الباب الثامن دراسات أصيلة عن الحضارة...

1777
ارة ض ح ل ا ة ي م لا س لا ا ن ي ب صالة ا ي ض ما ل ا مال% وا ل ب ق ت س م ل ا( 9 ) اب ب ل ا ن م ا2 ب ل ا ساب درا لة ب ص ا ن ع ارة ض ح ل ا ة ي م لا س لا ا ع م جاد عد وا2 ث ح ا ب ل ا ي ف ن% را لق ا ة ي س ل وا ي عل ن ب ف ي ا ن ود ح2 ش ل ا1

Upload: others

Post on 03-Feb-2020

17 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

الباب الثامن دراسات أصيلة عن الحضارة الإسلامية

الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل

(9)

الباب الثامن

دراسات أصيلة عن الحضارة الإسلامية

جمع وإعداد

الباحث في القرآن والسنة

علي بن نايف الشحود

الباب الثامن

دراسات أصيلة عن الحضارة الإسلامية

# المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري

تقديم : بقلم : عمر عبيد حسنة

الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وبعد:

فهذا الكتاب السادس في سلسلة "كتاب الأمة " التي اعتزمت رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية إصدارها مساهمة في تحقيق الوعي الثقافي، والحصانة الفكرية، وإعادة بناء الشخصية المسلمة الفاعلة بعد أن انطفأت فاعليتها أو كادت بسبب من السقوط الحضاري، والانكسار العسكري، والوهن الخلقي، الأمر الذي أفقدها الرؤية الشمولية والتوازن الاجتماعي، واستشعار التحدي الذي يوقظ الحس ويلهب المشاعر ويذكي الروح ويجمِّع الطاقات النفسية والمادية لتبدأ عملية النهوض من جديد، ونقل المسلمين إلى الموقع الذي يجعلهم في مستوى إسلامهم تكليفاً وإرادة، وفي مستوى عصرهم قدرة وعطاء وقيادة.

ولا بد لنا بين يدي التقديم للكتاب، وقد اختار مؤلفه مصطلحاً، يمكن أن يكون جديداً على الساحة الفكرية الإسلامية "المذهبية الإسلامية " من القول: إنه إلى جانب المعارك الكثيرة والمتعددة التي تدور رحاها على الأرض الإسلامية في إطار الاستعمار ومحاولات الاحتواء الثقافي هناك معركة يمكن أن تكون الأخطر في مجال الصراع الحضاري، هي معركة المصطلحات، حيث تُقذف مجتمعاتنا يومياً عن طريق وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية بكثير من المصطلحات السياسية والفكرية والجغرافية [الديمقراطية، الوجودية، العلمانية، الماركسية، اليمين واليسار، الشرق الأوسط، الشرق الأدنى، حوض المتوسط. . . الخ ] البديلة لما ألفنا وعرفنا إلى درجة الإغراق لتخرجنا عن مواقعنا الفكرية، وتستلب شخصيتنا الحضارية، وتطارد مصطلحاتنا وتحدد لها المعاني التي تريدها، حتى أصبح الكثير منا يخاف من طرحها أو من مجرد الانتساب إليها، كمصطلح "السلفية" ومصطلح "التراث " الخ. . . مع العلم أن "السلفية " أول ما تعني الانتساب لجيل القدوة، خير القرون، ((خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس ِ)) بناة الحضارة الإنسانية، ولا تعني بحال من الأحوال التحجر والجمود والانقطاع عن التواصل الحضاري، وعدم استيعاب منجزات العصر من خلال الرؤية الإسلامية السليمة، ذلك أن السلفية الصحيحة دافع للإفادة وليست مانعاً منها.

وكذلك مصطلح "التراث " حيث تفرض علينا مدلولات معينة أرادها أصحاب المذاهب المادية والعلمانية، الأمر الذي أخرجنا عن مدلول القضية وأصلها في المصطلح الإسلامي، يقول تعالى : ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير ُ)) [فاطر:32].

ويقول أبو هريرة رضي الله عنه :

". . . أنتم هنا، وميراث محمد صلى الله عليه وسلم يوزع في المسجد ".

فإذا كان مدلول التراث يعني النبوة وعطاءها "الكتاب والسنة " الذي ورثته الأمة، فنحن تراثيون؛ وإذا كان المدلول: فهوم المسلمين غير المعصومة للكتاب والسنة، مما يقع في دائرة الاجتهاد، فهذا أمر قابل للفحص والاختبار، ومن ثم للصواب والخطأ. . . وقد تكون المشكلة أو الكارثة - إن صح التعبير - أن معظم المثقفين في عالمنا الإسلامي اليوم أصبحوا أسرى المصطلحات والأفكار الأوروبية بشكل عام، ينطلقون منها، ويفكرون من خلالها، ومن الصعوبة البالغة التحرر منها لأنها صورة من صور الاحتواء الثقافي نتيجة الإصابة بمركب النقص أمام التحدي الحضاري الغربي، وقد ينتصر بعض البسطاء عاطفياً للإسلام، فيحاول إسقاط المفاهيم والمصطلحات الغربية على المفهومات الإسلامية فتعييهم عملية التوفيق، ولكن كثيراً من الخبثاء يحاولون الالتفاف حول القضية، ويتسللون إلى الشخصية الإسلامية من خلال إسقاط هذه المصطلحات على المفهومات الإسلامية، أو يمارسون الخداع لجماهير المسلمين بادعاء أن هذه المصطلحات ليست غريبة عن طبيعة الإسلام ووجهته ليخفوا بذلك حقيقة أمرهم ودعوتهم في المجتمع الإسلامي، ذلك أنهم أدركوا أن بوابة العالم الإسلامي ستبقى موصدة أمام كل دعوات التغريب ومصطلحاتها بعد التجارب والمحاولات الكثيرة، فكان لا بد لهم من تغيير استراتيجيتهم في ذلك ومحاولة التسلل إلى عالم المسلمين من خلال المعاني الإسلامية نفسها حيث يسقطون عليها مصطلحاتهم، ويوهمون السذج والبسطاء أنهم ليسوا غرباء عن فكر الأمة في ادعاءاتهم، فالديمقراطية هي الشورى، والرأسمالية هي مبدأ إقرار الملكية في الإسلام، والاشتراكية هي العدالة الاجتماعية، والصراع من أجل السيطرة الاقتصادية هو الفتح الإسلامي، والصدام الحتمي بين اليمين الرجعي واليسار التقدمي هو التفسير لبعض المشكلات الداخلية في المجتمع والتاريخ الإسلامي. . .

قد تكون المشكلة عند معظم مثقفينا، جيل ما بعد الاستعمار العسكري، ادعاء العصمة لحضارة الغربية الأوروبية (1) بسبب من التفوق الغربي والتخلف في عالم المسلمين، وجعلها مقياساً لكل حضارة وتقدم، وتطبيق المعايير المادية الأوروبية على الإسلام ومحاكمة تاريخه على ضوء التاريخ الأوروبي، وعدم قياس الحضارة الإسلامية بمقاييسها وردها إلى أصولها، وإنما ردها إلى أصول حضارة غريبة عنها، مادية في أصولها، وهذا بلا شك أوقع الكثيرين في عملية التخليط في النظر إلى أحكام العقل واجتهاده القابل للخطأ والصواب، وأحكام الوحي ونصوصه الثابتة المعصومة. . . وأن مقاييس الفصح والاختبار التي يخضع لها حكم العقل لا يمكن بحال من الأحوال أن تطبق على حكم الوحي، وإنما يقتصر دور العقل في ذلك على التأكد من ثبوت النصوص من حيث السند وسلامة مدلولاتها فقط، لأن الأمر قائم على قاعدة التسليم بالنبوة ابتداءً.

لقد ظهرت على الساحة الفكرية كتابات كثيرة كانت صدىً لمشكلات فكرية إنسانية، وكان أن تناول الحديث في هذه القضايا كتَّاب ومفكرون من اتجاهات مختلفة، ونحن لا بد أن نعترف أننا مسبوقون إلى طرح كثير من القضايا بعد أن توقف المجتمع الإسلامي عن النمو، والعقل الإسلامي عن العطاء، لذلك جاءت أكثر كتاباتنا في إطار ما يسمى "الفكر الدفاعي" بسبب من طرح غيرنا، وهنا انبرى للمواجهة الثقافية من يحسنها ومن لا يحسنها من الذين يفتقدون الثقافة الإسلامية الأصيلة، فوقعوا بمغالطات فكرية واصطلاحية ساهمت بتكريس التخلف والضياع، وأثقلت الذهن الإسلامي وزادت من عجزه. . .

من هنا كان لا بد من التنبيه إلى ضرورة المحافظة على المصطلحات في الأمة، والاحتفاظ بمدلولاتها، والعمل على وضوح هذه المدلولات في ذهن الجيل لأن هذه المصطلحات هي نقاط الارتكاز الحضارية والمعالم الفكرية التي تحدد هوية الأمة بما لها من رصيد نفسي ودلالات فكرية، وتطبيقات تاريخية مأمونة، إنها أوعية النقل الثقافي وأقنية التواصل الحضاري، وعدم تحديدها ووضوحها يؤديان إلى لون من التسطيح الخطير في الشخصية المسلمة والتقطيع لصورة تواصلها الحضاري. .

وقد نبه القرآن الكريم لهذه القضية الخطيرة عندما أرشد المسلمين إلى ضرورة استخدام مصطلح (انظرنا ) ونهى عن مصطلح (راعنا ) الذي كان يستعمله يهود ليحققوا فيه أغراضاً في نفوسهم، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [البقرة:104].

