1- في رياض سورة عبَس · web viewق ل إ ن ص لات ي و ن س ك ي و م ح ي...

470
( 162 )

Upload: others

Post on 30-Dec-2019

31 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

1- في رياض سورة عبَس

قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَــاتِي للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين

(الآية 162 من سورة الأنعام)

جاسم عبد الرحمن

(7)

في

رياض الجنة

الجزء السابع

الطبعة الأولى

إهداء

إلى المتطلعين إلى الجنة وهم بعد في هذه الدنيا.

إلى الطامحين في أن يكون الإسلام واقعًا يعيشون به ويعيش بهم.

إلى الذين ينسجون حقائق المستقبل من كتاب ربهم وسيرة نبيهم، ومن تراث سلفهم وأحلام يومهم.

نهدي هذه السلسلة (في رياض الجنة)

هذه السلسلة

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الذي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(، (يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا(. كلنا يشتاق إلى رياض الجنة، ففيها نعيم لا يخطر وصفه على البال، ورياض الجنة متعددة:

روضة بعد النشور:

هناك روضة يدخلها المؤمنون بعد البعث والنشور برحمة ربنا ( جزاء لأعمالهم، فيفوزون فيها برؤية ربهم، فقد روى أَبُو هُرَيْرَة ( أن رسول الله ( أخبره:"..أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا نـزلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ يُؤْذَنُ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِن أَيَّامِ الدُّنيَا، فَيَزُورُونَ رَبَّهُمْ، وَيُبْرِزُ لَهُمْ عَرْشَهُ، وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ مِن رِيَاضِ الْجَنَّةِ".[رواه الترمذي، من الحديث 2472].

وروضة قبل النشور:

للصالحين روضات أخرى يتمتعون بها قبل البعث والنشور، إنها مِن رياض الجنة، لكنها في القبر، فعن أبي سَعِيدٍ ( قال: قال رسول الله ( :"إِنَّمَـا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِن حُفَرِ النَّارِ"[ الترمذي، من الحديث 2384].

وروضة تُشَدُّ إليها الرحال:

وهناك روضة من رياض الجنة يدخلها الحي منا، مكانها محدد ومحدود، قد تكون بعيدة أو قريبة، وقد يتنافس الناس على المكث فيها، إنها الروضة التي بين قبر رسول الله ( ومنبره في المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، فعَن عبد الله ابن زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّه ( قال:"مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنبَرِي روْضَةٌ مِن رِيَاضِ الْجَنَّةِ" [رواه البخاري، الحديث 1120].

وروضة قريبة المنال:

وكل إنسان مسلم في متناوله رياض قريبة هي حلق الذكر، ولقد جعل الله ( كل حلقة يُذكر فيها سبحانه روضة من رياض الجنة، إنها الحلقات التي نتلو فيها الذِّكر - والذكر هو القرآن- قال الله (: (إنَّا نَحْنُ نـزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ(، وهي الحلقات التي نتدارس فيها تفسير القرآن، قال الله تعالى:(كُونُوا رَبّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ(، وهي الحلقات التي نطالع فيها كذلك الوحي المُنـزل على نبينا محمد ( في السُّنة الشريفة، فعَنِ المِقْدَامِ بن مَعْدِي كَرِبَ عَن رَسُولِ اللَّهِ ( أَنَّهُ قال:"أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" [رواه أبو داود، من الحديث 3988].

وهي الحلقات التي تُطْرَح فيها العلوم والمعارف المرتبطة بذكر الله (، فعَن أَنَسِ بن مَالِكٍ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قال:"إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا"، قالوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قال:"حِلَقُ الذِّكْرِ" [رواه الترمذي، الحديث 3432].

فاجلس بنا نؤمن ساعة:

وفي الروضة نُجَدِّد إيماننا، قال مُعَاذُ بن جَبَلٍ ( لأحد إخوانه يُذَكِّرُه: اجْلِسْ بنا نُؤْمِنْ سَاعَةً، فتلقفها ابن رواحة ( وأهداها لأبي الدرداء ( وهو آخذ بيده: تعال نؤمن ساعة، إن القلب أسرع تقلبًا من القِدر إذا استجمعت غليانًا

وتيسيرًا للاستفادة من هذه الرياض كان كتابك هذا، نصدره بمشيئة الله في أجزاء، وفي كل جزء تجد بابًا لرياض الجنة وأنت [مع النفس]، هو الباب الأول، ترتشف منه في بيتك أو مع أهلك وولدك، وبابًا لرياض الجنة وأنت [مع الناس]، يصاحبك في تعاملاتك وتصرفاتك وحركاتك، وبابًا لرياض الجنة وأنت [مع الله]، يعتني أساسًا بغذاء الروح وتقوية الصلة بالله (.

وقد اخترت من أساليب العرض أسلوبًا أدعو الله ( أن يجده القارئ متميزًا ومفيدًا، ذلك أننا نستعرض موضوعات الرياض من خلال ما ورد من صحيح السُّنة، ونحرص على إيراد نصوص الأحاديث كما وردت مع بيان معاني الكلمات، فنحن نريد إعادة توثيق الصلة بين المسلم المعاصر وبين الثروة التي خلَّفها لنا سلفنا الصالح في كتب السُّنة، ونريد أن نـزيل الاستغراب الذي يصيب المسلم المعاصر إذا ما طالع ثروته هذه؛ خاصةً مَن تعوَّد قراءة الكتب المعاصرة المبسَّطة، فنحن لا نريد أن نَحرِمَ المسلم المعاصر من يُسر أساليب العرض الحديثة، وفي ذات الوقت لا نريد له أن يستغني بكتبنا هذه عن ثروته العريقة.

وأسلوب العرض المختار لا يجعل المسلم فقط يقرأ السيرة -التي طالما قرأها- دون أن يشعر أنه يعيد القراءة، ولا يخاطبه فقط بما تعود عليه من مفردات معاصرة، لكنه أيضًا يعمل كحلقة وصل مع ثروة التراث، وييسر له النقلة إلى المراجع الأصلية الأصيلة إذا أراد، ومن أجل ذلك كان الحرص على بيان معاني الكلمات، وكان الحرص على ذِكْر موضع الحديث الشريف بدقة، وقد اعتمدنا ترقيم العالمية في موسوعة الحديث الشريف التي أصدرتها شركة حرف لبرامج الحاسب.

