال المدارس.. شحن بالجمركال

..وأنا غير مسئول.. يا فول.. يا فول .. وأنا غير مسئول..يا فول.. يا فول

يطلـق . يصـرخ .. الكل يغني .. وصارت المسألة أكثر جدية، يصعب معها أي مزاح اكر ورافق النغمات شرد المحصل برهة وترك دفتر التذ .. ويغني.. الهموم المتراكمة المكبوتة

ثم انشغل بالتحصيل وهو يردد مع اإليقاع .. بهز قدميه وقرع حذائه فوق خشب أرض طاولته . لكنه استجمع قواه المشوبة بالخجل، ودخل بصوته مع ارتفـاع األصـوات .. بصوت خافت

.رويدا.. رويدا . وأنا غير مسئول–يا فول يا فول

..بدأت األصوات تتخافت.. ورويدا .نوا يوشكون على البكاءكا

..همس رجل آلخر .. مخبول- ؟.. وهل وحده المخبول-

اتسـعت دوائـر .. والحركة المحسوبة، والنظرات الثابتة .. الممرضات.. والموظفاتاألسى فوق الوجوه، حين شاهدن الجسد المجهد لرجل مهندم، اندمج في الغناء، وقد تحشـرج

تالشـت .. ورويـدا .. تحت وطأة أصـوات المجـاميع .. وبدأ الحزن يطويه، رويدا .. صوته ..وصعد ركاب واصلوا الغناء.. التالميذ قد ذهبوا.. أصوات األطفال

..يا فول.. يا فول.. وأنا غير مسئول ..يوهن.. يوهن.. ينخفض الصوت ..تتبارى.. تتسابق.. أصوات تتعالى

جاور لسـائق التـرام وبدنه المجهد يدنو من باب النزول الم .. والصوت المنهك يوهن ترقرق الدمع فـي .. رفع المغني يده ومسح دمعتين انحدرتا على خده .. القاعد بهدوء وجمود

.بعض العيون

Page 44: 5323

.. وارى الرجل دمعة بكم سترته .. أو الضحك .. اعتقد البعض أن الدمع من تأثير البرد ..رويدا.. واألصوات تخبو، تعود إلى الصدور

قال أحد الركاب بحماس وكأنـه .. ت حدة الغناء فخ.. حين هبط في محطة منيا البصل ..يكشف ألول مرة سر هذا المغني

.. يتساقط الركاب فـي المحطـات .. و.. هذا موظف محترم في الحكومة .. تصور -كانوا يعالجون الصـمت المباغـت بصـمت .. يتناقصون ليحط صمت كئيب على الذين تبقوا

..مصطنع وشاق .شت لصوت قائد الترام المتجمد القلب يدندن لنفسهحين شرعت في النزول ده

.. يا فول.. وأنا غير مسئول.. وأنا غير مسئول.. يا فول

Page 45: 5323

احتضاناحتضانينشـدون .. مدمنو التثـاؤب .. مبلمون. ترام الصباح المجهد المزحوم يؤرجح ركابه

ر يدمدمون ويسـعلون والنهـا .. يغمغمون.. الدخول في لحظات الصحو بالنظر خارج النوافذ القائم من نومه يتمطى بضجيج فرقعة الفوالذ فوق القضبان ليطرد عن رؤوسهم نعاسا مراوغا

.وعنيدا :داهم جدران األدمغة صوت حاد لبائع يتجول بين األبدان المتخشبة بالممر

).عندي كتاب لتعليم الصغار بنصف جنيه( في حجر كـل قاعـد يلقى..) تعلم، وعلم عيالك بنصف ا.. (تواريه الجسوم .. يتملص

وبـين صـمت البـائع ..) بنصف جنيه .. اعلم.. اقرأ.. (آتيا، موزعا .. يندس.. كتابا وكراسة وسهوم البعض، وتوقع التـأخير .. والنظر لقرص ساعتي المغبش .. وعدوى التثاؤب .. المبتعد

. عن العمل، جار صوت من الوراء لرجل يتوسلومحشورة بالحلق غصـة .. ا كان الصوت محشرج).. هات لي كراسة .. عايز كراسة (

والبعض يمتعض من المزاح السخيف الصادر عن رجل يقلد الصـغار، .. تنبهت متقززا . بكاء.. لكن أحدا لـم يضـحك أو يلتفـت . كأنه يفعل ذلك ليفك تعاريج الكآبة عن الوجوه المصمتة

..ستياءاكتفوا بالسمع وتطرف األعين واال.. فالرجل يواريه الزحام المتزايد .أعاد الرجل قوله المهدد بالتمرد والبكاء

.الزم.. الزم تشتري لي واحدة.. عايز كراسة .كان البعض يزيح الخمود عن التالفيف ويعتليها

.هات واحد يا بابا. معدوم الشعور وعبيط.. رائق البال.. مؤكد.. رجل أهبل : الصبر يقولنسل صوت مهادن لرجل آخر نافداومن همهمات الضجر المتفجر،

.شتري لكألما ننزل .. اسكت.. طيب خالص ..هات دالوقت.. ال.. ال

:قال من بين أضراسه. كتم الرجل اآلخر غيظه ..سكتاو.. شتري لكألما ننزل . قلت

..يأنت تضحك علوقـد - يعلو رويدا ليثير الدهشة والنظر وخجل اآلخر الذي قـال هوبدأ صوته المنهن

..!الناس بدأت تتفرج.. ك؟ان معوبعدي -تفجر غيظه

Page 46: 5323

..هات واحدة.. وأنا ماليبغضب المتمرد، وثب بدنه وراح يتقافز فوق المقعد باكيا، ليتمكن الجمع المتزاحم من

.التطلع والرؤية واألسىنهض اآلخر واضح الخجل واألسف راح يهدئ من الطفل المتواثب بصوت خفـيض

.وحالوة.. واحدةصدقني لما ننزل الزم نشتري لك.. وقورأصديقان هما يدغدغان صدور الصمت والقتامـة لركـاب .. وشعور بالسأم يعتريني

.تحولوا إلى آذان تلتقط كالم الضجر الدائر بينهمايلبس قميصا ملوثة ياقتة . الرجل الطفل بشارب متدلي الجوانب وذقن مسمارية الشعر

.بعرق وغبار يعارك ، وقاره الخجالن ،تواري بياض شعره ، تغطي رأسه طاقية واآلخر نصف ملتح

.زمنه المنصرم المجهد .ي كفاكنتبلغ.. لما ننزل.. اسمع الكالم -

..والطفل يهز بدن الرفض الغاضب .ضحكت علي من قبل وأخذت رغيفي.. أنت تضحك علي - ..وأنا أكلت رغيفي. أنت أكلت رغيفك.. كان رغيفي - .هات لي كراسة ها.. رغيفك كان أكبر.. أنت كذاب -

بلحظة قدوم اآلخر الوقور واقترابه .. وتمتعض. تمعن النظر .. أعين الدهشة تنظر .. من البشر، ساحبا بالوراء الطفل مشيرا بأصبع نحو إحدى النسوة العجائز القاعدات وراء ركن

).لك.. أهي معها حاجات حلوة.. شايف.. ماما أهي.. بص.. (السائق . المندهشة تولى إلى جانب آخر بفزعلكن وجه المرأة

وهو يتملص من أبدان الممر ويقترب بوقت قيام النسوة العجائز وهن يتبادلن النظـر ثم أجفلن جميعا بمصمصات الشفاه بتعجب، فـي .. كأن كل واحدة تفكر بأن األخرى هي أمه

.حين اعتلت وجوه الرجال عبارات الغرابة واألسى –س الطريق المزحوم، يحاول التقدم، يشرئب ليصل النظـر الطفل يتطاول يتطلع يلتم

إلى النسوة المتطلعات بأعين الحزن المفتوح باختالجات الجفـون المتجعـدة –عبر الرؤوس ..ورقرقة الدمع

تـدعوه . وهو يدنو بهدوء، وانسياب جسد أذعن لنظرات أم تدعوه بعين منداة بالـدمع ..ليأتي

Page 47: 5323

.. ة التي حلقت جسده، وهو ينسل مبتسما بفرح للنسوة وهو يدنو من كل العيون المحدق مسحوبا بيد صـاحبه الـواجم .. آخذا بعينه برأسه، كل الحدقات المنداة بالدمع ودفء الغرابة

.ليهبطا بالمحطة وجهه الصامت المتبلد شطر الباب الذي أغلـق، والتـرام الـذي الرجل الطفل مول

..غادرهما

Page 48: 5323

صديقيصديقي الرصيف اآلخر لمحطة باكوس، موجها وجهه نحو أشـعة الشـمس رأيته واقفا فوق لوحت مـرة .. لم يرني .. لوحت بيدي .. ساكن البدن كالمنتظر القلق .. بنظارته األنيقة السوداء

..لم يرني.. لم ينطق أو يحرك طرفا. أخرى رافعا ذراعي لنتبادل تحايانا كمألوف الحال .ة مزدحمرصيف قطار الضواحي النازح إلى المدين

رفعت ذراعي أعيد التلويح .. ورصيف قطاره الصاعد إلى مناطق الرمل أقل ازدحاما بقوة أرعشت بدني أللفت أنظاره وكأن قد ولى وجهه بجسده نحوي، رافعا ذراعه بآلية ليهرش

!!؟..؟ يتجاهلني..أهو صالح صديقي.. اعتراني شعور باليأس الغاضب. وتجاهلني. رأسه.. لكن عيني تدوران هناك، وتعـود لـتحط عليـه .. ى النظر بعيدا أرغمت نفسي عل . تجاهلني فتجاهلته أنا اآلخر

.. وهو لم يـزل برأسـي .. أدرت وجهي إلى جهة اليمين حيث يأتي قطاري المنتظر لم أذكر أنني فعلت شـيئا . ويراودني.. نظرت إلى اليسار حيث يأتي قطاره المعاكس المنتظر

ببـالي –راجيا .. لوحت له، فقد تشبث بذهني .. ر العالقة الودية المتبادلة يمكن أن يغضبه ويفت ر شعوره الطيـب ي أال يأتي أحد القطارين فيفصل فيما بيننا دون إثبات براءتي ومعرفة ما غ –

..نحوي؟ لكـن .. يتجاهلنيمل.. هأواجه. فألركض إليه–فكرت في النزول من فوق الرصيف

مسـح .. أخرج منديله بحركة آلية مفرطة في الزهو السـخيف .. د حذرة خلع نظارته بثبات ي عرقا من جبهته وبين عينيه المفتوحتين الواسعتين، أضحكاني كثيرا بغمزهمـا المـرح بأيـام

..أخفاهما بالنظارة ووقف ثابتا.. خالية .اغتظت، ووثبت من فوق الرصيف قبل مجيء أحد القطارين

. القطارصديقه أنا الذي أنحل بدنه لو كان – ما كنت ألمحه فأخترق أبدان الممر المزحوم -كثيرا -وصديقي هو الذي

أو يلمحني هـو . وأقبله، وأعيد احتضانه بشوق – ثم أصافحه – في أحضانه يرتمأ –جالسا يباغتني ثم يضمني إلى صدره بقوة نتوحد بها يضـع .. مضغوطا بين زحام الظهيرة المتكاثر

يغمرني شعور حمـيم .. وكأنه يبارك رحلة الشقاء اليومية – أقشعر بالمسرة –ي يده فوق كتف يتأسـى بابتسـام .. وأسأله عن أحوالـه .. موش بطال .. باأللفة حين يسألني عن أحوالي أقول وعن متاعب العمل اليومي، ومحاوالت سكوته الجبري .. الراضي، ويحكي عن متاعب السكر عـن فاقـدي .. ي حول زمالء الحجر الصحي بـالجمرك وتصاممه وتعاميه عن أحداث تجر

Page 49: 5323

وراء القطار – قبال – رجال امتلكوا العربات المالكي، وكانوا يركضون ..قمائر واألخال ضال :أقول ضاحكا.. والترام بأحذية مثقوبة

.. كان بإمكانك ركوب عربة مالكي مثلهم- ..ينفعل بغضب نافر، مندهشا برفض

!هو الحالل نافع؟. .أعوذ باهللا!.. أنا؟-.. بين أبدان البشر والضـجر –اد ئ بات –تلمست طريقي .. صعدت الرصيف المواجه

وفي لحظة اقترابي من مكان وقوفه، هرولت فتاة صغيرة بجواري، تجاوزتني بشغف حامـل : هو بحواسه، قال لها وهي تتأبط ذراعه–توجه إليها .. المسئولية األمين

؟..قطعت التذاكر .نو منه بخطوى الوئيد أللتصق به ممازحاوكنت أد

. تذكرتين يا بابا- ؟..صولو القطار على وشك ال-

.. والبنت قالت.. سأل هو .. إن شاء اهللا-

اقتربت أكثر والبنت تنظر لوجهي بابتسام ولم تنطق، في لحظة استدارة رأسه بصمت كا وقد أمسكت بيده وهـو حفالتصقت به ضا .. أنفاسي – بالشم –وثبات كمن يتذكر أو يتذوق

.يقول بوده المألوف ؟.. من-

.بحسرة مازحة. قلت.. وقد صافحني بفتور أوجعني ألم تعرفني؟.. يا خسارة.. يا خسارة يا صاحبي-

والبنت تشير بأصبع علـى أنـه ال .. تنبه وهو يشد على يدي بحرارة وقوة أسعداني .صاح.. يبصر

؟.. أخي أبو حميد-يضمني بقـوة كمـن .. وهو يطوق جسدي المرتعد بذراعيه .. حضنهوأنا أرتمي في

:ويقول. يذيبني في داخلهغير عابئين .. نمت ذات ليلة وعندما صحوت، وجدت نفسي هكذا، بكيت فوق كتفه -

.بقطارينا اللذين رحال دوننا

Page 50: 5323

خلسةخلسةوهممـت أنـا . تأهب ركابه أمام بابه المفتوح . عندما توقف القطار بجانب الرصيف

ضع قدمي على الدرجة الوحيدة بلحظة تدافع ركابه المتسارعين للنـزول، قـابلتني امـرأة بوعنـدما تالمسـت يـدانا، يمناهـا . فانتظرت نزولها . عجوز وكدنا نتصادم صعودا وهبوطا

دون أن تتقابل عيوننا فهي ال تعرفني وأنا – أدركت ما هو –ويسراي، وهي تضع شيئا بيدي قبضت كفي المـدالة –لثياب المترهلة وجلود الوجوه والمكان قد تشابهت ربما ا –ال أعرفها

إذ كان راكبا خلفي مسـنا ينتظـر ؛على ذلك الشيء الذي أدركه، وقد داخلني شعور بالحرج كفـي التـي . قد يكون لمح يد المرأة وهي تضع الشيء بكفي . توجست مشاعري .. صعودي

.حوت خجليلرجل بقفطانه الرث وجلس إلى جواري كالمنتظر أن دخلت إلى الممر وجلست فجاء ا

أفتح كفي وأنظر لذلك الخفي بيدي المقفلة شبه المسترخاة على فخذي األيسر، متجـاهال ذلـك الذي يختلس النظر بطرف عين مزدودة لوجهي مرة ويدي الساكنة سكون الشلل على فخـذي

ه وسط الممر مقتحمـا بعـض كان المحصل يجيء مقرقعا بصوته وقلمه وتحرك.. مرة أخرى – بدنو المحصل –فاستقرتا عينا الرجل على يدي بتركيز جعلني مضطرا لفتح كفي .. األدمغة

.ومنح الرجل التذكرة خفية

Page 51: 5323

قضبان الروحقضبان الروحوديعة .. معلق بالتالفيف واألصابع .. الليل سعكاز النهار، ومؤن .. هو العين والبصر

..دائما بيده ..لمستسلمة باطمئنان جمي

..و هناك بين أبدان البشرهيل.. مبصر هو وصغير.. ركاب قطار الضـواحي البطـيء .. يجوس الممر وسيقان الواقفين .. جيءيذهب وي

.. ال بد لألطفال أن يمزحـوا .. إلى جوار الباب قاعدة صامتة ترهق السمع بقلق .. ينظر إليها عب ويعـود، علـى أطـراف يتباعد صوته، يكاد يتالشى مع الصخب المتوتر بجو القطار يل

.يغزو الدماغ، ينفذ إلى القلب لتنبسط أساريره. يدنو من األذن. األصابعتدرك أنه هرول إلى العربة األخرى حيث أصوات األطفال المتجولين . ى صوته ءيتنا

تعارفوا حين كان مـثلهم يسـرح . أصدقاء العام الفائت . باألمشاط وعلب الكبريت والبسكويت .قبل أن يكون عينا ألمه ومرشدها.. بل موت أبيه األعمىبر الخياطة قإب

بشعاع استشعارها السمعي الرهيف – وأقرانه يتناثرون بالعربات البعيدة –كان يحس بـبطء .. ينفلت من بين تالحم الركاب، ويتقـارب .. يغمره فال يتباعد .. ليه، يحيط به إيسعى تنبسط قسمات الوجه المنصت بإصغاء . وحيدنو من البدن المقرفص بجانب الباب المفت . الحذر

مرهق، إلى انتباه مصحوب بابتسامة حنو المأخوذة بتوقع حدوث زغدة مباغتة أو صرخة في ..تقول.. األذن تنبه الدماغ بأنه واقف بالجوار في ظل صمت مغزول بلحظة التالقي الحنون

. أنت جيت يا حسن-.. تشاء المدرك لفراسة أنف يشم رائحته تشعر بريح أنفاسه تتردى بان .. يقرفص قدامها

..ويعدو.. يبتهج ..يتجاذبان أطرافه مهما تباعدت بهما المسافات.. يشدهما لبعضهما خيط مجهول

تجشـؤهم ي. يتناقصـون .. والركاب المجهدون الذين استحلب قواهم النهار المنصـرم .يتالصقون. ونيتصارع. ويشفط آخرين من فوق األرصفة.. القطار في المحطات الفائتةيلمحونها تقريبا فـي .. حاملو القطار على الكواهل . مألوفو الوجوه . ركاب آخر الخط

لكن لم يكونوا يعرفون من أية محطة تركب العمياء وطفلها المبصر، وال فـي أيـة .. كل يوم ة ا أثناء النهار، بالعرب ي تصادف أعينهم يومي محطة تنزل متواجدة هي مثل كل الموجودات الت

ثوبها القـديم باهـت .. كأنهما ال يغادران القطار أبدا . أو العربات األخرى . األولى، أو الثانية

Page 52: 5323

سـكون قسـمات الوجـه القـانع . السواد فضفاض فوق جسدها المقرفص كمن يتأهب للوثب موجهة األذن نحو الداخل تتحسـس قروشـا .. الملفوف بطرحة بيضاء كالحة حتى االصفرار

.. يتـواتر .. أذن كجهاز إرسال واستقبال يبث إشـعاعا ال يكـل . حجرها يسقطها البعض في . فينصـت أحيانـا . يكهربه حبل المودة المجهول .. يراوغ الصخب وينفذ حيث يتواجد الالهي

.تمسك رأسه المتلهف إلى اللعب. فربما تدعوه، فيهرع إلى جوارها .كفاك لعب يا حسن.. اقعد يا حسن-

تلقـى .. آن له وقت الجلوس القسري واإلجابات المبتورة .. طوى الولد شعور الضجر .تمد األذن كوعاء يتوجب عليه ملؤه.. أسئلة الرتابة

.قعدنا. طيب- .تقرص فخذه الرفيع. تمد أصبعين، وبغيظ اتسم بالعتاب

. عيب يا حسن- :تقول. يتأوه شبه باك

. النهار طويل قدامك- . النهار قرب يروح يامه- ة كام دالوقت؟ هي الساع- . الشمس قربت من البحر- ؟.. يعني لسه بدري؟ قل لي شايف إيه- . اللي كل يوم بشوفه- شايف إيه يعني؟- .. حاجات عادية- ..نورني.. قعدا يا واد - ؟.. أنورك بإيه- ..أعرف.. كل ما تقول أتنور- . إيه الفايدة؟ أنا أهو مفتح وال أعرف حاجة- . يا عفريت-

. ينسل الزهق من صوتهرويدا، .وبنوا أسوار حوالين القضبان. صلحوا المحطات-

Page 53: 5323

أسوار عالية يا حسن؟.. واهللا كويس.. يا سالم- .جددوها. ودهنوا القطارات. نص نص- ؟.. والقطار اللي احنا فيه، غيروه- ؟.. يتغير إزاي واحنا قاعدين جواه- ؟..جددوه.. أقصد دهنوه من بره- ..ا هوزي م.. أهو- والبيوت اللي كانوا بيبنوها ورا الجدران؟- .كبرت قوي يامه.. البيوت كبرت خالص-

:كان االندهاش قد أزاح الضجر من الصوت فاستكان الجسد الصغير إلى الجوار يقول هي األطباق دي ليه يامه؟- ؟.. أطباق إيه- .ليه.. كبيرة ومدورة وفاضيه. أطباق فوق السطوح- .!لو بشوف أحتاج لعيل عبيط زيك. بشوف يا حسن هو أنا - . وكلها متوجهة الناحية دي-

:قالت. وقد أشار بذراعه نحو الوراء ناحية إيه؟- . ناحية المالحة كده-

.تقصد ناحية الغرب .أهي ناحية وخالص

؟.. كلها يا حسن- .. كلها يامه- وفاضية؟- .. خالص-

:قال" زوغانلل"فرصة هي .. تململ.. الضجرهعاود . أروح أسأل وآجي أقول لك- .طيب تعالى.. بتتريق علي يا حسن-

Page 54: 5323

. ا وسطه، وهو يضحكإال أنه وثب قائما هاز.. مسك بهامتدت يدها لت . لو شاطره امسكيني-

.لكن ضربات يدها للهواء كانت عشوائية. مساكهإفردت ذراعها تريد أحسـت .. وتنـاءى . وابتعد ثم اقترب ضحك . راوغها. أحس بالضيق فاقترب لتمسكه

.قالت.. بأنه يبعد، رويدا .. بالش تروح بعيد يا حسن-

.كان رده يجيء من بعيد ..أهو.. أنا هنا.. متخافيش-

لم تستطع اإلمساك به يوما ليظـل . لزمت الصمت واإلنصات .. يتباعد الصوت رويدا ل أو النهار، يتقلقل بدنه، يتحرك بـدأب يحكي ما يراه وما تحب أن تسمعه أثناء اللي . بالجوار

.ومن النظر، تنتابه الدهشة، يستقر قائال.. يتوق لمعاودة اللهو . ياه يامه الرصيف مليان طشوت-