إن أهمية المصطلح، وقضية الوضوح في دلالته، أمر ذو أهمية بالغة إلى درجة أصبح معها كثير من المؤلفين يفردون صفحات في مؤلفاتهم لمعجم المصطلحات المستعملة والدلالات التي أرادوها من استعمال هذه المصطلحات، وهي طريقة محمودة فكرياً وثقافياً حتى يتحقق الوضوح ولا يحمَّل الكلام أكثر مما يحتمل. . .

ومن الأمور التي تسترعي الانتباه أن قضية المصطلحات أخذت من الأخ المؤلف عناية مشكورة، ومساحة لا بأس بها، وقد كانت مناقشة المصطلح مدخله إلى الكتابة حينما اقترح أن تكون التسمية "المذهبية الإسلامية " بدل "الفكر الإسلامي " أو "التصور الإسلامي " وخطَّأ من ذهب إلى اصطلاح "الفكر الإسلامي " و "التصور الإسلامي " لأنه تخوف أن يخلط بسبب ذلك بين إفرازات العقل واجتهاداته وبين الكتاب والسنة كوحي معصوم، ونحن نعتقد أن التنبيه إلى هذا لدفع احتماله ذو أهمية في المجال الفكري الإسلامي، وإن كنا لا نعتقد حصول مثل هذا الالتباس عند أصحاب المصطلحين، وعند الكثير من قرائهم، على كل تبقى وجهة نظر تغني العقل الإسلامي وتسهم بإيضاح الصورة ودفع الالتباس. . . ولا شك أن مصطلح "المذهبية الإسلامية" الذي ارتضاه المؤلف سوف يذهب ببعض الناس سريعاً إلى الساحة الفقهية ويصنع لهم حاجزاً نفسياً، وقد يسرع باتخاذ موقف تجاهه، ولا يستسيغه بتلك السرعة حتى يتحقق من التحديدات والمقارنات التي أوردها المؤلف، ووجهة نظره في الاختيار. . .

نعود إلى القول: إن هذا الكتاب جاء مساهمة طيبة في مجال إنهاء حالة العطالة التي وقع فيها كثير من المسلمين في مواجهة التغيير الاجتماعي بسبب من التصور المحزن، من أن مشيئة الله تعني السلبية وتعطيل الأسباب دون أن يعلموا أن الله هو الذي شرع الأسباب وأمر الناس بالتعامل معها للوصول إلى النتائج، وأن هذه الأسباب هي إرادة الله ومشيئته، وأن عملية الاستخلاف لا تؤدي ولا تتحقق إلا بالتماسها، وقد جعل الله لكل شيء سبباً، وأن التزام هذا والتعرف عليه هو غاية التكليف، ودور النبوة في ذلك هو الهداية والتدريب ومسئوليتنا حسن التأسي وسلامة الاقتداء.

كما أن الكتاب ساهم وإلى حد بعيد بتحقيق قسمات الذات الحضارية المسلمة ،ذلك أنه على الرغم من الكلام الكثير عن التميز الحضاري الإسلامي وضرورته لنهوض الأمة، لا يزال الأمر في حدود الشعار، بعيداً عن الممارسة، لأن كثيرين من دعاة التميز يعيشون ضمن الأطر الغربية في حياتهم ومعاشهم ووسائلهم. . . ذلك أن ترميم بعض المفاهيم والأفكار من خلال القراءة الجانبية والانتصار العاطفي للإسلام لا يكفي لنقل المثقف المسلم إلى الخط الإسلامي الصحيح والمنظومة الحضارية الإسلامية ومصطلحاتها. . .

والله نسأل أن يسدد الخطا ويجزل مثوبته للأخ الدكتور محسن عبد الحميد أحمد وينفع به، إنه حسبنا ونعم الوكيل.

==============

# تحديد المصطلح

إن تحديد المصطلحات التي يستعملها الباحث أمر في غاية الأهمية، إذ بدونه سندور مع المؤالفين والمخالفين في حلقة مفرغة، ولا نستطيع أن ننطلق من مفاهيم واضحة نتفق عليها، للوصول إلى حل أي مشكل.

ولقد درج المفكرون والباحثون على استعمال كلمة "الأيديولوجية" بمعنى العقيدة. وهم يقصدون العقائد الإنسانية، أي ما يصل إليه الإنسان بفكره لتأسيس مفاهيمه الأساسية التي تشكل إطاراً فكرياً لنظرته الكلية إلى الوجود.

حاول كثير ن الكتاب الإسلاميين أن يستعملوا "الفكر الإسلامي " (1) أو "الفكرة الإسلامية " بمعنى الإسلام. غير أن هؤلاء مع فضلهم قد وقعوا في خطأ كبير، دون أن يتقصدوا ذلك. إذ كيف يمكن أن يكون الوحي الإلهي مظهراً للفكر الإنساني؟.. فالفكر إفراز عقلي لإدراك ما حوله من وجود. وإذا كان هذا المعنى: "الفكر الإسلامي " يصح على ما أنتجه الفكر المسلم الذي ينطلق من الإسلام في مضامير الحياة كلها، فإنه أبداً لا يجوز أن يُستعمل للدلالة على الوحي الإلهي (للإسلام ) حتى لا يؤدي إلى الخلط بين الوحي والفكر. فالإسلام معصوم كله، بينما الفكر الإسلامي، ليس معصوماً ولا مقدساً، يحتمل الخطأ والصواب والمراجعة في عصره وفي العصور التالية.

وحاول بعض مفكري الإسلام أن يضع بدل "الفكر الإسلامي " مصطلح "التصور الإسلامي " (2) وهذا خطأ مثله. لأن التصور عملية فكرية محضة، تحتمل الصدق والكب كما هو ثابت في علم المنطق، فلا يمكن أن يستعمل التصور بمعنى كليات الوحي الإلهي، بل قد يستعمل بمعناه الثاني الذي يدل على أنه إفراز للعقل، وليس معصوماً ولا مقدساً.

وذهب عدد من الكتاب الإسلاميين في السنوات الأخيرة إلى استعمال "المذهبية "(3) للدلالة على ما ذهب إليه الإسلام في أمور الكون وخالقه والحياة والإنسان، أي القضايا التي تتعلق بالكليات وليست الجزئيات.

والحق أن هذه اللفظة زيادة على أنها دالة على معناها لغة، يمكن أن تتحول إلى اصطلاح يحقق هدف الإسلاميين من إطلاقهم لفظ "الفكر الإسلامي " الذي رفضناه بالمعنى الذي استعمل فيه (الوحي ) كتاباً وسنة. ثم إنه يخصنا بلفظة تميزنا وتحول بيننا وبين استعمال كلمة "الأيديولوجية " الأجنبية بمعنى الأصول والكليات الإسلامية.

وقد يقول قائل: لماذا لا نستعمل "العقيدة الإسلامية" للدلالة على المعنى الذي نريد، حتى نتخلص من المصطلحات الأخرى.

نقول: إن "العقيدة الإسلامية " مصطلح مستعمل منذ القديم، يشمل الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر فقط، بينما نحن نريد مصطلحاً أشمل من هذا. فـ "المذهبية الإسلامية " تشمل العقيدة الإسلامية وتشمل غيرها من الكليات التي ارتضاها الإسلام في العالم المادي لضبط حركته، سواء في الحياة عموماً أو في المجتمع، أو داخل عالم الإنسان من حيث هو فرد.

إن علماء الكلام عندما حصروا كليات الإسلام في دائرة الموضوعات الأربعة، وسموها "العقيدة الإسلامية" أو "علم الكلام " أو "التوحيد " انطلقوا من واقع الصراع الفكري في عصرهم، وحددوا مواقف الإسلام ن خلال الكتاب والسنة واجتهاداتهم في فهمها، في القضايا المذكورة، التي كانت مثار النقاش يومئذ مع الفلاسفة ولا هوتيِّي أهل الملل والنحل الأخرى.

أما اليوم فقد تبدلت ظروف الصراع الفكري، فالمذاهب الأخرى تقدم كلياتها في القضايا التي تتعلق بأصول عقائدها وفكرها في إطار الكون وخالقه والحياة والمجتمع والإنسان.

وبما أن الإسلام قد حدد مواقفه التفصيلية من أصول القضايا الكبرى في الحياة والمجتمع والإنسان، فلا بد أن نضيف تلك التفصيلات على الأصول العقائدية الأخرى، حتى تتأصل عندنا "المذهبية الإسلامية " بشمولها، كي تستطيع أن تواجه المذهبيات الأخرى، في كل ما تتعرض له من أصول أفكارها. لأن تلك المذهبيات قد غزتنا في عقر دارنا، فنحن لا نستطيع تجاهلها، ونبقي على الموضوعات المثبتة في علم اللام شكلاً ومضموناً. لأن علم الكلام بشكله القديم لم يعد يفيدنا في صراعنا العصري. زد على ذلك أن علم الكلام القديم قد خلط في تقديم العقيدة الإسلامية بين الوحي الإلهي والاجتهاد العقلي في تصور تلك العقيدة. ونحن لا نريد أن نرتكب اليوم هذا الخطأ الكبير، إذ من الضروري جداً في صراعنا الفكري اليوم وفي محاولتنا تغيير وجهة حياتنا الحضارية، أن نفصل بين الوحي الإلهي والاجتهاد العقلي، كي لا تتحول الاجتهادات العقلية إلى أصول ثابتة، تحسب على الوحي المعصوم نفسه، فتعيق حركتنا العقلية الحاضرة، وتسلب حرية مراجعتنا لاجتهادات أسلافنا. ثم تحول بيننا وبين الحركة باتجاه تأصيل حياتنا الفكرية في ضوء التغييرات التي تحدث في عالمنا المعاصر.