وفي النهاية يمكن للقارئ أن يحاسب نفسه بنفسه، فيعرف حصيلة عقله ورصيد قلبه وحساب جوارحه، من خلال الاختبار الوارد في نهاية الكتاب.

وليس هذا الاختبار امتحانًا، ولكنه ذو دور تعليمي وتربوي، فأسئلته مهمة لبلورة الأفكار التي طالعها القارئ في كل فصل، وسيجد إجاباتها بعدها ليتأكد من صحة فهمه، ويتمكن من قياس مستوى تحصيله العقلي والقلبي والعملي.

والله نسأل أن يتقبل منا هذا العمل، ويجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين والمسلمات، وأن يغفر لنا كل تقصير.

جاسم عبد الرحمن الخواتمي

مقدمة الجزء السابع

الحمد لله ( الذي بنعمته تتم الصالحات، ها نحن نعاود الالتقاء في رياض الجنة، بين يديك الطبعة الأولى من الجزء السابع من هذه السلسلة، وهي تسير على نسق الطبعات الحديثة من الأجزاء الأولى (الطبعة الثالثة من الأجزاء الأول والثاني والرابع، والطبعة الثانية من الجزء الثالث، والطبعة الأولى من الجزأين الخامس والسادس) من ناحية بيان بعض المراجع لتيسير التوسع لمن أراد القراءة، وفي ربط السيرة والفقه بالأحاديث الشريفة الصحيحة بصورة دقيقة، كما أُظهرت الأهداف التربوية بالاستفادة من العناوين الجانبية والفرعية، واحتفظنا بإدراج باب خاص في نهاية الكتاب يعين القارئ على قياس الاستفادة العلمية والوجدانية والعملية فيما يتعلق بالموضوعات التي تناولها هذا الجزء.

نسأل الله ( أن تتحقق أهداف السلسلة المعرفية والوجدانية والعملية المهارية، ونتضرع إليه عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، وأن يتقبل منا هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم.

جاسم عبد الرحمن الخواتمي

الباب الأول

مع النفس

تمهيد

يحتوي الباب الأول [مع النفس]، على أربعة فصول: فصل [في رحاب التفسير]، وفيه تفسير سورة الملك، وفصل [من رحيق السيرة والتاريخ]، وفيه عرض لسيرة ثلاثة من أنبياء الله وهم: آدم وإدريس ونوح عليهم السلام، ثم فصل[من جواهر العلم]، وبه سجود السهو والأذان والإقامة والمواضع المنهي عن الصلاة فيها، ونختم بفصل [من حصاد الفكر]، وفيه نواصل تناول أقسام العقائد الإسلامية، ونخصصه في هذا الجزء لتناول قسم النبوات.

أما [في رحاب التفسير]، فنعيش فيه مع تفسير سورة الملك، ومنه نعرف فضلها، ونتعلم أن الابتلاء هو الغاية من الخلق، كما يوجه أنظارنا إلى بديع صنع الله في الكون، ويلفت نظرنا إلى أهمية قيام المسلم بدوره في حراسة الدين وحفظه، ونرى أن صاحب العقل هو الذي يعمل بطاعة الله، كما يذكرنا بنعم الله علينا، ثم يختم بتهديد ووعيد للمكذبين.

وفصل [من رحيق قصص الأنبياء]، يعرض قصة خلق آدم (، وكيف كان استقبال إبليس -عليه اللعنة- لخلق آدم (، ونرى كيف كرّم الله آدم ( بسجود الملائكة له، ونبرز كيف كانت المعصية سبباً لخروج آدم ( من الجنة، ونتعلم كيف نتجنب بذور الشرك وبدايته، ونرى أنه من الضروري أن يعدد الدعاة وسائلهم عند دعوة الآخرين والصبر على هؤلاء المدعوين، ونرى أن الأرض لله يورثها لعباده الصالحين وذلك من خلال عرض قصتي نبي الله إدريس ونوح عليهما السلام.

وفصل [من جواهر العلم]، تركيزه في هذا الجزء على مواضيع سجود السهو والأذان والإقامة والمواضع المنهي عن الصلاة فيها، وقد تحرّينا ربط كل حكم بالحديث الصحيح الذي يؤيده؛ حتى يشعر القلب بمعية الوحي في كل تصرف عملي، ولتكون الآية الكريمة أو الحديث الشريف زادًا ومرتكزًا لكل من يبحث عن الثواب في تبليغ الحكم الشرعي لغيره.

فصل [ من حصاد الفكر]، يتناول قسمًا آخر من أقسام العقيدة الإسلامية وهو النبوات، ونعرض فيها لمعنى النبوة والرسالة والفرق بين النبي والرسول، ونبين أن الإيمان بالرسل من أصول الإيمان، ثم نعرض لعدد الأنبياء الذين قصهم علينا القرآن الكريم والسنة المطهرة، ونتناول كذلك الكتب التي أنزلت على رسل الله، ونبرز الصفات الضرورية لأنبياء الله، ونعلم أنهم أناس من البشر إلا أنهم تفردوا عن غيرهم ببعض الصفات، ونعرض كذلك لمعجزات الأنبياء، ونبين الفرق بينها وبين كرامات الأولياء.

*****

الفصل الأول

في رحاب التفسير

سورة المُلك

سورة المُلك

سورة الملك من السور المكية، وتسمى الواقية والمنجية، وذلك لما روى ابن عباس (رضي الله عنهما) قال:"ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لا يَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا فَأَتَى النَّبِيَّ ( فَقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ، وَأَنَا لا أَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الْمُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا، فَقال رسول الله (:"هِيَ الْمَانِعَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"[رواه الترمذي، الحديث2815].

وعن جابر أن النبي ( كَانَ لا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ. [رواه الترمذي، الحديث2817].

وقد تناولت السورة مواضيع رئيسية ثلاثة وهي:

1- إثبات عظمة الله وقدرته على الإحياء والإماتة.

2- إقامة الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين.

3- بيان عاقبة المكذبين الجاحدين للبعث والنشور.

قال الله (: (تَبَارَكَ الَذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1) الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ(2)(

المفردات:

(تَبَارَكَ(: تقدس ( لِيَبْلُوَكُمْ(:ليختبركم.(المَوْتَ(:انقطاع تعلق الروح بالبدن.