:تقول. تهدئ من دهشته التي لم ينجح في نقلها إلى رأسها . دول الفالحين يا حسن جايين من األرياف بالتموين- ؟.. التموين- .ار يبيعوه عندنا في المدينة الجبن والخض- عرفتي منين أنهم فالحين؟.. آه- . من صوتهم وريحتهم يا عبيط-

يدرك بأنها قد اكتفت، فوجهها انبسطت أساريره . حين تتكاثر أسئلته، يغزوها السكون ..تهدلت شفتها السفلى وتثاقل رأسها وترنم لتبدأ الدخول في نوبة غفوة

.لكسول آت من عمق الغفوةيسمع صوتها ا. ينسل هو بحذر . ال تبعد يا حسن- .طيب.. طيب-

..وغفت، كأن ليس بالدنيا ضجيج وال بشر .ذاب هناك يبحث عن أقرانه أطفال البيع الذين تالشوا وسط الزحام في لحظة الغفوة

. غفوة امتدت لعدة دقائق أو ثـوان .. غفوة داهمت الدماغ فارتكن على ظهر الكرسي صوت مبهم سرعان ما سكن، أعقبه صرخة . ارتطام بجدار القلب فانقبض أيقظها منها صوت

Page 55: 5323

واحدة، أسيانه ومفزعة، ومضت بالتالفيف المرتخية بالرأس المركون، فاعتدل متجمد المالمح .مصلوبا فوق الرقبة منصتا

:وخافت. خرج صوتها من خوف متوتر . ولد يا حسن-

ا، واهنا مخذوال، يشـوبه الخجـل صوت لم يخرج مرة أو يتزحزح عن محيط مكانه .القلق

ركاب انتووا النزول في المحطة القادمة فقد .. يمكن للمقربين من محيطها أن يسمعوه ولو سمعوه لن يدركوه، فصـخب . هم لم يسمعوه . أوشك القطار على التوقف بجانب الرصيف

لمدفون فـي بئـر يتعالى ويأكل صوتها ا ) بسيدي جابر (النزول والصعود وقطارات الطوالي .يمحوه. التوتر

:حواسها في األذن تجمعت، تنصت وتقول .يا وله يا حسن.. يا حسن.. يا حسن-

.لم يصله صوتها المنخفض.. في مكان ما هوولو كان بعيدا، لسمع الصوت بحواسه .. لو كان قريبا لبلغ الصوت أذنه وجاء مهروال

يحس يجيء يخترق مدركا أن . يحمله التذمر القلق ابإشعاعها الذي يتبعه، ولجاء فور المغمورة يرشدها إلـى .. تخضع الكف . القطار قد بلغ منتهى قضبانه، فيأخذ يدها في كفه يتطامن القلب

.الطريق يتحسس طريقه بذعر مطمـوس يسـري خـالل .. لكن نداءها الخفيض كان خجالن

.. ان باتجاه الممر بقوة تركيز سمعي عيناها متوقفت .. يتفرق على أعضاء الجسد الثابت .. العربةقاومت صوت القطار الضاري الذي توقف، والبشر الضجر، وأصوات البشاعة الفظة الصادرة

.الباعة ونعيق قطارات الطوالي المستمرة في حمل البشر والسفر. عن كل شيءـ .. انطلقت لبرهة عابرة بزمن الغفوة .. لم تتكرر .. لكن الصرخة لم تعد م عابرة لحد ل

ألزمتها صـمتا مباغتـا . صرخة استبدت بالدماغ لتعرقل فيه الحركة .. يلحظها معها الكثيرون .. أعادت النداء بصوت خرج عن الرأس.. وثقيال

..حسن.. واد يا حسن-. صخب يومي ال ينبئ عن وقوع شـيء غيـر مـألوف .. يتفاقم.. والصخب يتعالى

الغـالء . يتفوهون بكالم عن التأخر والمرتبـات وا يتحايلون على الصبر، و ءالركاب الذين بد معارك البعض مع المحصلين السادرين في قطـع التـذاكر . الزوغان واللصوص . والزوجات

Page 56: 5323

ونداءها بـدأ يمـأل محـيط .. على الرغم من توقف القطار لعطل بالخط، لم يعرفوا بعد سببه .مكانها

..يا حسن.. يا حسن.. يا حسن- . العربات الخلفيةةكثير.. لهوي.. ربما بعربة أخرى هو

. حسن- .تحريك الجسد المحطوط بقوة الذعر. يتوجب النهوض وتلمس الطريق لتبحث عنه

رفعت الرأس نحو مصدر األصوات المتشابكة بتكاثر عنيد مستعيدة بكل الحواس تلك نهضـت ممـددة .. الصرخة الوامضة التي اغتيلت كما اغتال الهمد الوحشي أعضاء البـدن

.تتحسس أبدان الركاب وأعمدة الممر، وظهور الكراسي.. راعينالذ .ارتاح القطار على القضبان

يتوقف كثيرا هو منذ أحدثت الهيئة التجديدات باألرصفة واألسوار والقضبان وإشارات .حسن يحكي لها كل شيء.. يتوقف ويسير ويبطئ أن تعرف ذلك جيدا.. المرور

سألت أحد الذين صادفوا اصطدام .. فس لقبول االرتياب لكن التوقف اآلن غريب هيأ الن .جسدها المهرول

..؟.. هو حصل إيه يا خويا-. سمعت صوت التذمر ينخر الرأس .. أهي عيشة تزهق .. انزلي شوفي .. أنا عارف -

ألن أحدا هنا ال يهمه غير سرعة وسالمة وصوله .. هناك أمر قد حدث ولم يهتم به أحد .. نعم .لمحطة نزوله

..انقباض القلب يدفع البدن على التقدم نحو العربة الثانية .. ولد يا حسن-

..رويدا يعلو صوت النداء .فالعربة الثالثة

..؟ يا حسن.. ما حدش شاف حسن- .تجس أبدانا متناهية في صمتها العجيب

.حسن لم يجب على النداءات.. كالنائمين كانوا .والصوت يعلو صادرا عن القلب

.ع لتردد الصوت المشجوب على حبال الذعر الملتفة حول العنقلم يسم

Page 57: 5323

... يا حسـ ااان-مرتكزة الرأس على أصوات اللغط الدائر بين الركاب في محاولـة لسـماع .. مهرولة

..شيء يهدئ من الروع ..يا حسـ ااان.. رد.. يا بني.. حسن-

تلك التـي بـالنفوس، منطلق ليمأل كل الفراغات حتى .. العواء. نداء أشبه بالصراخ .بالرؤوس

. يصعد لعنان السـماء .. األسيان سوف يشحن الجو كله يخيل إليها أن صوتها المناد . فيبحث معها الجميع عن حسن.. يطغي على صوت الصخب والبشر

؟..أيكون ذهب لدورة المياه.. .. لكن حسن دوما يرسل بوله عبر الباب بجوارها

؟..أفعل وتبول عبر باب آخر أذهب لشراء ساندوتش؟

..هو مفلس، وطعامه مخبوء دائما معها بائع الخضر والفواكـه قطـع ،العم الذي ذهبا إليه في العصافرة لم يعد يمنحهما مليما

.عنهما المعونة الشهرية ..وها هما يتجوالن بالقطار منذ مات زوجها األعمى

لمرضه، ومشاق المشوار مـن ثم انقطع .. من قراءة القرآن في المقابر، كان يعولهما .كشك الحبل إلى مقابر عمود السواري

الجلوس على أرض الممـر فـي –القطار يقطع المسافة بين اإلسكندرية والعصافرة صمت الخجل، جعل المحصلين يتركونها وطفلها، لكن ذات يوم وجدت في حجرها قروشـا،

التي تقطن الكشك المجاور، فهي تنام ا هقروشا أخذت نصفها أخت زوج . ألقتها األيدي المحسنة .وابنها وعليها أن تدفع ثمن الكشك واإلقامة

.بني يا.. حسـ ااان- ..قالت.. مسك بذراعها أحد الركاب ليجتاز بها الممر الفاصل بين الباب والرصيفأ

.. ما شفتش حسن يا خويا- حسن مين يا ست؟- ..كان هنا دالوقت.. حسن ابني-

Page 58: 5323

:لرصيف وهو يقول بلهوجة متعجالهبط بها إلى ا ؟.. شكله إيه حسن ده يا ست- ..عيل صغير.. ولد- .. العيال كتير يا ست- .. ده كان معايا من شوية- ؟... البس إيه حسن ابنك ده- .بيجامة.. ؟ البس هدومه.. البس إيه- ؟.. شكلها إيه البيجامة دي-

لعل الرجـل .. لزمت الصمت .. يده بالدهشة المريبة والغرابة، استخلصت ذراعها من :سألت.. لكنه تطوع وأنزلها.. لم يلحظ عماها ؟..هو فيه عيال كتير البسين بيجامات.. بيجامة ..تساءلت.. أيقنت أنه انصرف لحاله.. لم يجب

كان هناك بالطرف القصـي .. بني يا.. يا حسـ ااان .. يا ربي .. هو الولد راح فين -منظر . على السكوت مجبرون. لصمت والفزع، ينظرون ألسفل من الرصيف رجال يحدوهم ا

يقابلهم صف آخر بطـرف . افة الرصيف حأليم عرقل األلسنة ولملم أبدانهم ليكونوا صفا فوق صفان يفصل بينهما قضبان المعة تناثر على فلنكاتهـا قطـع مـن لحـم . الرصيف المقابل

الت قد هرست ومرت ليتساوى الحديـد كانت العج .. ما يزال الدم الساخن ينبثق منه . مهروسلم يفكر . مخلفا مؤخرته بعيدا عن أشالء الجثة بحيث يتسنى لرجال اإلسعاف جمعها .. بالحديد

. بأحضان أمهاتهم– يقينا –ولم يفكر أحد في غير أطفاله القابعين .. أحد من يكون الولد.. انطـالق الصـرخة ربما تساءلوا في لحظة الهرس المباغتة، لحظة وقوع الحادث و

أشيحت وجوه النساء اللواتي سمعن ورأين نحو الجانب اآلخر ،لحظة لم تدركها المرأة الهائمة .افي تقزز أرعد القلوب وأطبق عليهن صمت

.وضعن األيدي على العيون واألفواه في محاولة لمحو النظر .يا واد يا حسـ ااان.. يا حسن-

بلهـف .. مخنوق بالقيظ الجاثم فـوق النهـار فوق الرصيف كانت، تتحسس الفراغ ال .تهرول بعشوائية.. تصغي لعودة الصخب

..حسن.. يا حسن.. يا حسن-

Page 59: 5323

.نداء تعالى فوق الصخب اآلخذ في الذوبان . يا حسـ ااان-

أفقـدها الـتحكم فـي . شعور ترسب بقاع القلب ينذر بفقد الولد .. فيه الروع والرعب .انتظام الخطو المهرول

.تصغي.. توقفت.. ولم تبال. بأبدان مهرولةاصطدمت .لعل صوتا يأتي من بعيد يطمئن القلب

. حسن-لعل صوت إسعاف يشق الصمت الـذي .. تصغي.. سادرون هم في الهرولة والسعي

رويدا بعد رحيل القطارات، وخلو المحطة إال من بعض الباعة والكناسـين، . بدأ يتناسل رويدا .. طارهم ليسود الصمت من جديدوبعض ركاب لم يدركوا ق

. يا حسـ اااان- ..نداء ردده الصمت المخبوء في النفق األرضي

.ونهر القضبان حتى الجدران.. يرجع صداه صاالت التذاكر المصمتة ودورة المياه ..يا حسن.. يا حسن-

..صراخ اندهش له مفتشو األبواب.. صراخ ..قتلقد مر الو.. وهي تجوب الرصيف، بخطو وئيد

..وسوف يعود. لعل الولد ركب قطار الطوالي ..لكن قطارهما كان يمشي حين فقد

.حسـ ااان.. يا حسـ ااان-

١٩٩٧/ ٨٩نشرت بمجلة القصة ع

Page 60: 5323

صوت المطر والريحصوت المطر والريحوجهوا كشافات النور الباهر نحـو .. ثبتوا كاميرات التليفزيون بأركان القاعة الكبرى

وضعوا أبناءهم المربربين في .. تأنقوا.. شدوا األبدان .. رجونانبعج الحضور المبه .. المنصة .، وراحوا يضحكون لتبدو صفوف أسنانهم البيضاء براقةدمقدمة المناض

كان فتوح واقفا هناك عند مقدمة البوفيه، تصغي أذناه بصوت دقات المطر فوق زجاج ادرة المكان والعودة إلـى بيتـه تتنبه حواسه لما سيعازيه عند مغ .. النوافذ المتباعدة بالجدران

أهم يسمعون ذلك الصوت الذي يدق القلب؟ .. النائي ..اآلن سوف يبدأ الحفل الكبير

فـوق المناضـد، والمقاعـد، . ور الكريستال في الزوايا المكشوفة ألوان البل توهجتـ واألباجورات ذات الضوء الخافت المتواري أسفل ا ورلكشافات، انعكست الوجوه علـى البل

. وأطباق الكريستال وزجاجات الخمر والمشروبات المثلجة، فبدت بيضاوية، متورمة، وقبيحـة – خفية –وأزاحوا .. سكت البعض وكف عن الضحك .. أسنان تضخمت لحد الشعور بالخوف

.. سـاووا الشـوارب .. ضبط الرجال أربطة العنـق .. ازدادوا تخشبا .. مراياهم المقعرة جانبا ـ .. سـابق التحضـير .. هم المربربين الواقفين في ثبات مبهر عدلوا من شعر صغار توراح

.النسوة يستخرجن يقارن بين وجوههن ووجوه األخريات بأطراف العيون وانعكاس المراياجميالت كن .. كل شيء جميال لم يزل وثابتا على حاله .. كياجاتأكدن من شعرهن والم

ينتظـر، بقلـق، لحظـة البـدء .. البوفيه في عين فتوح الجرسون، ديدبان، مرابط إلى جوار ويمني النفس بعـودة غانمـة، .. واإلشارة من مدير الحفل ليخوض معركة الطحن باألضراس

.حلوة المذاق والرائحة، بقايا الحضور الموائد، غنيمة اإلياب والعيال. وعدتهم أنت بذلك؛ عندما رجعت من عملك الحكومي أمس نهارا . ينتظرونك هم اآلن

بالحفالت الخاصة، تلك التي تقام بين الحين واآلخر على شرف القوم – ليال – جرسونا يعمل . المنبعجين بالمدينة

اختلس لسـاعته نظـرة . قفازه األبيض .. عدل ثيابه .. اساوره ابتهاج شد قامته، سر ..يشـاهده .. احتمال يظهر في التليفزيون . من يعرف .. سترته البيضاء .. تأكد من ببيونه األسود

تقدم الصواني، بود، إلى .. البعض لكن ال يجب أن يراك أحد معارفك وأنت هكذا محني الظهر .دا.. لكنه ليس عيدك.. هو عيد الطفولة كما يقولون.. نعم.. المتأنقين.. اآلخرين

وفي هدوء .. دار وسط الموائد والرؤوس، يوزع الكؤوس لتسليك الصدور قبيل األكل ..ثم.. بكت المالعق والصحونتشا.. عملت األضراس

Page 61: 5323

وجـوائز .. وزعت جوائز مالية لألقوياء من األطفال وجوائز عينية لألذكيـاء مـنهم .تقديرية لألكثر نباهة

– بقلق خفـي –ويصغي . يغافل نفسه، ويختلس لساعته نظرة . وبين الدورة والدورة جـوع مـن منطقـة مشغوال في كيفيـة الر .. لصوت زخات المطر المتساقط بالخارج البعيد

كيف تصحو غدا لتذهب لعملك األساسي؟.. المعمورة إلى بيته المتطرف بشمال المدينة مـن حلويـات – أعـده لـذلك – صندوق كرتوني عزا القلق الذي بدأ يتنامي بملء

.ومشويات البوفيه . كانوا يتقدمون نحو المنصة.. تبارت البطون المتقدمة بعرض األطفال المتنافسين

انه كله داخل الصندوق، وأحكم إغالقه بحبل غسيل، وقد أبعد عن ذهنه ذلـك وضع كي .. أعد ابتهاج مشاعره لمنظر عياله المبتهجـين وهـم ينقضـون علـى الصـندوق .. الحفل

. وال ضير لو التهموه هو أيضا.. يلتهمون.. يقضمونثر فـوق تتبع.. تدفع أوراق الشجر فوق األرصفة .. كانت الريح ترتح في خواء الليل

وعلى الـرغم مـن .. القضبان والفلنكات، وتصفر في أذنيه وراء صندوقه المحمول فوق كتفه .إال أن الصندوق لم تصبه ارتجافة واحدة. ارتجافات جسده النحيل

تحرك فوق الرصيف ذهابا وعودة ليسري الدم بعروقه ويشعر بالدفء، انتظارا لقدوم .ب تراما لبيتهالقطار النازل إلى المدينة، ثم ليرك

مطر خفيف كنقاط صـنبور . أرهف السمع لرذاذ جديد بدأ ينقر سطح الصندوق بنزق . فتح بغتة

مال قليال إلى األمام مداريا الصندوق بحيث يكون عند بطنه، . توقف. أنزل الصندوق كريهـا، حلـو لو بلغ الماء قلب الصندوق، سيصبح كل شـيء . رطوليتلقى بظهره رذاذ الم

مقـززا، أولـى بـه .. يض، اللبن، والبندق، ورقائق الخبز، قطع الفراخ، وأصناف الفاكهة الب .وقمامة الشتاء تعافها القطط وال تقربها الكالب.. صفائح القمامة

يحمـي بجسـده .. وكان منحنيـا .. اء، فاشتد المطر مأرعدت الس .. تنافست الصواعق .. يتسـحب .. و ينقر سطح قطار قادم واستطاع أن يميز صوت زخات المطر، وه .. الصندوق

. وما من سواه ينتظـر . يباغت الرصيف، ويبتلع ركابه خلسة .. راح يغافل الليل .. ثعبان ماكر .فأقبل إلى الداخل واعتدل.. إلى أن توقف القطار. مقوس الظهر

ـ الواقف بها شبه خاوية، ال يبدو سوى ظهور المقاعد فيهـا تحيـر ةوألن العرب ي ف .قهالجلوس بصندو

Page 62: 5323

وضع نفسه فوق أقرب مقعد، وبرفق، حط الصندوق إلى جواره، بدا كطفل واع، جلس .إلى جوار أمه

وجـس .. مسح رأسه بيـد .. قشعر بدنه ابتهاجا وبردا ا.. مبلوال.. تحسس ماء ظهره ..ا وقناعة ال يخلوان من توجسونظر أمامه وهو يستشعر رض.. جيب بنطلونه بيد

يتحـرك بانتعـاش .. ر كرسي في العربة، وراء كابينة القائد كان المحصل جالسا بآخ وحين اطمأن فتـوح، اخـتلس نفسـه، .. كأنه يستجلب الدفء . ببطء وسرعة ويدخن .. مريب

.ودخل الصندوقاستنشق روائح تمـأل .. تبسم.. جاور قطعة الجاتوه السليمة، المربعة، هذه ألم العيال

.غتبطا. القلب المجهدلكن الصوت تالشى بنقر المطر فوق .. أنين آت من مكان قريب تناهى لسمعه صوت

وتيارات مـن ريـح .. أبواب ونوافذ بال زجاج .. ربة المتحركة، ليعكس ريحا هائجة جدار الع .وماء

..جس بنطلونه. تثاءب ببطء. فرك يدهأيقـن . هرس عقب سيجارته بحذاء ضخم ومغبر .. لمح المحصل وهو ينهض، تكاسال

وكأن المطر اللعين قـد . فلم ير بالعربة سوى ظهور بعض الكراسي . صده رأسا فتوح بأنه يق .أسكن الدنيا في البيوت

..وانتظر دنو المحصل.. أعد ثمن التذكرة بيد، وباليد األخرى، تحسس ظهر الصندوقكغول أسـود، .. حتى إذا توقف أمامه بدا أكبر . كان الرجل يتضخم كلما ازداد اقترابا

لم يتوجس وهو يقدم إليه الثمن، ويأخذ التذكرة، بل توجس لنظرة .. سقف العربة يالمس برأسه بي أنظرة سأم لكل مألوف بقطار ظل فارغا ومنذ قيامه من محطة . الرجل المرشوقة بصندوقه

.. وهو يوليه ظهره العريض .. خمش قلبه قلق مبهم، فقد أعاد الرجل النظر إلى الصندوق . قير ي؟ماذا يريد من صندوق

وتطلع لظهر المحصل المتجه نحو .. نفخ فيها .. وبتلقائية، نحى يده من فوق الصندوق .مقعده بآخر العربة

.. إلى جوار أصابع الموز الكبيـرة مكـث .. اطمأن القلب منه، وتوارى في الصندوق البرتقـال يقطـع .. سوف يوقظ البنت لو نامت .. باألسواق الموز غال .. صغيرته تحب الموز

ويوزع على العيال بالتساوي، مع الحلويات، وليدع قطع الفراخ لتطبخ به األمأجزاء . ..انسل.. فانسل.. دق رأسه صوت األنين

Page 63: 5323

تناهى صوت األنين عند رأسه وصوت المطـر .. فرك يديه .. هزهما. ارتعشت قدماه ينكمشون . .النازل يهدر رويدا ويتباطأ القطار يلتقط اثنين أو ثالثة ركاب من أرصفة المحطات

ونظر .. ويرشق الصندوق بعين السأم . ويعاود االقتراب من مقعده .. يداهمهم المحصل .. قعودا ..وحط يديه في جيب بنطلونه واستدار متوجها نحو مقعده البعيد.. لفتوح

حمل الصندوق ووضعه فوق ساقيه، وشغل نفسه باإلنصات .. ساور فتوح خوف دفين . نظر إلى الخارج من خالل كسر النوافـذ .. ا خفت صوت المطر الذي يعلو كلم . لذلك األنين

هنـا نصـف .. تأفف.. القطار يوشك على التوقف .. أضواء نائية تتحرك ببطء عكس االتجاه .المسافة

المحصـل . وجفناه الثقيالن يناضالن رغبة النوم . احتضن الصندوق بذراعين حانيتين في جيبه أو بين وركيه، وقد أرخى نصـفه وضعها.. وأنزل يده .. فوق مقعده، أشعل سيجارة

يهمس لنفسه، أو لشخص آخر يقبع أسفل المقعـد، . السفلي غير الظاهر، فاردا ظهره المشدود . أو المقعد المقابل ببعض عبارات غامضة