وقد يقال: إن "المذهبية الإسلامية " قد تلتبس بالمذهبية الفقهية، نقول: لا يحصل هذا الالتباس إن شاء الله، لأن المذهبية الفقهية تستعمل في إطار محدود جداً، ثم لم يصفها أحد إلى الآن بالمذهبية الإسلامية. فإطلاق هذا المصطلح الجديد واضح يشهد عليه سياقه، وتدل عليه الموضوعات التي تعالج ضمن حدوده.

وفي رأيي أن كثرة استعمال مصطلح "المذهبية الإسلامية " ستركزه في الأذهان، وسترفع عنه كل التباس أو غرابة، وستنقذنا من استعمال المصطلح الأجنبي "الأيديولوجية ". وسنضع باستعماله حداً فاصلاً بينه وبين مصطلح "الفكر الإسلامي " أو "التصور الإسلامي " اللذين لهما معنى آخر، هو المعنى الاستنباطي أو الاجتهادي الذي تحدثنا عنه.

إذن فالإسلام دين الله الخالد الثابت وحياً في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، و "المذهبية الإسلامية" هي كليات الإسلام في الوجود كله، و "الفكر الإسلامي " هو ما أنتجه المسلمون في ظل الإسلام من فكر بشري في الفلسفة والكلام والفقه وأصوله والتصوف والعلوم الإنسانية منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى اليوم.

وأما التصور الإسلامي، فيمكن أن يستعمل بمعنى الفكر الإسلامي لأنه مثله عملية عقلية بحتة

=============

# المذهبية الإسلامية بين الوحي والفكر

إن منهج التغيير الإسلامي المنبثق أساساً من المذهبية الإسلامية في الوجود، لا بد أن يضع خطاً فاصلاً واضحاً بين ما هو وحي إلهي وبين ما هو جهد بشري، أو فكر بشري أو تصور بشري لمسائل حول الوحي الإلهي وتفسيره وشرحه في إطار قواعده وأصوله وفي ضوء المراحل التاريخية المتتابعة.

إن تسمية الوحي وما حوله من فكر، بالفكر الإسلامي أو الفكرة الإسلامية لدى كثير من الإسلاميين أنفسهم خطأ كبير شجع أرباب المذاهب المادية والعلمانيين على الجرأة في تسميتهما معاً بـ "التراث ". فهؤلاء عندما يريدون أن يراجعوا هذا التراث، يراجعونه من حيث هو كل في نظرهم لا يتجزأ. والنتيجة الطبيعية عند هؤلاء أن الوحي الإلهي يخضع للمرحلة الزمنية، فهو من التراث الذي يتعلق بالماضي. والحال أن الوحي من حيث هو علم الله الكامل لا يمثل ذلك الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، بل هو يمثل الحقيقة الأزلية التي لا ترتبط بالزمن ولا تخضع له. فهو ليس تاريخاً للبشرية أو حركة حضارية تختص بمرحلة من مراحل تطور تاريخ أمة من الأمم.

وإذا كان من الممكن أن يقول قائل: إن الشرائع التي جاءت قبل الإسلام، كانت مراحل تتصل بالفترات بين الأنبياء والمرسلين. فإن هذا - في عقيدة المسلم - لا يصح أساساً بالنسبة للإسلام، لأن الله تعالى قد ارتضى للبشرية شريعة متكاملة متوازنة لم تختص بمرحلة تاريخية معينة، وإنما هي شريعة خالدة إلى يوم الدين، إذ لا نبي بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .

((مَا كَانَ مُحَمَدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّيين َ)) [الأحزاب:40].

وهذه الشريعة العامل لها جانبان؛ جانب دستوري عبارة عن نصوص قاطعة سواء أكانت في بيان أصول العقائد أو ما يتصل بأسس تنظيم الحياة البشرية في كلياتها وبعض جزئياتها المهمة. وجانب آخر يتعلق بتفاصيل ذلك التنظيم وبجزئياتها المتصلة بتغير الحياة الإنسانية في مظاهرها المتنوعة. وهذا الجانب هو الفقه الإسلامي الذي يمثل اجتهادات العلماء أو أحكام العلماء، وليس بالضرورة أحكام الله سبحانه وتعالى. ولذلك فإن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والمجتهدين الذين جاءوا من بعدهم كانوا لا يقبلون قول القائل في المسائل الاجتهادية، هذا حكم الله، بل كانوا يقولون على سبيل المثال: هذا ما حكم به "أبو بكر "، وهذا ما قضى به "عمر "، وذلك ما رآه علي رضي الله عنهم أجمعين.

ويتحصل عندنا من هذه المقدمة أمر مهم هو أن الفترة التي أعقبت الوحي المحمدي عليه الصلاة والسلام إلى اليوم وإلى قيام الساعة، ليست فترة معصومة مقدسة، وإنما هي فترة خاصة باجتهاد العقل الإنساني في مناحي الحياة كلها. فتح الإسلام فيها أمام البشرية أبواب الحركة والتغيير والاجتهاد في إطار القوانين الضابطة لحركة الفكر والحضارة التي سماها علماء الإسلام بعلم "أصول الفقه " الذي يُعد بحق المنهج الحقيقي لأصول البحث العلمي والعقلي، والذي يشكل صمام الأمان للاطمئنان على توازن تلك الحركة وعدم خروجها على سنن الخالق التي أودعها في الوجود كله.

وإذن فما يتقوله الذين يريدون أن يعتمدوا على الفلسفات المادية والعلمانية (4) في إحداث التغيير في العالم الإسلامي، لا سيما العربي منه، من أن الإسلاميين تراثيون أو أنهم ينظرون نظرة تراثية يجهلون أو يتجاهلون حقيقتين مهمتين. .

• (أولاهما ) : استقلال الإسلام من حيث هو وحي إلهي عن الزمان والمكان، ومن حيث خلوده لأنه لا دين بعده ولا نسخ لعقائده وأحكامه.

• (وثانيهما ) : جهلهم المركب بحقيقة أن علماء الإسلام ومفكريه وفقهاءه العظام أدركوا تمام الإدراك، أن ما في التاريخ الإسلامي من الاتجاهات والمذاهب الفكرية، لا يدخل في المفهوم الأول، بل هو تاريخ الاجتهاد المناسب للمراحل الزمنية يمكن تجاوز أية جزئية أو قضية فيه وإخضاعها من جديد إلى المناقشة وعرضها على مدى تحقيقها للمصالح الحاضرة المضبوطة.

ولقد نبه إلى ذلك مفكرو الحركة الإسلامية الحديثة في كل ما كتبوا، ولكن مصيبة التيارات غير الإسلامية، أنها لا تريد أن تقرأ الإسلام وحقائقه، متعمدة ومتجاهلة لجمودها العقائدي، ولعدم طلبها الحق لذاته، فهم إما ملاحدة ما ديون ينكرون أصل الإسلام وجميع الأديان، ويرفضون معه عقيدة الألوهية، ومن هؤلاء من ليست لهم الجرأة لإظهار ذلك الإنكار صراحة، فيلجئون إلى طريقة حشره ضمن مصطلح "التراث " لإعادة النظر فيه ومحاربته جميعاً باعتبار قدمه ومحاربة دوره في الوقت الحاضر. ومن هؤلاء من يتراجعون أمام زحف التيار الإسلامي بمنطقة العقلي العصري، خشية الاصطدام ثم الموت، لأن المجتمع الإسلامي اليوم يرفض الإلحاد رفضاً قاطعاً من خلال منطق العلم ومعرفة حقيقة الإسلام. فداعي الإلحاد لا مكان له اليوم في العالم الإسلامي.

ومن هنا فهو يقول: ماذا سأخسر إن قلت: إن الإسلام ديننا وتراثنا، لأن هذا واقع من جهة، ولا يترك أثراً في الحياة الحاضرة من جهة أخرى. فالمذاهب المادية إذا تقدمت في ضوء تلفيقها مع التراث، ستسيطر على المجتمع كله، والتراث عندئذ لا يكون مكانه إلا في كتب التاريخ ومعالجة التراث سهلة عند ذلك، لأنه سيسقط ماديته على التراث كله، بدعوى البحث عن الجوانب المشرقة في التراث، فالنتيجة أن التراث في ظل هذه المعانقة سـ "يتمركس " على سبيل المثال من دون إثارة مشكلة الإلحاد أصلاً في العالم الإسلامي.

وأما العلمانيون فإنهم يحتفظون باسم الإسلام، ولكنهم توجهوا إلى دراسة تلك الفلسفات قبل دراستهم للإسلام فآمنوا بها ودعوا إليها على أساس أنها أنظمة دنيوية لا تصطدم مع إسلامهم، لأن الإسلام يدعو إلى العدل ويرحب بتحقيق كرامة الإنسان وهذه المبادئ تحقق ذلك.

وهؤلاء كلما درسوا الإسلام أكثر اقتربوا منه أكثر، فهم يبدءون من عملية التلفيق والدمج، ثم ينتهون إلى عملية الاستفادة.

أما عملية التلفيق فيقصدون أننا يمكن أن نأخذ الجانب الروحي من الإسلام مع الماركسية من حيث هي منهج علمي للنضال على حد تعبيرهم، ويقولون: إن مشكلة الإلحاد في الماركسية لا تخصنا إنما تخص الصراع الأوروبي بين العلماء والمناضلين وبين الكنيسة، ولكننا نختلف عنهم لكون ذلك الصراع ليست له علاقة بتاريخنا (5).