عظمة تستلزم التقديس والتنـزيه:

فالله ( عظيم، وملكه عظيم، ولا يستطيع الإنسان مهما بلغت قدرته، وعلت إمكانياته أن يدرك حقيقة ملك الله تعالى، وبالتالي لن يُقَدِّر الله حق قدره، وهذه العظمة في الملك تستلزم من المؤمنين التقديس والتنـزيه والتوحيد لله رب العالمين.

الغاية من الخلق"الابتلاء":

لم يكن خلق الإنسان مصادفة بلا تدبير، ولا غاية، إنما هو الابتلاء لإظهار المكنون في علم الله من سلوك الإنسان على الأرض، واستحقاقه للجزاء على العمل: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً(. وأحسن العمل: أصوبه وأخلصه، فلا يكون العمل مقبولاً حتى يكون صوابًا في الحكم الشرعي وخالصًا لوجه الله، فمن تَنَكَّب عن الصواب فقد ابتعد، ومن انحرف عن الإخلاص فقد ضل، وكثيرًا ما كان يدعو النبي ( بقوله:"اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ" [رواه مسلم، من الحديث4798].

قال الله (:(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وهُوَ حَسِيرٌ (4) ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِير(5)(.

المفردات:

(طِبَاقاً(: طبقًا فوق طبق وبعضها فوق بعض.

(تَفَاوُتٍ(: اختلاف وعدم تناسب.

(فطور(: شقوق وخروق أو تلاصق وخلل.

(كرتين( : كرر النظر والتأمل.

(خاسئًا( : صاغرًا ذليلاً.

(حسير( : كليل متعب ناله الإعياء.

(مصابيح(: الكواكب،وذلك لإضاءتها.

(رجومًا( : قذائف.

(أعتدنا( : أعددنا.

(السعير( : النار الموقدة.

توجيه الأنظار إلى كمال الصنعة:

فالقرآن يوجه النظر - في خَلْقِ الله للسماوات بصفة خاصة، وفي كل ما خلق بصفة عامة - إلى كمال صنع الله ( ، وأنه مهما دقق الإنسان النظر وكرره لن يجد خللاً ولا نقصًا ولا اضطرابًا في ذلك النظام البديع، قال تعالى:(وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ(

وهذا الإدراك لكمال الصنعة وجمالها لن يتأتى إلا بإمعان الإنسان النظر فيما حوله من المخلوقات، فلابد من استثارة النظرة الفاحصة المتدبرة في نفسه، فكلنا يعلم أن السماء فوقنا، بل إنه قد تمر عليه الأيام والليالي، بل والشهور والسنوات دون أن ينظر إلى السماء؛ وما ذلك إلا لأنها أصبحت من مألوفاتنا التي لا تلفت انتباهنا، هنا يأتي القرآن ليخرج الإنسان من مألوفاته، فيتأمل كمال صنع الله وجماله في الكون.

وظيفة حراسة الدين:

الكواكب والنجوم تقوم بهذه الوظيفة العالية: حراسة الدين، فجعلها الله رجومًا للشياطين، لتحفظ الدين من استراق السمع من قِبل الجن، فقد كانت الشياطين تستمع أخبار السماء قبل مبعث النبي (، فلما بُعث مُنعت من ذلك برميها بالشهب. قال الله تعالى:(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا(.

فحراسة الدين وظيفة جليلة عظيمة تقوم بها مثل الكواكب والنجوم، وجدير بمن كلف بهذا الدين أصلاً أن يقوم بحراسته وحفظه؛ ولذلك أجمل الفقهاء مهمة الحاكم المسلم بقولهم:"هو من يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا" وليس هو القائم وحده، بل هو الذي يقود هذه المهمة، ويوظف طاقات الأمة كلها لهذه الوظيفة العظيمة، والتي من أجلها استُخْلِف الإنسان في هذه الأرض، ومن هنا كانت كثير من تكليفات الشرع تهدف إلى حراسة الدين وحفظه بمثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والنصيحة لكل مسلم، والدفاع عن الحق، ودفع الظلم والباطل، والجهاد في سبيل الله، وبذلك يتكامل نظام الكون ويتناغم من أجل تحقيق هدف واحد وهو العبودية لله تعالى.

قال الله (:(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ(9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ(11)(.

المفردات:

(المصير(: المرجع والمآل.

(شهيقًا(: صوتًا مفزعًا.

(تفور(: تغلي غليان القِدْر.

(تميز(: تتشقق.

(خزنتها(: حراسها من الملائكة.

(فسحقًا(: فبعدًا.

العاقل من يعمل بطاعة الله:

فقد أعد الله تعالى للذين يجحدون وجود الله وينكرونه أو يكذِّبون بوعده ورسالاته أعد لهم عذابًا في جهنم، حتى إنهم إذا طوِّفوا فيها سمعوا لها صوتًا مفزعًا من الحنق والغضب عليهم، ويسألهم خزنتها للتأنيب : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(.

ويكون الجواب في ذلة وانكسار واعتراف بالحمق والندم على أنهم لم يستمعوا إلى الهدى ولم يعقلوا ما جاءهم، وروى عن النبي ( أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما أعقل فلانًا النصراني، فزجره النبي (، ثم قال:"مه فإن العاقل من يعمل بطاعة الله".

قال الله (: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) ولَقَدْ كَذَّبَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)(.

المفردات:

(اللطيف(: العليم بخفيات الأمور.

(ذلولاً(: سهلة للمشي فيها.

(النشور(: المرجع والمآل.

(تمور(: تتحرك بكم.

(حاصبًا(:ريح فيها حجارة وحصباء.

(نكير(: أي إنكاري عليهم.

دورة الحياة والموت:

إن الرقابة القلبية والتي تستشعر خشية الله لابد أن يستصحبها العبد المؤمن في دورته الدنيوية من الحياة إلى الموت، قال الله تعالى:(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(.

فالإنسان متعبد بتعمير هذه الأرض: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا(، هذه الأرض التي ذللها المولى سبحانه ليستطيع الإنسان المشي فيها، والسعي لكسب الرزق، ذلك التذليل الذي لا يعلم حقيقته، ولا يدرك كنهه ولا يحيط بعلمه إلا الله الخالق الرزاق، وهذا التعمير من قِبل الإنسان لهذه الأرض المذللة محدود بزمن ومقدر في علم الله وتدبيره وهو زمن الابتلاء بالموت والحياة، فإذا انقضت فترة الابتلاء كان الموت وكان ما بعده، (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ(.