ثم .. لكنه اعتدل فوق الكرسي .. بالتأكيد يسلي نفسه، أو يراجع جدوله بصوت خفيض يصـعد .. مخفيا لكلتا يديه أسفل منه، تاركا السيجارة معلقة بفمه . .وتراخى.. وشد بدنه .. تدلى

.دخانها نحو عينيهالمقعد الفارغ؟ يتحرك هكذا ليجلب الدفء؟ يسوس .. أهو يحدث نفسه؟ يناجي الجدول

الوقت الثقيل تحت وطأة الريح والمطر؟ ذلك الذي تثاقل ليصبح ثلجا يدق سطح القطار والقلب المتوتر؟

يدعك عينيه ورأسـه .. يجس جيبه .. يهز ساقيه .. وح يلمس أطراف الصندوق راح فت .المتثاقل

كأنه يسري بأرجـاء .. أنين لم يستطع تحديد مصدره .. وصوت األنين يزداد تواصال ..الجو

ال شـيء يبـدو سـوى .. أدار رأسه، والتفت عبر ممر المدخل الفاصل بين العربتين .وتكوروا مرتعشين.. تفرقوا.. لبرد لركاب منهكينبعض رؤوس تقاوم ا.. ظهور المقاعد

.يصر على تحريك الشفقة.. يثقب القلب.. واألنين يواصل غزو الرأس .ني.. ني.. ني يا... آه.. آه ه ه.. م م م أم.. آه ه هلم تعد بالنفس قـدرة علـى .. ألزم نفسه مكانه والصندوق .. لكن.. ي النهوض ف فكر

.التحمل

Page 64: 5323

.. ينبغي أن يقومـوا .. المجاورون له .. على البعض أن يفعل .. الصوت يحشو الدماغ ..ويواسونه

.. من اإلجهادمزيد.. يفتح القلب لدخول األسى األنينلكن وطءويعلو .. األنين يقترب، يتباعد .. اندفع صوب العربة الثانية .. نهض من جوار صندوقه

.. بأبدان األطفال المنكمشين كالقنافـذ – تقريبا –لئة كانت العربة ممت .. وتفرق.. ويعلو ويهبط .متسخون وحفاة ونصف عرايا.. فوق كل مقعد طفل صغير تتداخل عظامه

أطفال النهارات الصيفية الملقون بال ناس فوق أرصفة الشوارع، يقتاتون مـن أكـوام ي الشتاء فوق مقاعـد متسولو المدينة الواسعة يتالقون في ليال .. الزبالة وفتات زائري الحدائق

..القطارات، يرتعشون ..ملقى فوق مقعد.. يتلوى.. كان أحدهم يئن ينكمش

.زغده فتوح.. برفق مالك؟.. ولد-

..هزه فتوح.. رفع الولد عينيه الباكيتين، وانكمش أكثر، ولم يرد : مالك-

..كت أسنانه وهو يقولطأص.. كف عن األنين، وتلوى ..آه.. مغص.. ال شيء- وإلى أين أنت ذاهب؟- ..بألم.. قال فتوح.. ن الولدإ

-قل.. ا قل لي أنا لست شرطي.. ..آه يا في. أي.. وجعنيي بطني - أين أنت ذاهب؟- .. لبيتنا- .؟ وأين هو- ..هناك.. بعيد- .؟ بعيد أين- .. آخر رصيف-

Page 65: 5323

شدوا .. ، وانكمشوا فتحوا عيونهم الكابية ونظروا تقلبوا .. وتململ بعض األطفال النيام :أطراف الجالليب والقمصان الواسعة، كأنهم يشدون األغطية فوق األبدان، والولد يقول

.أذهب لبيتنا. سأنزل. عندما يصل القطار- .بطيئا.. وتحرك القطارشرع في العودة إلى جوار صندوقه، موقنا بأن الولد لن يذهب ألي .. هز فتوح رأسه

. فاألنين ارتفع بشـكل محـتج . زداد، وال فائدة بعد من إعادة سؤاله مكان، وأن وجع بطنه سي .موجع القلب

. ستدار ليعبر الممر إلى مقعده، شاهد أطفاال آخرين قد تجمعوااحين .. يتدافعون بنضال شـرس .. والمقعد المقابل ملتفين حول الصندوق هانحنوا فوق مقعد

تصـدر عـنهم أصـوات .. ونهم متوحش بشراهة .. يتخاطفون ويلتهمون محتويات الصندوق ثر آ.. الجئير الملتذ وتكسير العظام، ناظرين بارتياب المتحفز نحو فتوح الذي مر، بجانب حذر

.ممرور القلب. المرور بصمت المذعور نحو مقعد آخر بآخر العربةتوقف المحصل، فجأة، وهو يمضغ شيئا وليعدل ثيابه، ويزرر فتحة بنطلونه، وليلكـز

. ، نحو األطفالافال نهض من أسفل المقعد، مرعوبا، وانطلق متعثربقدمه ط . كانوا يتشاجرون، وقد مزقوا الصندوق الكرتوني الفارغ

بصـق فـوق .. وفتوح، ينظر، بكل الغضب واالزدراء لوجه المحصل المتحرك بثقة .وتوقف إلى جوار الباب ليواجه الريح والمطر.. المقعد بقوة

Page 66: 5323

ظل بابظل باب. ب يقي جسدها المتحرك من قيظ الشمس في الميدان الفسيح المغمور بالبشـر كان البا

يحـيط رأسـها والكتفـين . استرعى انتباهي ثوبها الواسع المشجر بالورد الكبير فاقع اللـون قـديما . متصلب الرأس الساكن تحت الباب الخشـبي . بالصدر خمار أصفر تدلى إلى الخصر

.كان ومكسور الزجاج ..طريقي.. و محطة القطارتمد الخطى نح

:قالت بصوت ناهر.. توقفت واستدارت بالباب ..مد م الشمس.. مد يا وله-

لمحت طفال صغيرا يسعى بالوراء، عرقان الجبين ممسكا بكيس نـايلون بـه بعـض ".المفصالت"

. حين أصبح الولد في منطقة ظل الباب عاودت السير إلى داخل سياج المحطة الكبيرـ " مينا البصل "ا بناحية يقام أسبوعي قد ابتاعت الباب من سوق الجمعة الذي يقينا ثحي

.تباع وتشتري مخلفات البيوت القديمةحال الزمن بين لونه األصلي األزرق، ولونـه الحـالي . عريض هو الباب ومستطيل .الكالح، كاشفا عن خشبه الرخيص

بحيث أمنع مقدمة الباب من . قداماألكون .. دفعني شعور األسى ألن أتقدمها في السير .االصطدام برءوس المارة النازحين من البوابة الكبيرة نحو الميدان

.إوعي توقع المفصالت.. إمش يا وله-لم تلحظ تقدمي قدام الباب، فظلت تتقدم بخطو مجهد حتى جـاوزت فنـاء المحطـة

وتكـاثر أبـدان الهلـع الداخلي وأصبحت في مواجهة بوابات األرصفة حيث تفاقم الـرءوس . متقاطعو االتجاهات بأحمال القفف والحقائق يتصادمون. المهرول

وعيناها نافذتان ضيقتان تموج بسياجهما الحدقتان، تبحثان في شـغف . توقفت بالباب .عن الطفل القريب

.إوعى المفصالت.. إوعى تتوه يا وله-ين نحـو األرصـفة المتعـددة، أبعد المهرول . أحذر وأنبه .. نشرت ذراعي قدام الباب

أو المتلهوجين ركضا نحـو شـبابيك التـذاكر . يبتغون بلوغ القطارات الموشكة على الطلوع .المربكة

Page 67: 5323

أفرد الذراعين وحرج بالمشاركة ينتابني، أال أجرح مشاعرها بتقدمي المتعمد ورؤيتي وهـي تبغـي . خرينما مكسور الزجاج، أرهقته السنون واستعمال اآل يلها وهي تحمل بابا قد

. ركوب القطار بهلكن يبدو أنها لمحت تقدمي المتعمد وترصد خطوها بطرف عينـي ونشـر ذراعـي

.قالت بضجر منهك.. نظرت للولد المجاور.. لتحذير البشر، فقد تمهلت قليال ..يا واد قدامي. إمش يا وله قدامي-

. تقدم الطفل ليكون قداما .ني يا وله إبعد شوية رح توقع-

هنا تنتهي .. قلت في نفسي . تاركا لها أمر نفسها . احتواني الخجل، تواريت بين البشر لعنـت .. فهي تبغي قطار الطوالي، وأنت تبغي قطار الضواحي المتجـه لبـاكوس .. مهمتكإحراجي بالدخول والمواراة باالنغمـار .. أبتلع.. وتابعت خطوي نحو رصيف القطار .. تطفلي

. تتجه بالباب والولد شطر رصيف قطار الضواحي.. ارأيته.. وسط البشردار بينهما حديث أدى إلى نـزول البـاب بـالتواء . ستوقفها محصل الباب الرصيفي ا

الجذع تماما، وانحناء الرأس إلى أن استوى الباب واقفا بمساعدة الذراعين، حيث أصبحت هي . والطفل متواريين وراء الباب

فأزاحت الباب قليال لتبدو هي والولد لعيني المحصل . قدق المحصل على الباب بضي دفعني الفضول فدنوت، تواريني أبدان االنفـالت المتقابلـة جيئـة . الذي يتحدث برذاذ شدقيه

.وذهابا إلى جوار الباب الذي أخفى جزءا من المحصل غير معقول أن تكون حفظت مالمح وجهي أثناء تقدمي .. توقفت يفصلني عنهما الباب

كانت تقـول بصـوت . تستطيع فقط أن تتعرف على ظهري فكل الظهور متشابهة . منذ حين .متوسل

إزاي أدفع تذكرة . كل الفلوس اللي كانت معي اشتريت بها الباب . صدقني يا راجل - . ؟ خذ تذكرة عادية..طرد

األخ معها؟.. موش بني آدم.. دا باب.. تذكرة الباب.. يا ست بالش وجع قلب-غادرت المكان من وراء الباب، مـدفوع البـدن .. رأسي بسؤال المحصل لي بوغت

موقنا أن المـرأة قـد أذعنـت للمحصـل . المخذول خجال نحو القطار الموشك على التحرك وغادرت المحطة بالباب، في حين يمتد رأس الطفل عبر النافذة ألنظر إلى الرصيف الملـيء

. بأن المرأة آتية بالباب والولدبالبشر، بإحساس يؤكد توقعا قبع بذهني

Page 68: 5323

موضـوعا . تحمل الباب . تغز الخطو بفرحة النصر واالنفالت والتقدم صوب القطار .فوق الرأس كما كان والولد بالجوار

. القطار حيقوم.. مد يا وله-إال أن التطفل في أعين .. وعنها. كأنني مسئول عن بابها المرهق .. كدت أمد لها يدي

.فآثرت االنزواء ريثما تصعد بالباب، والولد. ربما تعتقد أنني أتعقبها. الركاب منعنيفانزلق البـاب قلـيال بمعرفـة . انحنت هي بالخارج . أسرع واحد وتناول منها الباب

دحرجة الرأس ودفع اليدين ليستقر أخيرا بجوار ظهر أحد المقاعد المتاخم للبـاب القطـاري .المفتوح

يني بابها، ورأيت من خالل الزجاج المكسور جسدها يتراخـي كنت بالممر واقفا يوار .جففت عرق الرقبة والطفل يقول.. ويتكوم إلى جوار الولد

. كده الهواء مش راح يخش تاني عندنا- ...ونرتاح من عيون الجيران

؟.. ونقفلوه بالقفل- . قالت بذعر يزول رويدا

..كان ناقص نبوس إيده.. يا باي عليه راجل-أحسسـت بـنفس .. رها اطمئنان، الح على الوجه، وتربيعة الفخذين وراء البـاب غم

لكن اغتال ضحكتي صوت قلم محصل القطار يدق ظهـور الصـمت .. الطمأنينة، فضحكت ..فأعددت له ظهري

.تحفزت للدفاع.. توجست.. سوف يطالب المرأة بتذكرة للبابلكـن توخيـت .. بالباب هي نقدت محصل بوابة الرصيف تذكرة واستطاعت المرور

.الحذر والصمت . قال الولد بتلقائية عفوية. دق الرجل الباب بقعر القلم

؟.. مين اللي بيخبط-نهضت تنظر بوجل عبر زجاج النافذة المكسور لوجه .. اعتدل الجسد المنساب ارتياحا

.المحصل ؟.. الباب ده بتاعك-

: قالت بابتسامة تضمر توقع األذى

Page 69: 5323

.يخليك.. البيوت هناك من غير أبواب.. عزبة في المندرةأنا ساكنة في . تذكرة.. أنا لي تذكرة.. وأنا مالي- . أنا قطعت تذكرة-

: قال.. أخرج دفتر تذاكر الطرود !؟..؟ بالش.. والباب- ..معلهش.. يخليك يا خويا- يعني إيه؟- .. فلوسي خلصت-

ن غير تذكرة؟إزاي جيتي من الباب م.. تذكرة للباب.. والباب . المفتش األوالني طلع ابن حالل وسابنا-

:اغتاظ المحصل وسخر يقول . تذكرة.. والمحصل التاني ابن حرام- . خليك إنت كمان ابن حالل-

: ضجر يقوليبقى الباب متهرب من فوق السور ألن محصل البوابة ال يمكن يسمح بمـروره كـده

.ببالش . يخليك يا خويا.. إنت سماح.. والنبي سمح وخالص-وأحملك مسـئولية . يا حنزلك سيدي جابر، نقطة البوليس تتصرف معاكي .. تذكرة -

.تعطيل القطار .ران الصمت على الركاب وهو يقول مزمجرا

والتاني ابن حرام؟ لما نشوف التالـت بتـاع .. يعني المحصل األوالني ابن حالل - . بوابة سيدي جابر يطلع إيهفقد سمح . فألشهد بأنها كادت تقبل أقدام المحصل األول . نفسي اآلن فكرت في إظهار

. لكن األمر سوف يتعقد لو قلت شيئا.. بالفعل بمرور الباب : وبعض الركاب المجاورين يقول.. لزمت الصمت

. الولية غلبانة.. خالص بقى يا ريس- . بنياوده .. والنبي أغلب من الغلب-

Page 70: 5323

: قال بصوت واثق وباستند أحدهم على البا ؟.. هو التمن كام- الباب وال التذكرة؟ - ؟..كام.. الباب طبعا- . إتنين جنيه ونص-

.والواثق يتوارى.. قال آخر .كل واحد يدفع اللي فيه النصيب ونسد المبلغ. خالص-

.ت المرأة وراء البابشانكم . قال المحصل وقد اختنق بالغيظ

.م هي اللي تدفع علشان تعرف إن األمور مش سايبة؟ الز.. يعني إنتو أجدع مني-في حين تخاذل .. أخرجت قروشا .. لكن األيدي اندست برفق ملول إلى قيعان الجيوب

ظهرها للبـاب والمحصـل يبدن المرأة إلى جوار الولد مختلجة الشفاه، مترقرقة الدمع، تول .والقروش الذي امتنع عن أخذها

: أن يستريح على رصيف سيدي جابروالقطار يوشك .. قال المحصل ..لما نشوف حتخرجي من البوابة دي بالباب إزاي.. إتفضلي انزلي-

تركوه واقفا مسنودا على .. حملوا الباب إلى الرصيف .. تطوع بعض الركاب النازلين .. نحو باب الخروج الوحيد الرابض به محصل قـاتم المالمـح .. وتفرقوا مهرولين .. ذراعيهاليبـدو .. يخلو من البشر .. يتباعد الرصيف .. يغادر الرصيف ببطء تدريجي . يتحرك والقطار .إال من باب مصلوب بالمنتصف يواري امرأة وطفال بعيدين.. مقفرا

Page 71: 5323

الوليمةالوليمةمن بين المندفعين صعودا، والمندفعين هبوطا ركبوا قطار الضواحي، كطابور صغير

استقروا على المقعـد .. بة، واألخوان، الطفلة والطفل حامل العل . األم وخلفها الصبي .. متدافع ..بطرف المقعد. حامل العلبة. األم إلى جانب النافذة، والصبي. المجاور متجاورين

ولمحت الصبي، والعلبة . من فم مدهون باألحمر الخفيف، تنفست األم الضيق المكتوم نضباطها بين راحتـي الصـبي التي انطبعت برأسها المتطامن على اعتدال زواياها األربع وا

وذراعيه، ووضعها المتوازن على الساقين، فأصـلحت مـن اعوجـاج بلوزتهـا الصـفراء ثـم رفعـت أصـابع أفـرى .. المكرمشة، والمشبوكة عند الصدر بدبوس بدال من زر مفقود

أظافرها غسيل سابق، عدلت من إيشارب منحولة أطرافه، فوق رأسـها المتدليـة شـعيراته ..الحناء، أعلى الجبين القمحي المجعدالمصبوغة ب

..همست بصوت واهن لطفلتها الملتصق ظهرها بسياج النافذة ..تقولي لجدتك، كل سنة وأنتي طيبة يا ستو.. زي ما فهمتكي تنسيوعإ

أومأت الطفلة برأس كان يتابع وجهه المنمنم شكل العلبة المبسوطة على حجر الصبي، ولتين باألسود غير المنسق لبدن الصبي الثابت تركيزا بوضـع بوقت مالحظة عيني األم المكح

.. وعى تقع منكإ... همست له. العلبةمزركشة . كرتونية التكوين مربعة . على الساقين، وبين الذراعين، واألصابع، والنظر

ممسوكة بلمس األصابع وانتباه الذهن، ورفـق .. بألوان مبهجة ومربوطة بشريط ذهبي جميل . يحمل آنية مملوءة بالماء الطافح الذي يخشى رجرجته وانسكابه من الحوافكمن. الروح

كان بدنه يهتز ثباته مع اهتزازات القطار، محاذرا أن تهتز العلبة، فيلجأ لرفع اليـدين موازيا بانضباط نفس اضطره أن يجز على أنيابـه، . مع الذراعين قليال عن مستوى الفخذين

جافتين، متطلعا فيما حوله بنظر كسول زائغ، تجوس بين الوقـوف ضاغطا على شفتيه شبه ال حين يشعر بالشرود إلى مسطح . الذين كانوا يتحركون بحرية أبدانهم دون قيود، هابطا بنظره

..زواياها قد انحرف قليال لحظة شرود ذهنهإحدى العلبة، مأخوذ القلب خشية أال يكون مه يراقب العلبة بعينين ذابلتين، آخـذا برأسـه كان الطفل الصغير الواقف بين ساقي أ

شكل العلبة، متخيال ما يمكن أن يكون بداخلها من حلوى، وقد انغرس أصبعه الصغير في فمه خفية، سحب أصـبعه مـن .. بشكل شارد السمات وصامت يبتلع ريقا كان يغوص في العلبة

، والمس الزاوية الكرتونية الناعمة والعلبة بيداخل فمه، ومده عبر فجوة الفراغ بينه وبين الص التي تشبه السور الدائري، محاذرا من عيني أمه التي كانت تحول نظرها إلى الطفلة المركون

Page 72: 5323

. واألعمدة. والقضبان. من خلفها البيوت – راكضة –ظهرها باستكانة على النافذة حيث تترى .. والشجر

..أدنت الطفلة فمها من أذن أمها الذي تقارب ؟..هيعني ممكن تفتحها النهارد.. هي ستو راح تاكل من العلبة الليلة.. ماما -

. أومأت تقول بنهر خافت.. تجهمت مالمح األمكان الطفـل الواقـف بـين السـاقين .. هدية ناخذها منها؟ عيب .. اسكتي.. عيب - :قال.. يصغي

؟.. ممكن بابا يشتري لنا علبة زيها- :بثبات بدنه. قال الصبي حامل العلبة.. يجيب لنا واحدة لما يكون مع بابا فلوس رح - هي التورتة دي شكلها إيه يا ماما؟-

.. قالت األم بهاجس أسى مس القلب .. تورتة عادية خالص-

كان بطن الصبي مشفوطا، مع تقويسة ظهر بحيث يكون الصـدر والـرأس كالظـل ..قالتاقترب رأس الطفلة من رأس األم و.. الواقي فوق العلبة

؟ ويد الطفل المحاصر بساقي أمه ..ومعانا تورتة .. حنروح كل يوم عند ستو يا ماما -تتسرب، يد مخذولة األصابع، تجس الهيكل الكارتوني الناعم بمودة قلب تائق، يتمنى النفاذ من

..السور الورقي المصقول، بوقت دنو األم المتنهدة من أذن الطفلة، تقول باستغراب متحسر ؟.كل يوم!.. هياه

..م على الحسرة يمينا وشماالضنامحركة فمها الذي :قال الطفل ونظره على العلبة.. كل عيد.. معقول.. قولي كل سنة!!... كل يوم- ؟.. ممكن بابا يجيب لنا واحدة السنة الجاية-

.كانت تلمح يده الصغيرة تتلمس الجدار األملس ..ضربت يده بخفة وقالت

.. عيب. . بس يا وله-. يقتـرب .. يوقف الحركة .. ا مداهم اوصوت المحصل اآلتي ينشر على المكان صمت

كان يخبط بقلمه الجـاف علـى .. يعرف كيف يدق رؤوس الصمت المفتعل، والغفلة . ضخمابغتة، تقدم خصر الصـبي .. فارتجفت أدمغة، وتباعدت مصابة باإلفاقة . األعصاب المتساهمة

Page 73: 5323

نصـف بدنـه – بحذر –يمنى في جيب بنطلونه الجينز القديم، وليشب قليال وهو يدس يده ال كان مزنوقـا ا مع تمدد بسيط لنصفه السفلي بحيث يتسنى له أن يستل جنيه – قليال –األعلى

حركة أمالت الجانب .. حركة مباغتة كانت، ومتوائمة مع قدوم المحصل . وحده بالجيب الضيق حركة توافقت مع امتداد ذراعـه بالجنيـه، .. الواقفة بالممر األيسر من العلبة، جانب السيقان ذعر مباغت طبع وجه األم وهي تمد يدها بهلـع لتسـند ةولحظة تناوله للتذاكر تحت ارتجاف

برأس الطفل الذي انـزاح – أثناء مرورها –زاوية العلبة، في لحظة فورية متسارعة أطاحت نحو العلبة التي انزلقت من فوق سـاق –م ذلك رغ –فزعا متطلعا ألمه التي تطاول ذراعها