ولجأ هؤلاء إلى المصادر الإسلامية ليستخرجوا منها الآيات والأحاديث والوقائع التاريخية التي تدعو إلى عدم التمايز والمساواة وإيثار المصلحة العامة وتحقيق العدل الاجتماعي، لكي ينتهوا إلى أن الماركسية لا تقول بأكثر من ذلك فلماذا لا نستفيد منها؟.

وهذا التلفيق والامتزاج بين الإسلام والمبادئ الماركسية مرفوض للأسباب التالية:

- الأول:

لأن الإسلام دين الله الحق الكامل الشامل، له "مذهبية" تفصيلية في الوجود كله، تقوم على الحق والعدل والميزان، تنبثق منه أسس وقواعد أنظمة عدة، مترابطة، يربط بينها منطق داخلي دقيق، بحيث يشكل نظاماً واحداً متشابكاً لا يمكن فصل جزء منه عن جزء، فدعوى أخذ جانب منه مع جانب آخر من الرأسمالية أو الماركسية أو الاشتراكية إخلال بتوازنه وتفكيك لمنطقة الداخلي الموحِّد، وطعن صريح في كماله، وهذا يعني أن الإسلام بقواعده وأصوله من خلال العقل المسلم لا يستطيع رفد الزمان والمتتابع بما يحتاج إليه من ضوابط التغيير وحلوله وأنظمته التفصيلية. في الوقت الذي يتضح لكل دارس منصف أن الإسلام بمنطقه الداخلي وعن طريق أصوله وقواعده ومن خلال حركة العقل المسلم المدرك لسنن الله في الوجود والعمران، يستطيع إحداث حركة التغيير الجذري الشامل في كل عصر، وتحقيق كل ما يعود إلى الإنسان من خير وصلاح واستقامة وعدل.

ومن المؤسف أن أقول: إن جهل كثير من أبناء الإسلام بهذه الحقائق الإسلامية وعدم طلبهم الحق لذاته من خلال العقد الشعورية واللاشعورية التي أصيبوا بها ضد الإسلام ظاهراً أو ضمناً، ومن أرضية الخضوع لرواسب الثقافات الأجنبية التي صنعت شخصياتهم، يحول بينهم وبين إدراك تلك الحقائق.

وياليتهم فعلوا مثل ما فعل الفيلسوف الفرنسي المسلم (رجاء غارودي ) فلقد كان غارودي من أكابر مثقفي الماركسية في هذا العصر ثم وجد من خلال تجربة فكرية معقدة، وممارسة واقعية قاسية، أن الماركسية لا تمثل أوجه الحقيقة كلها، وإنما تمثل وجهاً واحداً منها، فدعا إلى المبدأ البديل في كتابه (البديل ) واقترح للإنسانية نظاماً على أساس روحية الدين ممزوجاً بتحقيق حرية الإنسان في المذهب الديمقراطي الغربي ملفقاً مع الاقتصاد الماركسي. ثم تقدمت بغارودي الدراسة، فاكتشف أنه من المستحيل أن يتم هذا التلفيق لأننا نأخذ عندئذ جزءاً مترابطاً مع كل في كل قضية، ونريد أن نمزجه مع جزأين آخرين من كلّين مختلفين، فغدت عندنا ثلاث قضايا ملفقة في الظاهر، ولكن تفتقد إلى منطق ذاتي داخلي يربط بينها.

وتقدم غارودي لسنوات طويلة خطوة فخطوة يريد اكتشاف المنطق الموحِّد. من خلال دراسة عميقة للإسلام التي بدأها منذ أيام ماركسيته، وانتهى إلى الاكتشاف العظيم في كتابه "ما يعد به الإسلام ".

فلقد وصل غارودي هذه المرة إلى المذهبية الإسلامية الشاملة، ومنطقها الكوني الذي جمع بين ظواهره بقانون داخلي رابط، يشكل دين الإسلام، فذابت عنده في هذه السبيل، عملية تلفيق المبادئ ودمج المنظومات المختلفة، وأعلن إسلامه بكل وضوح ورآه الطريق الوحيد لإخراج الإنسان من أزمته الحضارية الخانقة في هذا العصر.

لم يتراجع غارودي عن إيمانه بالحرية، ولا بتحقيق كرامة الإنسان، ولم يتخل عن عشقه للعدل الاجتماعي وانحيازه الكامل للمسحوقين والمستضعفين في المجتمعات البشرية، ولكن تراجع وتخلى فقط عن التفسير الإلحادي الماركسي للتاريخ ثم عن المنهج الخاطئ، منهج التلفيق والدمج.

لقد رأى غارودي كل آماله في هذا الدين الخاتم ومذهبيته الكونية الشاملة المترابطة، وأدرك أن طريق النضال الوحيد أمام البشرية هو الإيمان بالإسلام ومبادئه الفطرية المنسقة في الكون والمجتمع والإنسان.

وكذلك يا ليتهم فعلوا مثل ما فعل الكاتب العربي الأستاذ "منير شفيق " فلقد قضى في الماركسية سنوات طويلة، مؤمناً بها مدافعاً عنها، مناضلاً في سبيل تمكينها في المجتمع العربي المسلم، ثم تهيأت له سبل دراسة الإسلام فدرسه دراسة واعية مُنصفة عميقة، فظهرت أمامه الحقيقة واضحة جليَّة. ولم يحاول أن يلفق بين الإسلام والماركسية، لأنه أدرك أن من يحاول أن يأخذ من الإسلام جانباً منه ويترك منظومته المتكاملة سينتهي إلى شيء آخر غير الإسلام. ولذلك فإنه ترك الماركسية إلى غير رجعة وألَّف كتابه النفيس "الإسلام في معركة الحضارة " عرض فيه قضية الإسلام، بعقيدة راسخة ويقين كامل ومنطق سليم في إطار من الفهم الدقيق لمذهبية الإسلام الشاملة ووحدتها الداخلية الرصينة.

- الثاني:

لو جئنا إلى الواقع من خلال استقراء شامل للحياة في العالم الإسلامي لوجدنا أن محاولة التلفيق بين الإسلام وبين الرأسمالية أو الماركسية أو الاشتراكية، انتهت إلى التضحية بالإسلام، وإخراجه من معظم مجالات الحياة، ويدل على ذلك ما يلي:

(أ) التوجيه العام في تربية الأجيال غدا توجيهاً مقطوعاً عن الإسلام خاضعاً لمناهج الدوائر العلمانية والمادية الغربية في التربية والتعليم بحيث أدى إلى فصل التعليم الديني عن التعليم العلمي والإنساني، مع التقصد المخطط في إهمال التعليم الديني ومؤسساته، تمهيداً لحصر دوره أو القضاء عليه.

(ب) قادت التربية العلمانية والمادية أجهزة الإعلام المتنوعة في طريق التنكر للإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً وحضارة والاكتفاء بعرضه عرضاً لاهوتياً أو "فولكلورياً " تراثياً متحفياً في مناسبات معينة.

(ج) عبرت في ظلها المبادئ الغربية المادية والعلمانية والجنسية الإباحية، فتمكنت من حفر أخاديد واسعة وتيارات كبيرة في المجتمعات الإسلامية، انتهت إلى الفرقة والقلق والحيرة والسلبية في الحياة. وبالمقابل فقد حوصر الإسلام حصاراً يكاد يكون كاملاً، وغدت الدعوة إلى حقائقه ومحاولة تمكينها ولو بالطرق السليمة، ومن خلال جهود جماعية، جريمة كبيرة، يتعرض أصحابها من خلالها إلى الاضطهاد المتنوع، وصل في بعض الأحوال إلى التصفيات الجسدية.

(د) ارتبطت تلك الأنظمة العلمانية بمراكز القوى الكبيرة في توجيه السياسة العالمية؛ العلنية منها والسرية، بدعوى الانسجام في المبدأ والتخطيط في السياسة المشتركة والاعتماد على قوة ضد قوة أخرى، وانتهت إلى التمزق بين أجزاء الأمة الإسلامية، لا سيما الأمة العربية الواحدة، وأدت هذه الكارثة التاريخية الكبيرة إلى ضياع وحدة الأمة، عقيدة وحضارة وهدفاً ومصيراً. وتمكّنِ اليهود في فلسطين وضمهِم لأجزائها وما حولها، وتجسدت كارثة الفرقة إلى درجة أن المتخندقين من الفدائيين الفلسطينيين وجه بعضهم إلى بعضهم الآخر فوهات مدافع الدبابات والرشاشات والبنادق. كما أن جيوش الأعداء استدعيت لغزو بلاد إسلامية عدة من قبل حكامها العلمانيين أو الماديين مباشرة أو غير مباشرة.

(هـ) في ظل التلفيق بين الإسلام تراثاً وبين المذاهب المادية والعلمانية عقيدة وحضارة ومنهجاً فرضت على الأمة أنظمة القهر والاستبداد واستعملت خبرة الأمم كلها في تعذيب المعارضين وسحق مقاومتهم العنيفة أو السلمية، فانتهكت الكرامات واستبدل استعمار باستعمار وطبقة بطبقة وظلم بظلم أشد. وبقي المظلومون والمستضعفون على حالهم يفتك بهم الجهل والجوع والمرض.

لم ينته الاستلاب الإنساني كما وعدوا.

لم تسقط الكيانات الاجتماعية المتهرئة كما ادّعوا.

لم تتحقق وحدة الأمة كما طبلوا لها وزمروا، بل زادوها أوصالاً وتقطيعاً.

لم تتكون العقلية العلمية في الأمة كما أملوا، بل زادت الخرافة والجمود، واستعانوا بها هذه المرة للقضاء على حقائق الإسلام. . فأي تلفيق هذا الذي يريدون، وعن أي مزج هم يتحدثون.