بين أمانين:

أما الأمان الأول فهو المنهي عنه وهو المذكور في الآية، بأن يمشي الإنسان في الأرض المذلّلة له؛ حتى يظن أنه قد ملك زمام الأمور كلها فيطغى ويتجبر ويأمن مكر الله وغضبه: (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ(، فهذا هو الأمان الذي ينكره الله على الناس، وهو الأمان الذي يوحي بالغفلة عن الله وقدرته وقدره.

أما الأمان الآخر فهو الاطمئنان إلى الله ورعايته ورحمته، فهذا غير ذاك، فالمؤمن يطمئن إلى ربه، ويرجو رحمته وفضله، ولكن هذا لا يقوده إلى الغفلة والنسيان والانغماس في الدنيا ومتاعها، إنما يدعوه إلى التطلع الدائم، والحياء من الله، والحذر من غضبه، والتوقي من المخبوء في قدره، مع الإخبات والاطمئنان، ويضرب الله المثل من واقع البشرية، ومن وقائع الغابرين المكذبين من أمثال قوم نوح وهود وصالح:(ولَقَدْ كَذَّبَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(.

قال الله (: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)(

المفردات:

(لجوا(: تمادوا في الطغيان.

(عُتو(: تكبّر.

(نفور(: تباعد في الحق.

(مكبًا(: واقعًا أو منحنيًا.

لمسة تأمل بين تهديدين:

فبعد لمسة التهديد والنذير في الآيات السابقة تأتي لمسة التأمل والتفكير في آيات يراها الإنسان كل يوم وقد لا يرى فيها عظمة الله وقدرته بسبب غفلته السادرة في ملذات الدنيا، واعتياده على رؤيتها، فهذا الطير عند طيرانه لا يمسكه إلا الرحمن، ثم تأتي لمسة تهديد أخرى بالتخويف من بأس الله، فمن الذي يدفع عنهم بأس الرحمن إلا الرحمن.

تذكير بالنِّعم:

ومنها "الرزق": تلك الكلمة الجامعة المانعة الشاملة لكل ما أنعم الله به على خلقه، فهي لا تقتصر على ذلك المدلول الضيق الذي تعارف عليه الناس من مأكل وملبس ومشرب، بل هي أوسع من ذلك وأعمق فتشمل-مثلاً- العمل والإبداع والإنتاج الذي يحدثه الإنسان، كما تشمل أيضًا الصحة والعافية والزوجة والأولاد والعقل والأخلاق، فهي كلها وغيرها مرتبطة ومتوقفة على هداية الله للناس ولا ينكر هذا إلا من هو متمادٍ في الطغيان، بل إن الهداية للإنسان والتي تجعله يسير على صراط من الله مستقيم، وهو أفضل -بلا شك- من المنكب على وجهه المتنكب صراط الله فهذه الهداية من رزق الله، بل إن الله رزقنا أيضًا الأدوات والوسائل التي ندرك بها سبل الهدى والرشاد فبعد أن أنشأنا رزقنا نعمة السمع، والبصر، والفؤاد وكل نعمة من هذه النعم فيها من الخصائص والأسرار ما لا يدرك كنهها إلا خالقها، فسبحان القائل:(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا(.

ثم هو بعد ذلك بثّكم، ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها مع اختلاف ألسنتكم وألوانكم وأشكالكم وصوركم، وإليه تحشرون بعد هذا التفرق والشتات يجمعكم، ويعيدكم كما بدأكم".

قال الله(: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ(.

المفردات:

(زلفةً(: قريبًا.

(سيئت(:اسودت.

(غورًا(: غائرًا في الأرض.

(ماء معين(:ماء جارٍ تناله الأيدي.

شك وتربّص، وجواب وردّ:

وهنا تختم السورة ببيان بعض مواقف الكافرين من دعوة النبي (، فأما ما لا شك فيه فهو سؤالهم سؤال المرتبك عن موعد هذا الحشر الذي أخبر الله به، ويبرز هنا الجواب بجلاء يفرق بين الخالق والمخلوق: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ( فوظيفة النبي الإنذار ومهمته البيان، أما العلم فعند صاحب العلم" هذا موقف الشك وجوابه!!

أما موقف التربص فإن الكافرين يتربصون وفاة رسول الله ( وصحبه أملاً في أن تسكن هذه الزوبعة التي أثارتها الدعوة في صفوفهم، فكان الردُّ أن الأولى بهم أن يتدبروا أمرهم قبل هذا الموعد، فما ينفعهم أن تتحقق أمانيهم فيهلك الله النبي ومن معه، كما لا ينقذهم أن يرحم الله نبيه ومن معه، والله حي لا يموت.

رقيّ في الدعوة إلى الله:

فلم يقل لهم:فمن يجيركم من عذاب أليم، بل قال:(فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ( ولا ينصّ على أنهم كافرون، إنما يلوح لهم بالعذاب الذي ينتظر الكافرين، وهو أسلوب في الدعوة حكيم، فلو أجابهم بأنهم كافرون فربما جهلوا، وحمقوا وأخذتهم العزة بالإثم أمام الاتهام المباشر، وهذا درس دعوي في كيفية مواجهة الخصوم، وعلى الدعاة الانتباه له جيدًا.

ختام وتهديد:

وأخيرًا تلمِّح السورة بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، وذلك بحرمانهم من سبب الحياة الأولى وهو الماء:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ(وهي لمسة قريبة في حياتهم، إن كانوا لا يزالون يستبعدون ذلك اليوم ويشكون فيه، فكيف لو توجهت إرادته سبحانه إلى حرمانهم من مصدر الحياة القريب؟!

*****

الفصل الثاني

من رحيق

قصص الأنبياء والتاريخ

- نبي الله آدم (- نبي الله إدريس (- نبي الله نوح (

تمهيد

قصص الأنبياء في القرآن الكريم يمثل موكب الإيمان في طريقه الممتد المتصل الطويل، ويعرض قصة الدعوة إلى الله وموقف البشرية منها جيلاً بعد جيل؛ كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه النخبة المختارة من البشر، وطبيعة تصورهم للعلاقة بينهم وبين ربهم الذي خصهم بهذا الفضل العظيم. وهذا الموكب الكريم في طريقه يفيض على القلب رضى ونورًا وشفافية ؛ ويشعره بنفاسة هذا العنصر العزيز - عنصر الإيمان - وأصالته في الوجود، كذلك يكشف عن حقيقة التصور الإيماني ويميزه في الحس من سائر التصورات الدخيلة، كما يبين وحدة الأصل الإنساني ووحدة الغاية من إرسال الرسل وإن اختلفت الشرائع.