.. مـع ارتجاجـات .. تتهـاوى علـى جانـب .. الصبي، لتتهاوى مصطدمة ببعض السيقان ورعب مذعور مباغت أشاع فيهم شـيئا مـن . أعين صغيرة، وأذرع .. انحناءات.. اهتزازات

النطـق صمت ثقيل تعذر معه .. أسى تبلور بلحظة ليحط عليهم صمت وحشي .. هرج أسيان ..بأي حرف

رفع العلبة برفق وروية كمن يرفع عن األرض عينـا مـن .. نهض الصبي وانحنى حرص الخائف المتوقع هرس واختالط .. بوقت مد يد األم وتناولها منه بحرص حزين . عيونه

اقتطعت له مـن األيـام . افرت له كل أسباب البقاء حي موت جنين و .. أحشاؤها.. ما بداخلها .نقودا

ندمعات كان ال بد لها أن تطفر، ليلحظها العيـال الـذي . لتها بدمع تحجر بالمآقي حم.. التوت السحنة بعبوس انتقلت عدواها للوجـوه الصـغيرة المحدقـة .. تجهموا باكين بصمت

.صارت عجينة متعجنة ينفر منها المرء.. مؤكد، اختلطت أحشاء العلبة؟ كيـف تـذهب ..ين؟ بتورتة متهتكة كيف يتسنى للمرء أن يزور أمه بقطعة من العج

بعلبة لم تعد تعلم بعد بما حدث لمحتواها؟ هي قطع من الزبدة والقشـدة – جدة العيال –ألمها هل تفتحها حين تنـزل علـى .. قطع كانت مرصوصة جنبا إلى جنب .. والخبز الطري الهش

هم ما يصعب معه عندئذ سيراها العيال ويحدث لريق . ؟.الرصيف، وتنظر ماذا أصاب أحشاءها .بعد الهبوط.. مداراة مشاعر الوجع األسيان

أن تفرغ . جلست على المقعد الحجري بالمحطة يحيطها العيال بصمت التطلع المنتظر أو أنين يزيل عنها االختالج، أو تحيد بنظرها المتحسر عن العلبة . عن الصمت بكلمة أو آهة

وفتحـت .. ا فكت شريطة العلبة برفق حزين إال أنه .. الموضوعة على مسطح المقعد بالجوار اختلطت، وشـابها .. تماوجت. قطع ملونة تداخلت .. والعيال ينظرون . غطاءها بحذر الخائف

..يتحسرون.. والعيال ينظرون.. لون مزر كئيب ..وتقول. زائحة عن نفسها هموم العالم.. وهي تنسل عن صمتها

Page 74: 5323

...كلوا... يا عيال– كلوا - ..وه تغوصوج.. رؤوس تغوص

.وهي تنظر بابتسامة أسى تلوح على الوجه الصامت

Page 75: 5323

....آالم البحرآالم البحر ..كان ال بد أن يعود وبقدمه الشبشب

بلده الذي تناءى اآلن، وأصـبح . وقبل غروب الشمس . أن يعود لبلده البعيد ولو زحفا ظ متعامـد، آخر بالد العالم، عالم هذه المدينة الواسعة، الصاخبة، المغمورة بشمس حارقة، وقي

وناس غارقون في عرق يتصاعد أبخرة وضجر مخنوق يتلقاه البحر المزحـوم بكـل أنـواع .البشر

..المقيم على الرمل، عراة، وحفاة وبال أحذية أو شباشبيعود قبل انقشاع آخر ضوء من . كان ال بد أن يعود بنفس اليوم، خفية، كما جاء خفية

اختفائه . قبل انكشاف أمره .. وق بيتهم الصغير البعيد قبل انسحاب الشمس من ف . نهاره المشئوم .من البلد، وبدء تسرب القلق لقلب أمه وأبيه

لمجرد فترة . أن يعود وبقدمه الشبشب الزنوبة الذي استعاره من أمه صباحا ليلعب به أخـذه ألنـه .. جازةلقريب، كعادته بصباحات الصيف واإل لعبه فقط، وبجوار ساحة المسجد ا

.سيلعب به مع أقرانه، على الرغم من كبر حجم الشبشب على قدمه الصغيرةو. جديدوقتها، أوهم أمه بأنه باق هنا، بالجوار، عند ساحة المسجد، العبا، مثل كل يوم، مـع

وليؤكد إيهامها أكثر، وليطامن من نفسها، شرب من الماء، أمامها، مـا .. أقرانه أبناء الجيران تدرك أنه لن يتردد على البيت أثناء فترة اللعب ليشـرب، وليزيـد يكفيه طوال فترة اللعب، ل

..وجاء إلى اإلسكندرية.. إيهامها، تعمد الخروج بالقفطان القديم القذر ..جاء مع صديقيه لينزلوا البحر

شعر بالفرح وهو يتملص متخفيا، بين الطالب، والفالحات والفالحين، حاملي طسوت .ج والزحام داخل القطار الطوالي اآلتي من القاهرةالجبن والبيض، وأقفاص الدجا

لذلك حين اصطدم كعب قدمه بحافة الكوبري، تألم بنـدم، لركوبـه القطـار ولكذبـه قدمه التي رفعت .. ذلك الذي تسبب في ضرب قدمه . ولركوبه قطار الضواحي اآلن . وهروبه

عه من القـدم، وتسـاقطه لحظة انفالت الشبشب وخل . بلحظة ذعر مباغته بألم الصدمة األولى مستوعبا بداية رعـب . لحظة ظل موليا وجهه المذعور نحو مكان السقوط . بالفراغ الخارجي

تملكه، تواله، أثناء رفعه للقدم، طاويا ساقه الضئيلة المحسور عنها طرف القفطان نحو صدره، متباعـد بزحـف مثقل النظر بين مكان سقوط الشبشـب ال . ضاما القدم بين كفين بحنو أسيان .القطار، والتطلع المفزوع إلى القدم

Page 76: 5323

لتياع جعله يجز على أضراسه، مكوما كل األلـم االمحسوس ب . مع بداية الوجع المشتد أفاق منهـا بومضـة .. الصغير المصفر، زائغ النظر بلحظة غيبوبة هالمريع في تجهيمة وجه

آهـة . فأطلق من القلـب آهـة .. يتباعد.. تنبه مذعورة بالنظر إلى القضبان والشبشب الملقى مقهورة لذعر مستعطف لقدم أصابها سكون مباغت مفتقد الروح والحركة، بتحديقة ود متوسل

. أن يكف عنها األلم، بوقت استلقاء موهن وبطيء وحذر إلى الوراء وعلى الظهرموسـدا القـدم بيـدين حـانيتين، . لتلقاه أرض القطار المتربة بجانب وقوف الممـر

المحا بيوتا وأعمـدة، وأسـوارا . جهة الفم كمن يود تقبيلها، استسماحها، لتكف عن األلم وبمواتتراكض بعكس القطار الذي يطوي قضبانه إلى الوراء، غير عابئ لشبشـب جديـد، وحيـد،

.تساقط على الفلنكاتكان الستلقائه المتكوم، المتلوي، بصمته المشحون برغبات الصراخ، مفاقما للخـوف،

بعمق الروح، جزاء على ما اقترفه في حق نفسـه، . اعثا على تفجر اآلهات المكتومة بكيانه وبورأسه الذي اتبع أفكاره ودفعه للمجيء إلى هنا لينزل البحـر لمـدة . عقابا لروحه . وحق أمه .سويعات

يتلوى داخل قفطان تيلي قذر، مخطط بلون باهت، مازال طرفه السفلي .. يتقلص بدنه استدعى أعين الواقفين بالممر، وفسحة المربع الفاصلة بين البابين المفتوحين . ماء البحر مبتال ب

ـ فـوق قـدم الصـبي .. دوما لعطل أبدي، لقطار الرمل العائد لمحطته الكبرى ل منثـور رماومتالصق يوحي بعودته من البحر تو.

..رجل أناخ رأسه، وجذعه، وتطلع بقشعريرة أسى ..عيال شياطين.. حرك مفاصلك.. يا ولد حرك أصابعك

.. في حين تحرك رأس عرق لرجل متذمر- ! أال يعرف أنه يوجد هنا رأس كوبرى؟-

. مع رعبه من فكرة تحريك قدمه . يبخوف المحاذر، أعدل الوجع ظهر الصبي المستلق لهم بـأن – موحيا – دون القدم –موجها نظره إلى حيث سقط الشبشب، مزاوال تحريك البدن

.مع بداية نوبة بكاء انفجر مصحوبا بصوت الذعر.. الذي معه هو.. لكن.. القدم مازالت معه ..الشبشب يامه.. الشبشب– الشبشب -

باعث النظر المتحسر لقضبان تنطوي، وتغيب، قضبان تتالحق فلنكاتهـا بسـباق ال يقينـا .. ر الشبشب استق هايستطيع المرء أن يثبت عليها النظر، أو يحصيها، أو يخمن على أي . سقط عند بداية بروز الكوبري، بين كل القطارات القادمة والمغادرة

Page 77: 5323

القفز قبل توغل القطـار فـي يكان يميل بوجه رأسه الحليق إلى الخارج، كمن ينو .. باكيـا .. تباعدا يصعب معه االنتظـار .. متاهات قادمة وبعيدة، حيث يتباعد موقع الشبشب

د الشاكي بالفقر والتصادم، واستحالة إعادة الشبشب، ولقدم تعسـر وضـعها مطلقا أنينا كالعدي ..على األرض

..ي ي يأمي .. يامه.. الشبشب.. الشبشب يامه.. الشبشب- ..قال رجل أضجره النواح، والنظر المفزع المتبادل بين القدم والقضبان

- يع بحد الكـوبر قدمك كان ممكن تقط .. المهم قدمك .. ايا بني الشبشب ليس مهم ..ذلك الحد المألوف، المدرك لركاب خط الرمل لقطار الضواحي، ويحرصـون منـه عنـدما يقعدون على عتبات األبواب المفتوحة، فيرفعون األقدام مع السيقان عند اقتراب القطارات من خالله، فهي بروز ارتفعت عن القضبان لتحاذي العتبات، وهي الدعامة األساسية التي تحمـل

:من بين احتشاد العيون والنظر، قال الرجل المتذمر.. يوائم الكوبرق !كان ال بد أن تقعد، وتدلي قدمك؟

..شقاوة عيال ..الكبار أيضا يقعدون مثله! تعني هو فقط الذي يقعد هكذا؟- ..ي لكن الكبار يعرفون الكوبر- .. والصغار أيضا يعرفونه- ..ندرية يا جماعة، الولد يظهر غريب عن إسك-

كان هناك صبي آخر متواريا وراء الزحام، تولته مشاعر التوجس والحذر، حين سمع أحس بمؤازرة تباعد عنه شعوره بالذنب المؤنـب بـبعض –قول الرجل األخير تطامن قلبه

:قال كالمذل. مسئولية الحدث . نحن من طنطا، جئنا الصبح فقط لننزل البحر، ونعود فورا-

..منظر تورم القدمقال رجل أغضبه ..تمر أعوام وال نراه.. نحن هنا باإلسكندرية، وال نرى البحر-

..كان بكعب القدم المتورم خدش أحمر .. ليتنا ما جئنا، وال نزلنا البحر-

قال الزميل الثالث متشجعا بأحاديث األسى المشفق الدائر، مع تأوهات الصـبي كمـن األبـدان التـي طوقتـه .. إشفاقها بإعادة الشبشـب يستعطف العيون واألفواه أن تعوضه عن

Page 78: 5323

بأنه – رغم ذلك –مدركا .. أبدان ضخت بعض السلوى بروحه .. أحذيتها، وشباشبها المتداخلة ..بعد أن ينفضوا ويذهب جمعهم المواسي. سيبقى وحيدا بآخر األمر

..ا، ويأتون إليه بالشبشب حقلو يواسونه .فوقه. بأعلى.. هناك

، وثرثرة، أصوات، كمن يقتلون الوقت المنتظـر لوصـول القطـار آلخـر يدار لغط ..تطرقوا لمسائل شئون الدنيا.. محطاته

..و.. والزمن.. واألجور.. والتربية.. العيال ..أكيد المفاصل مكسورة من الداخل.. على فكرة-

..أوقفت الثرثرة انسيال الدمع.. متأرجح النظر .. حرك أصابعك يا ولد-

.كون التحريك، والنظر تراوغه الفلنكاتكيف يوقدمه المرفوعة، يتوسدها نظره المتوسل، أن تكف عن . األحذية، وشباشب مزحومة

قدم تمنى قطعها، وبقاء الشبشب، تلك التي دخلت صباحا، وتجاسرت . والتورم. الوجع المتكاثر ..وأخذت شبشب أمه

..لكن الشبشب.. طيب ممكن أحركها في البلد-. يال شكل أمه حين تراه يتواثب بقدم واحدة، أو محموال، أو مسـنودا علـى أحـد متخ

إلـى البحـر – خفيـة –فصديقاه ال بد تاركانه ليواجه مسئولية ذهابه . وغالبا سيكون لوحده .. شبشب أمه الجديد الذي ابتاعه لها أبوه من سوق الخميس .. وقدومه حافيا بال شبشب . وحده

حكان بتودد أكثر مما سبق، وشعر بالمسرة، ورأى أمه تقبل أباه وتدعو لـه ورآهما ليلتها يض كان يزين قدمها حين تلبسه وتذهب بالغداء إلـى .. بدوام الصحة وطول العمر والرزق الوفير

..والمسرة تغمره.. يضحكان.. كانا يضحكان. نعم.. الحقل ..كان يجب أن يدع الشبشب هناك .ناااكويبقى هناك، بجانب البيت، ه

أغلب الذين رآهم هنـا علـى الشـاطئ، .. ليته اكتفى بالمجيء إلى البحر بال شبشب تتسحب بعض األحذية القريبة منه .. كل أطفال البحر حفاة .. عراة، حفاة، يتمشون بال شباشب

.والشباشبمع آخر كلمات تقصفت معانيها . تتوارى رويدا . توليه الكعوب وتمضي بخفة، وهرولة

.. عيون لفظته بالمغادرة.عند أذنه

Page 79: 5323

..وتتداخل القضبان بتموج الدمع. ليشتد بالدماغ األلملكن هنـا، فـي ذلـك التيـه .. لو فقد الشبشب في محيط البيت الستطاع العثور عليه

الراكض فيه قطار أرعن يغور بين المساكن والمزلقانات، يدخل أسفل كباري، ويصعد أعلـى طاوية فلنكات تحمل قطـارات أخـرى، تعـدو . ع، تتكاثر كباري، فوق خطوط تتداخل، تتقاط

.وسط فراغ محفوف بالدمع.. ذاهبة، أو عائدةقال أحد .. كان بإمكانه العودة لنفس موقع السقوط، معلما المكان ببروز حديد الكوبري

العـودة مشـيا علـى .. لكن باإلمكان وضع القدم على األرض .. الركاب إنه كوبري سموحة لكن كيف؟.. بين القطارات.. الفلنكات

تتمدد عيناه المستسلمتان لقدره الكئيـب، متطلعـا للفضـاء .. تخلو األرض من حوله . متوقعا بحـس ينشـد أمـال مسـتحيال .. الراكض، كمن يود القفز ليصاحب الركض الخلفي

نـه انثيـال النصياع الشبشب لقوة أمانيه المتوسلة لتواجده أمامه، ملبيا نداءه الداخلي، مانعا ع .رحمة بأم نائية هناك. عذاب الروح.. الدمع

..تقطعت أواصر الرحم والمواساة. انفض الجمع – بجـواره –ناظرا بذعر أكبر، ناسيا أنه كـان هنـا . رافعا القدم بيدين مرتعشتين

رفيقان، لم يعد يدري إن كانا واقفين هناك أم أذهبهما الخوف، فتواريا مع من تواروا مغادرين ..القطار

رمل متالصق، يصعب . انكب على منظر قدمه، والرمل المتناثر على جلدها المنفوخ ..نزعه بأصابع يد تخشى مالمسة القدم

وقطار آخر هناك .. يثرثرون.. يتزاحمون.. خر يصعدون أو.. وآخر الركاب يذهبون .. كابـه المهـرولين تشفط أبوابه ر . واقفا – ربما نفس القطار الطوالي الذي جاء به صباحا –

–قطار، كان ال بد أن يركبه ليعـود .. حاملي الطسوت الفارغة .. الطلبة والجنود، والفالحين .البعييييد.. لبلده البعيد–قبل غروب الشمس

Page 80: 5323

الوافــدالوافــد شكله المريب غير المألوف يحـرك فـي .. متوفز.. قابع هو بركن بعيد من اإلدراك

لم تربطني به أية صلة وال تحية صباح، أو كلمة يمكن أن ..غرائز البغض المرذول والتطفل فأنا أراه بـين اليـوم .. تقال، تربط بين راكبين اعتادا على اللقاءات اليومية عند ركوب الترام

جالسا حيث ينتهي آخر الخط الدائري ليبدأ الترام فـي – عند صعودي –أحيانا أجده . واآلخر ..العودة إلى المدينةويتالشـى مـع .. يف رأسي ما يكمن هناك لفترة اختراقي ألبدان الركـاب يعبر تالف

.. بغيضـا .. إال أنه يتعلق بـالركن البعيـد مـن اإلدراك .. فأنساه.. الصراع اليومي المتكرر يحتل الكرسـي الخـامس أو السـادس، ذلـك الكرسـي .. فأختلس إليه النظر عبر الرؤوس

يفصله عن تـراكم .. آمنا. خل إلى جوار النافذة المخصص لراكبين متجاورين، ليكون هو بالدا كل ضغوط البشر الواقفين، ياألبدان المتالصقة بالممر، ذلك المجاور له الذي يتوجب عليه تلق

لم أره يوما يشغل أحـد الكراسـي الفرديـة .. بحركة الترام – صمتا –المتعجلين، المهتزين أنفه معقوف كمنقـار .. الوجه ضيق العينين متكلس .. بجانب الممر مما جعلني أرقبه عن عمد

يطالع كتابا، أخفى عنوانه بورقة جرنال قديم مثـل .. بني الشعر كالمصبوغ بالحناء .. الغراب. لم أر سوى ورق الجرنال .. أردت يوما االقتراب أكثر لرؤية بطن الكتاب المفتوح .. الغالف

كان اسم مصر ممسوحا . دافيد... رمص.. وبين أصابعه المرفوع بها الكتاب جزء من مانشيت كان يطالع بغير اهتمام كمـن .. إال أنه واضح .. واسم دافيد باهتا .. نصفه لكثرة حك األصابع

ينظر بطرف عين إلى الجـالس .. و. يواري منظره المريب وغير المألوف عن ركاب الترام وبـالكتف . يقلب الصفحة حيث يزيح بالمرفق مرة حين .. بجواره ليبدأ عملية التزحزح، رويدا

وبالورك أحيانا عندما يسـتدير ليفـتش فـي الحقيبـة . أخرى وهو يلتفت بجسده إلى الحقيبة ينهض مؤثرا الصـمت .. الموضوعة يساره تحت النافذة يحرك الحنق المتنامي بدن المجاور

ا بتجاويف الرؤوسجالضا، فالنوم لم يزل محشورر وعدم العراك، ويذهب بعيد.. .. يجب إثارة المشاكل مع رجل معتوهوال

أحيانا يرفع الحقيبة من تحت النافذة ليضعها بين وركيه أو يضعها بينه وبين المجاور فيحتل الكرسي . أو النهوض . إن كانت امرأة، بحيث يتوجب إزاحة جسدها إلى طرف الكرسي

الـذين جـاوروه ولكن لمحت بعـض .. وحده شبه آسف، مع أنه ليس بدينا أو كريه الرائحة قد تشبعوا بالنفور، ولم يكرر أحدهم الجلوس بجانبه حتى لو كان الكرسـي – قبال –بالكرسي

..ويلمح الواقفين بالممر. خاليا، فبوسط الكرسي هو، يطالع الكتاب

Page 81: 5323

. فالكرسـي الثالـث . بدأ يتقدم من الكرسي الخلفي، إلى الكرسي الرابع . يوما بعد يوم ر الكرسي الذي أختاره لنفسي ظهر السائق المجاور ألول باب، والمتاخم لظه فالثاني والقريب ل

ا من الباب األول لسهولة االنفالت عند النزول يوميا عن الزحام المتكاثر، وقريبا ليكون بعيد .. وتحديـه .. بغض يتولد من صمته المثير لألعصاب . لكن مشاعر البغض المراودة تعملقت في

.رافضين تواجده.. بالناظرين إليه بغضببالنظر المستهان . لكنه راكب مثل كل الركاب، من حقه استعمال أية مواصلة تروق له

أو . عمال الجمرك وشياليه . التجار والصعايدة . لم يكن يشبه أحدا من سكان الورديان جلده المصفر مليء بالنمش كحبـات .. ن بالمرتب والمواعيد يلنا نحن عمال الحكومة المحكوم

..النشارةهـو اآلخـر .. أراه بطرف عيني .. أدير رأسي .. وتعمدت النظر إليه . ساورني الشك يناورني بنظرات مراوغة، تجمع .. مدركا ما يساورني من شك وغيظ .. يبادرني النظر متعمدا

بين االستخفاف والتجاهل ومزاولة التحرك التي باتت مألوفة ومحفوظة لدى الركاب حتى لـم .يعيره أي اهتماميعد أحدهم

كـانوا يتوغلـون .. أقاموا البيوت والمتاجر – بوسط البلد –أعرف أن هناك غرباء ..أقول في بالي، مستثمرون فال ضير.. بالضواحي البعيدة، يستلذون بالشمس

ربمـا ينطـق .. أرهف إليه السـمع . لكن هذا .. يتاجرون بالغالء الوحشي وال ضير لكـن .. أختلس نظرة ألعرف مكنون الكتاب .. أمد عيني . بدافوه لم يفتح أ . فأعرف من يكون

. ويعيد فتح الكتاب، فأعيد النظر .. ويطويه ليرتد إلى بصري حاسرا . يوجه الغالف نحو عيني ..يبتسم بتهكم المستغرب إمعانا في غيظي.. أحاول إثارته بالتلصص. يلمحني

؟.من أين يأتي صباحا، وإلى أين يذهب يقيم؟في أي الشوارع

إن كان سائحا زائرا فما داعي تواجـده المسـتمر .. الورديان ال يوجد بها فندق واحد ؟..هنا

..؟ ربما..أيقطن إحدى العمائر المشيدة حديثا.. يبتسم بثقة القـائم المـتمكن .. يلمحني عندما أصعد . فأرصده بحرص . بدأ يراقبني