لقد كانت الضحية الوحيدة لهذا التقريب المزعوم هو الإسلام بحقائقه وحضارته وأمجاده وأمته وترابه.

(و) كان من ثمار هذه التربية المادية والعلمانية، انتشار مظاهر الانحراف في حياة المسلمين؛ فمن إدمان للخمر، إلى نوادي القمار، إلى دور البغاء العلني والسري، إلى الخلاعة الجنسية على شواطئ البحار والأنهار وأحواض السباحة والاستعراضات الرياضية المختلطة، إلى تسهيل الإغراءات في الملابس وتشجيع دورها ومحلاتها وصحفها وحفلات عرضها، تلك الفضائح الاجتماعية والأخلاقية التي قتلت الرجولة والشهامة والمروءة والاستقامة وروح الجهاد والكفاح في الحياة لدى الأجيال المسلمة.

إن المنهج الذي يدعو إلى التوفيق بين مبادئ الإسلام وبين الجوانب الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في الحضارة الحديثة، منهج فيه ثغرة كبرى، لأنه ينطلق من أمرين متضادين، إذ لكل من الإسلام والحضارة الغربية أرضيته الخاصة، ونمطه الحضاري المتميز، فلا يجوز قطع جزء من الإسلام، ودمجه مع جزء معين من مذهب آخر أنتجته حضارة مختلفة، ليخرجا كُلاًّ فيه جزءان متباينان، لأن الكل الجديد عند ذلك يفقد تسلسله المنطقي ووحدته الداخلية واتزانه الحضاري.

وكذلك المنهج الذي يقول: إنني أؤمن بالإسلام ولكنني أستفيد من المبادئ الأخرى في الحضارة الغربية الحديثة وأدخلها في الإسلام إدخالاً لا تفقده ملامحه الخاصة.

وعلى الرغم من أن هذا المنهج هو تعبير آخر عن المنهج التلفيقي، غير أن صحابه - إذا كانوا مسلمين حقاً - لا بد أن يعدلوه، وتعديله يكون بأن أدرس الإسلام دراسة واعية، ولا أنسى أنني أعيش في القرن الخامس عشر الهجري، ولا بد أن أعلم أني محاط بحضارات أخرى هي حصيلة التجارب البشرية غير المعصومة، مع ما بقي فيها من مبادئ الأديان السماوية السابقة على الإسلام. فأدرسها دراسة ناقدة وأهضم ما أريد أن أهضمه منها في داخل ضوابط ومنطلقات وخصائص حضارتي الإسلامية، ثم أبدأ بحل المعضلات التي أواجهها من خلال عقيدتي الواضحة وتجارب الإنسانية الشاملة في عالم الشهادة (المادة )، لأصل في النهاية إلى اقتراح حل ما للمشكلة الاقتصادية، قد يقترب كثيراً أو قليلاً من حلول الأنظمة الأخرى. ولا يمكن أن يعترض عند ذلك عليّ فيقال: أنت نقلت القضية الفلانية من المبدأ الفلاني، لأنني في الواقع لم أنقلها، وإنما توصلت من خلال مذهبيتي المفتوحة إلى حل مشكلة منفردة، هي ظاهرة من ظواهر المجتمعات البشرية كلها، كل منا يدرسها بطريقته الخاصة، ويوجد الحلول المناسبة مسترشداً بإطاره الثقافي، ونمطه العقيدي.

إن القضايا عند ما تفرد؛ كل قضية وحدها وتعالج، عند ذلك تتصل بوجود الإنسان من حيث هو إنسان. إذ أن القضايا الجوهرية التي تتصل به، مشتركة، ولكن كل نمط حضاري ينظر إليها ويتقدم إلى دراستها وحلها من زاويته الخاصة، وقد تتقارب النتائج في النهاية، ولكن كل نتيجة ضمن منظومته الحضارية.

فعلى سبيل المثال: عندما ألقي نظرة على المجتمع الإسلامي وأجد أن التوازن الاقتصادي مفقود فيه، أبدأ بالتفكير من المنطلق الإسلامي لإيجاد حل لهذه المشكلة التي قد تسبب مأساة إنسانية لا يرضى عنها الإسلام، فأقترح حلولاً ضمن مخطط عام للقضاء على تلك المأساة، وقد يقترب بعض ما في حلولي الإسلامية من بعض ما تقرره الماركسية أو النظريات الاشتراكية الأخرى. فلا يمكن أن يدعي امرؤ أنني أطبق هنا مع الإسلام أحد تلك النظم الاقتصادية، لأن منطلقي يختلف تماماً، فأنا أتحرك داخل الإسلام وضوابطه ونظمه الحضارية، والإنسان قد تتشابه مشاكله في ظل الأنظمة المتضادة، ومع ذلك التضاد، فقد تأتي الحلول متقاربة في نتائجها، والسبب جوهر المشاكل الإنسانية، لا تَلَقِّي كل مذهبية تلقياً مباشراً من الأخرى.

ويمكن أن أنتقل من هذا العموم إلى ضرب مثل خاص من الجزئيات الكثيرة المندرجة تحته فأقول:

لو نظر اقتصادي إسلامي وماركسي واشتراكي إلى قرض المصرف العقاري، فانتهى الثلاثة إلى أن كل أسرة لها حق في امتلاك حد أدني من السكنى، حتى لا تعيش في العراء فتتعرض كرامتها الإنسانية إلى المهانة.

ورأى الثلاثة أن الواجب على الدولة التي تمثل الشخصية المعنوية لمجموع أفراد المجتمع أن تؤمن لهم ذلك، ورأوا أن أخذ الفائدة على المبلغ المقترض لتأمين السكنى الضروري ظلم اجتماعي، يحيل عقلية الدولة إلى عقلية تاجر يريد تأمين الربح أولاً، ثم اقترح الثلاثة أن الحل هو في إلغاء الربا في هذا القرض. ولكن مع هذا الاتفاق الظاهري نجد أن المذهبية التي ينطلق منها الثلاثة تختلف مع الأخرى في المقدمة والنتيجة، وسنجد أن نظرة الاقتصادي المسلم تختلف عن نظرة صاحبيه. لأن إلغاء القرض عنده ليس استجابة لرفع ظلم اجتماعي فحسب، وإنما تتقدمه الاستجابة لأمر ربه في تحريم الظلم كقانون كوني ثابت، فقد حرم الظلم على نفسه وحرّمه على عباده، وهذا الحرام لا يتبدل بتبدل الظروف قط كما في الأنظمة الأخرى، لأن الربا قد يعود عند الأزمات الاقتصادية مثلاً في ظل تدابيرها الاقتصادية.

فالقضية هنا تخضع لحسابات مادية، بينما الربا على ذلك القرض لا يمكن أن يعود في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي، لحرمته الشرعية، استجابة لأمر الخالق. ولذلك فإن الدولة الإسلامية لا يمكن أن تعيد هذه الفائدة حتى في الأزمات الاقتصادية التي تمر بها، بسبب الحرمة أولاً، ولأنها ضمن الإطار الشامل المرن للاقتصاد الإسلامي تستطيع أن تتحرك في اتجاهات كثيرة لسد ذلك النقص في داخل ضوابط الشريعة وقواعدها العامة المرنة.

إن الحلول المتسقة مع المذهبية الإسلامية وخصائصها والتي تظهر إلى عالم الواقع ضمن نظامها العام، تسمى حلولاً إسلامية، وليست حلولاً ماركسية ولا اشتراكية ولا رأسمالية إن كانت القضية تتصل بحرية الإنسان.

إن المفكر المسلم هنا كالأديب العربي الذي يقرأ أدبه ويقرأ الآداب الأخرى ويطلع على حياة أصحابها وآرائهم في الوجود من خلالها، ثم يكتب أدباً جديداً، ولكنه أدب عربي أصيل بشكله ومضمونه. فاشتراكه مع أديب إنجليزي أو فرنسي في الأنماط البلاغية والمعالجات الحياتية والنتائج المشابهة لا يسلب عنه الشخصية العربية المستقلة وأسلوب التفكير الخاص.

==============

# المذهبية الإسلامية ونمطها الخاص

من البديهيات الثابتة في علم الاجتماع أن المجتمعات البشرية متنوعة في أنماطها الحضارية التي تشكل خلفيتها التاريخية وتؤثر في حياتها حاضراً ومستقبلاً.

إن تلك الأنماط الحضارية، يرسم تفاصيلها التطور التاريخي للأمم في عقائدها وثقافتها ولآدابها وفنونها وأعرافها وتقاليدها، فهي تُكَوِّن منطومتها الحيوية ووحدتها الداخلية. فإذا أردنا أن تحفظ حضارة ما بملامحها ووحدتها، وشخصيتها المستقلة، فلا بد أن يجرى التغيير في إطارها، حتى تكون استمراريتها متوازنة ومتواصلة، كي لا تفقد خصائصها، فتنقطع تماماً عن ماضيها وخصائصها وتذوب في حضارات أمم أخرى، تختلف عنها في ركائزها وتصورها والنتائج التي تترتب عليها.

والمجتمع الإسلامي الذي صاغه الإسلام منذ أربعة عشر قرناً، صياغة حضارية انطلقت من مذهبيته في الكون والحياة والمجتمع والإنسان له خصائص معروفة(6)، شكلت تاريخه وتطوره وحركته وحافظت على وحدته الداخلية بانسجام ووضوح.