*****

نبي الله آدم (

الاسم واللقب:

هو الملقب بأبي البشر، ففي حديث الشفاعة:" مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ" [رواه البخاري، من الحديث3092].

وقد أخبر الله ( الملائكة بأنه سيخلق بشرًا خليفة في الأرض، فقال الملائكة:(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ(، وليس هذا اعتراضًا من الملائكة حاشاهم ذلك, ولكنهم قصدوا ما فعله الجن عندما خلقهم الله ( وأعطاهم التخيير ففسدوا وفسقوا في الأرض؛ وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدم (قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ(.

مادة الخلق ووقته:

جمع الله ( قبضة من تراب الأرض، فيها الأبيض والأسود والأصفر والأحمر، ولهذا يجيء الناس ألوانًا مختلفة، فعن أبي موسى الأشعري( قال: قال رسول الله ( :"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأرْضِ فَجَاءَ مِنْهُمْ الأحْمَرُ وَالأبْيَضُ وَالأسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ"[رواه الترمذي، الحديث 2879].

قال الله تعالى: " فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لازِبٍ" أي: متلاصق يلصق بعضه بعضًا ثم خلقه الله ( في صورة إنسان، وترك هذا الطين مدة حتى جف وصار صلصالاً واسود لونه وصار كالفخار ثم صار كالحمأ المسنون وكأن فيه آثار الرماد، قال تعالى:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(.

وعن أبي هريرة ( أن النبي ( قال:"خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ"[رواه الترمذي، الحديث 450].

استقبال إبليس لخلق آدم (:

لما خلق الله نبيه آدم ( تركه جسدًا ملقى ليس فيه روح فكان إبليس يأتيه، فَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ:"لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمَالَكُ" [رواه مسلم، الحديث 4727].

أول الكلام: الحمد لله:

عن أبي هريرة ( قَالَ: قال رسول الله ( :"لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ"[رواه الترمذي، من الحديث3290]، فأول شيء نزلت عليه الرحمة من الله(.

تكريم بالسجود:

لما خلق الله سبحانه آدم ( أمر الملائكة بالسجود تكريمًا له فسجدوا إلا إبليس؛ فأنكر الله ( عليه لعدم طاعته للأمر وسجوده لنبي الله آدم (، قال تعالى:(إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ* فَإذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إلا إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ* قَالَ يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ* وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ* قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ* إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ* قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ* قَالَ فَالْحَقُّ والْحَقَّ أَقُولُ* لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ( .

الهيئة الخَلْقية:

خلق الله ( نبيه آدم ( طوله ستون ذراعًا، فعن أبي هريرة ( عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ:"خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنْ الْمَلائِكَةِ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ"[رواه البخاري، الحديث 3079]

علمه البيان:

علم الله تعالى نبيه آدم ( أسماء كل شيء، فعلمه أن هذه دابة وهذا بحر وهذا شجر، ثم قام نبي الله آدم ( بإخبار الملائكة بأسماء الأشياء فأدركت الملائكة أن نبي الله آدم ( هو المخلوق الذي لديه القدرة على التعلم والمعرفة، قال تعالى:(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ*قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلا مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ* قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(.

المشيئة العليا:

فالمشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود ، زمام هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل؛ وكَشْف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كله -بإذن الله وحسب قدره ومشيئته- في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه، وهي التشمير في طاعة الله وعبادته وتعمير هذه الأرض.

فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة، والاستعدادات المذخورة ليقوم بالاستفادة مما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات؛ ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية.

فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض -وتحكم الكون كله- والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك؛ وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة. فهي منـزلة عظيمة، منزلة هذا الإنسان، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة.

وخلق منها زوجها:

قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ(، فذات يوم أفاق نبي الله آدم ( فوجد امرأة قاعدة عنده، فسألها: من أنت ؟ قالت: امرأة. قال:لم خلقت ؟ قالت: لتسكن إليَّ، وسألت الملائكة نبي الله آدم ( عن اسمها، فأخبرهم كما علمه ربه أنها حواء؛ وذلك لأنها خلقت منه وهو حي، فَعن أبي هريرة ( قَالَ قال رسول الله ( :"اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ"[رواه البخاري، من الحديث3084]قال الحافظ ابن حجر: (قِيلَ: فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ حَوَّاء خُلِقَتْ مِنْ ضِلَع آدَم الأَيْسَر وَقِيلَ مِنْ ضِلْعه الْقَصِير , أَخْرَجَهُ اِبْن إِسْحَاق وَزَادَ: "الْيُسْرَى مِنْ قَبْل أَنْ يَدْخُل الْجَنَّة وَجُعِلَ مَكَانه لَحْم " وَمَعْنَى خُلِقَتْ أَيْ أُخْرِجَتْ كَمَا تَخْرُج النَّخْلَة مِنْ النَّوَاة).

أول ابتلاء:

لم يعد نبي الله آدم ( يشعر بالوحدة وكان يتحدث مع حواء كثيرًا، وكان الله قد سمح لهما بأن يقتربا من كل شيء في الجنة وأن يستمتعا بكل شيء، ما عدا شجرة واحدة، قال تعالى:(وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ( فأطاع نبي الله آدم ( وحواء أمر ربهما بالابتعاد عن الشجرة، غير أن نبي الله آدم ( إنسان، والإنسان ينسى، وقلبه يتقلب، وعزمه ضعيف، واستغل إبليس إنسانية آدم ( وتكوينه النفسي، وجمع كل حقد في صدره، وراح يثير في نفسه- يومًا بعد يوم- ما يضره ولا ينفعه، قال تعالى:(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى((، وما زال بهما حتى أكلا من الشجرة المحرمة.

إن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادًا، كانت إيقاظًا للقوى المذخورة في كيانه، كانت تدريبًا له على كيفية التعامل مع الغواية، وتذوق العاقبة، وتجرع الندامة، ومعرفة العدو، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين.

لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته، مزودًا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلاً، وموعظة وتحذيرًا استعدادًا للمعركة الدائبة.