ري في الشارع إلى جوار الترام قبل مغادرة ويلمحني حين أنزل فيتعمد إغالق النافذة أثناء سي ..ألتفت بدوري أرى خياله وراء الزجاج يغض الطرف في تجاهل بغيض.. المحطة

Page 82: 5323

لكنه نزل في المحطة التاليـة لمحطـة . تعمدت يوما البقاء بالترام، ألعرف أين يذهب ..نزولي وتوارى وسط البشر بالسوق

دان محطة مصر ليبدأ دورته الجديدة عائدا قررت االنتظام بالترام الذي سيدور من مي .. إلى الورديان، نادما على ضياع يوم عمل سوف يحتسب إجازةنسـوة .. رجال األعمال الحرة .. بدأ نوع جديد من الركاب البسطاء يتوافد على الترام

.. يهرعون ليحتلوا المقاعد الخاوية. السوق وبائعو كل شيءاألول المتاخم لكرسي السـائق متوقعـا رؤيـة ذلـك كنت بمكاني المعتاد بالكرسي

: يحتل مكانه، قال من العربة الخلفية. والمحصل يصعد.. البغيض ..الورديان.. هيا.. كل راكب يجيء ليأخذ تذكرة-

هرعـت إلـى .. تركت منديلي ألحجز به مكاني من الكرسي ريثمـا أدفـع وأعـود .. دت منديلي مزاحا إلى طرف الكرسي المحصل، والبعض يهرع إلى الدخول حين عدت، وج

.. كان جالسا مكاني بجوار النافذة يتطلع إلى الخارجوحـين صـعد السـائق . جلست إلى جواره .. اكتفيت بالصمت البغيض الذي غمرني

ثم فتح زجـاج النافـذة . حرك ذراعه اليسرى فوق الحقيبة . وبدأ يتململ بجسده . وحياه بأدب لكزني بالمرفق في قفـص صـدري واعتـذر .. راقا من الحقيبة أخرج أو . ومال بكتفه نحوي

..ثم أخرج قلما فالمس منكبه طرف أذني بإيماءة أخرى. بإيماءة رأسشعرت بأنـه .. كان يلمحني والترام يهتز ويقرقع، وهو يزحزحني قليال .. تكاثر حنقي

إال أننـي . نويلمحني كمن يخيرني بين الوقوع أو ترك المكـا . سيوقعني من طرف الكرسي .وثبت قدمي باألرض بقوة.. تململت قليال وأزحته إلى جوار النافذة بغضب

Page 83: 5323

خطوةخطوة.. .. خطوةخطوةتعالج التوجس بفرك األصابع تلتفت برأس ملفوف بإيشـارب . لمحها واقفة إلى جواره

ثم يتكئ جسدها الشارد النحيل المكسو بثوب قديم إلى جذع شـجيرة .. ملون نحو آخر الشارع ..عجفاء

بجانب عين كاسحة شملها، فأعادت توجيه النظر نحو آخر الشارع الطويـل الضـاج الذي يشق صفوف البيوت والمقاهي والدكاكين والعربات، وقضـبان التـرام الممتـدة تبـرق

..وحدها ..ستر يا ربا .. عن جذع الشجيرة، وتنهدت بزهق روح– بتذمر –ابتعدت

.. ن تعيد طرد الزهق ليتقدم بخطوة أخـرى بخطوة، حث القدم، وتوقف يرنو متوقعا أ مؤكد أحست بتحرك قدمه فوق أسفلت أسفل الرصيف ليكون أكثر قربا، وليشم رائحتها التي لم

.. غمره سرور حذر لصمتها وهي تهبط الرصـيف بـبطء .. تصله بالرغم من تقارب المسافة ..فكر بنقل قدم أخرى، في حين بعثت النظر الشارد إلى آخر الشارع

..أخرجت أول الكالم المدفوع باألسى الدفين ؟.. ترام نمرة كام بيروح القباري-

افتعل صوته الخشن نبرة تهدج ملتقطا صوتها األسيان بأذنين أفرغهما لسماعها لتبادل ..الكالم

أنت رايحة فين بالضبط؟-شـارع أالح سؤاله بوادر الحزن الناهض من صدر التنهد وانتقلت العينان إلى آخر ال

..لتتوها هناك ..ثم حولت النظر لوجهه الثابت نظره عليها

.. رايحة لحد القباري- ؟..فين في القباري.. فين- ؟.في مساكن المأوى، تعرفها. هناك-

آخـر . ذلك المكان الموحش المغمور بسواقط البشـر –؟ تبادر لذهنه !مساكن المأوى ه إليه وهي ال تعرفه، وفي ليل بدأ يغوص في ظلمة لماذا تود التوج .. القيعان الموبوءة للمدينة

األسرار والكتمان؟ ..قال كمن يحدث رفيقا

Page 84: 5323

نحو آخر – مضطربا –أنا رايح هناك ساكن بعد المأوى والوجه . ي الترام معايا بارك ...ربنا يستر: وبهمس فم متوتر.. الشارع يتجه

... وساكن لوحدي- :قالت بقلق المشغوف غير المدرك

و حضرتك ساكن هناك؟ ه- لوحدي بعدها بمحطة وأنت؟.. ساكن بعد المأوى- .. بكم أنا ساكنة هنا، في محر-

..ام القادم من بعيدرتناهى لسمعها المرهف قرقعة الت ؟.. هو دا الترام الجاي-

امتدت يده وسحب ذراعهـا .. وهي تتحرك بحذر نحو القضيب تبصر الترام المقترب ..برفق محاذر

.. حاسبي.. أل-قـال متوقعـا . ثم مر ليكمل مشواره إلى حي الجمـرك .. ٦بثقله الكئيب انحط ترام .التواصل إزاء صمتها للمس يده

..أنت متعجلة.. ترام تاني.. أل- ..لم تنفر لسحبه ذراعها.. لم تجب

..ربما افتعلت عدم اإلحساس.. ربما لم تحسقالت .. مكن حدوثه عند ركوبهما الترام وليعيد سحب المرفق أو الذراع لكن ذلك كله ي

:فجأة الساعة كام دالوقت؟-

.تعمد النظر لساعته بتألق الواثق من تواصل التجاوب ..تسعة.. الساعة تسعة- .. القلق على الصوت الدهشىطغ ..تسعة أنا اتأخرت خالص عن الراجل وتنظر إلى الترام القادم.. ياه! ؟.. تسعة- ...جلاخرت عن الراتأ.. هو ده الجاي-

.. المتجه لحي كرموز٢كالمنوم المنهك انحط ترام ..ثم شد، ومر

Page 85: 5323

..ده رايح كرموز.. أل- ...أنا اتأخرت خالص.. ؟؟.. وبعدين-

ينهش .. ؟ امرأة يأكلها التوجس ..إلى أي مكان بالقباري .. وحدها.. والقلق يفرك البدن ؟..عرفهإلى مكان ال ت. بالحركة واللهفةالروح المشحون أهو لقاء رجل ينتظرها هو اآلخر هناك؟.. فكركاد أن يمس ثوبها وهو يخطـو .. قضاء الليل معه؟، أنا بالجوار، أولى بالموعد يتنوأ

فوجهها القلق بـدا مشـفوط .. ربما المس الثوب ولم تشعر، وربما .. نحوها مسافة نقله حذاء ..قالت.. الجلد لحد بروز العظام

.اتأخرت قوي.. نا أسرع من الترامفيش مواصلة ه ما- .. سواقين التاكسي بيرفضوا مشاوير المأوى-

تباعد به عنه توحش بالرأس شعر بأنه كان صفرا إلى الجـوار قزمـا . طواها الذعر :قال بحنق. غائب المالمح

!؟..مهم خالص.. ضروري مشوار مهم خالص موعد-ني والليل يغـوص فـي بئـره ربنا يستر وينتظر– همست –خالص . مهم خالص -

..قال.. ليل يهبط من عل كطائر كئيب يراوغ رأسه المتضائل.. المعتم ؟.. أكيد الرجل ينتظرك بفارغ صبر-أنا اتأخرت عنه خالص كان بغضه يتوالد رويدا يدفعه .. يا ريت زمانه زهق ومشي -

:قال.. يالحق هذا الجسد المتلهف المتاح– ليمسك بها – بإلحاح – ؟..! كنت خرجت بدري شوية-

.. قالت.. باغتت صوتها المتحشرج غصة دموع، وهي ترقب الترام القادم ؟...خويا هو ده يا-

..أخويا؟؟ بنزق اليائس الذي قرر االستيالء بالقوة.. !! بيروح المنشية كنت خرجت بدري شوية٤ ده ترام - .بالغصةمسحت أنفها وهمست .. اخرجت من صدرها منديال ورقيأ

قال مثبتا قدمـه عـن . المحامي هو اللي عطلني بس يا رب يكون الراجل منتظر - :خطوة كاد يخطوها

؟.؟ ورجل مين المهم ده! محامي-

Page 86: 5323

.ووجهها المشفوط المصفر يفضحه نور المقهى القريب بائسا .. أنا بعت كل اللي عندي علشانه قال بصوت ممض شبه حانق- ؟.. علشان الراجل- ..ابني يا خويا ما هو راجل.. ابني.. أل- ؟..كبير ده..! ابنك- ...ربنا ينجيه وأالقي الراجل منتظر.. ابني-

..كان الدمع قد ترقرق بالغصة وهي تمسح األنف ابنك؟ ماله؟-اتعارك مع .. مغلبني.. أبوه ضاع في الدنيا وسابه لي .. ما عنديش غيره .. سنة ١٨ -

..واحد، هو وواحد صاحبهطيب ابنـي .. الحكومة مسكت ابني .. في وشه وهرب ةصاحبه ضرب الراجل بمطو

؟ ابني ذنبه إيه؟ يترمي في السـجن شـهر منتظـر .؟ موش صاحبه هو اللي عور ..ذنبه إيه المحـامي .. جل المضروب موش راضي يتنازل عن القضية إال لما ياخد فلوس اوالر.. الحكم

ناس جيران .. ناس معرفة هناك في القباري .. حالللكن والد ال .. قال لي أعطيه فلوس أحسن .. موش عارفة راح ينتظرني .. يترجوه علشان يتنازل عن القضية .. الراجل، وعدوني يكلموه

..؟ كان يتباعد بخطوه..هو ده اللي جاي.. وأهو الترام اتأخر.. واال يكون مشي .. أظن هو ده الجاي-

..وهي تركض إليه.. انحط ترام ..جع الرجل إلى الوراءفي حين ترا

..إلى الوراء بخطوة أخرى متسعة

Page 87: 5323

التالميذالتالميذ ..توقف التالميذ الخمسة على محطة الترام

وكانوا يختلسون النظر ناحية سكة الترام الممتدة .. يسرتأبطوا الكتب الدراسية والكرا ، حلقه شـبه صانعين بأجسادهم، مختلفة األحجام . الفارغة، وقد افتعلوا التجهم الشديد والجدية

.. يتبادلون فيما بينهم النظر، كأنهم يتدبرون أمرا يخافون أن يتطلع أحد عليه.. مغلقةقلبـوا .. أومأ أولهم برأسه، إيماءة أدركوا على الفور معناها، إن كانوا يملكون نقـودا

أطرقوا برؤوس خجلي، ومسحوا بأيد مصفرة فـوق جيـوب القمصـان .. شبه الجافة هالشفا ..يل، ثم هزوا األدمغة فأدرك األول بأنهم فارغونوالسراو

تحرك األول نحو حافة الرصيف ليكون في المقدمة، وتحـرك الثـاني ليكـون وراء ..األول، فالثالث، والرابع، ثم الخامس

والبيوت القصيرة المتفرقـة . كانت الشمس تبسط ضوءها الدافئ فوق منطقة القباري لنساء وأطفال المدارس فوق األسفلت المنـدى بالصـباح خلف مكابس القطن تنشر الرجال وا

..المبكر ..تفرقوا صوب المحطات

. توافد البعض على محطة التالميذ، يتراقص كامرأة حبلى، من جوف المدينة زاحفا فوق قضبانه ىكان الترام القادم يتهاد

. البراقة، ليقبل، بعد التوقف، نحو حي الورديان .دان بالمناكب واألذرع والسيقانتدافعت األب. حين توقف

تعمد التلميذ األول أن يكون أول الصاعدين، مقاوما الزحام برغبة الوصول السـريع ..لمنضدة المحصل المنشغل بقطع التذاكر

بالبالستيك األزرق ليراه المحصل فعه المرفوعة، شاهرا االشتراك المغل امد يده بذر البطاقة، خلسة، من أقـرب ىبدنه فورا وبسرعة، وألق تملص .. الذي هز رأسه ليدخل التلميذ

..نافذة إلى جوارهكانوا يعـالجون . التقط التلميذ الثاني البطاقة، وتدافع بجسده النحيل بين أبدان الركاب

حتى إذا بلغ مكمن المحصل المنشغل، رفع يده المتوترة عاليا وهـو . مسألة الصعود القسري ..يقول

.. اشتراك-

Page 88: 5323

تقدم، وفي حركة خفية، منه، ألقى البطاقة من نفس النافذة ليلتقفهـا التلميـذ في لهف و ، والذي صعد بحركة متقنة ومتمرسة على االنفالت من بين تالحـم األجسـام زالثالث المتحف

..المتكاتفة ..استغرب البعض لطول فترة االنتظار، تلك التي انتظرها السائق

..شيئا، أو يشرب شايافكر البعض بأنه، حتما، ذاب ليبتاع فكر آخرون بمدى طيبته وطول صبره، فقد آثر االنتظار حتى يصعد الجميع بهـدوء،

. فالبعض ال يزال فوق الرصيف يعاني رفـع .. التعـب، يلهـث اكان الرابع قد تناول البطاقة، وزحف نحو المنضدة، متعمد

بينما .. يفسحوا الطريق لغيرهم ذراعه قبالة وجه المحصل الذي بدأ يضيق، ويصيح بالناس أن في حين تسللت يد الرابع من بين األفخاذ ليناولـه . توقف الخامس بعيدا عن موضع المنضدة

. البطاقة ..تقدم الخامس بحذر وتوتر من منضدة المحصل المنهك، ورفع ذراعه وهو يدخل

..التقى الخمسة هناك بركن من العربة األولىعد أن وضعوا الكتب والكراريس بين األفخاذ واألسـنان، راحوا يصلحون من ثيابهم ب

.وزالت الجهامة، الجسدية المفتعلة.. وتنفسوا براحة الوصول سالمين عبر ممر الخطر ..إال أن السائق لم يتحرك

تصارع الركاب الباقون على الباب الخلفي، بدوا كتلة هالمية ملونة الثياب والـرؤوس ..حتى خلت أرض المحطة.. الطبيعي لجدار الترام الجانبيوالسيقان ناتئة خارج المستوى

..استحثه المحصل قائال.. لم يتحرك السائق بحمله المتكدس المخنوق . هيا بنا-

جـز .. عين السائق ثابتة، تكاد تثقب المرآة الخارجية، يأكل وجهه الضامر غيظ خفي ابلوه بمستوى رأسه ليرى بهـا بـاب عليه أنيابه، وحول نظره في المرآة المثبتة أمامه فوق الت

انفرطت عيونه الحمراء تنقب وترشق الوجـوه .. لكنه لم يكن ينظر لذلك الباب .. نصف الترام . بحثا عن موقع التالميذ الخمسة

كانوا هناك، وقوفا، يصنعون حلقة مغلقة بأجسادهم المنضغطة، يتهامسون ويضحكون .لمعقدة وكبرياء األساتذة قليلي الخبرة والثقافةويتحدثون عن المدارس والمواد المقررة ا

.ثم فتحوا الكراريس، وتبادلوا النظر والرأي والمقارنة .لم يعد يتحمل وطأة الغيظ.. فهب بغتة واقفا. تفجر الغيظ الكامن بجسد السائق

Page 89: 5323

وهو يخترق اللحـم المتـداخل المتسـاند . اشتعلوا غيظا .. اعترض الركاب وتذمروا .حكحصان جام

.كتم التالميذ مشاعر االرتجاف حين أحسوا بقدومهآت إليهم وهـو مشـحون .. توقعوا بأنه يقصدهم رأسا .. لمحوه وهو يتملص ويقترب .باألعين والنظرات والهمسات المريبةلو أصبحوا حروفـا فـي .. ودوا لو تالشوا في الكتب . أخفوا الوجوه خلف الكراريس

.كراسة قديمة والعيـون، الضـجرة، .م بالفعل جاء ليمزق وجوههم إهانة ومذلـة أيقنوا بأنه يقصده

وعيون الركاب تتساقط مصوبة نحو السـائق، المنـدفع .. تنظر، تسبهم افتعلوا الهمس للتورية قـال .. قبيل ابتراد سخونة غيظة نفشته العيون حتى تضخم، مد للتالميذ يدا خشـنة ومتربـة

..بصوت توتر بالغضب المكتوم اكاتكم؟ أين اشتر-

تجف، ليهبط عليهم صمت يلـف األلسـنة، . معاء تتلوى، تتجمد كانوا يتقلصون، واأل يمور في الدم المتصاعد ألمهات الرؤوس لتنكمش جماجمها وتتباعد داخل جلد الوجـوه التـي

كـف تعارضـت فيهـا . اختلجت، محاذرة هذه اليد الممتدة المكنون فيها كل الغيظ والغضب .بات الكرابيجاشبه زؤخطوط سوداء متعرجة ت

تترامى عند أقدام التالميذ، فوق مزق النعال . والعيون المغروسة بجسد السائق تتهاوى سراويل أعوام منصـرمة، كانـت لآلبـاء –المغدرة والسراويل الضيقة القصيرة والمتسخة .وحيكت، دون مهارة، لتكون على مقاس األبناء

..ازدادوا انكماشا، خرقت طبول اآلذان، فهمصمصت بعض الشفا ..قال.. تصلبت األيدي، مقروضة األظافر، فوق الكراريس المفتوحة، واليد ممتدة

أين تذاكركم؟-شلت رأسه ارتجافة خجل فأطرق .. حامل البطاقة الوحيدة انخرس .. حتى التلميذ األول

. الملتهبدمتوقعا مباغتة رفع الكف وسقوطها فوق الخ.. صامتافاحتموا بالتداخل خوفا من احتمال سقوط اليد وهـو يقتـرب ليفـرق تحرك السائق،

..بين تخاذلهم المستسلم، ووهن أبدانهن المرهقة. تداخلهم بيد راحت تقتحم وتفتش الجيوب .أخرج من جيب أحدهم أربعة قروش وسن قلم رصاص مكسور

.نظر، وأعادهم للجيب وإحساس ضو بعيد يمس مشاعر الغضب فيه

Page 90: 5323

الثاني وريقة مطوية وقلما جافا وبعض حبات مـن فـول سـوداني أخرج من جيب ..قشعر بدنه بشعور شفيق جارف حد من شراسة الغضب لديها. مقشور وذابل

فاختلج شعوره، وانتفض .. ععندما أعادهم للجيب، هطلت فوق ظهر اليد نقطة من دم ـ خي فضميذ األول المنت جسده، بينما تدنو برفق، من جيب التل بزيح العيون المرشوقة يكأنه ة ف

والسائق يخرج البطاقة الزرقاء وينشرها قبالة عين الولد المبللـة بـدموع تماسـكت وأبـت لكنـه .. ارتعشت قسمات الوجه وكأنه يود لو قال شيئا يدفع به الخجل عـن نفسـه .. النزول ..قأطر

!به جميعكم؟ اشتراك واحد، تركبون- ..اض الواضح في الهمس الدائر واللفظوالركاب يجمعون عيون الضجر، االمتع

:قال السائق بصوت متحشرج؟ سـوف يوقـع علينـا الجـزاء، .هل تعرفون ماذا يمكن أن يحدث لو صعد المفتش

..يا أنذال.. ويخصم اليومية :قال وهو يعيد البطاقة لجيب األول.. ترقرق الدمع بالمآقي

..ت على أية حال، سوف أسلمكم لناظر الورديا-.. طيب.. قلة أدب : العيون المتذمرة وهو يسرع الخطو نحو كرسي القيادة، قال دفعته

..سأريكم . حلقةقال بغص.. ورأسه يستدير صوب ركنهم القريب. وبدأ القيادة

..يا أنذال. لو تحرك أحدكم من مكانه لن أرحمه. أنا أراكم جيدا.. اسمعوا- :لمسرعين وهو يقولوالترام يبتلع قضبانه، والمحطات تأخذ ناسها ا

..سأخرب بيوتكم يا أنذال.. سأحمل أهاليكم أجرة التعطيل- أذهب األوالد لمدارسهم اآلن؟ .. ترى.. توارد إلى الذهن أهل بيته

وتذكر الخبز الذي يعده كل صباح وقبيل ازدحام المخابز ليحتفظ به إلى جواره حتـى – والنهار لم يطلع بعد –ر لينزل، ولم تنس لقد أيقظته زوجته بالفج .. موعد انتهاء نوبة عمله

..أن تذكره بأن مدرس البنت الخصوصي لم يأخذ مرتب الشهرال بد من عمل نوبة زائدة إضافية، وحتى . تحتم عليه اإلسراع، فليعوض ذلك التعطيل

بـد فإن ابنه البكر، تلميذ الثانوي، قد طلب منه آلة حاسبة، وال .. آخر الليل، ليكون يوما آخر ..أن يأتي بها له خالل أسبوع، فهو ليس أقل شأنا من زمالئه هناك

..بلغ الترام آخر الخط، ليستكمل دورة العودة

Page 91: 5323

..تفرقوا بعيدا، بالشوارع.. انفرط الركاب ..هبط السائق وقد لمح التالميذ واقفين بصمتهم الواجف، يتداخلون

وتلكـأ عنـد .. مل ليوقـع عليـه قدم له جدول الع .. تلكأ وهو يتجه نحو كشك الناظر .. في العـودة .. ذهب خلف الكشك ليتبول .. ثم استدار خلفا .. تعمد السير ببطء شديد .. العودة

يـذهبون مـع .. يهربون.. وكان موقنا من أنهم سوف يغافلونه ويهبطون .. كان التالميذ هناك ..الركاب الذين ذهبوا

:حين صعد بغيظه، صاح فيهمتريدون العودة معي؟ أتريدون الزوغان؟ ألن تـذهبوا لمدارسـكم؟ ماذا تنتظرون؟ أ -

..قلة أدب.. اهبطوا.. هيا

Page 92: 5323

تأرجــحتأرجــحيحرك بدنه الصغير هواء .. ، تعلق الولد بعمود باب الترام ةبذراعه النحيلة، وبيد واحد