ولما كنا نعتقد من حيث كوننا مسلمين، أن الإسلام هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن مذهبيته الكونية هي المذهبية الصحيحة المنسجمة مع فطرة الإنسان، والمحققة لمصالحه، والمحافظة على توازن شخصيته واستقلاليتها، فإن أي تخطيط للتغيير الاجتماعي لا بد أن يجرى في إطار مذهبيته عقيدة وشريعة وسلوكاً، حتى تحافظ الحضارة الإسلامية على أسسها وخصائصها، وحتى لا تنحرف وتسقط أمام حضارات أخرى، مادية في أسسها، مصلحية في غاياتها، تؤله الإنسان وتسحقه في ذات الوقت، ولا تعترف بالعبودية الكاملة لرب العالمين، من حيث هو تعالى الإله المعبود الحق ولا معبود سواه.

والذين ينطلقون من منطلقات حضارية أخرى تتبع مذهبيات تتنافى في أسسها وخصائصها مع مذهبية الإسلام في الله تعالى والعالم والإنسان، يريدون أن يغيروا مجرى التاريخ، ويقطعوا الأمة عن خصائصها الحضارية واستمراريتها التاريخية، حتى تظهر أمة أخرى، غريبة عن ماضيها، تبدأ من الصفر، ولا تمت إلى الإسلام وحضارته الربانية الإنسانية السامية بصلة ما.

ولقد أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن الأخير في المجتمعات الإسلامية أن الأمة الإسلامية رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها، لأن نمطها يختلف عن النمط الحضاري الإسلامي في جذوره وخصائصه وتطوره. وهي لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستقلة، على الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها، كنتيجة طبيعية لعوامل الإعاقة والتأخر في القرن الأخيرة من حياتها، تلك التي أسلمتها إلى الأعداء المستعمرين الذين خططوا للقضاء على وجودها وخصائصها وتحريفها عن طريقها الحضاري المستقل، زد على ذلك الاحتكاك الطبيعي بين الحضارات الذي هو سُنَّة من السُنن الاجتماعية في المجتمع الإنساني.

ماذا كانت النتيجة؟

لقد كانت النتيجة فادحة، لأن المجتمع الإسلامي، يحاول من جهة المحافظة على وحدته الحضارية الداخلية استجابة لمتطلبات مذهبيته الإسلامية، ومن جهة ثانية، فإن الحضارة الغربية بكل مقوماتها ومغرياتها فتحت مسارات كثيرة نفذت منها لتفجير المجتمع الإسلامي من الداخل وإحداث التغيير الشامل فيه على مقومات مذهبياتها المادية وخصائصها الحضارية، الرومانية، النصرانية، العلمانية.

إن رفض المجتمع الإسلامي للسقوط الحضاري من جهة وضغط الغزو الحضاري الغربي من جهة أخرى، قادنا إلى حالة خطيرة من الضياع والحيرة والانفصام، بحيث لو استمرت، فإن خروجنا السريع من هذه الفوضى الحضارية يكون في حكم المستحيل. وعدم الخروج السريع وعدم الوضوح في التخطيط والتغيير سيلحق بمجتمعاتنا الإسلامية أفدح الأضرار، بل سيدمرها تدميراً شاملاً، وسيتمكن منها الأعداء من كل جانب.

وقد طُرح إلى الآن حلاَّن أساسان، في الساحة الإسلامية للوصول إلى توجيه ناجح لضبط حركة التغيير الحضاري الشامل التي غدت لا مناص منها للخروج من الزمن الماضي الساكن إلى الزمن الحاضر والمستقبل.

أما الحل الأول فيقول:

لا بد أن يحدث التغيير في ضوء المذهبيات المادية والعلمانية التي تسيطر على الحضارة الحاضرة، التي هي في زعم القائلين به قدر البشرية اليوم.

وأما الحل الثاني فيؤمن:

أنه لا بد أن يحدث التغيير في إطار مذهبيتنا الإسلامية الشاملة وبنمطنا الحضاري الخاص الذي ميز أمتنا عن سائر الأمم، مع مراعاة سنن الله في الوجود، وتسخير القوانين المادية لصالح قيام الحضارة من جديد(7).

أما الحل الأول ففيه عزل كامل للإسلام عن مجتمعه من حيث هو دين ومذهبية متكاملة تتفرع منها عقائدنا وشرائعنا وأخلاقياتنا وقيمنا الحضارية وأمجادنا التاريخية. ثم هو قطع للأمة عن ماضيها وتحويل لها عن مجاريها، وإيجاد لأمة أخرى بعقائد جديدة وقيم جديدة وحياة جديدة.

وقد رفضت أمتنا هذا الحل الذي جاء كنتيجة لهيمنة المستعمرين من خلال حكمهم الطويل لبلاد الإسلام عن طريق المناهج التي فرضوها والمؤسسات الثقافية التي أنشئوها والمراكز الإعلامية التي ملئوا بها ساحتنا بأساليبها المتنوعة ووسائلها المغرية.

وهذا الحل في ذاته فاسد، إذ أن تلك الفلسفات المادية والمناهج العلمانية تعبر عن صراعات الأجيال والمؤسسات في تواريخ الأمم الغربية، فيما بينها، فهي من نتاج عقول بشرية في حضارة مادية في أصولها، رومانية في عبادتها للقوة، نصرانية في حقدها التاريخي على الأمة الإسلامية، فبأي حق، تسبغُ على تلك الفلسفات والمناهج العصمة والحتمية والموضوعية، كي تفرض على أمتنا الإسلامية، وهي تمتلك عقيدة ربانية حكيمة تتماشى مع فطرة الكون ومنطق الأشياء، وشريعة حكيمة مفتوحة تنظر إلى الإنسان نظرة شمولية متوازنة مع تكوينه ودوافعه، وحضارة علمية إنسانية ذات أخلاقيات رفيعة، وتاريخاً مجيداً يزخر بالبطولات والأمجاد وروح الفروسية الحقة في كل ناحية من نواحي الحياة.

إذن، لا مناص من الأخذ القاطع بالحل الثاني، الذي هو طريق الإسلام الحق ومذهبيته الشاملة المترابطة التي نبقى في ظلها مسلمين حقاً، ونحافظ على شخصيتنا الحضارية المستقلة، وتكون رؤيتنا واضحة لحاضرنا ومستقبلنا، فنخرج من الفوضى والحيرة والذوبان في منظومات حضارية أخرى.

إن هذا لا يعني الوقوف عند الماضي، لأن الإسلام من حيث هو وحي إلهي مستقل عن الزمان والمكان، فهو ماض وحاضر ومستقبل من دون تحديده، وهو حركة دائمة تدعو إلى التغيير المستمر والتجديد الدائم، لتحقيق الأمانة الكبرى في تحقيق خلافة الله على الأرض، وهي لا يمكن أن تتحقق على الوجه الكامل إلا بتسخير قوانين المادة. وتسخيرها لا يحقق صلاحها إلا في داخل المذهبية الإسلامية، لأنها ترتبط بها وتعبر عنها، فتخرج للناس حضارة متوازنة إنسانية لا حضارة مادية تنكر الإله، وتعبد القوة وترتكب الجرائم الوحشية بحق البشرية من منطلقات المصالح والعنصرية والأحقاد التاريخية.

كتب المفكر الفرنسي الكير "رجاء غارودي " قبل أن يدخل في الإسلام، نقده العلمي التاريخي للحضارة الغربية، نلخص هنا ما يتعلق بموضوعنا على الوجه الآتي(8):

• استندت على الإرادة الفردية الغازية المريدة للربح والسيطرة، والتي لا تتردد لحظة واحدة في تدمير القارات والحضارات، من خلال توجيه العلوم والتقنيات.

• اعتمدت النظرة العلمانية الصرفة التي تؤكد أن العقل يحل كل المشاكل وأن كل المشاكل الأخرى هي مشاكل لاهوتية زائفة.

• إن هذه الحضارة، لم تستطع إلى الآن أن تحدد غايات الإنسان الحقيقية، ولا أن تسيطر على الوسائل التي توصله إلى تلك الغايات.

• إذن فهذه الحضارة تحيل الإنسان إلى العمل والاستهلاك، وتحيل الفكر إلى ذكاء آلي، فيتجرد من الإيمان والحب والشعور الفني، وتحيل اللانهائي إلى الكم، ولذلك فإن هذه الحضارة في رأي غارودي، مؤهلة للانتحار.

• إن تقدم الغرب، لم يكن نتيجة عظمة مبادئه، وإنما كان بالضرورة وليد نهب قارات ثلاث، ونقلها إلى أوروبة وأمريكا الشمالية، وبالمقابل فإن الغرب هو الذي جعل ما نسميه العالم الثالث متخلفاً. . ويثبت غارودي ذلك من خلال عرض تاريخي قائم على أساس إحصاءات دقيقة.

• إن هذه الحضارة أدخلت الرق طرازاً إنتاجياً لأول مرة في تاريخ أفريقيا.

• وهي أبادت الهنود الحمر في أمريكا، وأدخلت الأمراض الجنسية كالزهري لأول مرة بين الباقين.

• ولما قضوا على الهنود الحمر احتاجوا إلى الأيدي العاملة، فبدأ خطف السكان الأصليين في أفريقيا طوال ثلاثة قرون، واسترقاقهم ودفنهم في العمل بالمناجم الأمريكية في مأساة إنسانية تاريخية كبرى قضى فيها تسعون مليوناً من المختطفين الأفريقيين نحبهم ووصل عشرة ملايين تحت ظروف قاسية إلى مواقع العمل في أمريكا.