عقوبة المعصية:

لم يكد نبي الله آدم ( ينتهي من الأكل حتى اكتشف أنه أصبح عاريًا، وأن زوجته عارية. وبدأ هو وزوجته يقطعان أوراق الشجر لكي يغطيا جسديهما العاريين، وفر نبي الله آدم ( وناداه الله (: يا آدم أتفر منى ؟ قال: لا يارب ما فررت منك ولكن حياء منك مما جئت به.

قال تعالى:(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ* وقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ* فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن ورَقِ الجَنَّةِ ونَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وأَقُل لَّكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ* قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ولَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتَاعٌ إلَى حِينٍ* قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وفِيهَا تَمُوتُونَ ومِنْهَا تُخْرَجُونَ(.

وكانت الكلمات التي تلقاها آدم ( من ربه ليقولها فيتوب عليه هي: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ(، إنها خصيصة "الإنسان" التي تصله بربه، وتفتح له الأبواب إليه: الاعتراف، والندم، والاستغفار، والشعور بالضعف، والاستعانة بالله، وطلب رحمته، مع اليقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته، وإلا كان من الخاسرين. وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت، وتكشف خصائص الإنسان الكبرى وعرفها هو وذاقها، واستعد - بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة - لمزاولة اختصاصه في الخلافة؛ وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبداً مع عدوه. وأُنزل آدم ( وأنزلت معه حواء وأنزل معهما إبليس.

تعمير الأرض:

قال الله تعالى:(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ(، وبث الله ( البشر في الأرض فقال جل شأنه:(وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونِسَاءً(، ويروي الطبري أن حواء ولدت لنبي الله آدم ( أربعين ولدًا في عشرين بطنًا، في كل مرة تلد ذكرًا وأنثى كان أولهم قابيل وأخته، وبدأ البشر يكثرون ويتناسلون.

أول قتل متعمد:

كان قابيل أكبر أبناء نبي الله آدم ( وكان في طبعه خشونة وغلظة وكان له أخ يسمى هابيل وكان فيه لين ورِقة، فكانت الشريعة آنذاك أن يتزوج الرجل أية أخت من أخواته إلا التوأم التي ولدت معه، وكانت أخت هابيل مقربة إليه ولكنها كانت أقل جمالاً من أخت قابيل، فما أحب قابيل أن يزوج أخته الجميلة لهابيل، كان يريد هو أن يتزوجها لكن هذا محرم، فغضب قابيل من هذا الشرع ولم يعجبه، فأمرهم أبوهم نبي الله آدم ( أن يقدما قربانًا إلى الله، وكانت علامة قبول القربان أن تأتى صاعقة أو تأتى النار فتأكله والذي لا تأكله النار يكون غير مقبول، فجاءوا في يوم تقديم القرابين فقدم هابيل أفضل المواشي عنده لله ( وقد كان راعي غنم، أما قابيل وكان مزارعًا فجاء بزرع رديء فقدمه قربانًا، فلما جاءوا في اليوم التالي وجدوا أن قربان هابيل قد قُبل وقربان قابيل كما هو لم تمسه النار فزاد حنق قابيل على هابيل وزاد غضبه، ووسوس له الشيطان فقال له: اقتل أخاك، فعزم على ذلك وما كان القتل عندهم معروفًا، وجلس القاتل أمام شقيقه الملقى على الأرض..كان هذا القتيل أول إنسان يموت على الأرض.

وعند الغراب العلم:

ولم يكن دفن الموتى قد عرف بعد، وحمل الأخ جثة شقيقه وراح يمشي بها، فرأى القاتل غرابين يتقاتلان فقتل أحدهما الآخر ومات الغراب أمام نظر قابيل، ثم بدأ الغراب الحي يحفر في التراب ودفع بجثة الغراب الميت ثم حثا عليه التراب، فتعلم قابيل من الغراب كيف يدفن أخاه فحفر في الأرض ووضع هابيل وغطى عليه التراب وأصبح نادمًا على ما فعل.

قال تعالى:(واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا ولَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ* لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ* إنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإثْمِي وإثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ* فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا ويْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(.

وظيفة الإنسان في الأرض:

كان نبي الله آدم ( على الأرض إنسانًا يعمل ليصنع طعامه، ونبيًا يعظ أبناءه وأحفاده ويحدثهم عن الله ويدعوهم إليه، ويحكي لهم عن إبليس ويحذرهم منه، ويروي لهم قصته هو نفسه معه، ويقص عليهم قصته مع ابنه الذي دفعه لقتل شقيقه، وما عصى الله ( إلا مرة واحدة عندما أكل من الشجرة، ولم يعص الله بعدها طيلة حياته على الأرض، فقد كان أسوة وقدوة لأبنائه (، يحكم بشرع الله وينفذ فيهم أحكامه، ويعمر الأرض وينشر الخير بين كل الخلق، قال الله تعالى:(وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً(، وقال تعالى:(وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(.

نبوة آدم(:

عن أبي ذر ( قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الأنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلُ؟ قَالَ: آدَمُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَنَبِيٌّ كَانَ؟ قَالَ: "نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ" [رواه أحمد، الحديث 20566].

*****

نبي الله إدريس (

الاسم والنسب:

هو إدريس بن يارد بن مهلاييل، وينتهي نسبه إلى شيث بن نبي الله آدم (، اسمه عند العبرانيين"خنوخ" وفي الترجمة العربية"أخنوخ"، وقد أدرك من حياة نبي الله آدم ( 308 سنوات؛ لأن نبي الله آدم ( عمَّر طويلاً حيث عاش 960سنة.

شمائل وصفات:

ذكر الله تعالى نبيه إدريس ( في بضعة مواضع من سور القرآن الكريم، قال الله تعالى: (واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إدْرِيسَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً*ورَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا(، وقال تعالى: ( وإسْمَاعِيلَ وإدْرِيسَ وذَا الكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ*وأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ(.

ورفعناه مكانًا عليًا:

قال الله تعالى:(وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا( قال الحسن البصري:الجنة، وعن مجاهد قال: السماء الرابعة، ويؤيده ما رواه أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما أن نبي الله ( قال:"...ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ"[رواه البخاري، من الحديث 3598].

نبي الله نوح (

الاسم والنسب:

هو نوح بن لَمْك بن مَتُّوشَلَخ بن إدريس (.