ية لقضـبان السـكة ذيلطم أعمدة النور المحا . ا ذراعه األخرى ماد .مغبر يخلفه ركض الترام قيبة يده المدرسية القديمة موليا وجهه الصامت شطر المدى حيث الشارع الطويل ونهايتـه بح

..البعيدة مطموس المعالم بفعل الجو المضبب الخانقكان يهبط في المحطات ويتوقف فوق الرصـيف، ينتظـر صـعود أبـدان التـزاحم

..والسباق ..ويعاود التعلق بقدم واحدة ويد واحدة

رئة، تكشف تترتفع أطرف المريلة الصفراء المه .. ه المغبر ءير هوا والترام يركض، يث ..عن بنطلون متسع مربوط عند الوسط بخيط دوبارة

..بن األشقياءا اطلع فوق يا -صوت المحصل الذي ارتقى طاولة التذاكر قاعدا ليتمكن من الرؤية والقـبض علـى

رؤوس تشبه ثمرات البطـيخ .. فتعل بين الرؤوس المتداخلة في شرود م – هروبا –المتوارين ..المتراكم فوق عربة نقل

يبدو أن الصوت لم يبلغ أذن الولد، أو سمع وتجاهل، فقد توقف بدنه عن التأرجح .. ولكن انفرط صوت لرجل .. ثم عاود التأرجح بافتعال متعمد .. ثم عاود التأرجح لبرهة .. لبرهة

..منهك كان يصارع الزحام ليدخل. زمجر الصوت في رأس الولد .. يا ولد ! إيه الجيل ده؟ .. باي يا.. الكالميا ولد اسمع

ألـيس بـالترام ولـد .. نه لم يسمع أ، ك ثاستغرب وهز رأسه المشع .. لم ينطق . تجهم ونظر ..قال الرجل المنهك بغيظ.. ؟ هناك أوالد آخرون معلقون بالوراء وعاود أرجحة اليد.غيره

.. اطلع فوق يا بارد- لتنبيه المحصل يفليسكت هذا الممصوص، وال داع .. د بنظرة جانبية ممقوتة حدقه الول

تهب قد اخترقتـا لانفلق رأس الرجل بعين الولد، كرتان من حديد م .. المشغول بتفتيش الجيوب بأثر النوم ولم تفـق بعـد رغـم – لم تزل –الدماغ، وتجولتا بعشوائية فوق التالفيف المتبلدة

ارتطم الجسد بـين .. د وصعد به لوبالحنق الثائر سحب الو . د الرجل امتدت ي . الصباح وبعنف .. الزحام

.!!باي يا.. اطلع.. اطلع.. قلت لك اطلع.. باي ؟ أنت تلميذ أنت يا..ابن عفاريت

Page 93: 5323

صمت المنهك أسيان القلب، متعـب .. ضعيفا كان الولد، كفرع أجوف لشجرة عجفاء ؟..ا؟ أم الولد هو الضعيف جد.. النفسم إنهاكأهو قوي رغ.. مفكرا.. ابتلع ريقه.. الروح

قال.. رفع الولد يده وأزاح قبضة الرجل العظيمة عن كتفه .. مالكش دعوة-

..وقد توقف بالركن المجاور والطاولة المحصل.. الولد يصر على التجول المعاند والعبث في .. الحنق، انقبضت يد الرجل المنزاحة عال

..بك غيظاالتجاويف بالرأس المرت ..قال وقد تحولت مالمحه المنهكة إلى الشراسة

..يلعن.. أنت جن-حدق الولد إلى الوجه الشرس، بعين تقاوم الضعف الدفين وقـد تجلـت فـي الوجـه

..الصغير بوادر احتقان مرتعد .. مالكش دعوة-

انحنـى بجذعـه .. اتسعت عيناه وأفرزت شـررا .. تشابكت تالفيف الرجل واهتاجت .. قال الرجل.. ارتعدت..اجه الوجه الصغير الذي تجلدليو

:فك الولد اختناق صدره بقوله.. أنت جن! ؟.. أنت تلميذ أنت- .. مالكش دعوة-

وكانت اليد المعروقة قد ارتفعت وتأهبت للصفع، إال أنه بوغت فتهدلت يده المرفوعة، ..مبعدا وجهه في تقزز مكتوم من رائحة فم الولد الكريهة

أثلجت المشاعر المتقدة فارتاحـت غضـون . رائحة أخمدت ربكة التالفيف المتهيجة قـال الرجـل .. صمت قدام الوجه الصغير المختلج بمقاومة البكـاء .. الوجه ليتجلى اإلنهاك

..بوهن ؟..أنت جوعان.. يا بني-

..قال بصوت أكثر تمردا.. ازدادت شفتا الولد اختالجا .دعوة.. مالكش-

لكن الولد أزاح اليد بغضب وهو يقـاوم . يد الرجل لتوضع فوق الكتف بحنو ارتفعت ..احتباس الدموع

Page 94: 5323

طوق الصخبطوق الصخبابتعدت بنفسي المكتومة ببقايا . ابتلعني جوف الترام مثل كل صباح، إلى العربة األولى

فـه النعاس العالق بتالفيفي المجبورة على الصحو بقرقعة الترام الدائر بآخر الخط ليعـاود زح ..عائدا عبر محطات الورديان إلى بطن المدينة

انتقيت مقعدا بوسط العربة، إلى جوار نافذة والتصقت بجدارها الزجـاجي، متوخيـا تتكتل مغلولة . في لتسكب على المقاعد، واألركان والممر لتدافع األبدان التي يشفطها الباب الخ

في كتاب، وأبعث النظر، بين –ف حالي كمألو –أدفن وجهي . وأنا. بالضجر والصبر المتأفف الحين واآلخر، لصعود ركاب الباب األمامي المتاخم لمكمن السائق، فـوراء ظهـره تـربض

وكالعادة، تذمر بعض الوقوف لصعود آخـرين .. أريكة كبار السن والمعوقين، وربما الحوامل ..من ذلك الباب المزحوم

تحمل طفال . مبهم تالصق األبدان بالممر تدفع بصوتها ال . تنحشر. كانت المرأة صاعدة المزركش، وطفل ثان بـالوراء قـابض بثوبها وق المنكب، وخلفها طفل آخر ممسك صغيرا ف

.. كانا يحمالن على الكتف حقائب مدرسية من المشـمع السـميك و . على مريلة أخيه الزرقاء –عيال، وتتحرك كثيـرا يتقدمون بإصرار متجهمين، توقفوا، والمرأة تحاول الدوران لترى ال

..ضج محيطها بالضيق، ليفسحوا لها وعيالها مكانا. ليكون الطفالن باألمام–ملتمسة العذر فـيمكن أن –أحمد لنفسي تباعدي عن موقعهم الصاخب باألصوات المبهمة المتداخلة

وربمـا يبكـون – من لذة النوم الذي يـراوغ عينـي – منذ قليل –يصدعوا رأسي المنزوع .مع أن كل األصوات كانت تضيع معانيها وسط الزحام المتزايد والخانق.. ويصرخون

جـاءت .. فانتابني غـيظ . نهض الرجل الذي بجواري، وأشار للمرأة أن تأتي بعيالها وبأثرها الطفالن يوجهان النظر المنتظر الشغوف لوجـه األم النحيـل المحقـون بالصـمت

..المضغوط وأقعدته على حجرها وهما يواصالن النظـر المنتظـر جلست، وأنزلت طفل المنكب

أشـارت .. المقرون بالفرح لوجهها المتحرك مع جسدها المتخبط بجسـدي النـافر الضـائق إلى حقيبة قماش بيدها التي أشارت لهما أن ينتظرا – بلهف –بأصابعها ألذنيهما وهما ينظران

نافذة بقلق، ثم يحوالن النظـر إلـى األم حتى تأخذ أنفاسها، فراحا يبعثان العيون إلى خارج ال –.. قلـت بضـيق –أغلقت كتابي عندما زغدني مرفقها .. بضجر الموشك على تفجر البكاء

..كفاك فرك! معك؟ينوبعد

Page 95: 5323

وظلت سادرة في تحركها بين العبث في الحقيبة وتعـديل – اغتظت –لم تعرني أذنا ـ جلوس الطفل الصغير الذي بكى ونظرها الناهر لوجه ت تطلـع ه الذي أزعن وصـمت، بوق

.. هما بتذمر واضحيذنالولدين وأصابعهما تشير ألوهـي تفـتح . حملت رأسي المنقور بالغيظ على كفي مائال بنظر جـانبي إلـى األم

أخرجـت جهـازا . ومن بين زجاجة ماء، وأرغفة مطوية وبعض غيارات الصغير .. الحقيبة حين وضعتها في أذن الطفل األول تفتحـت مسـام .صغيرا، ملفوفا بسلك بطرفه سماعة أذن

ثم فتحت الجهاز بين نظر الفرح وقدوم الصخب، وضـعت أصـبعين مـن .. الوجه بالفرحة وتضـع لـه . ، ثم أودعته جيب المريلة، لينتشي الولد اآلخر وهي تخـرج جهـازه "الحجارة"

لتنقشـع –يظـي ليخبـو غ –وتودعه جيب مريلته . السماعة في األذن والحجارة في الجهاز ..لحظات الترقب الملهوف، وتنزاح غيامات الجهامة عن الوجوهواألم يغمرها ابتسام صـامت . كان الطفل الجالس قد بدأ ينتعش مع إخوته الضاحكين

.مع سكون الجسد وهي تطلق نفسا مرتاحا بلحظة اختالسي النظر األسيان المشفق

م١٩٩٩/ ١١مجلة حواء

Page 96: 5323

ولد صغيرولد صغيروحـاول أحـد .. د النقطة ثني الذراع المفرود بمستوى الكتف المتصـلب حاول مساع

وحاول أحد العسكر فـك وإبعـاد الـوركين .. الشيالين فرد الساق المرفوعة قليال عند الركبة تحريك الـدماغ " بأسى"وحاول أحد الجمهور المتفرج .. المتالصقين داخل بنطلون قديم واسع

وكان الولد، الصغير، المتجمد، قد نجح فـي إثـارة .. فائدة ولكن بال .. المتجمد بالعنق النحيل ..الفزع بإصراره على الموت، والتمرد

لكن لم يوقن أحد إن كان الولد .. ، بعث على الوجه والتساؤل انحيال كان الجسد، مسود من خواء الجوف والريح قد مات، والواضح أن الموت كـان وقد مات واقفا، أو مات قاعدا، أ

..تأثير البردمن لو كان واقفا، ما ترك أحد الكباري الجسد دون كسور، ولو كان قاعدا لتهشم الـرأس،

..وربما سقط هناك وقلص البدن الضامر، بتعاطف ،أوقن أن استنشاق الريح المغبر والسناج قد جفف دمه

وكان الولد، كان المحكمة اإلقفال عند العنق والوسط والقدمين، . األطراف، داخل الثياب القذرة وأن، يسطح، فوق ظهر القطار السـياحي العائـد مـن ... قد تأهب، وبكل كيانه، لهذه الرحلة

أن الولد مات في المسافة الواقعـة .. كما خمن بعض الوقوف . ويبدو.. القاهرة إلى اإلسكندرية ن دمنهور ربما بين كفر الزيات وبركة السبع، ولم ال يكون بي .. بين محطة بنها، ومحطة طنطا

ربمـا .. منذ وقت بعيد .. وأكثر. وسيدي جابر؟ لكن الجثة متجمدة منذ أكثر من هذه التوقعات .. الموت يأتي مصادفة، والواحد يتحـرك .. لكن عمر الولد كله ال يتعدى هذا الرقم .. سنوات

ـ . ؟ أهارب من ناسه؟ أبوه تزوج غير أمه؟ المرجح األكيد ..ولكن لماذا جاء د أن الولد مات بعاندس بعض الواقفين، اختلسـوا .. جسده خاو من أي أثر لدم أو خبط .. قيام القطار من القاهرة

..النظروجه صغير، منمنم، مغبر، سـاكن، .. رفع أحدهم وريقة الجريدة المستور بها الرأس

ينهض ويغافل .. مستلق على ظهره، وكأنه سوف ينهض من نومه بعد قليل .. مطمئن المالمح كف ذراعـه اليسـرى .. مرتاح.. ويركض، رأسه مسنود فوق طرف المخدة الناس، يضحك

في هدوء ذراعه األيمن ممتدا بمسـتوى الكتـف . نائمة برفق فوق الجانب األيسر من الصدر ساقه اليمنى مرفوعة فوق طرف الكعب في هدوء إلى جـوار .المنطرح فوق الفراش الوهمي

مفتوح الفم كأنه .. ذي كان على مقاس بدنه الصغير الساق اليسرى الممتدة حتى حافة السرير ال

Page 97: 5323

ال يزال يتنفس، وأنه سوف ينهض بالفعل بعد قليل ويركض، ويغسل وجهه المحشوة فتحاتـه ..بسناج الكباري والريح

سال الدمع مـن ،نائما فوق عربة نقل العفش الحديدية، مدفوعة بأيد اثنين من الشيالين ..أعين النسوة المذعورة

بكـى .. الضابط بأسى مفتعل وفرق الجمع الملتف فوق رصـيف المحطـة وامتعضانهمك رجال المحطة في تفتيش .. التفريق لم يجد .. وحط صمت .. الطفل وشد رفيقا له وسارا

..جيوب الجثة، لم يعثر أحد على ما يدل على اسمه أو عنوانهاف ودفعـوا بـه إلـى وضعوه فوق نقالة اإلسع .. شدوه.. حجرا.. قلبوا البدن المتجلد

:خر ما أدركته أذنايآو.. صندوق العربة المغادرة لينفض الجمع ...مسكين

غموض .. وحين دخلت فراشي، مشحونا بشكل الولد المسكين، برأسي دهشة الولد ... .لكن بدني ارتعد فجأة.. تناولت أوراقا وقلما.. الولد

.سحبت عليه البطاطين، وقلت في بالي.. فكرت في النهـوض آلكـل .. فارتعد الجسد ثانية .. رد من تأثير الجوع أكيد هذا الب

.وارتعشت.. وضعت األوراق والقلم جانبا .تقرفصت تحت البطاطين ونمت

مجلة القصة العربية

Page 98: 5323

طعام الليلطعام الليل ..كانت المدينة ترتعش بحضن الليل البارد

زحوم يزحـف الرتيب المخدوش بصوت مألوف لترام م نالطريق خاو، ينسج السكو أنظـر .. رفعت رأسي المنحنى الغافي .. توقف فجأة بوسط الشارع الممتد المظلم آخره .. ببطء

رفعوا أثقال أجفان التعب ونظـروا عبـر الزجـاج .. ىلاعبر رؤوس ركاب آخر الليل الكس .. المغبش إلى الخارج المعتم، نستطلع التوقف المباغت ..ور لمقعد القائدوقفت موجها عيني نحو باب النزول المجا

..لكن أحدا لم يصعد. فتح البابلعل العمود العلوي انخلع من سلك الكهرباء أو صدم الترام .. نظر البعض من النوافذ

إال أن خلو الطريق أجلسني في لحظة وثوب أحد الركاب وهرولته نحو الباب المفتـوح اأحد ، . قر، يواري اصفرار وجهه غبار متكلسالتقط طفال صغيرا مشعث الشعر وأش. وامتداد ذراعه

أوقفه بأرض الممر وعاود مد الذراع مع انحناء جذع ورفع بدن امرأة قعيـدة كانـت تبغي الصعود زحفا فوق الدرج الحديدي، بدن ناحل هزيل في ثوب رث فضـفاض، بـرأس

د أفسح لها مكانا بـين قعـو .. محمولة فوق ذراعي الرجل .. منكوش ومعصوب بخرقة ممزقة ..أريكة المعاقين

توقف برأسـه . اقترب الطفل بيد الرجل .. حين وضع الجسد، تدلت الساقان مشلولتين أشارت .. قدام حجر أمه، يتطلع بعين اللهفة المنتظر لكيس بالستيكي كان منحشرا تحت إبطها

.. حدقت به أن ينتظر. له أن يسكت فاختلج وجهه بالغضبام زحفه الملول نحو ظالم آخر يشمل منطقة مكـابس كان الباب قد أغلق ليواصل التر

.األقطان بالقباري" بغمـوس "أخرجت أرغفة مطوية محشوة .. فتحت المرأة الكيس بحذر ورفق شديدين

فتحت فم الجوع وقضمت بنهم، والطفل يتابع عودة اليد القابضة والتي توقفـت .. غير واضح ج الوجه مع العينـين الغـائبتين والطحـن تبتلع يختل .. قدام الفم الماضغ بصوت عال ومقزز

..المأخوذ بلذة القضم واالبتالع.. سادرة هي في القضم والمضـغ .. رفع الطفل يده الصغيرة والمس المرفق المتحرك

مضـغ .. تناولها الولد بهلـع . اقتطعت لقيمة .. نظرت إليه .. زغد الذراع ثانية بوجه مزمجر منحته لقيمـة بعـد أن أفرغـت حشـوها .. بالمرفقثم زغد الذراع .. ونظر.. مرتين وابتلع

Page 99: 5323

تطلع الطفـل إليهمـا وهـو .. بإصبعين وضعت ما بهما في فمها ثم لحستهما بلسان مشغوف .. تمضغ هي طويال وهو يبتلع بسرعة.. يبتلع

بضـجر وهـو هـا تناول.. أخرجت رغيفا آخر مطويا على حشو ما، اقتطعت لقيمـة ا جسده بكى هاز .. مما تمضغ رفضت بهز رأس فمها، يريد أشار ل .. صمت.. لم يأكل .. قضمي

أخرجت من فمها قطعة لحم بيضاء متجلدة قربتها من فمه، تقزز، ومضـغ لقيمتـه، .. الهزيلأشـارت ألحـد . وهي تعيد القطعة لفمها وتمضغ طويال، قبل توقف الترام بالمحطة التاليـة

..شال الساقين المشلولتين.. الرجالوضـعها فـوق .. على صدر ذابل وبطن مشـفوط ي المنحن رس الضام لظهر المقو ل

وأغلق الباب .. وضعه إلى جوارها وصعد . وتناول الطفل من رجل بالداخل .. رصيف المحطة ..ليواصل الترام زحفه إلى ظالم آخر

م١٩٩٩جريدة المساء

Page 100: 5323

صباح اللب المروعصباح اللب المروععلى الرغم .. وأنا.. إلى جانبي انحط.. وعلى المقعد الثنائي للترام .. بكل التبلد البدني

ويندمجون، إلى أعمـاق سـطور – رويدا –من الصخب الدائر بين الركاب الذين يتكاثرون لكن الرجل المجاور دمر مركز إدراكي بقزقزة اللب بطرف عـين، .. أغرق.. أدخل –كتابي

تأخذ اللبة ببالدة لمحت حفنة اللب التي تتوسد كفه اليسرى مرفوعة المرفق بثبات واليد اليمنى ثـم .. ذهن شارد، تودعها الفم المتحرك، لتطحن تحت األسنان بصوت التكة األولى والمضغ

. المنفرجتين هويتفل القشور فيما بين ساقي . تنزل اليد لتأخذ لبة أخرى، وترفع بكل آلية وتطحن وصـل التصدع، اعتراني قلق أثارني والصوت يت ئطنت أصوات التقشير والطحن رأسي باد

لمحته بجانب عيني، محاذرا أال يراني مضغوطا بالحنق، فيزيـد ،يليصبح فرقعة تقلقل جنبات .من قزقزته

قليال وتنتهي الحفنة وتسكن ضربات المطـارق .. تحليت بصبر نظر إلى خارج الترام .. في الرأس يتوقف الصخب الذي راح يغزوني بقوة كادت تدفع لسـاني ليفجـر امتعاضـي

لكن بدنه المحطوط ،ظر بجانب، ربما ينهض ويغادر محيطي ويهبط بالمحطة التالية فأعدت الن ن إترهل فوق الكرسي ساهم الرأس ومتجمد المالمح، غير واع، قلت في بـالي، فألقـل لـه

عيب أن نوسخها هكذا، وأن الـذي .. أرض الترام التي غطتها القشور من حوله هي ملك لنا ن علينا أن نكون أكثر وعيا وتحضـرا، أكثـر إ مثلي ومثلك، و يقوم بتنظيفها مساء هو إنسان

وقد .. إال أنني آثرت السكوت تحت ضغط الصوت المقرقع .. إنسانية ونراعي مشاعر اآلخرين خمنت أنه يتعمد إثارتي جلبا للمشاحنة أو ذهابي بما تبقى لدي من أعصاب في هـذا التـرام

الذي جمعني بهذا الشاب المتبلد المزعج السـاير المزحوم، البطيء الصباحي المبكر الملعون .في القزقزة وتفل القشور

لكني أحجمت، .. ك األرض اآلن؟ من سوف يكنس ل : تأهب لساني المحبوس، ألقل له ؟..أنت مالك" أنا حر" ربما يقول لي بغطرسة ،ا على أضراسيمجز

باضـطرابك كيف تكمل يومك، بقيـة نهـارك . وأنا أحدث نفسي .. توقعت أن يقول ؟..ألعصابك وعملك الدقيق يتطلب أعصابا من جديد

أخذ منه حفنات وراح يوزعها بود وهدوء قاتلين على . إال أنه أخرج كيسا ممتلئا باللب بعض أطفال المدارس الواقفين في محيطه ليعم الكون صوت القزقزة المـروع مـع تطـاير

صوت فرقعة الترام الزاحف بـبطء إلـى ي على غمفزعا، ليط .. يعلو.. صوت يعلو .. القشور .المدينة

Page 101: 5323

الوديعـةالوديعـة –سألوني عن اسمي وعنواني، وعن سبب اهتمامي البالغ، والمتوجس للصبي الملقى

. فوق أرضية عنبر االستقبال المزحوم بالمرضى والمصابين–بإهمال كان ينزف دم ساقه الناشع من الخرقة المربوط بها الجرح العميـق الـذي ال تـزال

..صورته البشعة التي رأيتها أول مرة ملتصقة بذهني، تؤلمني على رصيف ىوجدته هكذا ملق .. نني لم أعرفه أصال، وليس لي به عالقة إ :قلت لهم

بصباح مملوء بجمهور ركاب يزحفون ركضا إلى خـارج –المحطة ينزف ويصرخ مستنجدا ألنني رأيـت منظـر الجـرح الغـائر يعاني ألما بشعا، انتقل إلي .. وحده يصرخ .. المحطة