• يقول "غارودي ": (بل إننا لا نستطيع أن نقارنها بالمذابح التي أتاحت لـ (جنكيزخان ) بناء أهرام من بضعة آلاف من الجماجم البشرية، إن عمله عمل صانع يدوي إذا قسناه بالجريمة التاريخية الأعظم التي اقترفها الغرب ) ويقول: (إنني أذكر كيف شعرت فجأة بعار الإنسان الأبيض وكأنه حمل ثقيل مذل على كتفي، عندما زرت في جزيرة (كورة) بمقابل "دكار" الحجيرات التي كان الأسرى يكدسون فيها قبل الإقلاع. ولا تزال آثار الدهان الأسود، مرسومة على الجدار وهي تشير حتى الآن إلى المكان الذي كان النخاسون يحددونه لكل إنسان في ذاك الجحيم (9). ويقول: جلي إذن بالرغم من ضروب تقريظ الغرب المنافق أن مسؤولية الرق لا تقع على عاتق الأفريقيين أولاً، لأن الرقم لم يكن البتة طراز إنتاج في أفريقية قبل وصول الأوروبيين، وثانياً لأن مؤسسة تجارة العبيد اصطدمت بمقاومة الأفريقيين. وأخيراً لأن طلب اليد العاملة الخاضعة للأوروبيين لم يحدث هذه التجارة بعد إبادة هنود أمريكا إبادة جماعية وحسب، بل عمل على توسيعها وتنشيطها ) (10).

• يثبت "غارودي " أن الحضارة الغربية لم تلغ الرق قط لأسباب إنسانية وإنما لأسباب اقتصادية، يثبت ذلك من خلال استقراء كامل لطبيعة تطور المشروع الرأسمالي.

• ظهرت النظرة العرقية بأبشع ما تكون في ظل الحضارة، بحيث تعالى الإنسان الأبيض ونظر إلى الشعوب المستعمرة نظرة فوقية استغلالية من خلال مقولات عنصرية بحتة.

• وبالنسبة للعالم الإسلامي ينتهي "غارودي" إلى أن الاستعمار الإنجليزي والإسباني والفرنسي نتيجة للدور الذي قاموا به في أرض الإسلام خلال أكثر من قرن، زيفوا الحقائق، وافتروا منهجاً من أجل إساءة سمعة إسهام الحضارة العربية في الحضارة الإنسانية.

• وبجانب هذا لقد ارتكب الغرب مجازر تاريخية رهيبة في البلاد الإسلامية، ويعرض غارودي وثائق وإحصاءات تاريخية تثبت فظاعة ووحشية وبربرية الغرب في العالم الإسلامي، لا سيما في شمالي أفريقيا (11).

• يستنتج غارودي من دراسته بأن الغرب حادث عرض، ولكنه أخطر عرض طرأ في تاريخ الكرة الأرضية، والذي قد يقود اليوم إلى فنائها(12).

• وينتهي إلى أن نمط التطور الذي تمارسه المجتمعات الصناعية يقود البشرية إلى درب مسدود. (انتهى كلام "غارودي" مختصراً ).

فإذا كان اتباع التنمية الحضارية الغربية في ظل المذهبيات المادية العلمانية يقود إلى الطريق المسدود في رأي غارودي وكثير من فلاسفة الغرب ومفكريه وعلمائه، فلا بد إذن بعد تجربة قرن كامل من الزمان في العالم الإسلامي، أن يكون اتباع المذهبية الإسلامية الشاملة، المرنة الحية، الحركة التي تنشد التغيير والبناء والتقدم دائماً، هو الطريق السليم للخروج في العالم الإسلامي، من الطريق المسدود الذي يجد نفسه في اليوم(13).

والمذهبية الإسلامية هذه ليست مذهبية سلفية بالمعنى الذي يريد أعداء الإسلام من أرباب المادية والمذاهب العلمانية أن يصموها بها، حتى يظهروها أمام الجيل الجديد بأنها دعوة إلى الجمود والالتصاق بالماضي والتمسك التراثي بالتراث.

ولقد دلس هؤلاء على كثير من أبناء جيلنا الحاضر في هذه القضية، لأنهم عرضوا "السلفية " وكأنها إيقاف للزمن وتمسك مطلق بالماضي. بينما "السلفية " اصطلاح في مبحث العقيدة الإسلامية. والمقصود منها الوقوف في فهم تلك العقائد، لا سيما مسألة صفات الله، في إطار فهم السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لأن تفصيلاتها تدخل في المجال الذي نهانا الله تعالى في الحديث عنها،وليس للعقل فيها مدرك، ولا يبنى عليها عمل في الواقع الفكري والاجتماعي. ومن هنا فإنهم دعوا إلى الفهم الظاهري للآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عنها وتفويض كيفيات معانيها إلى الله سبحانه وتعالى.

ولقد كانت هذه الدعوة ردّ فعل على الصراع الكلامي العنيف بين الفرق الإسلامية التي توسعت وتعسفت في التأويل في مجالات عالم الغيب.

ولئن اضطر علماء الكلام في العصور الأولى الولوج إلى ذلك الصراع مع فلاسفة ولاهوتيِّي أهل الملل والنحل، عندما أرادوا اختراق سور العقيدة الإسلامية بمطاعنهم وشبهاتهم، ووجدوا في مرونة قواعد اللغة العربية ودلالات ألفاظها معيناً لهم في ردّ تلك المطاعن وتفنيدها، إلا أنه سرعان ما تحول الجدل إلى المراء غير المجدي بين المسلمين أنفسهم، الأمر الذي كان من أعظم أسباب ضعف المجتمع الإسلامي وتفكيك وحدته الفكرية، وإدخال التعقيد في عقيدته القرآنية الفطرية الواضحة.

ولقد انتهى اليوم ذلك الصراع الكلامي الرهيب إلى غير رجعة إن شاء الله، ولم تعد تثار مشاكله وأفكاره على مستوى الصراع الفكري في عالمنا المعاصر. ولم يعد الإسلاميون يتحدثون فيه أو يشغلون أنفسهم بالخوض في مباحثه إلا في مجالات التخصص الدقيق. فإطلاق لفظ "السلفية " بالمعنى الذي قصد إليه أعداء الإسلام، إنما هو خدعة مكشوفة منهم للجماهير المسلمة ووضع للمصطلح في غير موضعه الحقيق به.

إن المذهبية الإسلامية ليست دعوة أو حركة محدودة تتصل بزمن معين. أو جزئية معينة من جزئيات الإسلام. إنها دستور الوجود كله، علماً وعقلاً ووحياً(14)، تتفرع منها شريعة مضبوطة مرنة الأصول والقواعد، تؤمن بالحركة والتغيير، واختلاف الزمان والمكان، وفيها من النظريات التشريعية العظيمة، والمبادئ الكلية الإنسانية العامة، والمقاصد الحسنة، وفتح المجال الواسع أمام العقل الإنساني للنظر والاجتهاد ما يرفد الحياة في كل عصر بقوانين حركتها الاجتماعية المتطورة.

إن كل من يقرأ بدقة ما تكتبه مجموعة الكتاب الماديين والعلمانيين، في هذا المجال، يوقن أنهم إنما يريدون محاربة الإسلام نفسه تحت مظلة "السلفية"، التي يسقطون ما يجول حقيقة في عقولهم ونفوسهم عليها،ويحرفون معناها، ويستعملونها مرادفة للجمود وإيقاف حركة الزمن.

إنهم لا يؤمنون أساساً بالإسلام، لأن المادية والتيارات غير الدينية التي يتحركون في إطار منظوماتها الفكرية ترفض الإسلام من حيث هو وحي إلهي، وتدعو إلى رفضه أو إعادة النظر في مبادئه، دون أن يفرق بينه وبين فكر المسلمين الاجتهادي.

إن هؤلاء - لنفاقهم الاجتماعي - من حيث إنهم يعيشون في مجتمع إسلامي، لا يوضحون مقاصدهم الحقيقية صراحة في معظم الأحوال، - ولا يقولون على سبيل المثال: إن المذهبية الإسلامية المنبثقة من الوحي الإلهي مرفوضة في هذا العصر - ولكنهم جميعاً يلتفون حول القضية بمكر، مستغلين جهل الأجيال المسلمة الجديدة بدينها، فيلصقون بالإسلام أنه دعوة "سلفية "، بالمعنى الذي يحددون، ثم يحكمون أن الدعوة السلفية مرفوضة لأننا لا نستطيع أن نعيش في زمن غير زمننا. ومن تتبع كتاباتهم اكتشف ذلك بسهولة (15).

=============

# مذهبية شاملة

لا شك أن مذهبية الإسلام في الكون والمجتمع والإنسان، مذهبية هداية وتوجيه تنظر إلى الوجود كله نظرة برهانية شاملة معقولة.

فمذهبيته في الكون قائمة على أساس دقته وتناسقه وتوازنه وغائيته، خلقه الله سبحانه وتعالى من العدم. كل شيء فيه موجه بعنايته، يخضع لقانون واحد لا تفاوت فيه، يقوم على أساس التكامل والتعاضد لا على أساس التضاد والتناقض. يتحكم فيه قانون التطور العام الذي يصيره من حال إلى حال بأمر الله وفي إطار سننه المسيرة، التي هي بمثابة العلل والأسباب التي لا تصطدم مع مبدأ المشيئة الإلهية، لأنها هي نفسها جزء من تلك المشيئة النافذة.

ومذهبيته في المجتمع قائمة على أساس الوحدة البشرية، فكل الناس عيال الله وأفضلهم هو أتقاهم، وهو سبحانه وتعالى لو يتركهم عبثاً يتخبطون في الأخطاء والتجارب المستمرة، حسب هواهم ومصالحهم المتضاربة، بل ارتضى لهم أصول أنظمة حيوية فطرية، تفاصيلها دقيقة وحكيمة وردت في نصوص مجملة، حتى يستنبط منها المجتهدون في كل عصر ما يتفق مع مصالح الناس ويساير زمانهم في إطار القواعد والأصول العامة للفقه الإسلامي.