بداية الشرك:

قبل أن يولد قوم نوح عاش خمسة رجال صالحين من أجداد قوم نوح، زمنًا ثم ماتوا، كانت أسماء الرجال الخمسة هي:"وَدّ، سُواع، يغوث، يعوق، نسرا". وبعد موتهم صنع الناس لهم تماثيل من قبيل الذكرى والتكريم، ومضى الوقت، ومات الذين نحتوا التماثيل، وجاء أبناؤهم، ومات الأبناء وجاء أبناء الأبناء، ثم نسجت قصص وحكايات حول التماثيل تعزو لها قوة خاصة، وأوهم إبليس الناس أن هذه تماثيل آلهة تملك النفع والضر، وبدأ الناس يعبدون هذه التماثيل.

بذرة الشرك:

ينبغي الحذر من اتخاذ أي عبادة لا أصل لها في الدين فإنها قد تؤدي - بتقادم الزمان - إلى الشرك والعياذ بالله فهي البذرة التي قام عليها أصل الشرك كما فعل قوم نوح ( ، ولا يجوز التهاون في مثل هذه الأمور فإن حماية جناب التوحيد من الانتهاك واجب،وفي هذا يقول أحد أئمة الإصلاح:[...الاستعانة بالمقبورين أيًا كانوا ونداؤهم لذلك وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بُعد والنذر لهم وتشييد القبور وسترها وإضاءتها والتمسح بها والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها, ولا نتأول لهذه الأعمال سدًا للذريعة]

مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ:

كان نوح( عظيمًا ذا خلق حسن، وقد قال تعالى:(إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا(، وقال:(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعَالمِينَ(، وقال تعالى:(إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(، وقال:(وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ(، وَعَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( قال:"صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلا يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الأَضْحَى"[رواه ابن ماجة، من الحديث 1704].

نبوة نوح (:

بعث الله تعالى نبيه نوحًا ( لما عبدت الأصنام والطواغيت وشرع الناس في الكفر والضلالة فبعثه الله رحمة للعباد، قال تعالى:(وَلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ(، وقال تعالى:(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(.

قدوة الدعاة:

استمر نوح ( يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، قال تعالى:(وَلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَلبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا(، وظل نبي الله نوح ( يدعو قومه، فتارة يقول لهم:(يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَليْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(.

وتارة يقول لهم:(يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَليْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَليْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِليَّ وَلا تُنْظِرُونِ* فَإِنْ تَوَليْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(.

وتارة يقول لهم:(يَا قَوْمِ إِنِّي لكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَل اللهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لوْ كُنْتُمْ تَعْلمُونَ(.

وتارة يقول لهم:(أَلا تَتَّقُونَ*إِنِّي لكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَليْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلى رَبِّ العَالمِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ(.

تعدد وسائل الدعوة:

كان نوح ( يدعو قومه ليلاً ونهارًا، سرًا وعلانية، وكان صبورًا حليمًا، قال تعالى:(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلنْتُ لهُمْ وَأَسْرَرْتُ لهُمْ إِسْرَارًا*فَقُلتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَليْكُمْ مِدْرَارًا*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لكُمْ أَنْهَارًا*مَا لكُمْ لا تَرْجُونَ لِلهِ وَقَارًا* وَقَدْ خَلقَكُمْ أَطْوَارًا*أَلمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلقَ اللهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا*وَجَعَل الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَل الشَّمْسَ سِرَاجًا*وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا*ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا*وَاللهُ جَعَل لكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا*لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا(.

وهكذا يضرب لنا نبي الله نوح ( المثل والقدوة في تنوع الوسائل الدعوية، لعل الله يفتح قلوب العباد لدعوته ببعضها ويفتح قلوب آخرين بوسائل أخرى وهكذا.

وهذا ما دعا أحد أئمة الدعاة لأن يقول: "ووسائل الدعاية الآن غيرها بالأمس كذلك , فقد كانت دعاية الأمس كلمة تلقى في خطبة أو اجتماع أو كلمة تكتب في رسالة أو خطاب, أما الآن فنشرات ومجلات وجرائد ورسالات ومسارح وخيالات وحاكٍ ومذياع , وقد ذلل ذلك كله سبل الوصول إلى قلوب الناس جميعهم , نساء ورجالاً في بيوتهم ومتاجرهم ومصانعهم ومزارعهم، لهذا كان من واجب أهل الدعوة أن يحسنوا تلك الوسائل جميعًا حتى يأتي عملهم بثمرته المطلوبة".

صبر الأنبياء:

لقي نبي الله نوح ( عنتًا شديدًا وأذى عظيمًا من قومه، إذ كانوا يدخلون عليه فيخنقونه، ويضربونه في المجالس ويطردونه حتى إنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئًا من كلام نبي الله، فذلك قوله تعالى:(وَإِنِّي كُلمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(.فحق له أن يكون من أولي العزم من الرسل، قال الله تعالى:"فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ".

وهذا الصبر يحتاج إليه كل من سار على درب الأنبياء في دعوة الآخرين؛ ولذلك يوصي الأستاذ الإمام مَنْ خلفه من الدعاة بهذا فيقول:"إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده، ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها. إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات. ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة".

سيطرة الكبراء:

كان يحكم قوم نوح الكبراء وكانوا يأمرون قومهم ألا يسمعوا لنوح ولا يقابلوه ولا يتركوا عبادة الأصنام فاتبعوهم وتركوا نبي الله ( وذلك قوله تعالى:(قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إنَّهُمْ عَصَوْنِي واتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ ووَلَدُهُ إلا خَسَاراً*ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً*وقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ وداً ولا سُوَاعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً*وقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلا ضَلالاً( فكفر قوم نوح بالله وسخروا من نبيه واستهزءوا بدعوته، وقالوا:(إِنَّا لنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(، وقالوا:"مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لكُمْ عَليْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ(، وقالوا:(يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(.

لا للمساومات:

طلب منه زعماء قومه وأغنياؤهم أن يطرد من آمن به من الفقراء والضعاف، فرد عليهم نوح ( :(وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الذِينَ ءَامَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ*وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(. وهذا درس جديد للدعاة يؤكده قول الله ( : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ(

مؤمن وكافر:

كفرت امرأة نوح ( مع من كفر، قال تعالى:(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيل ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(.

لم يؤمن بالله مع نوح ( سوى عشرة وقيل ثمانون وهو أكثر عدد قيل إنه آمن به، قال تعالى:(وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ(. وقد قيل إن كفرها كان رضاها عما يعمل قومها؛ ولذا نحذر من الرضى بعمل الكافرين والتسامح تجاه أفكارهم المنحرفة.

صفات المخالفين:

وصف الله تعالى قوم نوح بالظلم والطغيان فقال:(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلمَ وَأَطْغَى(، وقال:(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(، ووصفهم بالفسق فقال:(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(، ووصفهم بالكذب فقال:(وَقَوْمَ نُوحٍ لمَّا كَذَّبُوا الرُّسُل أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً(، ووصفهم بالسوء، فقال:(إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(.

بذل المستطاع ثم الابتهال:

وصل نوح ( مع قومه إلى أقصى ما يستطيعه الجهد البشري،إذ إنه قام يدعو ربه:(رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلدُهُ إِلا خَسَارًا*وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا* وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا*وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالاً(، دعا نوح ( على الكافرين بالهلاك، فقال:(رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا(، وبرر نوح ( دعاءه عليهم:(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا(؛ فأوحى الله إلى نبيه ألا يحزن عليهم، قال تعالى:(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ ءَامَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(، واستجاب الله تعالى لنبيه نوح (، قال تعالى:(وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(، وقال تعالى:(وَلقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلنِعْمَ الْمُجِيبُونَ(، ونهى الله تعالى نبيه نوحًا ( أن يستغفر للمشركين، قال تعالى:(وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الذِينَ ظَلمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(.

ثقة فيما عند الله:

أوحى الله تعالى لنبيه ( أن يصنع سفينة، قال تعالى:(فَأَوْحَيْنَا إِليْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا(، وكانت سفينة عظيمة الطول والارتفاع والمتانة، وكان جبريل ( يعلمه كيف يصنع .

لا لتخذيل المُخَذِّلين:

كان قومه يسخرون منه قائلين: صرت نجارًا بعد أن كنت نبيًا، ويقولون: لقد جن نوح إذ يصنع سفينة على جبل! قال تعالى: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلمَا مَرَّ عَليْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَال إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ*فَسَوْفَ تَعْلمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَليْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(، وصنع نوح ( السفينة على أحد الجبال. وهذا درس للدعاة بأن يطيعوا أمر ربهم حتى ولو لم تتبين لهم الحكمة بعد أو سخر منهم المستهزئون.

جزاء الكافرين:

لما فار التنور - أي: عندما خرج الماء من فرن البيت- وقد كانت علامة العذاب والهلاك للمكذبين، حمل نوح ( إلى السفينة من كل حيوان وطير ووحش زوجين اثنين، وذلك مصداق قول الحق تبارك وتعالى:(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَليْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ(. ونادى نوح ( على عباد الله المؤمنين:(ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لغَفُورٌ رَحِيمٌ(.

ثم بدأ الطوفان، قال تعالى:(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ*وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ* وَحَمَلْنَاهُ عَلى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ*تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِر(. وارتفعت المياه أعلى من الناس حتى تجاوزت قمم الأشجار، وقمم الجبال، وغطت سطح الأرض كله.

ونادى نوح ( ابنه كنعان وكان يقف بمعزل منه، قال تعالى:(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ* قَال سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَال لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَال بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(، ونادى نوح ربه فقال:(رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ*قَال يَا نُوحُ إِنَّهُ ليْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا ليْسَ لكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ*قَال رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلكَ مَا ليْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ*قِيل يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَليْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(، وقد أعقم الله أرحام الكافرين أربعين سنة قبل الطوفان، فلم يكن فيمن هلك طفل أو صغير. وهذا درس آخر في معرفة أن الأخوة والبنوة الحقيقية هي الأخوة الإيمانية (إِنَّهُ ليْسَ مِنْ أَهْلِكَ(

الإرث لعباد الله الصالحين:

أغرق الله تعالى قوم نوح (، قال تعالى:(مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلمْ يَجِدُوا لهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا"، وقال تعالى: (وَأَغْرَقْنَا الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ(.

ونجا الله تعالى نبيه نوحًا ( والمؤمنين معه، قال تعالى:(فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ(، وقال:(فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(، وقال تعالى:"وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ"؛ فكانت نجاتهم مصداقًا لقول الله تعالى:(ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ(.

نزل المؤمنون من السفينة يوم عاشوراء، فعن أبي هريرة ( قَال: مَرَّ النَّبِيُّ ( بِأُنَاسٍ مِنْ الْيَهُودِ قَدْ صَامُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَال:"مَا هَذَا مِنْ الصَّوْمِ؟ قَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الذِي نَجَّى اللهُ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيل مِنْ الْغَرَقِ وَغَرَّقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَهَذَا يَوْمُ اسْتَوَتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلى الْجُودِيِّ فَصَامَهُ نُوحٌ وَمُوسَى شُكْرًا لِلهِ تَعَالى فَقَال النَّبِيُّ ( :"أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى وَأَحَقُّ بِصَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالصَّوْمِ" [رواه أحمد، الحديث8360]، وغرقت الأرض كلها ولم يغرق أحد في الطوفان لم تصله الدعوة.

تَرَكْنَاهَا ءَايَةً:

قال الله تعالى:(وَلقَدْ تَرَكْنَاهَا ءَايَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر(، وقال تعالى:(وَجَعَلْنَاهَا ءَايَةً لِلْعَالمِينَ(، فهل يدرك العصاة والطغاة أن هذه دائمًا هي نتيجة الطغيان ، وهل يدرك الدعاة أيضًا أن النصر والفوز هو لهم في نهاية المطاف.

البداية الثانية للبشرية:

كان لنوح ( ثلاثة أولاد هم حام وسام ويافث، فَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُول اللهِ ( قَال:" سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ"[رواه الترمذي، الحديث 3866] والظاهر أن هؤلاء الثلاثة هم الذين عاشوا بعد وفاته عليه السلام؛ ولذلك عُرف نبي الله نوح ( بأبي البشر الثاني، فجميع البشر كانوا من ذريته، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ(، وقد عاش نوح ( بعد الطوفان ستين سنة.

نهاية ووصية:

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ( قَال كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ( فقال:"إِنَّ نَبِيَّ اللهِ نُو