قالوا، عليك باالنتظار ريثما ينفضون .. ولذلك جئت به ليعالجوه . صعب علي . المتهتك، بعيني ن الصبي صـغير ونحيـف، إ :أيديهم الملوثة بالدماء من بعض المصابين اآلخرين، قلت لهم

ى االستثماري بالجوار، عندك مبنى المستشف :ويمكن أن يفرغ دمه المتدفق خالل الجرح، قالوا ..ولم يبالوا لصمتي، أو قولي.. لو كنت متعجال

وقد تحول قلقي على الولد الذي تكاثر بكاؤه، متطلعا لـوجهي الصـامت المنـدهش، مما جعل القلق يتحول لنفسي، لروحـي، .. وكأنني مسئول عنه وعن ضرورة عالجه، وإنقاذه

يني ما أحمل، ومما أقلقني أكثـر سـؤالهم عـن يكف. فلست بحاجة لصبي آخر يتعلق بتالفيفي وأهمية تواجدي معه، وكيفية عثوري عليه، وإن كنت أملك سيارة، فألقـل .. اسمي، وعنواني

أيمكن أن يعالجوا الصبي ويحتجزونـي علـى .. نني مجرد موظف بسيط إ :قلت لهم .. الحقيقة ..اربت الساعة التاسعةوراودني الهم والخوف من تأخري عن العمل وقد ق.. ذمة التحقيق؟

وقفت إلى جوار الصبي مسلما أمري لما يأتي ويستجد من ظروف، متخليا عن التفكير وقد انصرف الصباح، فالشمس الساطعة قد توغلت عبر نوافـذ العنبـر الرهيـب ؛في العمل

، ناني عيناه الحمراو امالحظا بين الحين واآلخر ساق الطفل المستسلم لوهن بدن منهك وأسلم والدموع تشق بوسخ وجهه أخاديد، ولمحت ابتسامة تلوح، كأنه يوحي لي بأنه نجح في اإليقاع

...لى هنا فتذمرت منهإبي، وتطويعي لحمله فوق منكبي والوصول به كان الكوبري قد صدمه أثناء تعلقه بالباب خارج القطار المندفع قادما مـن ضـواحي

نشق اللحم وتمزق عن دم ساخن، االسفلي ساق القدم، ف الرمل يأكل قضبانه، فأكل حز الكوبري صرخة هتكت أغلفة الصمت مـن فـوق .. فجر بصدر الصبي صرخة وتشبث بحديدة الباب

الوجوه المزحومة بالعرق، والقلق، والزهد فمد القريبون من الباب أيديهم، ورفعوا الولد خالل .. ىووضعوه بالممر، بين السيقان وكان يتلو. الباب المفتوح

Page 102: 5323

االشمئزاز المريع ولى الوجوه شطر الخارج بعيدا عن بدن نحيل ضئيل ورث يتلـوى بجرحه، لفظوا مشاعر الذعر األسيان لعنات وشتائم، مفكرين مثلي في خروجه اآلن من بيته،

..وركوبه القطار المبكر بوقت يحتم على الطفل وجوده بالمدرسةـ تطوع أحد الرجال وأخرج قطعة قماش مزركش ةكمنديل وربط بها الجـرح المتهتك

ربط بقوة ليحبس الدم المنبثق، مباعدا أنفه والوجـه، .. أطرافه الملتصقة ببياض العظم الداخلي كان القطار يتهادى بوهن الموشك علـى التوقـف بالمحطـة –اتقاء روائح الصبي الكريهة

ـ األخيرة، كرجل عجوز مجهد وصل إلى بيته لينام، راح يتقيأ أحشاء اجوفه المرتبـك لحوم مجهدة، توزعت فوق الرصيف بهلع، يهرولون نحو أبواب الخروج الواسعة، مخلفين بـالوراء

يبكي، كمن يفرون من بشاعة المنظر، وليحضروا دفـاتر التوقيـع، أو االختبـاء وراء اصبي عربات األسواق، ولم يبق أحد سواي، ورجل توسمت فيه الشـهامة ونخـوة أبنـاء الريـف،

د، وقد نظر لوجهي الناظر له، كأننا نفكر من منا سـيركض أوال قبـل لقاسمني الهم على الو ي .. مثلي– مؤكد –فأنا لدي عمل ينتظر وجودي، وهو . ؟الثاني

، وقد تماسكنا بقوة زائفة إلى جانب صبي ينظر إلينا رافعا ساقه ا غريب الزم كالنا صمت ن يتبرع وينحني ويحمل الصبي، فانحنى الرجل ورفـع منا من اآلخر أ نحن المنتظر كل . بيده

مما أوقع بروحـي ؛ساق بنطلونه، كمن يود هرشها، فلمحت رباطا يشبه الجبيرة يلف سمانته ولد . ساعدني في إنزاله من باب القطار، ووضعه على الرصيف . حتمية التسليم في حمل الولد

نه إقال لي الرجل .. ، وموجدة تشبه الشجن ابثا بخوف انفالت يدي، فازددت هم تعلق بيدي متش األميري فأيقنت فورا أنها و ه ؛سيذهب ويأتي بعربة تاكسي، فال بد أن تسعفه بأقرب مستشفى

.. ذريعة للهرب ..وغاب طويال، وبالفعل لم يعد

فلم أنطـق ) ابنك(اقترب شرطي عجوز طيب الشكل، ونظر، ونفر مستبشعا، وسألني بل مال بجزعه النحيل، وساعدني في حمل الصـبي وهـو . فرصة للرد نه لم يدع لي إحيث

وكنت قد حملت الولد مع شعوري بأنني أصبحت مسـؤوال عـن ). آجي معاك (:يقول مجامال . أصر الشرطي أن يحمله معـي .. وإيقاف نزيف ساقه . حملي، ومهمة توصيله إلى المستشفى

وكـاذب، فقـد " مياس"تقادي بأن الشرطي مع اع . وكان ذلك متعذرا لتوقف الساق المضروبة .)عموما المستشفى قريب من هنا هي فركة كعب (:حملت الولد، وانتهى األمر، وقال

فقد أن يقوم بالحمل، بحيث تكون المقعدة فوق وراء العنـق مـع تـدلي وال بد لواحد ـ ن، آخـذا الساقين على الصدر وإسناد الساق المضروبة، وهي اليمنى، بذراعي أو كفي األيم

وبصمتي وانحناء عنقي نظرت . ال يمكن لشرطي أن يحمل أحدا بزيه العسكري هباعتباري أن

Page 103: 5323

له، وأنا أضبط الولد فوق كتفي، بحيث أكون قيما ومرتاحا أثناء سيري بالطريق إلى المستشفى ا، رويدا، الذي يستغرق نصف الساعة، فسلكت شارع صفية زغلول محتمال ثقله المتزايد رويد

مع قذارة قدميه المدالة على صدر قميصي المبقع بالدم، وتطويق رأسي بذراعيـه، وضـغط بطنه على مؤخرة عنقي، شاعرا بتوقف بكائه بتوقف دموعه التي كانت تساقط فـوق فـراغ

برفق شديد حتى أستطيع رؤيـة يدخل بعض أصابعه في عيني، فأزيحها وأحيانا كان . رأسي خجل باغتني من بعض العيـون التـي رأتنـي – أيضا –ع احتمال طريقي الذي استطال، م

أب مسكين يحمل طفله الجريح، وال – حتما فكروا بذلك –قة ألب فواستبشعت مندهشة، ومش .!يملك ثمن أجرة التاكسي

نفيت امتالكي ألية مركبة يمكن أن تصدم أحدا، مدلال على أنني لـم أعـرف حتـى كان ينبغي عليك، والحال كذلك، تركـه هنـاك .. قالوا.. ذي صدمه القيادة، وأن القطار هو ال

.. القانون، قانون .. طالما ليس ابنا لك " شعبطة"لتأخذ السكة الحديد حقها من أهله بعمل محضر وكان يجب : لعنت وقت داهمتني فيه الشجاعة والشهامة، ومشاعر األبوة التي جرفتني وقتذاك

لولد تعلق بطرف بنطلوني كمن يمنع عني البعد عنه مجـرد لكن ا .. تركه ينزف حتى النهاية قال لي أحد مسئولي العنبر أن أنتظر ريثما .. خطوة، فتركت له ساقي ليتعلق بها وليطمئن قلبه

تفرغ يد الدكتور، ربما يجد لي مخرجا ينجيني من المسئولية، وإنقاذ الطفل، قلت له، أنه ال بد تجاهلوني وتوجسي الذي بدا واضحا .. تر الحضور بالعمل من ذهابي أللحق بتدوين اسمي بدف

فوق مالمحي العرقة، متجاهال بدوري تواجدهم المزحوم والولد القابع بأسـفلي ككـرة حديـد أشـاهد المرضـى – خـالل ثبـاتي –بسلسلة قيدت بقدم سجين تعيقه عن الحركة، فرحت

نهم ودون أن أدري، كانـت يـدي والمصابين بعيني، وأسمع ضجيج التأوه بأذني، منصهرا بي .. تالمس، مداعبا، شعر الطفل المسكين

قال لي أحد الممرضين وهو يسحب مريضا أتعرف عقوبـة التسـطيح فـوق ظهـر ..كنا داخل القطار. وهل أنا كنت مسطحا؟ ال أنا وال الولد.. القطار؟ قلت له

آلة والغيظ، فانحنيـت ، متجاهال إجابتي، مما أشعرني بالض غلكان يحادثني وهو منش ان بيته، واسمه، واسم أبيه، انذعر وبدأ يـوالي صـراخه وعلى الولد أسأله مستوضحا عن عن

أبويا بياع خضـار –بالش والنبي يا عم .. بالش تروحله .. بالش أبويا .. أل.. "المتأوه، قائال ..سيبني أموت هنا أحسن.. محطة مصر، بالش تروح لهيف

.. كمن يريد الهربوقد فك تشبثه بساقي ..)والنبي يا عم. أبويا لو عرف، راح يموتني(

.سألته، كاتما غصة أسى بحلقي

Page 104: 5323

)أنت كنت رايح ألبوك لما الكوبري ضربك؟(ودايما يسب لي ويضربني لما أتأخر عنه الصبح .. أنا شغال معاه على العربية .. أيوه(

.)مسك مكانه علشان ينام له شويةأصله بيبات في السوق لحد الصبح، وأنا بروح أ. شويةكان قد ترك ساقي تماما وزحف، أو زحفت أنا قليال وسط الزحـام المحـيط، وهـو يرقبني بدمعه، وأنا أرقبه بغصتي عبر الفضاء المتاح، الضيق، الفاصل بين األبدان المتقاطعة،

.يتمسك بأطيافي، استبقاء خياليـ يدعوني بدمع رسم فوق الوجه الملوث خطوط ها نهرية متطاولة إلى جانـب مخاطوقد فصلني عنـه .. أن أبقى بجانبه .. المنساب على فمه الملتوي المضموم على األلم المذعور

متعارضـين، إلـى غرفـة . منـدفعين . يهرولون. كانوا يأتون . أبدان مصابين أخرى وافدة .. همواإلصابات الكبرى، يتبعهم ذو

داهمني شعور شـغف .. تقهقري إلى الوراء راودني شغف ولهف رغم .. تباعد الولد .. بالفقد

على يا مستلق ..كان منزويا بجانب حائط .. هرعت أبحث بين الحشد الموجع عن الطفل ..معيدا إياه إلى عنقي، كتفي. ظهره، رافعا ساقه، حاشدا كل همه بالنظر إلى قدمه، انحنيت

لن أقول لهم شـيئا يتعلـق – عن سبب انقطاعي – في العمل –لو سألوني فيما بعد ..ربما يقولون ولماذا أنت بالذات الذي تطوعت وحملته. بمسألة الولد

ربما أزيل هذه البقع –ولن أقول لزوجتي حين تسألني عن بقع الدم التي على قميصي ..بمعرفتي

ة أكثر، وأنا متشبث بقوة تصـلبي كان قد توقف عن البكاء، مطوقا رأسي، متشبثا بقو .. رأسا إلى غرفة الطبيب كالمخترقمزاحم متجهال

Page 105: 5323

محطة الخواءمحطة الخواء

) ) ١١(( ).. هل أقصر قليال؟.. (ورأسي مهوش بين يدي صديقي الحالق.. تراودني

والوجه الصغير ضحوكا كـان، ومحاطـا .. يتبختر.. تتسلق تالفيفي، بجسدها النحيل يتراقص كـالفرح بفعـل بشعر بني مطلوقة خصالته من بين حواف إيشارب الرأس األحمر،

هواء قطار يتهادى بخيالء، يفجر بالوجه فرحة كانت مخبوءة، تتصاعد وتـوتر البـدن عنـد استقراره بجانب الرصيف كرجل يأخذ أنفاس الراحة ثم يمنحها الشيء المأمول، لكن األبـواب

ا واحدا، يسكبهم الجوف فوق الرصيف لتمعن فيهم هي النظر واحد . تلفظ ركابا من كل األنواع . عن الوجه الضحوك ليقنط مع نـزول آخـر النـازلين .. رويدا ..بلهف تنسحب معه البهجة

مثقوبون كانوا بنظراتهم المدققة منذ وقت االنتظار وبيـد الرفـق الغضـوبة . ليصعد آخرون .تالمس بدن القطار بلحظة قيامه

ـ .. ولتفسح له المكان . هيا أمض ليأت غيرك : كمن تقول وق قضـبانه وهو يتسـلل ف ا خواءيتغلغل ليمكث . يفترش الرصيف كالغاضب الكسول، وسرعان ما يركض صارخا مودع

بالروح مدة اختفاء القطار بين المساكن البعيدة، لتتصلب وحيدة بأمل متجدد بقدوم قطار آخـر .يكمن به ذلك الشيء المأمول

).تريد تغطية هذا الفارق الشاسع بالشعر؟(وجونلة سـوداء طويلـة، . أكون، وهي بالرصيف متوحدة بالخواء بالرصيف المواجه

كانت األرض قد بدأت تأكـل . تجوب الرصيف بدبيب كعب حذاء عال . وبلوزة بيضاء متهدلة تنظر في كل األنحاء بدأب الباحث المتوقع رؤية المأمول هابطا من السماء .. حوافه على مهل

..أو صعوده من تحت األرض بشكل مباغتد الخطو بصمت صابر مضغوط على الصدر بفعل الذراعين المعقودتين بوقـار ثم تم

مفتعل، وخطو وئيد، فوجوه الرجال بدأت تبدو عبر المدخل، تتوافد، وهي تتفرس بحياء يتخفى .. ليس هناك هـو .. تجوس بهرولة كالراكض الخجالن.. يتكاثرون تباعا .. وراء وجه ضحوك

تسأل أحدهم عن الساعة، وتوجه النظـر إلـى .. نظارتتوقف حين تخترق مشاعرها بعض األ ..القضبان، وحين يجيب المسئول، تومئ برأس الشاكر الحائر المندهش لتأخر القطار

تهرع إلى المـدخل، .. يهيم بالعينين والقلق . ويجتذب البدن هاتف يومض بالذهن بغتة .. مختبئا هنا للمشاكسـة يمكن أن يكون .. تتحسس جوها الساكن بلهف .. إلى األركان المعتمة

Page 106: 5323

تدور حول أعمدة المظلة، قريبا مـن تجويـف حوامـل .. يراوغ الذهن .. لكن الهاتف يتفاقم تهرول عائدة إلى موقع مبنى شباك التـذاكر، يلتصـق ظهرهـا بحائطـه .. المقاعد الحجرية

هـاتف الزجاجي لتتمكن من رؤية وجوه الوافدين الجدد وهم يشترون التذاكر ليخمد الومض ال .. وشماال مرة أخـرى . تركض إلى حافة الرصيف ممددة الوجه والنظر، يمينا مرة .. والتوقع

يبتهج الوجه بأمل يصحو، ينمو بضوء قطار آخر يتجلى في المدى ويتقارب بـوهن، مـثقال تتفتح بالصدر المنتشي مساحات رحبـة، تشـمل القطـار .. باألبدان المنهكة، يغشى القضبان

لكن قبل دخوله المحطة، يومض الهاتف، تـركض بشـغف .. ليرتاح هنا لبرهة المجهد اآلتي وتعـود .. حول الوجوه خشية انفالت وجه جديد يمكن أن يكون قد وفد وتوارى في غفلة منها تصـلح .. بصدرها المفتوح، بتأهب الروح الحتضان القطار الذي يطرد آخر أنفاسه المتعبـة

تباغت آخر بالسؤال عن السـاعة، . ج بشوق رؤية المأمول هندامها باختالجة جسد يغمره ابتها وال تنتظر إجابة، فيدها المرتعدة بالفرحة تعدل اإليشارب المعقود عند العنق، فتصلصـل فـي

الجونلة ليظهر الحذاء المغبر قليال مشطوف الكعبين رفوترفع ح . األذنين أساور قشرة الذهب مثقوبي األدمغة بالمكابـدة النهاريـة ونظـرات تمسحه، والقطار يطرد من جوفه ركاب الليل

تتوقف لـدى .. األسى المتهافتة من عيونها التي تالحق الوجوه بصحبة الهاتف الوامض لتهرع .. تطـالع .. يتفرقون في السوق واألزقة يمـرون . من هنا يمرون .. المدخل لترى كل اآلتين

.. الواهن نحو فراغ الرصيف تبحث لتسأل آخر الذاهبين عن الساعة، وهي تحث خطا التمهل تنظر لبدن القطار الذي تسلل هاربا ببطء هو اآلخر، تاركا لها الخواء والليل وبقايا ريح تنـذر

.بالبردمس .. نساء توقفن مع رجالهن واألطفال .. توافد ركاب آخرون اعتلوا الهاتف الوامض

يومض .. واالنتظار الملول مشغولين كانوا بالصمت .. القلب حنين هائج أبهج الوجه الضحوك اعتلت سـور درج المـدخل .. ينحي البهجة عن الوجه الذي تجمد بشحوب مباغت .. الهاتفمؤكد ذلـك .. الخبز والخضر والرؤوس الثقيلة سترصد الركاب الليليين حاملي أكيا .. الواطئ

ن فـوق موعدها كـا .. مؤكد.. إلى هنا .. قال إنك آت إليها .. الرجل المأمول، منقوش بالذهن كان يجيء .. راكبا قطار المدينة .. بأي وقت بالنهار سوف يأتي – ربما –ولم يقل .. الرصيف

ربمـا .. ودائما ما توشك الساعة على العاشـرة .. مع بداية انسحاب النهار، وولوج أول الليل بـأبي (لكن كل القطارات تمر عبر الضواحي فوق هذه القضبان وتنتهي هناك .. تأخر قطاره

)..قير

))٢٢(( ؟.. إيه يا رجل أين ذهبت برأسك

Page 107: 5323

يعيـدني .. يشدني من فوق الرصيف .. كان صوت صديقي الحالق يعبر قشرة رأسي ..إلى المقعد والمرآة

..ها هو رأسي بين يديك ؟...أم.. هل أقصر الشعر.. منذ جلست وأنا أسألك

ط الذي كان حول الفراغ األوس وأسود مشعث .. شعري غزير.. أخوذا بالمرآة أجدني م شددت جلد وجهي برفع رقبتي ودنوت من المرآة أتفحص شـعيراتي البـيض .. يتسع رويدا

:عدت بظهري ألقول.. الواضحة بالذقن النابت ما رأيك لو أطلت سوالفي قليال؟-

:قال وهو يقصف شعيراتي البيض بالملقاطـ .. السوالف الطويلة يمكن أن تظهر بياض ذقنك - ة بجـانبي خاصـة هـذه المدفون

..رأسك ..لشاربي األسود.. ضحكت لوجهي األملس المطبوع على المرآة

))٣٣(( وهي بخطوها الواهي .. ليل الحر الخانق يلف المحطة، فوق الصمت المراوغ والخواء

قطارا توارى هناك بين المساكن المضببة بـأغبرة – بالنظر –رع الرصيف وتودع ذالوئيد ت ي المزركش، وكومت الجسد فـوق مقعـد بأسـفل فتانها الصي رفعت طرف فس .. الجو المعلقة

لكن حـين .. المتوقع ظهور الشيء المأمول ..شرع في القيام متدور عيناها بتأهب ال .. المظلةكان كعب حذائها متآكال ومحيكا نعله .. رفعت ساقا فوق ساق بدا جلد السمانة مصفرا، ومغبرا

غمـر المحطـة .. تا انبعث بالروح ضوء قطـار ..تأسى مني البصر .. الملوث بطين يابس ..والصدر بالنعيق الذي أرجف البدن الناهض بلهف

.. النسـيج والحمـرة إيشارب منحول .. فستان باهت الزركشة .. أصلحت من هندامها مسحت الخد واآلخر بيد، وبيـد تحسسـت بـروز الجسـد .. شعرا مهوشا وارت خلف نطاق

ركـاب .. يتوافـدون .. ال الرأس إلى التطلع في المـدخل لكن الهاتف الوامض أح .. المنتشيتتخلل األبدان وأمـاكن .. بونءيتثا.. تائهي النظر .. يتناثرون على المقاعد والرصيف .. الليل

كأن الوجه هـذا .. وجها بعد وجه، دونما يندهش أحد .. تمعن النظر عن قرب .. الوقوف بهلع كان بعض الركاب يجيبون عـن السـاعة .. دهوالنظر قد صار مألوفا لحد عدم الشعور بتواج

لتبحـث .. والقطار يلفظ أنفاس التعب ورواد جوفه والعرق فـوق الرصـيف .. دون أن تسأل .. لحظـة .. تركن الظهر عند المدخل .. بركض الجسد وهاجس الفزع، والهاتف الوامض يدفع

Page 108: 5323

ا كـان مخبـوءا تصدر صوتا خافت .. تنظر لكل وجه .. تهرول، تسابق الوقت .. يتفاقم الومض .. تحوم قبل انتهاء آخر الوجوه..).. كامل.. كامل(بالقلب

القطار رجل معاند، ال ينتظر أحدا هنا، يبتلع ركابه ويرحل بوجل وقور تاركـا لهـا ..والرصيف هدوءا وصمتا ينتظر كسره بقدوم قطار آخر يأتي بالمسمى كامال

يتغيرون دوما وهي تهـرع .. اء شباكه تضحك بوجه يتجعد لرجل التذاكر المتجمد ور تومئ المرأة .. تأبط فتاة يتدور حول شاب .. فوق الرصيف، تضحك لرجل يحمل فوال وخبزا

وتضحك بنظر .. ولماسح أحذية يتابع رجال منهكا مكعوب الحذاء .. حامل، ولطفل تعلق بثوبها .... خجالن لطفل راح يتبول ويصنع دوائر تتعالى وترش القضبان

))٤٤(( . صوت صديقي الحالق المتراخي– بوهن –يغشاني

هل تعرفت على حالق غيري؟ .. لقد تأخرت هذه المرة- ..واحكم.. يا حذق.. نظر لشعريا وهل أستطيع؟ -يـا صـديقي .. ربما تفكر في إخفاء الجزء األبـيض هـأ . إذن أنت تحاول إطالته -

..الغفالن، رأسك ثلثه أبيض ..في المرآة المغبشةضحكت، تالقت أخاديدي

لذي يرغمني على تحمل عناء المشوار من الورديان إلى باكوس غير مقصـك ا ما - .مرآتك القديمة المسوسة.. و.. الفنان

.. يا صديقي هذه المرآة جديدة، لم يمض على تركيبها عام واحد- ؟.. إذن وجهي هو المغبش؟ تقصد هذا-

..ضحك وهو يقول .. لي رأسك ماذا أفعل بوجهك أنا- ..لكن دع لي مخي.. خذه-أشعر بك كأنك تحمل .. رأسك دون المخ يتثاقل تحت يدي ويتخشب أريده معي لينا - ..هموم العالممثلما أنظر هنـا .. تصور أنني ال أنظر لمرآة بيتي أبدا .. شعر لعين يطلع بغفلة منا -

..عندك ..مر الخالقهذا أ.. والزمن يمر. مشاكل الدنيا تأخذ الواحد-

Page 109: 5323

... أمر الخالق والوطن وفواجع زمن الحرب والعبور-يتساقط فـوق الفوطـة واألرض ويتنـاثر .. كان شعري الفضي المقصوص يتطاير

..وتدوسه أقدام الحالق .. أنت تدوس على شعري يا أحمق حالق- ..هذا شعر قفاك فقط.. وأصبح زبالة.. كان شعرك- !؟.. قفاي- ..أيها الغفالن. هنا تحت يدي كل األقفية تقع -

..تأسيت.. ورأيت أمكنة أضراسي المخلوعة. ضحك وضحكت

))٥٥(( –مضمومة الساقان النحيلتان .. منكمش البدن المتكور بالزمن فوق مقعد بأسفل المظلة

.. ثـوب مهتـرئ ء إلى البطن المشفوط أسفل الصدر المترهل ورا –متكلسة القدم بوسخ قديم مرفوع طرف الثوب المبقع .. ع الكعب مقلوب، مهمل بأسفل المقعد وحده ذاؤها الممزق منزو ح

.. بالقار والطين، كاشف عن لباسها الداخلي، ممزق وباهت السواد حول عمـودين ضـامرين من خـالل ثقـوب شـعر – بتمرد –نطلق ا، بشرود مركون الرأس المعصوب بإيشارب بال

..متجلد أبيضالخامل متجعد الجلد، تمسح المحطـة بنظـرة لهـف بين الحين واآلخر، يرتفع الوجه

تسأل من يصادف وقوفه جوارهـا عـن ..).. كامل.. كامل.. (مباغت، وبصوت متبلد واهن حشرجه غصـة تصوت ..) يا كامل .. (مع أنها ترى الشفاه المجيبة . الساعة، دون سماع إجابة

اع بومض هاتف تكابر لحد يلت.. رويدا يعلو الصوت .. يسمع.. لعل كامال يجيب .. وجد مشتاق صوت يتعالى عند نعيـق القطـار .. لعل كامال يسمع .. كامل.. اكتساح الذهن ليستبد بالدماغ

..بالمدى البعيديغشـى .. ويصرخ القطار الواقـف .. كامل.. تصرخ.. تركض بوهن .. تنهض بوهن

راحـل تربت بحنو على بدنه الحديدي وهو يغادر الرصيف ببطء ال .. صراخه فوق صراخها ..المتمني البقاء بجوارها يرحل ليتعدى الرصيف

))٦٦(( .. ال أوفقك أبدا على صبغ شعرك- ..!أشعله كله.. لكن البياض زحف إليه-

Page 110: 5323

وهل تغير الصبغة من تجاعيد الوجه؟- ..أمال رأسه الليفي نحوي وهمس ضاحكا

..! أرى فمك وقد تجدد من الداخل- .هذا طاقم جديد.. نعم- ؟..بكم ركبته.. احدا مثله أريد و-

))٧٧(( مدهون الوجه المترهل .. قنفذ متكوم وقذر .. قاعدة.. احتواها ركن جانبي من المدخل

.. أكيـاس بالسـتيك متراكمـة ومنبعجـة .. تحيط بها أحذية قديمة متناثرة .. بلون أحمر فاقع ق متجلد، يطوقه قطعة من قمـاش تهـدلت فـو . شعر أبيض مهوش .. زجاجات مغبرة ملقاة

.. وفم أهتم كان يهمس كلما مر مـن قـدامها قطـار .. الحاجبين المدهونين بالورنيش األسود ...همس لم يكن يصل لغير رأسها المتطلع للخواء.. كامل

محمد محمود عبد الرازق

Page 111: 5323

مدن وضواحيمدن وضواحيألحمد محمد حميدة من القصص المبكرة التي أدانت التطبيع مع العدو " التغلغل: "قصةـ ه و –تتكاثر أمام عينيه . تتغلغل داخل الراوي " الوجوه الجبرية ".اإلسرائيلي ا ال حقيقـة م–

كغمامة تثاقلت فوق محجري العينـين "وتروح وتجيء وتدور حوله حتى ترتقي عيناه عصبا كانوا يتسكعون بثقة زائدة وصلف بالغ، ويسيرون بال ". المفنجلتين ليطبعوهما بالدهشة والغرابة

يذكر الراوي أنه شاهدهم في السنترال ومحطة السكة ،رفون الدروب والمسالك ألنهم يع ؛مرشدالحديد وبعض دور الصحف، وحاول الهرب منهم إلى أعماق المدينة، لكنهم كانوا يتغلغلـون

".ذن تكون مدينتي؟إأين : "حتى شعر بالضياع في مدينته رونثويكتقدم جندي الحراسة، : "بد اليهودي ويقدم الكاتب الصورة معبرة للجندي المهان أما المع

اقترب بزيه األبيض، ترك باب المعبد المغلق ودنا من دائرتهم، تجلت ابتسامة الرضا الودود، ريفية المنبع، فوق وجهه المشرب بحمرة الخجل، توقف بصمت المنتظر لسؤاله، كانوا في لهو

إلى قبة المعبد القديم والنجمـة والتطلع ثنظر أحدهم إليه، ثم تابع الحدي . عن تواجده المفاجئ يد الجندي ترتفع ببطء ويد أحد (...) تنحنح الجندي لتتجلى لهم قدرته على التواجد .. السداسية

..الرجال تمتد ببعض النقود الفكة، توضع في يد ذي الزي الكالح لينسحب ببطء" وضواحي مدن: "وأراد أحمد حميدة أن يعود إلى إدانة التطبيع مرة أخرى بمجموعته

الذي يستأثر بمكان مفضل في الترام، فهو يحتل الكرسـي الخـامس أو " الوافد: "فكانت قصة السادس المخصص لراكبين ليكون بالداخل إلى جوار النافذة، يفصله الراكـب بجـواره عـن

الحـظ الوجـوه الجيريـة فـي ". متكلس الوجه "األبدان المتالصقة بالممر المجاور له وتراه يبدو شعره كما لو كـان مصـبوغا . ضيق العينين، معقوف األنف كمنقار الغراب ".التغلغل"

االقتراب منه - يوما -أراد " يطالع كتابا أخفى عنوانه بورقة جرنال قديم مثل الغالف "بالحناء وبين أصابعه المرفوع بها الكتـاب جـزء .. لم أر سوى ورق الجرنال"لرؤية الكتاب فلم يفلح

واسم دافيـد .. دافيد كان اسم مصر ممسوحا نصفه لكثرة حك األصابع .. صرم.. من مانشيت سـواء مـن التجـار أو " الورديـان "ولم يكن يشبه أحدا من سكان ..". إال أنه واضح .. باهتا

..". بالمرتب والمواعيدينأو لنا نحن عمال الحكومة المحكوم"الصعايدة أو عمال الجمرك مستوى الرمزي، وظل المستوى الواقعي هو المسيطر حتى بيد أن الكاتب لم يقنعنا بال

فهو راكب غاشم يريد أن يضـر بـالجميع . النهاية رغم ظهور بعض أطياف للمستوى الثاني ثم فتح زجاج النافذة ومال بكتفه . حرك ذراعه اليسرى فوق الحقيبة : "لالستئثار بالمكان وحده

ثم .. رأس ةفي قفص صدري، واعتذر بإيماء نحوي، أخرج أوراقا من الحقيبة لكزني بالمرفق

Page 112: 5323

كان يلمحني والترام يهتز .. أخرج قلما فالمس منكبه طرف أذني، واعتذر بإيماءة تكاثر حنقي شعرت بأنه سيوقعني من طرف الكرسـي ويلمحنـي كمـن .. ويقرقع، وهو يزحزحني قليال

.. ه إلى جوار النافذة بغضب إال أنني تململت قليال وأزحت .. يخيرني بين الوقوع أو ترك المكان ..".وثبت قدمي باألرض بقوة

التـرام "وتتركز فـي . والشخصية المحورية في هذه المجموعة هي أداة المواصالت وهي مستوحاة من زيارة لي في " ليل النفق الطويل "في قصة " مترو األنفاق "، ويظهر "والقطار

كتبوا العنوان فوق : " في مفتتح القصة حلوان، وإن كنت ال أستاهل صفة العدل التي ألحقها بي لزوم السفر واالنتقال، وأكدوا على أن أجد العنوان، وإقناع امنحوني نقود .. المظروف األصفر

ويتساءل بالسـياق بعـد أن .." الرجل بالحضور فهو أعدل الناس لمناقشة محتويات المظروف وفي نهايـة القصـة !.." غيره؟ أليس هناك عادلون .. بد من هذا الرجل؟ أال: "ضاق بالقاهرة

المظروف، المظـروف، .. شرعت بالسؤال ورفع اليد : "تتفاقم األزمة ويفقد الراوي المظروف .. ومترو يسكب ركابا .. مترو يغادر .. حلوان ترتج برأسي، عدوت .. عدوت.. التفت مذعورا

لعل .. سألأ.. قأهرع، أسأل، أرأيت مظروفا أصفر عليه عنوان، عدوت الميدان المكتظ بالخل ..".لعل.. لعل أحدهم رآني معه.. لعل أحدهم يبحث عني..أحدهم رآه معي

جـر فانغمست مـع ركـاب ال : " من ركوب القطار باإلسكندرية اويصف الرحلة بدء .طالب منهكون يراجعون الكتب والكراريس بـأعين كابيـة تتحـدى .. مكدودون لحد النعاس

نسـاء .. سليك الحناجر بنداءات معلق بها بقايا نوم لم يكتمل باعة جائلون يحاولون ت .. اإلجهادوبرد مدبب ينسل عبر فتحات النوافذ المسـكورة .. فعات بفوط الوجه والجالليب تمنكمشات مل : ويبهره النفق . وحين وصل إلى القاهرة لم ينس أن يبحث عن تمثال رمسيس ..". ينخر العظام

ض ملساء، وصناديق مـن ان ملساء، وأر را، الجد مروع النظر مبهور .. قطعت تذكرة لحلوان "ها هو تمثال رمسيس محبوس .. وري تحتوي على تماثيل الفراعنة، حدقت مدهوشا الزجاج البل

.. أدركت.. اسم أنور السادات ! سخيف انكمش وتوارى في النفق؟ .. في صندوق زجاج صغير علـى الحـائط معلـق .. بعدلم يمت . وهو أيضا متواجد ".. السادات"متواجد أنا في حضرة

".حسني مبارك"بعد تحرك القطار من محطة " أنور السادات"ويبدو أنه يصف محطة ..". فوقيوبعـد تحـرك القطـار . بدبوس هشبك. ويشغله ثقب في كم البلوفر منذ بداية القصة

النفـق إلى طوعندما هب ". ا كبقعة بيضاء بدا الثقب دائري : " القميص احتجاج الدبوس ليغلق فتحة يتيحـون . أعين المتطفلين تختلس النظر، ويتغاضـون "نزع الدبوس من صدره لمواراة الثقب

– إحساس الشخصية، فالناس يشـغلون – ال ريب –وذلك " بون ثقوبهم والفرص ليواري المثق وفي المترو جلس بجوار النافذة فتوارى الثقب، وجلسـت . عن ثقوب من ال يعرفونهم –عادة

Page 113: 5323

االسـم .. فوق سـاقي المظـروف .. تشاغلت: "متصابية كانت تنظر في وجهه بجواره امرأة ويستمر في وصـف الزحـام .." غبش الوجع بالعينين، وثقب يتسع .. العنوان رباعي .. ثالثي

ـ . وتحركات الركاب وأحاديثهم، والخروج من النفق إلى سطح األرض ى وينشغل بـالنظر إل"اكيفية فتح وإغالق األبواب آلي."

يقدم لنا كاتبنا صورة لطفل مات فوق ظهر القطار السياحي العائـد " ولد صغير ": وفيلم يتأكد أحد . فالولد كان متجمدا . وتتألف القصة من عدة تساؤالت : من القاهرة إلى اإلسكندرية

ولو كان قاعدا لتهشم . لو كان واقفا ما ترك أحد الكباري الجسد دون كسور . من طريقة موته " استنشاق الريح المغبر والسناج قد جفف دمـه "ا سقط، ال شك أنه مات من البرد الرأس، وربم

لم يتأكد أحـد .. ومن هو؟ .. لماذا تسطح؟ . ال أحد أيضا يعرف .. وفي أي مسافة مات؟ : متىوواقعة الموت بذات الطريقة التي تشير إليها بعض مواطن القصـة .. سوى من واقعة الموت

مكن أن تحدث ألي صبي ال نعرف عنه شيئا، إنها صورة رائعـة الجوع والبرد من الم : وهي . رغم الهول وربما بسبب الهول لفنان أصيل–

ا تحمل طفال ويمسك لنرى أم " طوق الصخب "ونصعد إلى الترام مرة أخرى في قصة ورغم فاقة . في ذيلها طفالن، ويشق الجمع الزحام إلى أن ينهض شخص من جوار الراوي لها

نها تخرج من كيسها جهازي راديو تضعهما في مريلتي ولديها وكان مـا يحـدث فـي األم فإ الزحام من صخب ال يعنيها، وحين توضع السماعات على آذانهما ينتعش الطفل الجالس على

واألم يغمرها ابتسام صامت مع سكون الجسد، وهـي تطلـق "حجر أمه مع أخويه الضاحكين ".فور األسيان الشغنفسا مرتاحا بلحظة اختالس النظ

نشاهد ولدا صغيرا يقف على سلم الترام قابضا بذراعه النحيلـة " تأرجح: "وفي قصة وعند ،على العمود، ويده األخرى ممسكة بحقيبته المدرسية القديمة التي يلطم بها أعمدة النور واحـدة توقف الترام كان يهبط بالمحطات إلى أن يصعد الركاب ثم يعاود الوقوف على قـدم

ترتفع أطـراف المريلـة : "وكان الولد يهرب من دفع األجرة وللتأكيد على فاقته يقول الكاتب ـ ". دوبارة طالصفراء المهترئة، تكشف عن بنطلون مربوط عند الوسط بخي تأرجحـه ظوالح

الصبي به، وكلما نهره الرجل ردد عبارة هفطلب منه الصعود إلى الداخل فلم يأب " منهك"رجل حتى رفع الرجل يده المعروقة تأهبا لصفعه، بيد أن يـده سـرعان مـا " مالكش دعوة "واحدة

ازدادت شـفتا ". يا ابني أنت جوعان "وعندما سأله " الكريهة"تهدلت عندما شم رائحة فم الولد وترتفـع يـد ة، أبي الولد اختالجا، ولم يمنعه جوعه من مواصلة تمرده الذي يصدر عن نفس

". وهو يقاوم احتباس الدموع؛لكنه يزيح اليد بغضب.. تف الصبي،الرجل لتحنو على ك

Page 114: 5323

ويظهر قطار أبي قير في معظم القصص، ونرى المحصلين في الترام والقطار، لكـن " فقدان الحـواس : "يبدو أن الراوي للمجموعة يناصب محصلي هذا القطار العداء، وتبنى قصة

لصـوت – رغم الزحـام –ف السمع كان الراوي يره . على محاوالت الهرب من الكمساري المتجهـين نحـو المدينـة " في رءوس ركاب الصباح ئقطع التذكرة، ولهذا الصوت وقع سي

وال يخفي سبب الهرب من الكمساري عن فطنة القـارئ، لكـن " لتأكلهم المصالح واإلدارات بيـت وهكذا نوفر لل ...ربع على ربع يكون نصفا ونصف على نصف : "الكاتب يزيده إيضاحا

تـه وفي الكرسي المقابل يجلس رجـل وزوج ..". يشد من عصب العيال .. ثمن كيلو لحم مثلج أنهما كانا يختلسان النظر إلـى حيتهامسان، ويظن الراوي أنهما يختلسان النظر إليه، ثم يتض

الكمساري، فقد نزال في خفة طفلين عندما اقترب، ثم عاودا الركوب من الباب اآلخـر لـنفس . ةالعرب

يتضخم كلما ازداد اقترابـا، حتـى إذا " صوت المطر والريح : "والكمساري في قصة الكاتب يمارس ه ثم جعل ..يالمس برأسه سقف العربة " كغول أسود ،بدا أكبر " فتوح"توقف أمام

: فـي المشـهد األول ؛وتتألف القصة من عدة مشـاهد . اللواط مع األطفال المشردين بالقطار يعمل بالحكومة نهارا، وفي الليل يعمل جرسونا في الحفالت الخاصـة، تحدثنا عن فتوح الذي

اكان المطر شديد .. في هذه الليلة، صندوقا من الكرتون بحلويات ومشويات البوفيه –وقد مأل جـاور قطعـة "؛والريح تزمجر، ومع ذلك استطاع أن يحمي الصندوق حتى استقل القطـار

إلـى ".. استنشق روائح تمأل القلب المجهـد .. تبسم.. م العيالالجاتوه السليمة، المربعة، هذه أل باألسواق، سوف يـوقظ الموز غال . صغيرته تحب الموز .. ثجوار أصابع الموز الكبيرة مك

ويوزع على العيال بالتساوي، مع الحلويـات، وليـدع البرتقال يقطع أجزاء .. البنت لو نامت ".قطع الفراخ لتطبخ بها األم

كانـت العربـة " ينقلنا إلى العربة المجاورة فقد سمع أنينا يصدر عنها :ثانيالمشهد ال امه، عظبأبدان األطفال المنكمشين كالقنافذ، فوق كل مقعد طفل صغير تتداخل . تقريبا –ممتلئة

ونصف عرايا، أطفال النهارات الصيفية الملقون بـال نـاس فـوق أرصـفة ةمتسخون وحفا متسولو المدينة الواسعة، يتالقون .. ام الزبالة وفتات زائري الحدائق الشوارع، يقتاتون من أكو

مشـهد المحصـل :ومن المشاهد الرئيسية ". في ليالي الشتاء فوق مقاعد القطارات يرتعشون يتخـاطفون ينخـر آ رأى أطفـاال "فتوح" فعندما عاد ؛ وتتجمع هذه المشاهد في النهاية ،الشاذ

متوحشين، ناظرين نحوه بتحفز فـآثر السـالمة ،هة ونهم ويلتهمون محتويات الصندوق بشرا ".بكل الغضب واالزدراء لوجه المحصل المتحرك بثقة"واتجه نحو مقعد بآخر العربة، ونظر

Page 115: 5323

الـذي يشـكلها " صمت الغفوة"وغالبية القصص بمثابة لقطات حزينة مكثفة مثل قصة : دون أن يستمع إلى الجـواب سؤال أطلقه عجوز وهو بين اليقظة والنوم، ثم غفا مرة أخرى

وعليك أن تتخيل أسباب إطالق السؤال، وهـل كـان ..". هو النهارده كام في الشهر العربي؟ "ومعظم ركاب قصصنا مرهقون منهكون، وتؤكد هذه القصة من .. يردده لنفسه أم يسأل جارا؟

تمل يوما، نوم يقـاوم يستجلبون عصارة النوم الذي لم يك"البداية حتى النهاية على ركابنا الذين ويغتال .. بالصحو القسري، لكنه يتسرب إلى أجسادهم ليأكل األعصاب ورغبات التفوه بالكالم

طافح فـوق .. نوم مختبئ في خبايا الرءوس، يخمد التالفيف المكدودة .. الضحك في الصدور .. فيها الريحرفصينخر في األبدان لتبدو كأشجار جوفاء ت. السحنة، مطل باالصفرار والوجوم

.. المكاتب ..المكن.. يتوقون إلى إغماض األعين، إسناد األدمغة الثقيلة على الجدران ليعودوا بما تجود بـه أيـدي .. يناضلون به النعاس .. أو األرصفة مشجوب نهارهم بالحدقات

..".المصالح واألسواق.. وكالة الخضر.. الورشمعة الذي يقام بناحية مينـا البصـل تشتري امرأة من سوق الج " ظل باب : "وفي قصة

بابا قديما مكسور الزجاج رفعته فوق رأسها حتى وصلت إلى محطة القطـار، وكـان ابنهـا الصغير يحمل المفصالت، ويصف الكاتب معاناة المرأة إلى أن سـمح لهـا عامـل البـاب

ما جمعهـا وعنـد . بالدخول، ثم يصر المحصل على أن تدفع المرأة تذكرة طرد مرتفعة القيمة وأنزلها في محطـة " ن األمور مش سايبة إعشان تعرف : " المحصل النقود ضالركاب لها رف

ونعلم من السياق أنها تسكن بعزبة بالمندرة بيوتها بـال ،لتتصرف معها الشرطة " سيدي جابر "". ستستريح األم من عيون الجيران " الهوا مش راح يخش تاني عندنا "ويفرح ابنها ألن . أبوابي هذا الجو المشحون بالترقب والقلق تنطلق النكتة، فعندما دق المحصل الباب بالقلم، قـال وف

فإبدال الظاء إلى " ضل باب : "وكان باإلمكان أن تسمى القصة ".. مين اللي بيخبط "الولد بتلقائية .ضاد من لهجة قيس وتميم

رة بالتأمـل إن كل قصة من قصص هذه المجموعة التي تقطر أحزانها في قلوبنا جدي .واالحتضان