ومذهبيته في الإنسان قائمة على أنه خليفة الله المكرم في أرضه، يتحرك ويعمل في إطار القوانين المادية، لإنشاء الحضارة ورفد الحياة بكل جديد في داخل التزام حقيقي بعبادة الله سبحانه وتعالى وحرية شاملة تعتمد العقل وتطلق طاقاته الكبيرة للقيام بذلك الدور الحاسم في هذه الحياة الدنيا.

إن مذهبية الإسلام الكونية هذه التي توجه منهجها التغييري التفصيلي لا تقوم مقام العلم والتقنية في هذا العصر، وإنما تقوم مقام المذهبيات الثقافية في الحضارة الحديثة، التي لا يجوز أبداً للمسلمين أن يلجؤوا إليها لأنها كفرت بالله وانطلقت من النظرة المادية الصرفة إلى الكون، وبنت مجتمعاتها على أساس العبودية لغير الله من المال والعنصر والطبقة والأشخاص، ووضعت الإنسان إلهاً مكانه سبحانه وتعالى، فسببت بذلك شقاء كبيراً في المجتمع، بتوجيه مناهج التغيير وجهة هادمة منحرفة، تعتمد الجانب المادي في الإنسان ، متجاهلة كلياً جانبه المعنوي الإنساني الشعوري، بحيث تحولت المجتمعات الإنسانية في ظلها إلى مجتمع الغابة، لأنها فقدت إنسانيتها بمعناها الشمولي، وقيمها الموحدة فحولته إلى آلات تعمل وتستهلك، وفي سبيل مصلحته يفتك بالآخرين، يمزق حياتهم ويمتص دماءهم ويسلب خيراتهم، بلا أخلاق ولا رحمة ولا إنسانية.

وهنا نسأل سؤالاً ملحاً يفرض نفسه بعد هذه المقدمة فيقول:

قلنا بأن المذهبية الإسلامية تقوم مقام المذهبيات المادية التي سيطرت على الحضارة الغربية، وذكرنا أنها لا تقوم مقام العلم والتقنية. إذن هل نعني ذلك أننا لا بد أن تأخذ العلم والتقنية مطلقاً دون تردد أو مناقشة؟ وماذا عن العلوم الإنسانية الحديثة؟ كالفلسفات العقلية، وعلو الاجتماع وعلم الاقتصاد، وعلم السياسة، وعلم النفس وعلم التربية، وما إلى ذلك؟ فهل هذه العلوم يمكن أن تدخل مؤسساتنا الثقافية والتربوية والإعلامية من منظار منهج التغيير الإسلامي؟.

وفي جوانب ذلك نقول:

أما بالنسبة للسؤال الأول: فلا أشك أن العلم والتقنية الحديثة، كشفا عن القوانين المادية المتنوعة في اعلمي الأنفس والآفاق، فتسخيرها بأوسع مجال ممكن في بناء حياتنا الجديدة، يتماشى تماماً مع ما يريده الإسلام من الحركة في الحياة واستعمار الأرض وبناء الحضارة وتحقيق الخلاقة.

غير أن منهج التغيير الإسلامي لا بد أن ينتبه إلى قضية في غاية الأهمية، وهي: أن العلم والتقنية يوجهان اليوم في حالات معينة لخدمة أغراض المذهبيات المادية المصلحية غير الإنسانية، الأمر الذي لا يمكن أن ينتقل إلى المجتمع الإسلامي من منظار هذه الفلسفة النفعية المصلحية، بل لا بد أن يتحرك العلم والتقنية في اتجاهات الحضارة كلها في ظل المذهبية الإسلامية التي تبني القواعد الأخلاقية والإنسانية الرفيعة لانطلاقتهما في المجالات التي تخدم الإنسان وتوفر له السعادة.

والدلائل الواقعية تشير الآن، أن العلم الإسلامي عندما يأخذ اليوم العلوم والتقنيات م الغرب، لا يأخذهما منطلقا من داخل نمطه الإسلامي الأصيل إلى يؤمن بالوحدة الكاملة بين الفرد والمجتمع والروح والعقل والجسد والطبيعة.. إن العلم والتقنية يسيران في الغرب على أساس الفصام الكامل بين أجزاء تلك الوحدة الوجودية المتناسقة، والنتيجة الرهيبة التي ترتبت على ذلك أن العلم والتقنية سارا في الحضارة الغربية عكس اليم والأخلاق التي بذر بذورها في تاريخ البشرية الأنبياء والمرسلون والمصلحون والعقلاء.

الطريق الذي سار عليه التطور العلمي والتقني في الحضارة المعاصرة اتجه نحو التضاد مع الطبيعة والبيئة والحاجات الفطرية إلى الإنسان. فهو لم بتكامل مع الطبيعة والبيئة والإنسان، مما هدد موارد طبيعية وحيوانية عديدة بالنفاد وأضر بالبيئة فلوثها وأنهكها وأخل بتوازنها، ووضع الكائن البشري في ظروف مكنية ومعاشية وصحية تتناقض مع روحه وصحته ونفسيته وفطرته ونموه العام. كل ذلك بسبب الاتجاه في تطوير العلمي والتقني الذي تحكمه أهداف العنف والربح والاستهلاك المادي (16).

وبعد تحليل دقيق لطبيعة تطول العلم في ظل الحضارة الإسلامية وفي حضارة العصر الحديث نقول:

لهذا يمكن القول: إن نمط التطور العلمي والتقني المعاصر يحمل كل خصائص الحضارة الأوروبية ويلبي أهدافها وحاجاتها ودوافعها، الأمر الذي كان سيجعل مسا هذا التطور مختلقاً لو قادته حضارات أخرى ذات أهداف ودوافع وحاجات وظروف مختلفة عن تلك التي تتسم بها الحضارة الأوروبية.

إذا كان هذا صحيحاً فإن التعاطي مع العلوم والتقنيات التي تطورت في الغرب لن يأخذ شكل النقل كما يتصور بعضهم، ولن يأخذ كل شيء كما يتصور بعضهم الأخر كما لن تستطيع حضارتنا أن تواصل النسق الفرنجي نفسه أو المسار نفسه، وإنما لا مفر لها من أن ضع العلوم والتقنيات ضمن خصوصية نسقها الحضاري لتلبي دوافعه ومصالحه وحاجاته والأولويات والاتجاه العام ومن ثم تتحدد عملية التفاعل مع ما أنجزته الحضارة الأوروبية في مختلف قوانين العلوم والتكنولوجيا (17).

هذا بالنسبة للعلم والتقنية، أما العلوم الإنسانية، فموضوعها أكثر خطورة في تفاصيله، لأنها قد تحركت في الاتجاهات التي رسمتها لها الفلسفة المادية، لتحقق أهدافها ولتركز على مبادئها في مظاهر الحياة المتنوعة.

ولكن من السذاجة أن ينكر إنسان المناهج العلمية لتلك العلوم الإنسانية وأن يدعو إلى مقاطعة نتائجها الهائلة في المجتمعات البشرية.

ومن هنا فإنه ليس من مهمة المنهج التغييري الإسلامي أن يضع جداراً أمام عبور تلك العلوم إلى حياتنا، وإنما مهمته أن يقودها في ظل مذهبية الإسلام الشاملة ليعيد إليها توازنها، ولينتشلها من الجانب المادي في العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية في البلاد الإسلامية.

أي إن مهمتنا التغييرية في البناء الجديد أن نحوِّل مناهج الفلسفات والعلوم الإنسانية الغربية إلى مناهج فلسفية إسلامية، وعلوم إنسانية الإسلامي وعلم الاقتصاد الإسلامي، وعلم الساسة الإسلامي، وعلم النفس الإسلامي، وعلم التربية الإسلامي وهكذا.

ويوم أن تتم هذه العملية الحضارية الكبرى في العالم سيبدأ تاريخ الإنسان بالتحول الحقيقي، وستنتشل الحضارة من واقعها المادي المأساوي.

وسنخدم البشرية يومئذ خدمة عظيمة، أهم من أن نقدم إليها اختراعات جديدة أو تقنيات مفيدة. إذ نحن في هذه الحالة - مهما أسرعنا في السير - لن نستطيع أن نقدم إليها أكثر مما تقدمه الحضارة المادية، بل لا نستطيع على الأرجح أن نقدم إليها الآن وفي القرن القابل شيئاً ذا وزن تاريخي كبير في ضوء السقوط الحضاري الذي يمر به العالم الإسلامي. والإنسانية بقوة مذهبيتنا الربانية الإسلامية الإنسانية الشاملة في الترابط الكوني.

ولن يستطيع أن يتحول تاريخنا إلى مواقع الأستاذية في هذا المجال، للحضارة الغربية المادية الحاضرة، ما لم نبدأ بعملية تغيير حضاري إسلامي شامل في عالمنا الإسلامي الكبير

==============

# المذهبية الإسلامية ودور الإنسان في التغيير

إن إبراز دور الإنسان في منهج التغيير، بدرجة كافية، غدا من الضرورات الملحة جداً، ذلك لأن الذهبية الإسلامية جعلت الإنسان مدار الحركة الحضارية، وأوكلت إليه مهمة التغيير والبناء، وكلفته بتحقيق الخلافة الإلهية على هذه الأرض، وإدارة الصراعات المختلفة التي تجري فوقها، واستغلال ما على ظاهرها واستخراج ما باطنها، مستفيداً من الزمن الإنتاج الحضارة.

أما أنه خليفة الله في أرضه فبصريح قوله تعالى:

((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْض