الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

20
ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﻭﺃﺛﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﻤﺴﻠﻢ ﺳﻤﺎﺣﺔ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺣﻤﺪ ﺍﻟﺨﻠﻴﻠﻲ * ﺗﻤﻬﻴﺪ * ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺧﻠﻴﻔﺔ ﺍﷲ ﻓﻲ ﺃﺭﺿﻪ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻤﺮﺳﻠﻴﻦ * ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﺑ * ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺍﺕ ﻟﻴﺴﺖ ﺧﺎﺿﻌﺔ ﻟﻌﻘﻮﻝ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﺗﺠﺎﺭﺑﻬﻢ * ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﺍﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﺗﻨﺴﻖ ﺑﻴﻦ ﺟﻮﺍﻧﺐ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ(ﺍﻹﺿﻄﺮﺍﺭﻳﺔ ﻭﺍﻹﺧﺘﻴﺎﺭﻳﺔ) * ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﺍﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﺗﻮﺍﺋﻢ ﺑﻴﻦ ﺣﺮﻛﺘﻲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ * ﻣﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺑﺔ؟ * ﺃﻓﻌﺎﻝ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﻋﺎﺩﺍﺗﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﺘﺤﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﻋﺒﺎﺩﺓ * ﻳﺴﺮ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺍﺕ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﺤﺎﺟﺔ ﺇﻟﻴﻬﺎ * ﺗﻴﺴﻴﺮ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﻣﻤﺎ ﻳﺪﻋﻮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺒﺮﺓ ﻭﺍﻟﺸﻜﺮ * ﺍﻟﻐﺎﻳـﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒــﺎﺩﺓ ﺍﻟﺘﻘــــﻮﻯ * ﻟﻠﺘﻘـــﻮﻯ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﻭﺍﺳﻊ ﺟﺪﺍ(ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﺼﻼﺓ) * ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ * ﺃﺛﺮ ﺍﻟﺼﻼﺓ * ﺃﺛﺮ ﺍﻹﺳﺘﻌﺎﺫﺓ ﻭﺍﻟﺒﺴﻤﻠﺔ * ﻣﻌﺎﻳﺸﺔ ﺍﻟﻤﺼﻠﻲ ﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﺍﻟﻔﺎﺗﺤﺔ(ﺃﺛﺮ ﺍﻟﺰﻛﺎﺓ) * ﺃﺛﺮ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺍﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ * ﺃﺛﺮ ﺍﻟﺼﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ * ﺃﺛـــــﺮ ﺍﻟﺤـــــــﺞ * ﺍﻟﺨﺎﺗﻤﺔ

Upload: brahim

Post on 16-Nov-2014

952 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

Page 1: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

العبادة وأثرها في حياة المسلم سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

* تمهيد

* اإلنسان خليفة اهللا في أرضه

* العبادة بعث إليها جميع المرسلين

* العبادات ليست خاضعة لعقول الناس وتجاربهم

* العبادة الصحيحة تنسق بين جوانب حياة اإلنسان المختلفة

* العبادة الصحيحة توائم بين حركتي اإلنسان (اإلضطرارية واإلختيارية)

* ما هي العبادة المطلوبة؟

* أفعال اإلنسان وعاداته يمكن أن تتحول إلى عبادة

* يسر العبادات بحسب الحاجة إليها

* تيسير األسباب مما يدعو إلى العبرة والشكر

* الغايـة من العبــادة التقــــوى

* للتقـــوى مفهوم واسع جدا

* أهمية العبادة (أهمية الصالة)

* أثر الصالة * أثر اإلستعاذة والبسملة

* معايشة المصلي لمعاني سورة الفاتحة * أثر العبادات األخرى على اإلنسان (أثر الزكاة)

* أثر الصوم على اإلنسان

* أثـــــر الحـــــــج

* الخاتمة

Page 2: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

تمهيد :

بسم اهللا الرحمن الرحيمالحمد هللا الذي شرف العابدين بعبادته ، وميز الطائعين بطاعته ، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه ، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه ، وأومن به وأتوكل عليه . من يهده اهللا فال مضل له ، ومن

يضلل فال هادي له ..وأشهد أال إله إال اهللا وحده ال شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله اهللا رحمة للعالمين ، وسراجا للمهتدين ، وإماما للمتقين ، فبلغ الرسالة وأدى األمانة ونصح األمة وكشف الغمة .. صلوات اهللا وسالمه عليه

وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين .. أما بعد :فالسالم عليكم أيها اإلخوة المؤمنون ورحمة اهللا وبركاته ، أحييكم بهذه التحية الجليلة ، تحية الخير والمرحمة ، التي اختارها اهللا سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين في الدنيا وجعلها شعارا لهم يوم يلقونه .. وأهنئكم بهذا اإلجتماع في بيت من بيوت اهللا حيث تتصل القلوب فيه ببارئها وتناجي فيه األرواح خالقها .ولقد سررت بهذه النخبة الطيبة المجتمعة في هذا المكان الطيب ، ورأيت أنسب ما يكون أن أتحدث عن

(العبادة في اإلسالم) .إن موضوع العبادة في اإلسالم متشعب فله مجاالت شتى من حيث أحكام هذه العبادات ، وله مباحث واسعة من حيث معطياتها ، فإن لكل عبادة من هذه العبادات عطاءا مدرارا . والعبادة التي فرضها اهللا سبحانه وتعالى على

اإلنسان فيها قوام حياته ، ذلك ألن اإلنسان ميزه اهللا سبحانه وتعالى عن سائر الخلق بما أعطاه من المواهب الحسية والمعنوية ، ومكن له في هذه األرض ، فحياته فيها تختلف عن حياة أي كائن آخر ، ولذلك تدركون جميعا أن اإلنسان

استطاع بما أعطاه اهللا عز وجل من هبات أن يسخر سائر الكائنات الموجودة في هذه األرض لمصلحته بينما هذه الكائنات لمتستطع أن تسخر اإلنسان لمصلحتها مع ما آتى اهللا سبحانه وتعالى بعضها من طاقات وقوى ، فكثير من الحيوانات تفوق

اإلنسان من حيث القوى الجسدية ، ولكن مع ذلك ما استطاعت أن تسخر اإلنسان ، بينما اإلنسان هو الذي استطاع أن يسخرها.

وهذه الكائنات المختلفة ما استطاعت أن تستغل منافع هذه األرض كاستغالل اإلنسان لها ، فاإلنسان هو الذي استخرج معادناألرض من مكامنها ، واإلنسان هو الذي استطاع أن يسخر طبيعة األرض وطبيعة الكون من حول األرض لمصلحته ، وهوالذي شاء اهللا سبحانه وتعالى أن يجعل من بين سائر الكائنات الموجودة في هذه األرض مطبوعا بطابع التطور واإلرتقاء من

حال إلى أخرى.

فاإلنسان في هذا اليوم يختلف عن اإلنسان فيما قبله ، فالناس فيما تقدم من القرون كانوا يسخرون الوسائل البدائية لمصالحهم، بينما إنسان هذا اليوم تطور حتى استطاع أن يسخر الكهرباء للمنافع المتنوعة له ، فاستطاع أن يسخرها في التعمير وأن

يسخرها في التدمير ، واستطاع أن يسخرها في التبريد وأن يسخرها في التسخين ، وأن يسخرها في التحريك وأن يسخرها في اإلسكان ... وهكذا.

واستطاع اإلنسان في هذا العصر أن يقطع المسافات الطويلة في مدد قصيرة ، كل ذلك راجع إلى طبيعة التطور الكامنة في

ي منا بن فطرته ، فتمييزه بين سائر المخلوقات يدل على مكانته ، تلكم المكانة التي أخبر اهللا تعالى بها في قوله: (( ولقد كر

يال )) { اإلسراء/70 }.

ن خلقنا تفض ير مملناهم على كث وفض

يبات ن الط ي البر والبحر ورزقناهم م

آدم وحملناهم ف

Page 3: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

اإلنسان خليفة اهللا في أرضه :

واإلنسان الذي أعطاه اهللا هذه الكرامة واختصه بها من بين سائر المخلوقات ، فكان أرفع منها شأنا وأجل منها منزال .. أوتيما أوتيه من تلك المواهب ألن اهللا تعالى اختصه بمنصب في هذه األرض ، ذلكم المنصب هو "الخالفة" التي أخبر اهللا بها

في قوله سبحانه : (( وإذ قال ربك للمالئكة إن جاعل في األرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال إني أعلم ما ال تعلمون )) ، { البقرة/30 }.فاإلنسان إذا يتحمل أمانة ... هذه األمانة هي

ف هو اهللا سبحانه وتعالى ، وإذا فعلى اإلنسان أن يكون موصوال باهللاف ؟! .. المستخل

الخالفة في هذه األرض .ومن المستخل

سبحانه .والصلة باهللا تتم بأمرين :أولهما :العقيدة الصحيحةوثانيهما : العمل الصالحفإن اإلنسان إن لم يكن معتقدا اإلعتقاد الصحيح ال يمكنه أن يقوم بواجبات هذه الخالفة ... ذلكم ألن اإلنسان إن لم يكن معتقده صحيحا كان بمثابة الحيوان األعجم

ال يرى قيمة لهذه الحياة إال بقدر ما يكسب فيها من منافع نفسه .. وال يعرف امتدادا لهذه الحياة إال بقدر هذه المرحلة القصيرة المحدودة بين المبدأ والمصير ، ولكنه إن آمن اإليمان الصحيح الذي فرضه اهللا سبحانه وتعالى على الخلق ، إيمانا

باهللا ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر وبالقدر خيره وشره من اهللا كان هذا العبد موصوال بربه .. ولكن هذا اإليمان سرعان ما يتأثر بمؤثرات مختلفة ، فطبيعة النفس اإلنسانية طبيعة فيها الشره واألنانية والرغبة في اإلستئثار ، إلى ما وراء

ذلك من العادات السيئة التي يكسبها اإلنسان من خالل احتكاكه بالناس ، وما يقع بينه وبينهم من الخالفات والمنازعات ، فالتغلب على ذلك كله أمر صعب ، وذبالة اإليمان التي تشع في نفس اإلنسان سرعان ما تنطفئ عندما تغشاها هذه الغواشي وتعصف بنورها هذه الطبائع ، لذلك كان اإلنسان بحاجة إلى أن يكون موصوال باهللا سبحانه وتعالى أيضا من خالل عمله ، وذلك من خالل القيام بهذه العبادات المختلفة التي فرضها اهللا سبحانه وتعالى على اإلنسان إذ هي بمثابة الوقود لهذه الشعلة .

وبأداء هذه العبادات يمكن لهذا اإلنسان أن ينظم حياته كلها فتكون متناسقة ال يطغى جانب منها على جانب ، وال يؤثر

مصلحة نفسه على مصلحة غيره .

العبادة بعث إليها جميع المرسلين :

إن العبادة التي جعلها اهللا سبحانه وتعالى صلة بينه وبين خلقه ، وجعل فيها غذاء لألرواح والقلوب ، قد بعث للدعوة إليها جميع المرسلين ، فما من نبي أرسله اهللا سبحانه وتعالى إلى قومه إال وكانت دعوته بينهم أن يفردوا اهللا تعالى بالعبادة وأال ال أنا فاعبدون

له إ

أنه ال إ

ليه

ال نوحي إ

سول إ ك من ر

يشركوا مع اهللا أحدا .. يقول اهللا سبحانه وتعالى: )) وما أرسلنا من قبل

)){ األنبياء ، 25} وقد أخبر اهللا تعالى عن نوح وعن هود وعن صالح وعن شعيب عليهم السالم أنهم قالوا لقومهم: (( اعبدوا اهللا ما لكم من إله غيره )) .

وحكى عن عبده المسيح عليه السالم أنه قال : (( اعبدوا اهللا ربي وربكم )) { المائدة/117 }. وبين سبحانه أن الغاية من

)) {الذاريات /56} .يعبدون

ال ل

نس إ

خلق اإلنسان والجن هي العبادة ، فقد قال عز من قائل : (( وما خلقت الجن واإل

Page 4: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

العبادات ليست خاضعة لعقول الناس وتجاربهم :

لم يكل الخالق سبحانه وتعالى أمر العبادات إلى الناس أنفسهم ، فيعبدوا اهللا كما تملي عليهم عقولهم وأفكارهم ، وإنما جعل أمر العبادة أمرا غير خاضع للتجارب وال للنظريات ، فهو أمر خاص بتوجيه اهللا سبحانه وتعالى .. ألن العقول مهما

استنارت ، واألفكار مهما تطورت ، والبصائر مهما تفتحت فإنها ال تستطيع أن ترسم الطريق الصحيح لعبادة اهللا سبحانه وتعالى وإنما اهللا سبحانه وتعالى هو الذي يهدينا إلى عبادته عز وجل.والعبادة – بجانب كونها امتثاال من العبد لربه سبحانه وتعالى ، وصلة بين العبد وخالقه – هي رباط بين الفرد ومجتمعه ، ومع ذلك كله هي استجابة لمطلب ملح ، ونداء متتابع من أعماق نفس اإلنسان ، فإن كل أحد يشعر بالخواء الروحي والفراغ الفكري إذا لم يعبد اهللا سبحانه وتعالى .. ولذلك فإن الناس الذين لم يتلقوا طريقة العبادة من الوحي هاموا في هذا األمر واتبعوا أهواءهم فسلكوا طرائق قددا ، فمنهم من صار

يعبد الظواهر الكونية الطبيعية ، ومنهم من صار يعبد القوى الروحانية الخفية ، ومنهم من صار يعبد أنواعا من المخلوقات الظاهرة .. ومنهم .. ومنهم ... وفي هذا كله ما يدلنا على أن كل أحد يشعر بالضرورة الملحة ، والحاجة التي ال تقف عند حد إلى العبادة .. ألجل هذا أدرك الناس ضرورة العبادة من حيث أنهم أدركوا أن وراء هذا العالم قوة غيبية تهيمن عليه ، وأدركوا ضرورة اإلتصال بها فأخذوا يبحثون عن طرق العبادة ، وحاول بعضهم أن يتصل بهذه القوة الغيبية بطريقة أو

بأخرى .. فمنهم من أتخذ الوسائط إلى تلك القوة والظواهر الكونية ، ومنهم من اتخذ الوسائط إليها القوى الطبيعية ، ومنهم من اتخذ الوسائط إليها القوى الروحانية الخفية .. وكل منهم لسان حاله يقول : (( ما نعبدهم إال ليقربونا إلى اهللا زلفى ))

{ الزمر/3 }.

ومن ذلك نتبين أن العبادة الصحيحة ال يهتدى إليها بالفكر البشري و ال بالتجربة وإنما يهتدى إليها بوحي من اهللا سبحانه ، كما أنه يتبين أن اإلنسان ولو تفتحت له آفاق المعرفة ، وتفنن في طرائق الفلسفة وبلغ أوجه في التطور ال بد له من الدين ،

فإن الدين كما قيل ضروري للسعادة والنظام.

العبادة الصحيحة تنسق بين جوانب حياة اإلنسان المختلفة :

لقد جعل اهللا سبحانه وتعالى في هذا اإلنسان خصائص وأشياء تجعل من حياته مزيجا من تفاعالت وتداخالت مختلفة الجوانب متعددة الظواهر شديدة التأثير فيه وفي من حوله .. وذلك ألن اإلنسان يجمع بين أشياء قد يكون بينها شيء من التضاد واإلختالف ، فهو يجمع ما بين الروح والجسد ، وهو يجمع ما بين العقل والوجدان وهو يجمع ما بين العواطف

والضمير ولكل من ذلك مطالب ودوافع.

وال يستطيع اإلنسان أن ينسق ما بين هذه المطالب ، وما بين هذه الدوافع وأن يجعلها جميعا تسير في الطريق الموصل إلى خير الدنيا وسعادة اآلخرة إال بالعبادة الصحيحة لخالقه وبارئه سبحانه وتعالى التي من خاللها يستعلي على نزوات نفسه ورغباتها ،وباإليمان الصحيح الراسخ الذي يتحكم في طاقاته المختلفة حتى تتسخر لما فيه خير هذا اإلنسان في عاجلته

وآجلته ،ولما فيه مصلحة بني جنسه أيضا الدنيا واآلخرة .

العبادة الصحيحة توائم بين حركتي اإلنسان (اإلضطرارية واإلختيارية)

لهذا اإلنسان نوعان من الحركات :

أولهما : حركته الفطرية اإلضطرارية . وثانيهما : حركته الكسبية اإلختيارية .

Page 5: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

وبالعبادة الصحيحة- وهي التي تؤدى كما شرع اهللا سبحانه وتعالى يتم التواؤم بين حركتيه الفطرية والكسبية فالعبادة هي التي تنسق المعاملة بين الحركتين فإن اإلنسان يتحرك تحركا اضطراريا مستمرا بحسب سنة اهللا تعالى في خلقه ، هذا

التحرك ال فكاك له عنه ، وال مخلص له منه .. كتحرك النفس ، وتحرك النبض ، وما وراء ذلك من الحركات التي ال يمكنهأن يسكنها .. وهناك حركات إختيارية يتحركها اإلنسان في إطار ما أعطاه اهللا سبحانه وتعالى من قوة وما أواله من اختيار ،

فبالعبادة يكون التواؤم بين الحركتين ، وكما أن بالعبادة يتواءم تحرك هذا الكون الذي يسبح بحمد اهللا ويسبح لجالل اهللا .

ما )) { سورة الجمعة/1} وقال سبحانه: (( سبح هللا

ي األرض

وما ف

ماوات ي الس

ما ف

يقول اهللا سبحانه وتعالى: (( يسبح هللابع واألرض ومن ماوات الس )) {سورة الحشر/1 ، الصف/1} وقال عز وجل: (( تسبح له الس

ي األرض

وما ف

ماوات ي الس

ف

يما غفورا )) {سورة اإلسراء/44}. ويقول عز من نه كان حل

ن ال تفقهون تسبيحهم إ

ال يسبح بحمده ولـك

ن من شيء إ

يهن وإ

ف

جر والدواب مس والقمر والنجوم والجبال والش والش

ي األرض ومن ف

ماوات ي الس

قائل : (( ألم تر أن اهللا يسجد له من ف

العذاب )) {الحج/18}. ير حق عليه

ن الناس وكث ير م

وكث

أما إذا شذ اإلنسان فلم يعبد اهللا تعالى حق العبادة على ما يحب ربنا ويرضى حصل نشاز وتصادم بين حركتيه الفطرية

اإلضطرارية والكسبية اإلختيارية ، وأيضا سيكون شاذا عن الكون الذي يجري في سنن واحد، والذي جعله اهللا خليفة فيه، إذكيف يحصل الوفاق بين كون يؤمن باهللا سبحانه وتعالى ويخضع ساجدا لجالل اهللا رب العالمين ويسبح بحمد اهللا وبين إنسان

يأبى ذلك ويأنف من عبادة اهللا ويستكبر استكبارا .. إن الوفاق والتناسق مستحيالن قطعا في هذه الحال.وذلك على العكس تماما من أولئك الذين يعبدون اهللا حق عبادته ويسجدون له سبحانه ويمتثلون أوامره ويجتنبون نواهيه فإنهم يسيرون وفق

النظام الصحيح الذي يسير فيه هذا الكون بأسره .. ألنهم أدركوا غاية وجودهم في الحياة ومآلهم بعدها ، وشعروا بما عليه من واجب الشكر هللا عز وجل ، الذي سخر هذا الكون لمصلحة وخير هذا اإلنسان ، الذي ما من خلية فيه ، وال ذرة في هذا

الكون وال أقل من ذلك من جزئيات إال وهي ألسن تسبح بحمد اهللا وتعلن اإلنقياد ألمره والتسليم لقضائه.وهذا أمر يدركه العارفون باهللا ، وقد تحدثوا عن ذلك قبل أن تكتشف هذه الخاليا وما تنطوي عليه ... لنسمع أحد العارفين باهللا عز وجل وهو

اإلمام المحقق سعيد بن خلفان الخليلي رحمه اهللا ( من علماء القرن الثالث عشر الهجري ) يقول:أعاين تسبيحي بنـــــور ألف من غريــب أغـــانويهدى إلى

ــــه =إذا ألف

لسانــيوكل لسان أجتلــــي من لغات

جنانـــي =فأشهـد مني ألــف ألــف

عجيبـة = يقصــر عـن إحصائها معانيوفي كل معنى ألف ألف

ألف من شتيت

سمعي بكل لغيــــــة = هــدى ألف

ه = عــن الحد الــعــد أمر مـنــــزوإال ففـوق

ميططـــران

الثقــــالنولم أذكر األعــداد إال نموذجـــا =كأنــي في أوصــاف

فهذا أمر يدركه من أخلص عبادته هللاوال تتعجــب إن عجبــت فإنهــا =حقائــــق صــدق ليــس بالهذيــان

يـفـنـى دونـه الملـــوان

العلي القدير ، يحس من أعماق نفسه أن كل ما ينطوي عليه جسمه يتجاوب معه في تسبيحه هللا سبحانه وتعالى ألن هذه هي الفطرة التي فطر اهللا الناس عليها.أما إذا امتنع المرء عن عبادة اهللا عز وجل أو أشرك غير اهللا في عبادته هللا سبحانه ، فإنه يحـرم من هذا الخير ويحال بينه وبين هذا اإلنسجام ، ولذلك فإن الذين ال يعبدون اهللا سبحانه يشعرون باضطراب النفس ،

وعدم اإلستقرار وتتناوبهم األمراض العصبية واألمراض النفسية نتيجة البعد عن ذكر اهللا تعالى .. يقول سبحانه: (( أال ن القلوب )) { الرعد/28 } ، وإذا كان اإلنسان قد أتي ما أوتي من الخيرات وبوئ هذا المنصب العظيم

كر اهللا تطمئ

بذ

قت له المنافع األرضية المختلفة وسخرت له المنافع الكونية المتعددة كما يدل على منصب الخالفة في هذه األرض ، وخل

ماوات ي الس

ا ف ر لكم م جميعا )) { البقرة/29 } ، وقوله: (( وسخ

ي األرض

ا ف ي خلق لكم م

ذلك قول اهللا تعالى: (( هو الذ

نه )) { الجاثية/13 } فإنــه حري بهذا اإلنسان أن يكون عابدا لربه وذلك بأن يتبع منهج اهللا سبحانه جميعا م

ي األرضوما ف

وتعالى فيكون إماما للعابدين في هذا الكون .. فالكون كله سخره اهللا تعالى لإلنسان وهو يعبد اهللا فكيف بهذا اإلنسان الذي أوتي هذه النعمة العظيمة ،

Page 6: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

أليس هو أحرى أن يكون أحرص على عبادة اهللا من غيره وقد خلق ألجلها كما يدل على ذلك قوله عز من قائل: (( وما ين ))

المت

ة اق ذو القو ز ن اهللا هو الر

إ

زق وما أريد أن يطعمون ما أريد منهم من ر

يعبدون

ال ل

نس إ

خلقت الجن واإل

{ الذاريات/56-58 }.وإذا فالمنافع الكونية خلقها اهللا سبحانه وتعالى لإلنسان وخلق اإلنسان للعبادة فعلينا أن نعبد اهللا سبحانهوتعالى كما افترض علينا وأن نفرده بعبادتنا وأن نبتغي بها ما عنده ، وأال نشرك فيها أحدا من خلقه فال نشرك فيه هوى نفوسنا وال نشرك فيها هوى أحد غيرنا ، وال نشرك فيها األوهام وال نشرك فيها الشياطين ، وال نشرك فيها الطواغيت ،

وإنما علينا أن نعبد اهللا سبحانه وتعالى وحده مخلصين له الدين. وبذلك كله يحصل التوافق والتواؤم لدى كل منا ما بين حركتيه اإلضطرارية واإلختيارية أو بعبارة أخرى الفطرية والكسبية ، وتواؤم أيضا ما بين حركة العبد منا وحركة هذا

الكون الواسع األرجاء المترامي األطراف.

ما هي العبادة المطلوبة؟ :

لكن ما هي هذه العبادة المطلوبة من اإلنسان ؟!

العبادة المطلوبة من اإلنسان هي الخضوع المطلق والشعور بالحاجة والفقر إلى من بيد ملكوت كل شيء واإلستيقان أن صاحب هذا السلطان العظيم هو الذي يدبر كل شيء فلذلك يشعر اإلنسان من أعماق قلبه باإلفتقار إليه ، هذه هي روح

العبادة .. واألعمال المختلفة إنما هي ترجمة لهذه العقيدة الصحيحة التي هي متمكنة راسخة في نفس العابد. صين له الدين )) { البينة/5 }.

يعبدوا اهللا مخل

ال ل

يقول اهللا عز وجل: (( وما أمروا إ

فال بد من إخالص الدين هللا سبحانه وتعالى ، وما أمروا إال ليعبدوا اهللا مخلصين له الدين فالعبادة هي الخضوع المطلق مع

الشعور بالحاجة واإلفتقار إلى المعبود الذي بيده كل شيء والذي ال يعجزه شيء في السماوات واألرض.

أفعال اإلنسان وعاداته يمكن أن تتحول إلى عبادة :

لهذا اإلنسان أفعال وعادات عديدة متنوعة ، منها ما يختص بجانب الفعل ومنها ما يختص بجانب الترك ، ويمكن أن يحول اإلنسان أفعاله وعاداته إلى عبادة هللا عز وجل يؤجره عليها.

وعلى ذلك فجميع األعمال الصالحة داخلة في ضمن العبادة ، ولذلك جاء في حديث رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم ما يدل

على أن العبد يؤجر حتى على األمور العادية التي يراها تلبية لحاجته واستجابة لضرورته ، فقد جاء في الحديث عن الرسول صلى اهللا عليه وسلم: (( في بضع أحدكم صدقة ، قيل له يا رسول اهللا أيصيب أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: أرأيتم أن

لو أصابها في حرام ألم يكن يؤزر؟ قالوا: بلى .. قال: كذلك إن وضعها في الحالل فهو يــؤجر )).

هكذا بين لنا رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم أن هذه األعمال العادية مع خلوص النية وصفاء الطوية تكون من ضمن العبادات.

وجاء في الحديث: (( في كل ذي كبد رطبة أجر )) وفي رواية: (( في كل ذي كبد حراء أجر )) فعمل الخير الذي يقدمه اإلنسان إلى اإلنسان أو الحيوان مع خلوص النية هللا سبحانه وتعالى وصفاء السريرة يؤجر عليه العبد ويكون في ميزان عباداته ، ولقد شاءت حكمة اهللا سبحانه وتعالى أن تكون هذه العبادات لها أعمال ظاهرة تجسدها ، هذه األعمال الظاهرة

الكبرى هي أمهات العبادات وال بد من كل ، فإن اإلنسان بحاجة ملحة إليها إذ بدونها ال يستقيم إعوجاجه أبدا.

Page 7: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

يسر العبادات بحسب الحاجة إليها :

اقتضت حكمة اهللا عز وجل أن يكون يسر هذه العبادات التي يمارسها اإلنسان بحسب الحاجة إليها ، فكل ما كانت الحاجة إليه أدعى كانت ممارسته أيسر وأهون .. ألن في هذه العبادات تغذية للروح وكما أن غذاء الجسد يسره اهللا سبحانه وتعالى بحسب حاجة الجسد إليه كذلك غذاء الروح يسره اهللا سبحانه وتعالى بحسب حاجة الروح إليه .. فلننظر إلى غذاء الجسد .. الهواء مثال ضروري لإلنسان ، وهو مضطر إليه في أي وقت من األوقات وقد يسره اهللا سبحانه وتعالى بدون عناء وبدون مشقة وبدون مغرم .. يتنفس اإلنسان تنفسا طبيعيا في جو مالئم لطبيعته في أي وقت من األوقات ، في حالة يقظته وفي حالةنومه ، وفي حالة حركته وفي حالة سكونه ، في حالة سيره وفي حالة وقوفه ، في حالة صحته وفي حالة مرضه .. في كل

وقت من األوقات ألن هذا الهواء لو انحبس فيه فترة وجيزة النخنق اإلنسان ، فالهواء البد منه ، فهو يدخل إلى داخل الخياشيم والفم وينزل إلى أعماق الجسم ثم يصعد منه بعد أخذ الجسم حاجته منه فحاجة اإلنسان إلى هذا الغذاء حاجة ملحة

في كل لحظة ، وال يتكلف اإلنسان في مقابل هذه الحاجة ثمنا وال عناء ، ثم يأتي بعد ذلك الماء فالحاجة إليه تأتي بعد الحاجةإلى الهواء ألنه ال يحتاج إلى استعمال الماء في كل لحظة كما يحتاج إلى الهواء ، وقد جعل اهللا سبحانه وتعالى يسره أقل من

يسر الهواء ولكنه ميسر فقليال ما يكلف الثمن ، ويكلف شيئا من العناء.

ثم تأتي بعد ذلك الحاجة إلى الطعام فكان يسر الطعام بحس حاجة الجسم إليه .. الجسم بحاجة إلى الطعام ولكن حاجته إلى الطعام ليست كحاجته إلى الماء فضال عن أن تكون حاجته إليه كحاجته إلى الهواء فلذلك كان يسر الطعام أقل من يسر الماء فيحتاج الطعام إلى عناء وإعداد ويحتاج الطعام إلى ثمن .. الطعام يحتاج إلى غرس ويحتاج إلى تسميد ويحتاج إلى مراعاة

ثم يحتاج إلى جهد للحصاد .. ثم بعد ذلك كثير من الطعام يحتاج إلى الطبخ.

تيسير األسباب مما يدعو إلى العبرة والشكر :

أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا األرضلى طعامه

نسان إ

ومن حكمة اهللا سبحانه وتعالى أن جعل األسباب متوفرة: (( فلينظر اإل

نعامكم )) { عبس /32-24 }.

تاعا لكم وأل هة وأبا مق غلبا وفاك

يها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخال وحدائ

شقا فأنبتنا ف

فاألسباب حلقات متواصلة يتبع بعضها بعضا حتى يتيسر لإلنسان هذا الطعام. فرب زارع يزرع في أقاصي األرض إما في الشرق وإما في الغرب .. إما في أندونيسيا وإما في استراليا وإما في أمريكا ، ثم هذا الزرع يمر بمراحل .. مرحلة بعد

مرحلة حتى يحصد ، ثم بمراحل النقل بعد ذلك حتى يصل إلينا وننتفع به. هذه هي سنة اهللا في خلقه. فضال عما وراء ذلك من تدفق األنهار ونزول األمطار ووجود األسباب المختلفة .. أسباب الزرع التي هيأها اهللا سبحانه وتعالى ، وأسباب

الحصاد .. كل ذلك مما يدعو اإلنسان إلى اإلعتبار والتفكر ، ويدعوه إلى الحمد والشكر هللا سبحانه وتعالى على هذه النعم الجلى.

وبعد الطعام تأتي الحاجة إلى العالج وإلى الدواء ، وبما أن الحاجة إلى الدواء بعد الحاجة إلى الطعام كان أقل يسرا من

الطعام ألن الحاجة إليه أقل ، وهكذا كل ما كانت الحاجة إليه أدعى كان أيسر تناوال وأيسر استعماال.

وهكذا العبادات المتنوعة فإن اهللا سبحانه وتعالى يسرها لإلنسان بقدر الحاجة إليها .. ومن ذلك ذكر اهللا تعالى بالقلب كرنا واتبع

ع من أغفلنا قلبه عن ذ

وباللسان فإنه أيسر ما يكون ألن القلب الذي يغفل عن ذكر اهللا تعالى ال قيمة له: (( وال تط

هواه وكان أمره فرطا )) { الكهف/28 }.

كري )) { طه/14 } ذالة ل م الص

فذكر اهللا ميسر لإلنسان ، وقد جعل اهللا سبحانه وتعالى الصالة مشتملة على ذكره (( وأق

فجعل ممارستها أيسر من ممارسة غيرها من العبادات ألن الحاجة إليها أدعى ولذلك أمر اهللا تعالى بممارستها في اليوم والليلة خمس مرات.

وهكذا تأتي كل عبادة من العبادات المشروعة في اإلسالم أو باألحرى كل أم من أمهات العبادات المشروعة في اإلسالم في

مكانها المالئم بحسب النظام الرهيب الذي هيأه اهللا سبحانه وتعالى بحسب ما علمه من حاجة البشر.

Page 8: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

الغايـة من العبــادة التقــــوى :

لقد بين اهللا سبحانه وتعالى الحكمة من هذه العبادات التي فرضها على عباده والتي ندبهم إليها في قوله عز من قائل: (( يا كم لعلكم تتقون )). { البقرة/21 }.

ين من قبل

ي خلقكم والذ

أيها الناس اعبدوا ربكم الذ

فالعبادات كلها تغرس في اإلنسان روح التقوى ، ألن (لعل) في قوله: (( لعلكم )) بمعنى (كــي) على الصحيح ، ولذلك

لون )) شواهد متعددة في القرآن الكريم وشواهد في كالم العرب. فمن القرآن الكريم قوله تعالى في آيات كثيرة: (( لعلكم تعق

، و (( لعلكم تذكرون )) و (( لعلكم تتفكرون )) .. فهذه اآليات (لعل) فيها بمعنى (كــي) ، ومن الشواهد العربية في ذلك قول الشاعر:

وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا = نكف ووثــقـتـم لنا كل موثق

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم = كلمع سراب في المال متألــق

والدليل على أن (لعل) في البيت تعليلية قوله: ( ووثـقتم لنا كل موثق ) فإن ذلك ال يتفق مع حمل ( لعل ) على مجرد الترجي.

وكذلك قوله في البيت الثاني ( كانت عهودكم ) جعل ما تقدم من قولهم ( لعلنا نكف ) عهدا أي ( لنكف ).

كم لعلكم تتقون )) بمعنى لتتقوا أو لكي تتقوا ، فلعل

ين من قبل

ي خلقكم والذ

فإذا قوله تعالى: (( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذ

هنا كما قال كثير من علماء التفسير ومنهم اإلمام الطبري وغيره ، وعلماء العربية كقطرب وابن األنباري واآلخرين هي بمعنى (كــي) ، وهذا قول الكسائي والفراء أيضا

للتقـــوى مفهوم واسع جدا :

التقوى من أجمع الكلمات فهي وإن كانت من حيث مدلولها اللغوي ذات معنى سلبي فإنها من حيث المدلول الشرعي لها

معنى سلبـي ومعنى إيجابي.

فكلمة التقوى من حيث المدلول اللغوي بمعنى ( التجنب ) ، اتقيت الشيء بمعنى تجنبته. قال الشاعر:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه === فتناولته واتقتنا باليــد

( اتقتنا باليد ) أي تجنبتنا باليد ، ولكن من حيث المدلول الشرعي لها معنى سلبي ومعنى إيجابي ، فالمعنى السلبي ترك ما نهى اهللا عنه ، والمعنى اإليجابي فعل ما أمر اهللا به ألن في كال األمرين اتقاء سخط اهللا وعقوبته. وعلى ذلك فمفهوم التقوى

مفهوم واسع جدا فإنه يشمل ترك جميع المنهيات ، وفعل جميع المأمورات ، والتقيد بقيود الفضيلة ، واجتناب مهاوي الرذيلة.

وألجل ذلك كان مفهوم العبادة مفهوما عاما أوسع مما يتصوره الناس بكثير .. فالعبادة تعني الخضوع المطلق هللا سبحانه وتعالى في الفعل والترك ، في األخذ والعطاء ، في القبول والرفض ..هذه هي حقيقة العبادة وليست العبادة محصورة في

الصالة والزكاة والصوم والحج .. هذه هي أصول العبادات وأمهاتها إن أديت على الطريقة المشروعة التي أمر اهللا سبحانه وتعالى أن تـودى بها ..

وقد بين اهللا سبحانه وتعالى في مواضع متعددة من كتابه العزيز أن حقيقة التقوى وحقيقة العبادة ال تنحصر في أمهات

الفرائض وأصولها وإنما تتناول أعمال القلب وأعمال الجسد كله ، فبيـن لنا سبحانه أن العقيدة تدخل ي التقوى وأن أمور القلب تدخل في معنى التقوى فمن كانت عقيدته على إستقامة وعلى حجـة وبرهان من اهللا سبحانه وتعالى كان متـقيا هللا

Page 9: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

عز وجل بهذه العقيدة ، ومن انطوى قلبه على اإلخالص وحسن النية وسالمة الطوية كان متقيا هللا تعالى ، فإنه عز وجل نها من تقوى القلوب )) ( الحج/32 ). وقال سبحانه عندما تحدث عن البر وبين أن التقوى

فإ

ر اهللام شعائ يقول: (( ومن يعظ

ن البر من آمن باهللا واليوم والمغرب ولـك

بل المشرق

والبر ال يختلفان فهما بمعنى واحد قال: ((ليس البر أن تولوا وجوهكم ق

قاب ي الرين وف

لآئ والس

بيل ين وابن الس

ذوي القربى واليتامى والمساك

تاب والنبيين وآتى المال على حبه

والك

كة

ر والمآلئ

اآلخ

ين صدقوا ك الذ

اء وحين البأس أولـئ ر ي البأساء والض

ابرين ف ذا عاهدوا والص

م إ

هكاة والموفون بعهد الة وآتى الز وأقام الصك هم المتقون )) { البقرة/177 }.

وأولـئ

فهؤالء هم المتقون يجمعون بين العقيدة الصحيحة .. عقيدة اإليمان باهللا ، وعقيدة اإليمان بما أوجب اإليمان به من مالئكته ك هم المتقون )) حصر

وكتبه ورسله واليوم اآلخر ، وبجانب ذلك يترجمون هذه العقيدة بالعمل الصالح.وفي قوله: ((وأولـئ

للمتقين في هذا الصنف من الناس ألن المسنـــد والمسند إليه عرفا ووسـط بينهما ضمير الفصل ألجل تأكيد هذا الحصر ين اتقوا عند ربهم جنات تجري

لذكم ل

ك هم المتقون )).وقال سبحانه: (( قل أؤنبئكم بخير من ذل

ين صدقوا وأولـئ

ك الذ

((أولـئ

ر لنا ننا آمنا فاغف

ين يقولون ربنا إ

الذ

ن اهللا واهللا بصير بالعباد رة ورضوان م يها وأزواج مطه

ين ف

دها األنهار خال

من تحت

رين باألسحار )) ( آل عمران15 /17)) هؤالء ين والمستغف

قين والمنف

تين والقان

قاد ابرين والص نا عذاب النار الص

ذنوبنا وق

بكم رة من رلى مغف

هم المتقون ، وقد وعدهم اهللا سبحانه وتعالى جنة عرضها السماوات واألرض في قوله : ((وسارعوا إ

قونين ينف

ين )) ( آل عمران ( 133 ) ، ثم وصف هؤالء المتقين بقوله: ((الذ

لمتق

ماوات واألرض أعدت ل وجنة عرضها الس

ذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ين إ

ين والذ

الناس واهللا يحب المحسن

ين عن

مين الغيظ والعاف

اء والكاظ ر اء والض ر ي الس

ف

وا على ما فعلوا وهم يعلمون )) ( آل عمران 134 / ال اهللا ولم يصرر الذنوب إ

ذنوبهم ومن يغف

ذكروا اهللا فاستغفروا ل

.( 135

وإذا فتقوى اهللا تتناول كل ما فيه مرضاة اهللا سبحانه وتعالى ،في كل مايأتيه العبد وفي كل ما يذر .. فيعفو عمن ظلمه ، ويحسن إلى من أساء إليه ، ويعطي من منعه ،ويصل من قطعه..هذه هي صفات المتقين .وقد قال بعض العلماء (إن العبد اليصل إلى درجات المتقين حتى يكون بحيث لو استخرج ما في طوايا نفسه ووضع في طبق وطيف به على الناس لم يستحي

منه )،وقال بعضهم : ( إن التقوى أن يتزين في الباطن بالحق ،كما يتزين في الظاهر للخلق ).فتقوى اهللا سبحانه وتعالى تستدعي إرغام النفس على مكارهها ألجل التقرب إلى اهللا عز وجل ،وهذا يعني أن يكون اإلنسان حريصا كل الحرص علىأن يتقرب إلى اهللا سبحانه وتعالى بما تكرهه نفسه ،وبما يأباه طبعه ،فقد يكون اإلنسان في موقف النفس فيه تميل إلى االنتقام

والتشفي ولكن تقوى اهللا تحول بين العبد وبين إعطاء نفسه مناها .فقد روي عن زين العابدين رضي اهللا عنه أنه كان في مكان من بيته وجاءت إليه أمة بطبق فيه شواء وكان شديد الحرارة فوقع الطبق على طفل له ،ومات ذلك الطفل .فماذا كان منه ؟! .. قال :إن هذه األمة أصابها من الروع ما ال يسكنه إال العتق ..فاذهبي فأنت حرة لوجه اهللا سبحانه وتعالى ..هكذا

تكون رابطة الجأش ؛بحيث ال ينتقم وال يتشفى .. هكذا شأن من يحب أن يكون من المتقين الذين وعدهم اهللا سبحانه وتعالى بجنة عرضها السماوات واألرض .

وفي مقابل هذه القصة أذكر قصة أخرى ذكرها المؤرخ المصري الجبرتي في تاريخه وهي أن أحد حكام مصر كان له طفل

،وكان في يد أمة فوقع شيء من الخالف ما بين تلك األمة وأمة أخرى فإذا باألمة األخرى تركل األمة األخرى تركل هذه األمة وتصيب رجلها الطفل فاشتد حنق ذلك الحاكم وغضبه فقال لألمتين ولكل اإلماء اللواتي كن في ذلك المجلس : إن مات

طفلي هذا فسوف أقتلكن جميعا .فمات الطفل ،وأخذ جميع اإلماء الجانية والمجني عليها واإلماء اللواتي حضرن هناك وألقاهن في النيل ..أين الفارق بين سلوك زين العابدين الذي تأثر بخلق النبوة ..بخلق جده رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم

،وبين خلق هذا الجبار الذي يبطش بالمجني عليه فضال عن الجاني ،فاألمر هللا سبحانه وتعالى .

وعلى ذلك فتقوى اهللا سبحانه وتعالى تدفع اإلنسان إلى المسارعة إلى رضوان اهللا وإلى تجنب ما يسخطه ، وإلى حسن معاشرة جميع عباد اهللا ، وإلى أن يستعلي على رغبات نفسه ونزواتها ،وأن يحرص بأن يزن جميع ما يأتيه وما يذره

بموازين اهللا سبحانه وتعالى ،فما وجد من شيء فيه سخط اهللا تجنبه وابتعد عنه .هذه هي حقيقة تقوى اهللا سبحانه وتعالى ..فهي ليست ادعاء وإنما كما قال من قال : أن يزين العبد سريرته هللا سبحانه وتعالى كما يزين عالنيته للخلق .فيتقرب إلى اهللابتطهير نفسه أوال من أدرانها ثم يتقرب إلى اهللا بتزكية أعماله بحيث تكون أعماله كلها وفق أوامر اهللا سبحانه وقد روي في

الحديث عن الرسول صلى اهللا عليه وسلم ( من اتقى اهللا كفاه مؤونة الناس ، ومن اتقى الناس ولم يتق اهللا سلط اهللا عليه

Page 10: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

الناس وخذله ) .فمن اتقى اهللا كفاه اهللا سبحانه وتعالى مؤونة الناس ألنه آوى إلى ركن وثيق , آوى إلى حمى اهللا فلن يضيعه اهللا عز وجل ،ولذلك كان السلف الصالح يعتصمون بالتقوى ويتذرون بها ، فالخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي اهللا عنه كان يزود جنده الوصية بالتقوى ، وقد زود قائد جنده الذي بعث به إلى المعركة في أرض فارس ؛ تلكم الوصية التي يقول

فيها (( أوصيك ومن معك من األجناد بتقوى اهللا على كل حال فإن تقوى اهللا أفضل العدة في الحرب وأقوى المكيدة على العدو ، وأوصيك ومن معك من األجناد بأن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم هللا فإن عددنا ليس كعددهم وال عدتنا كعدتهم فإن استوينا في

المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإال ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا . واعلموا أن في سيركم عليكم من اهللا حفظة يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم وال تعملوا بمعاصي اهللا وأنتم في سبيل اهللا ، وال تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم كما سلط على بني إسرائيل إذ عملوا بمعاصي اهللا كفار المجوس فجاسوا خالل

الديار وكان وعدا مفعوال ، واسألوا اهللا العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم ، اسأل اهللا ذلك لي ولكم )) .

وقد جاء األمر بالتقوى في القرآن الكريم بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة ، ومن ذلك قول اهللا تبارك وتعالى في معرضين )) ( البقرة / 194 ) وفي معرض التشريع يقول سبحانه في خاتمة آية

الترغيب ((واتقوا اهللا واعلموا أن اهللا مع المتق

اهللا ربه )) ومن ذلك أيضا الدين األولى: ((واتقوا اهللا ويعلمكم اهللا )) (( البقرة 282 ) وفي خاتمة آية الدين الثانية ((وليتق

يم )) ( البقرة / 231 ) ، قوله سبحانه وتعالى في معرض تشريع أحكام الطالق : ((واتقوا اهللا واعلموا أن اهللا بكل شيء عل

بينة )) ( الطالق /1) ، ين بفاحشة مال أن يأت

هن وال يخرجن إ

وقوله عز وجل : ((واتقوا اهللا ربكم ال تخرجوهن من بيوت

وجاء األمر بتقوى اهللا والوعد على تقوى اهللا في مواضع متعددة من سورة الطالق في معرض بيان أحكام الطالق وما يترتب عليه ، وفي هذا ما يدل على أن اإلنسان مطالب بأن يراقب اهللا سبحانه وتعالى في كل حال ، وأن يتمسك بتقوى اهللا في كل ما يأتيه وما يذره مما كان بينه وبين ربه ، أو كان بينه وبين خلق اهللا سبحانه .. بل إن الحق جل وعال يأمر بتقواه

في معرض بيان إتيان الرجل ألهله ، حتى يكون مصطحبا لتقوى اهللا عز وجل في تلك الحالة مستشعرا الخوف من اهللا فال ئتم

سآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى ش

يخالف أوامره وال يتعدى حدوده فيما حده له ، فإن اهللا سبحانه وتعالى بعدما قال ((ن

ين )) (البقرة /194 ) . ر المؤمن القوه وبش وقدموا ألنفسكم )) قال : ((واتقوا اهللا واعلموا أنكم م

وقد بين اهللا سبحانه وتعالى أن التقوى فيها الخالص من شدائد الدنيا كما أنها سبب للخالص من شدائد اآلخرة ، فقد قال عز اهللا يجعل له

اهللا يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث ال يحتسب )) ( الطالق /2 ) وقال : ((ومن يتق

من قائل : ((ومن يتق

من أمره يسرا )) ( الطالق /4 ) ، وأمر سبحانه وتعالى بتقواه في معرض األمر بالجهاد وبشر عباده المتقين بمعيته لهم فيين )) ( البقرة / 194 ) .

قوله ((واتقوا اهللا واعلموا أن اهللا مع المتق

وفي هذا كله ما يدلنا على أهمية تقوى اهللا سبحانه وتعالى في السريرة وفي العالنية وفي جميع األحوال .

أهمية العبادة (أهمية الصالة) :

بعدما تعرضنا للكالم عن العبادة إجماال ننتقل إلى أمهات العبادات التي هي األركان األربعة بعد الركن األول وهو عقيدة التوحيد, وما لهذه األمهات واألركان من أثر نفسي واجتماعي .

وأول هذه األركان ((الصالة )) . ذلكم الركن العظيم الذي نوه به القرآن الكريم في غير موضع ، وحض عليه الرسول

صلى اهللا عليه وسلم ودل القرآن ودلت سنة رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم على أن هذا الركن العظيم هو سنام األعمال .....

فجميع األعمال البدنية تتقدمها الصالة ، ولذلك نجد الصالة تأتي في كتاب اهللا بعد العقيدة مباشرة ؛ فاهللا سبحانه وتعالى

قون )) { البقرة ا رزقناهم ينف الة ومم يمون الص

ين يؤمنون بالغيب ويق

ين الذ

هدى للمتق

يه

تاب ال ريب ف

ك الك

يقول : ((الم ذل

نما 1/3 } ، فبعدما ذكر اإليمان بالغيب ذكر الصالة ألنها المتقدمة على جميع األعمال ، ويقول اهللا تبارك وتعالى: (( إ

الة ومما يمون الصين يق

لون الذ يمانا وعلى ربهم يتوك

يت عليهم آياته زادتهم إ

ذا تل

ر اهللا وجلت قلوبهم وإ

ذا ذك

ين إ

المؤمنون الذ

رة ورزق كريم )) ( األنفال 2/4 )ك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغف

قون أولـئ

رزقناهم ينف

Page 11: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

، بعدما ذكر اإليمان الذي هو العقيدة الصحيحة الباعثة على خشية اهللا سبحانه وتعالى ومراقبته ذكر أهم األعمال وهي ين هم

عون والذ

هم خاش

ي صالت

ين هم ف

الصالة . يقول اهللا سبحانه وتعالى: ((بسم اهللا الرحمن الرحيم قد أفلح المؤمنون الذ

نهم غير ال على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإ

ظون إ

فروجهم حاف

ين هم ل

فاعلون والذ

كاة لز

ين هم ل

اللغو معرضون والذ

عن

ظون )) هم يحاف

ين هم على صلوات

م راعون والذ

ههم وعهد

مانات

ين هم أل

ك هم العادون والذ

ك فأولئ

ابتغى وراء ذل

ملومين فمن

( المؤمنون 1/9 ) .ذكر صفات المؤمنين وصدر هذه الصفات بذكر الخشوع في الصالة واختتمها بذكر المحافظة على الصالة ، ألهمية هذه الشعيرة وقدسيتها ومكانتها.

وقد بين الحق سبحانه وتعالى في كتابه أن نصرة اهللا عز وجل من العبد الذي يستحق بها نصرة اهللا تبتدئ بإقام الصالة ،فقد

كاة الة وآتوا الز أقاموا الص

ي األرضناهم ف ن مك

ين إ

يز الذ

ن اهللا لقوي عز

قال عز وجل : ((ولينصرن اهللا من ينصره إ

بة األمور )) ( الحج 40/ 41 ) . عاق

المنكر وهللا ونهوا عن

وأمروا بالمعروف

وعندما وعد اهللا سبحانه وتعالى عباده المؤمنين باالستخالف والتمكين في األرض تال ذلك أمرهم بإقام الصالة فقد قال عز

نن لهم هم وليمكين من قبل

كما استخلف الذ

ي األرض

فنهم ف

ليستخل

حات

ال ين آمنوا منكم وعملوا الص

من قائل ((وعد اهللا الذ

ك هم الفاسقون ))ك فأولئ

ي ال يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذل

هم أمنا يعبدونن

خوف

ي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد

ينهم الذ

د

( النور /55 ) .

سول لعلكم ترحمون )) ( النور /56 ) ،وفي هذا إشارة إلى أن يعوا الركاة وأط الة وآتوا الز يموا الص

ثم اتبع ذلك قوله : ((وأق

هذا النصر الذي وعد اهللا سبحانه وتعالى به عباده المؤمنين إنما هو منوط بالمحافظة على الصالة أوال واإلتيان بها على الوجه المشروع . وكما أن اهللا سبحانه وتعالى يصدر صفات المتقين بإقام الصالة والمحافظة عليها فإنه يصدر صفات

هوات الة واتبعوا الش م خلف أضاعوا الص

هأضدادهم بتضييع الصالة ، فقد قال تعالى في الخلف السيء : (( فخلف من بعد

فسوف يلقون غيا )) ( مريم / 59 ) .

ي سقر )) وحكى إجابتهم بقوله وذكر اهللا سبحانه وتعالى أن المجرمين يسألون يوم القيامة عندما يصلون النار (( ما سلككم ف

ين )) حتى أتانا اليق

ين وكنا نكذب بيوم الدين

ض

ين وكنا نخوض مع الخائ

(( قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسك

( المدثر 42 / 47 ) ، وفي هذا ما يدل على أهمية هذه الصالة وخطورة التفريط فيها.

وأحاديث الرسول صلى اهللا عليه وسلم تدل على ذلك ،فقد جاء في حديث اإلمام الربيع من طريق عائشة رضي اهللا عنها أن النبي صلى اهللا عليه وسلم قال : (( لكل شيء عمود وعمود الدين الصالة وعمود الصالة الخشوع )) ، وجاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى اهللا عليه وسلم أنه قال : (( ليس بين العبد والكفر إال تركه الصالة )) وفي رواية أخرى (( بين

العبد والكفر ترك الصالة )) ويقول صلى اهللا عليه وسلم : (( العهد الذي بيننا وبينهم الصالة فمن تركها فقد كفر )) وجاء فيحديث أخرجه اإلمام أحمد من طريق عبد اهللا بن عمرو أن النبي صلى اهللا عليه وسلم ذكر يوما الصلوات الخمس فقال :

(( من حافظ عليها كن له يوم القيامة نورا وبرهانا ونجاة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا وال برهانا وال نجاة ، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي خلف )).

اح السنة مناسبة ذكر هؤالء األربعة دون غيرهم من الكفار ، وما هو سبب كون من ضيع الصالة مع هؤالء وقد ذكر شرفقالوا إن الذي يضيع الصالة إما أن يكون مشغوال عنها بملكه إذا كان ملكا ، و إما أن يكون مشغوال عنها بماله إن كان ذا مال ، وإما أن يكون مشغوال عنها بمنصبه إن كان ذا منصب ، وإما أن يكون مشغوال عنه بتجارته إن كان تاجرا فإن كان

ملكا وشغله عنها ملكه كان يوم القيامة مع أخيه فرعون ،وإن كان ذا مال وشغله عنها ماله كان يوم القيامة مع أخيه قارون ،وإن كان ذا منصب وشغله عنها منصبه كان يوم القيامة مع أخيه هامان الذي كان وزيرا لفرعون ، وإن كان صاحب تجارة

وشغلته عنه صالته كان يوم القيامة مع أبي بن خلف وهو أحد تجار قريش بمكة .

كل هذه اآليات وأمثالها ، وهذه األحاديث وأمثالها تؤكد أهمية الصالة في اإلسالم .

Page 12: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

أثر العبادة في اإلنسان (( أثر الصالة )) :

نتبين حكمة العبادة في بيان أسرار أمهاتها حسبما جاء في كتاب اهللا وفي سنة رسوله عليه أفضل الصالة والسالم ، فاهللا كري)) { طه / 14} ويقول

ذالة ل م الص

سبحانه وتعالى يقول عن الصالة التي هي مقدمة العبادات وأصل أصولها ((وأق

أكبر واهللا يعلم ما تصنعون )) {العنكبوت / 45} ، ويبين لناكر اهللا

الفحشاء والمنكر ولذ

الة تنهى عن ن الص

الة إ م الص

(( وأق

اهللا سبحانه وتعالى تأثير الصالة أثرا نفسيا عميقا بحيث تأتي على أمور غير محمودة جبل عليها اإلنسان فتجتثها وتبدلها بما ين

ال المصلين الذ

ه الخير منوعا إ ذا مس

ر جزوعا وإ ه الش ذا مس

ق هلوعا إ

نسان خل

ن اإل

هو خير منها ، يقول اهللا تعالى: (( إ

مون )) {المعارج 19 / 23}. هم دائ

هم على صالت

ثم يذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك ما يأتونه من أعمال ، التي هي من ثمار إقامة الصالة والمداومة عليها ، ثم يختتم سلسلة

ظون )) {المعارج / 34 }. هم يحاف

ين هم على صالت

هذه الصفات التي وصفهم بها بقوله سبحانه: (( والذ

وافتتاح صفات هؤالء الذين استثناهم اهللا سبحانه بالمداومة على الصالة واختتامها بالمحافظة على الصالة يدل على أن

المداومة على الصالة والمحافظة عليها كما شرع اهللا سبحانه سبب لحفظ األعمال الصالحة وبقائها على ما هي عليه بحيث ال تؤثر عليها نزغات الشيطان.

وهنا يعرض سؤال: كيف تكون الصالة بهذا القدر وهذه المكانة مع أن كثيرا من الناس يالزمون الصالة ولكن الصالة ال

تؤثر عليهم ، فهم كما وصفهم اهللا تعالى هلوعون ، منوعون ، ومتصفون بكل الصفات الخسيسة ، وال يترفعون عن الدنايا وال يجتنبون المنهيات ، فال يتورعون عن الخيانة والكذب والخداع ، وال يتورعون عن التحايل وال يتورعون عن أكل

أموال اليتامى وأكل مطلق أموال الناس بالظلم .. فكيف يقال مع ذلك إن الصالة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟

والجواب: إن الصالة المأمور بها هي الصالة ذات األثر النفسي البالغ وتلك الصالة هي التي يؤديها اإلنسان وقد استكملت بنيتها واستجمعت روحها ، فبنية الصالة هي هيئاتها الظاهرة التي يأتي بها اإلنسان واستكمال هذه البنية إنما يكون بعدم

اإلخالل بشيء منها .. وروح الصالة هو الخشوع ، ولذلك جعل اهللا سبحانه وتعالى الفالح للخاشعين في الصالة من عباده.

عون )) {المؤمنون/1 ، 2}. ويبين لنا اهللا سبحانه وتعالى هم خاش

ي صالت

ين هم ف

يقول اهللا عز وجل (( قد أفلح المؤمنون الذ

أن كثيرا من المصلين يأتون للصالة ولكن صالتهم ال تصدهم عما هم عليه من األعمال التي تنافي صالح النفس وصالح ي يدع

ك الذ

فذل

ي يكذب بالدين

المجتمع ، وذلك إذا ما كانوا ساهين عن الصالة ، يقول اهللا سبحانه وتعالى: (( أرأيت الذ

هم ساهون )) {الماعون: 1/5}. ين هم عن صالت

فويل للمصلين الذ

ين

يم وال يحض على طعام المسك

اليت

لقد كان سياق الكالم يقتضي أن يقول: فويل لهم ، ولكن بدال من أن يأتي بالضمير جاء باإلسم الظاهر ، وكان هذا اإلسم

الظاهر هو (المصلين) الذين هم عن صالتهم ساهون ألجل اإلشعار والتنبيه بأن السهو عن الصالة هو السبب فيما ذكره اهللا سبحانه وتعالى من التكذيب بالدين ودع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين إلى ما وراء ذلك ، ويدل على ذلك هذا الربط

بالفاء في قوله (( فويل )) والفاء تقتضي ربط ما بعدها بما قبلها.

كل ذلك يدل على أهمية الصالة ومكانتها وأثرها ، وعلى أن الصالة هي التي تأتي على تلك الصفات المذكورة في اآليات السابقة من سورة المعارج ومن سورة الماعون وفي غير ذلك من المواضع وهي صفات خسيسة جبل عليها اإلنسان فتجتثها

الصالة وتبدلها بما هو خير.

وعلى ذلك فالصلوات تختلف ، فليست كل صالة لها وزن عند اهللا تعالى ، ومن أحسن ما قيل في هذا قول أحد علماء اإلسالم وهو العالمة الكبير اإلمام محمد عبده فيما دونه عنه تلميذه السيد محمد رشيد رضا في تفسير (المنار) حيث قسم

الصالة إلى قسمين: عادة وعبادة.

Page 13: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

وقال: إن صالة كثير من الناس ال تتجاوز أن تكون عادة من العادات ، وذلك أنـك ترى أحدهم في شيخوخته إذا قام يصلي لمتختلف صالته عنه يوم كان طفال يحاول أن يقلد أباه في الصالة ، فهذه الصالة مجرد عادة من العادات .. أما الصالة التي

هي عبادة فتنقسم إلى قسمين: إلى روح وجسم.

فالجسم هذه األعمال الظاهرة التي يأتي بها المصلي من تالوة وتسبيح وسجود وقعود وقيام إلى غير ذلك من األعمال ، هذه األعمال ال تعدو أن تكون جسما للصـالة ، ولكن الجسم نفسه بدون روح ال حراك له وال يجدي شيئا ، وإنما روح الصالة

الخشوع كما في الحديث عن الرسول صلى اهللا عليه وسلم: ( إن لكل شيء عمودا ، وعمود الدين الصالة ، وعمود الصالة الخشوع ) ، فعمود الصالة الخشوع وهو اإلتيان بالصالة على وجهها المشروع مع استشعار عظمة الخالق الذي يتوجه إليه عون )) {المؤمنون/2-1} ،

هم خاش

ي صالت

ين هم ف

اإلنسان بهذه الصالة .. ولذلك يقول اهللا عز وجل: (( قد أفلح المؤمنون الذ

وهنا إذا كانت الصالة مستجمعة روحها تكون كل كلمة منها نابضة بمعنى حيوي مهم ، كل كلمة من كلماتها تؤثر أثرا نفسياعميقا. فالمصلي عندما يمثل أمام اهللا سبحانه وتعالى ينتقل من الحــل إلى اإلحرام بالتكبير وهو قوله اهللا أكبر.

فإذا ما أتى اإلنسان بهذه التكبيرة استشعر أن الكبرياء هللا سبحانه وتعالى وحده وأن كبرياءه سبحانه ال يمكن أن يكتـنـــه ،

هذه الكلمة تسكب معنى حساسا في نفس هذا المصلي إذا وعاها وأدرك مغزاها ، فهي تعني تفرد اهللا سبحانه وتعالى بالكبرياء ، ويعني ذلك أنه ال كبير إال اهللا ، وأن الناس متساوية أقدامهم بين يدي اهللا سبحانه وتعالى ال يتفاضلون بشيء إال

بقدر ما يتقربون به إلى اهللا سبحانه من التقوى وحسن العمل. وكما قلت ليس هناك فكر يمكن أن يدرك كنه كبرياء اهللا ، فأفكار البشر كلها قاصرة عن إدراك عظمة الحق سبحانه وتعالى ((ما قدروا اهللا حق قدره )) {الحج/74}.

فعظمة اهللا سبحانه وتعالى أجل وأكبر من تصورات عقول البشر وأفكارهم. فإذا ما أتى اإلنسان بالصالة على هذه الطريقة

وشعر عند تكبيرة اإلحرام أن الكبرياء هللا وحده تفاعلت في نفسه عوامل شتى بحيث يتلقى شعورا جديدا عندما يأتي بهذه الكلمة ، هذا الشعور يجعله إن كان مهانا في مجتمعه بسبب من األسباب ، من فقر أو ضعة في نسب أو أي سبب آخر فإنه يعتز بصلته باهللا سبحانه وتعالى الذي هو واقف بين يديه وخاشع له وراج لفضله وخائف من عقابه ، يعتز بهذه الصلة فال يرجو غير اهللا ، وال يخشى إال اهللا وال يتوكل إال على اهللا ، وال يحب من يحب إال في اهللا ، وال يكره من يكره إال في اهللا.

يعتــز بصلته باهللا عز وجل بسب إدراكه أن الكبرياء هللا فال يطأطئ رأسه إال هللا ، وال يحني ظهره إال لجالل اهللا ، وال يتعلقإال باهللا رجاء وخوفا وال تقربا بعمل من األعمال ، إنما يرجو من اهللا ويخشى من اهللا تعالى وحده ، فتتحرر رقبته من

الخضوع لغير اهللا سبحانه وتعالى .. هكذا تكون الصالة إذا جاء بها اإلنسان استشعر المعنى الذي يأتي بلفظه على لسانه.

وإذا كان المصلي بعكس ذلك كأن يكون من ذوي السلطة والمكانة في األرض ، أو أن يكون صاحب مال أو صاحب قوة منالقوى فإنه بمجرد ما يأتي بهذه التكبيرة يخشع ويتطامن ويدرك أن الكبرياء هللا سبحانه وتعالى ، فليس له أن ينازع الخالق

العظيم في كبريائه ، فاهللا سبحانه وتعالى وحده هو الكبير المتعال وجميع الناس هم أذلة بين يديه سبحانه ال فضل ألحدهم إالبقدر اإلقتراب من اهللا بالطاعة وحسن العمل ، واإلقتراب من اهللا ينافي التعالي على عباده ، فال يتعالى على أحد من خلق اهللابسبب ضعفه وهوانه وفقره وضعته بين الناس ، فليس له أن ينازع اهللا تعالى في كبريائه ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ومن نازعني فيهما أدخلته النار وال أبالي ) ، وعلى هذا اإلنسان أن ينظر أن ما آتاه اهللا سبحانه وتعالى مما يظنه كثير من

الناس ميزة له ورفعة لقدره ، إنما هو ابتالء من اهللا عز وجل واختبار له –وهو أعلم به- كيف يفعل فيما آتاه أيشكره أم يكفر ...

ومن ذلك نتبين أن تلفظ المصلي بتكبيرة اإلحرام تورثه خشوعا وخضوعا هللا سبحانه وتعالى وتواضعا لعباد اهللا ووقوفا عند

حدوده البشرية وعدم التطاول على الخلق.

Page 14: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

أثر االستعاذة والبسملة :

وإذا أراد المصلي أن يقرأ فاتحة الكتاب – بعد تكبيرة اإلحرام – استعاذ باهللا من الشيطان الرجيم ، فتذكره هذه اإلستعاذة بالحرب الضروس الدائرة بينه وبين الشيطان الرجيم ... هذه الحرب اشتعلت نارها وتأججت منذ أن أعلن الشيطان الرجيم التمرد والعصيان ألمر اهللا سبحانه وتعالى وأعلن العداوة لهذا اإلنسان ، فإنه قد أقسم بعزة اهللا ليضلن اإلنسان وليردينه في جهنم إال إن كان من عباد اهللا المخلصين ، وهذا يجعل اإلنسان يعد العدة في كل وقت لمكائد الشيطان ويقاومه كل ما حاول

أن يسوس له بشر ، ويقاوم جميع إغراءاته على اختالف أنوعها ... فاستعاذة هذا العبد باهللا سبحانه وتعالى من الشيطان الرجيم تعني اإللتجاء إلى اهللا تعالى خوفا من مكائد الشيطان ، هذا اإللتجاء يجب أال يكون قوليا فحسب ، بل يجب أن يكون قوال باللسان ، وعقيدة في القلب وعمال بالجوارح ، بحيث يكون حذرا متنبها لمكائد الشيطان ، مدركا خطورة وسائله التي

تؤدي بهذا اإلنسان إلى معصية اهللا تبارك وتعالى .

فإذا ما أتى البسملة وقال : بسم اهللا الرحمن الرحيم علم أن كل شيء ال يعتد به وال تكون له قيمة إال إذا كان هللا ، واستشعر أن هذا العمل الذي يقدم عليه إنما يقدم عليه بسم اهللا ، فيجب أن يكون خالصا هللا ال يشرك مع وجه اهللا سبحانه وتعالى وجه

أحد من خلقه وال يريد على هذا العمل ثناء أو شكورا من أحد من الناس .

معايشة المصلي لمعاني سورة الفاتحة :

فإذا تال المصلي قول الحق عز وجل (( الحمد هللا رب العالمين )) ( الفاتحة /2 ) شعر بعظم النعمة ، نعمة اهللا تعالى التي ال تصدر إال عنه إلى عبده ، فلذلك حصر الحمد في الرب وحده (( الحمد هللا )) كل حمد هللا ، ألن كل نعمة مصدرها من اهللا ، (( وما بكم من نعمة فمن اهللا )) ( النحل / 53) ، وكل تلك النعم تستوجب الشكر هللا تعالى ، والشكر إنما يكون باستخدامها فيما يرضي اهللا ال باستخدامها فيما يسخطه ، ونعم اهللا عظيمة كثيرة ال تحصى سواء ما كان منها بداخل اإلنسان أو ما كان حوله وسخرت لمصلحته ، والتي لو كانت خالياه ألسنة ناطقة ، ووقفت شاكرة مدى عمر هذا اإلنسان لم تؤد شكر نعمة من

هذه النعم .

وبجانب ذلك يشعر بعظمة الخالق عندما يتلو قوله (( رب العالمين )) .. ومعنى كونه (( رب العالمين )) أن كل شيء في هذا الكون مربوب هللا ، فهو سبحانه رب الكون بأسره ، رب كل المخلوقات ؛ فما من ذرة في هذا الكون إال وهي مربوبة له

سبحانه وتعالى وفي حاجة إليه عز وجل ، فلو تخلى عن هذا الكون أدنى من لحظة من اللحظات لهوى إلى حيث ال يعمله ه )) ( فاطر / 41 ) .

ن أمسكهما من أحد من بعد

ن زالتا إ

واألرض أن تزوال ولئ

ماوات إال اهللا (( اهللا يمسك الس

فكل ذرة في هذا الكون لو تخلى اهللا سبحانه وتعالى عنها أدنى من لحظة عين لما قر لتلك الذرة قرارا أبدا ، الكون كله

بحاجة إلى اهللا عز وجل ، واهللا هو المتفضل بتدبيره .فهذه األجرام الفلكية على اختالفها ، واختالف أبعادها ، وعلى اختالفأثقالها ، وعلى .. وعلى .. اهللا سبحانه وتعالى هو الذي ينظمها وهو الذي يسيرها وهو الذي يرعاها ، وال يخرج شيئا منها

عما يقتضيه أمر اهللا عز وجل ، وفي مثل هذا الموقف البد من أن يرجف القلب وترتعد الفرائض ويشعر العبد حيم )) يشعر بالسكينة والطمأنينة تسريان في نفسه ألن الر

حمـن باإلضطراب ..ولكنه عندما يتلو قوله سبحانه وتعالى (( الر

هذه الربوبية هي ربوية إحسان ورحمة بالعباد .

)) خرج من هذا العالم إلى عالم آخر ، خرج من العالم المادي إلى العالم يوم الدين

ك

وإذا تال قول اهللا عز وجل (( مـال

الروحاني ، واستشعر ذلك الموقف العظيم الذي يقفه الناس أمام رب العالمين ،استشعر ذلك اليوم الذي سيكون هو أحد الماثلين بين يدي اهللا وقد تخلى عنه كل ما أوتيه في هذه الدنيا من وجاهة وسلطان وعز وشرف ومال وبنين (( ولقد جئتمونا

وأبيه

وأمه

يه

ر المرء من أخ

لناكم وراء ظهوركم )) { االنعام / 94} (( يوم يف ا خو ة وتركتم م ل مر فرادى كما خلقناكم أو

)) { عبس 34/37 } فالملك يومئذ هللا ال يتطاول أحد من خلقه فيدعي شيئايه

ذ شأن يغن

نهم يومئ كل امرئ م

ليه

وبن

هوصاحبت

من الملك كما هو الشأن في الحياة الدنيا.

Page 15: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

وهذا يجعل هذا المصلي يحسب حسابه لذلك اليوم ويحاول أن يكون عمله خاضعا لمقاييس الحق التي أنزلها اهللا سبحانه وتعالى بحيث يكون عمله رصيدا له ينتفع به في ذلك اليوم .

ياك نستعين )) أي ال نعبد إال إياك ، استشعر وقوفه أمام عظمة اهللا ،

ياك نعبد وإ

وإذا تال قول الحق تبارك وتعالى (( إ

واستشعر جالل اهللا عز وجل الذي يحيط بكل شيء في هذا الكون أمام وجهه كأنما يناجي اهللا تعالى وهو يراه فإن لم يكن يراه فهو سبحانه وتعالى يراه .

واسشعر بالتحرر من العبادة لغير اهللا ومن الخضوع لغيره سبحانه وتعالى ، فالعبادة محصورة في اهللا الواحد األحد .

ياك نعبد )) ال ثم إن هذه العبادة داعية اجتماع وألفة بين الناس ، ولذلك وجهت إلى اهللا بصيغة جماعية ال بصيغة فردية (( إ

إياك أعبد ؛ وهذا ألن الدين اإلسالمي دين اجتماعي ، فالناس في ظل اإلسالم مطالبون بالوحدة والترابط والتآلف والمودة حتى في صلتهم باهللا سبحانه وتعالى هم مجتمعون ؛ ولذلك شرعت صالة الجماعة كما شرعت صالة الجمعة .. وفي هذا ما

يشير إلى وجوب صالة الجماعة على الناس ، وذلك الذي تقتضيه األدلة فإن صالة الجماعة واجبة على األعيان على الصحيح ؛ يعني أنها ليست واجبا كفائيا بل هي واجب عيني يحاسب كل إنسان عليه إن تهاون به بداللة أدلة كثيرة من

الكتاب والسنة ليس هذا مجال بسطها وإنما نذكر بعضها ؛ فمن تلك األدلة قول الحق تبارك وتعالى : (( واركعوا مع عين )) ( البقرة / 43 ) ، وليس معنى ذلك إال أن نؤدي الصالة في جماعة . ومنها قوله تعالى (( يوم يكشف عن ساق

اك الر

مون )) ( القلم 42 / وهم سال

جود لى الس

لة وقد كانوا يدعون إ

عة أبصارهم ترهقهم ذ

يعون خاش

فال يستط

جود لى الس

ويدعون إ

43 ) .هذه اآلية يقول فيها غير واحد من أئمة التابعين بأنها نزلت في المتخلفين عن صالة الجماعة من هذه األمة ، كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون يسمعون قول المؤذن حي على الصالة .. حي على الفالح وهم الهون سادرون في غيهم

غير مبالين بهذا النداء وما يستوجبه من اإلسراع إلى تلبيته.

وجاء في األحاديث الكثيرة ما يؤكد هذا المعنى ، من ذلك قول الرسول عليه أفضل الصالة والسالم في حديث صحيح ( من سمع النداء إلى الصالة فلم يجب فال صالة له إال من عذر ، قيل وما العذر يا رسول اهللا ، قال : خوف أو مرض ) وفي

رواية أخرى ( من سمع النداء إلى الصالة فلم يجب لم يقبل اهللا منه الصالة التي صلى ) يعني في بيته.

ونحن مع كثرة البحث لم نجد عن أحد من صحابة رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم قوال يدل على الترخيص في عدم إقامة صالة الجماعة ألحد غير معذور بل وجدنا عنهم ما يؤكد أنهم كانوا يحرصون على إقامة الصالة في جماعة ويحرصون

أيضا على نشر رأيهم وهو أن صالة الجماعة واجبة على األعيان ( أي على األفراد ) ولوال مخافة اإلطالة لسردت بعض تلك اآلثار ؛ ولعلنا قد فصلنا الحديث عنها في مواضيع أخرى متعددة بإمكان مريدها الحصول عليها.

ياك نستعين )) حصر لإلستعانة باهللا تعالى كحصر العبادة في اهللا , وفي هذا ما يشعر العبد بوجوب

وفي قوله تعالى (( وإ

التحرر من الخضوع لإلوهام فال يتعلق بغير اهللا ألن اإلستعانة ال تكون إال باهللا سبحانه وتعالى ؛ وعليه فال تصح اإلستعانة فيما لم يجعل اهللا سبيال للبشر إليه باهللا سبحانه وتعالى ، فال يتعلق اإلنسان باألشجار وال باألحجار وال العيون وال األنهار

وال بالقبور ول بأي شيء إنما يتعلق باهللا سبحانه وتعالى ، ألنه يعلم أن أهل السموات واألرض لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعونه إال بشيء قضاه اهللا تعالى له ، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إال بشيء قضاه اهللا تعالى

عليه .. فما لإلنسان والتعلق بمن ال يملك لنفسه نفعا وال ضرا .

نفسي ك ل

لقد قال اهللا عز وجل لنبيه صلى اهللا عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأكرم الخلق وأعلى الناس منزلة: (( قل ال أمل

وء )) { األعراف / 188 } . ي السن ال ما شاء اهللا ولو كنت أعلم الغيب الستكثرت من الخير وما مس

ا إ نفعا وال ضر

هذا مع النبي صلى اهللا عليه وسلم في ذلك الوقت كان حيا ملء ثيابه يتحدث ويذهي ويجيء ويتحرك ، فكيف بغير النبي

صلى اهللا عليه وسلم ، وكيف باألموات الذين الحراك لهم وال يملك أحدهم أن يجلب لنفسه نفعا وال أن يدفع عنها ضرا فكيفبغيره .. وكيف باألحجار وكيف باألشجار وكيف بالعيون واألنهار ، فكل هذه األشياء جمادات أنى لها أن تجدي اإلنسان

نفعا أو تدفع عنه ضرا .... ( إذا سألت فاسأل اهللا وإذا استعنت فاستعن باهللا ) .....

Page 16: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

على العبد أن يستعين باهللا سبحانه وتعالى وحده ، وأن يرجو من اهللا ، وأن يخشى من اهللا وحده ، وال يتعلق إال باهللا سبحانه وتعالى وحده . ومن جانب آخر فليس ألحد أن يستعين بأحد في شيء ليس له سبيل إليه ، وإنما هو من أفعال اهللا تعالى وحده، فليس ألحد أن يستعين بأحد في طلب مولود ، أو في طلب مال أو في طلب سعادة ، أو في شيء من هذه األشياء ألن هذه األشياء ال يقدر عليها إال اهللا ، فال يقدر أن يرزقك ولدا ، وال أن يجعلك غنيا وال يجعلك سعيدا إال اهللا ... وال يقدر أن يهبك الذكاء إال اهللا وال يقدر أن يدفع عنك البالء إال اهللا ، وال أن يرفع عنك المرض إال اهللا .. هذه األمور كلها ليست في مقدور

البشر فاستعانة اإلنسان فيها بغير اهللا تعالى يعني ذلك إشراكا لغير اهللا تعالى فيما هو من اختصاص اهللا ، فليس ألحد أن يشارك أحدا مع ربه في االستعانة به فيما لم يجعل اهللا تعالى ألحد سلطانا عليه ، كما أنه ليس له أن يشرك أحدا في عبادته ياك نستعين )) .ولو سأل سائل ما بال الناس يستعين بعضهم

ياك نعبد وإ

تبارك وتعالى ، والدليل على ذلك هذا العرض (( إ

ببعض في أمور شتى ؟!

والجواب عن ذلك : أن تلك األمور جعل اهللا التعاون فيها من سنن الكون ومن نواميس الحياة .. كأن يستعين أحد بغيره فيما يقدر عليه من قضاء حاجاته ؛ كاستعانته به في رفع حمل ثقيل ينوء به وحده ، أو أن يطالب منه عونا على قضاء دينه

باقتراض من ماله ، أو يستعين بجاهه في مخاطبة شخصا آخر له إليه حاجة يرجو قضاءها .. هذه أمور جعل اهللا تعالى التعاون فيها من نواميس الكون ومن سنن الحياة .

أما أن يقول أحد لغيره من البشر ارزقني ماال ، أو اجعلني من السعداء أو اجعلني من األذكياء ، أو ارزقني ذرية أو نحو ذلك من األمور التي لم يجعل اهللا تعالى ألحد سلطانا عليها فذلك من الشركيات والعياذ باهللا .

وإذا كان هذا في اإلنسان الحي المتكلم الواعي البصير فما بالكم باالستعانة باألموات أو االستعانة باألحجار أو االستعانة بالعيون واألنهار ... هذه األشياء كلها ال تصح االستعانة بها ألنها ال تملك لإلنسان نفعا وال ضرا .وتفشي ظاهرة طلب

قضاء الحاجات من هذه األشياء دليل على ضالل العقول وانحراف الفطرة ، وقد كان ذلك من سمات الجاهلية الحمقاء التي جاء اإلسالم الحنيف الستئصالها. وقد صدق النبي الكريم عليه أفضل الصالة والسالم حيث قال : (( لتتبعن سـنن من قبلكم

شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) قالوا : أهم اليهود والنصارى يا رسول اهللا ؟ قال : (( فمن )) ؟! يعني من غيرهم .

ين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وال

يم صراط الذ

راط المستق نـا الص

ثم إذا تال المصلي بعد ذلك قول اهللا سبحانه (( اهد

الين )) .. شعر أنه أمام طريقين : طريق هدى وطريق ضالل ، طريق حق وطريق باطل .. طريق موصل إلى الرحمن الضوطريق موصل إلى الشيطان .. وبطبيعة الحال يحرص على سلوك طريق الحق والهدى الموصل إلى رضوان اهللا سبحانه

وتعالى مادام استشعر خوف اهللا وعلم كبرياء اهللا وجالل اهللا وعزة اهللا ونعمة اهللا عليه ، وأن مرجعه إلى اهللا عز وجل .ويعني ذلك مجانبة مسالك أهل الفساد والبعد عن طرق الضالل لئال يكون من المغضوب عليهم والضالين .

وهكذا شأن كل ما يتلوه المصلي أو يسمعه من إمامه من آي الذكر الحكيم أو ما يأتي به من أذكار الصالة من تكبير وتسبيح

وتعظيم وسائر األقوال واألعمال فإنها جميعا تغرس في النفس روح اإليمان والفضيلة والتقوى ، فإذا خرج المصلي من صالته خرج وقلبه مليء باإليما ن باهللا واليوم اآلخر وبحب اهللا وحب رسوله صلى اهللا عليه وسلم وسائر عباده الصالحين ،

وتطهر قلبه من أكدار الحياة وصفيت نفسه من شوائب الطبع وغدا عضوا فعاال في مجتمعه وأمته .

ولكن للحياة أثر في اإلنسان ، فاختالطه بالناس الذين قل من يذكره منهم باهللا سبحانه وتعالى يؤثر عليه ، والحرص على مصالح الدنيا يؤثر فيه ، فتتأثر نفسيته بذلك ، غير أن ذلك التأثر ال يكاد يتعمق في نفسه إال ويسمع المؤذن يناديه من جديد ليجدد صلته باهللا سبحانه وتعالى وليرد في هذا الطهور الرباني ليخرج منه نظيفا مرة أخرى ، فيذهب إلى المسجد ويتطهر

من أدرانه مرة ثانية ، وهكذا يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات ، وهذا معنى قوله عليه أفضل الصالة والسالم : (( أرايتم لو أن على باب أحدكم نهرا جاريا غمرا ينغمس فيه في كل يوم وليلة خمس مرات .أيبقى من درنه شيء ، قالوا : ال يا

رسول اهللا ، قال : فذلكم مثل الصلوات الخمس )) .

Page 17: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

فالصلوات الخمس هي التي تنقي باطن اإلنسان وتصفي روحه وقلبه وعقله ومشاعره ووجدانه وفكره فيخرج نظيفا ، والنهرإنما يصفي ظاهر البدن ولكن أراد النبي صلى اهللا عليه وسلم أن يضرب مثال للناس باألشياء المحسوسة المعهودة عندهم

تقريبا إلى األذهان كما هي سنة اهللا تعالى في ضرب األمثال ألجل التقريب لألفهام .

ذلكم هو أثر الصالة النفسي ، وبطبيعة الحال ينتقل هذا األثر من النفس إلى المجتمع إذا ما كان الناس كلهم يؤدون الصالة على الطريقة المشروعة التي أمر اهللا تعالى أن تؤدى بها.

أثر العبادات األخرى على اإلنسان (أثر الزكاة) :

وبقية العبادات آثار كبيرة في نفس اإلنسان ، ومن تلك العبادات العظيمة األثر في نفس اإلنسان وفي حياته ( الزكاة ) وهي الركن المالي اإلجتماعي في اإلسالم ، فإن هذه الزكاة ذات أثر نفسي عميق على المزكي وعلى المتصدق عليه ، وذلك أن

حب نه ل

ا )) { الفجر / 20 } (( وإ اهللا جعلها تطهيرا لنفس البشرية التي جـبلت على حب المال (( وتحبون المال حبا جم

يد )) { العاديات / 8 } ، فاإلنسان من شأنه أن يحب اإلستكثار من المال فهي رغبة فطرية في نفسه ، وهذه الخير لشد

الرغبة إذا استحكمت في النفس عادت طبيعة خطيرة يتعذر استئصالها ويتعسر عالجها ، لذلك جعل اهللا سبحانه وتعالى في الزكاة العالج النفسي الناجع ، والتطهير الذي ال يبقى معه شح عن أداء حق اهللا وحق عباده .. فالمزكي بهذه الصدقة يطفيء

سعار حب المال في نفسه الذي هو داء مستطير ال تكاد تسلم منه نفس ، ولذلك يحتاج إلى العالج بمثل هذه النفقات التي شرعها اهللا سبحانه وتعالى ..

ولو أهمل اإلنسان عالج هذا الداء الستفحل وأدى استفحاله إلى استعصاء العالج وتعذر استئصاله بحيث يكون طبيعة من

طبائع النفس ال يمكن لإلنسان أن ينفك عنها ، فلذلك أمر اهللا تعالى األغنياء أن يخرجوا من أموالهم حقا معلوما للفقراء هم صدقة

ليطهروا بذلك نفوسهم من أسر هذا الداء العضال ، ويشير إلى ذلك قول اهللا سبحانه وتعالى (( خذ من أموال

يهم بها )) { التوبة / 103 } ، لم يقل الحق سبحانه تطهر مالهم ، وإنما تطهرهم ، ذلك ألن اإلنسان تتتطهر رهم وتزك تطهنفسه بهذه الزكاة وتزكو وإن كان في الزكاة تطهير للمال وتنمية له بإخراج حق اهللا تعالى وحق عباده ..

فالزكاة كما هو معلوم مأخوذة من زكا الشيء يزكوا بمعنى (( نما )) وذلك بما جعل اهللا فيها من نماء الخيرات ، أو أنها مأخوذة من زكا بمعنى ( طـهـر ) فهي تزكية للنفس وتطهير لها . واهللا سبحانه وتعالى اقتضت حكمته في خلقه للبشر أن

يكونوا متفاوتين في مواهبهم الكسبية كما يتفاوتون في مواهبهم الفطرية ، فالناس متفاوتون في المال تفاوتهم في قوى األبدانوالعقول واألفكار .. فالناس متفاوتون في الغنى ..وذو الفقر بحاجة إلى ما جعله اهللا سبحانه وتعالى بأيدي األغنياء بإخراج زكاة أموالهم ، ليكون هذا القدر الذي يخرجه الغني للفقير حقا واجبا عليه .. وإال لو شاء اهللا عز وجل ألغنى الكل ، وعلى

ذلك فالناس كل أحد منهم بحاجة إلى اآلخر حتى تكون الحياة – حياة الناس – حياة إجتماعية مدنية مترابطة ليست حياة مفككة كحياة البهائم.

وشأن اإلنسان إذا أرسل لنفسه العنان لكسب المال أال يبالي من أي طريق يكتسبه ولو أدى ذلك إلى القضاء على حياة

اآلخرين ، وألجل ذلك تجدون اللصوص وقطاع الطرق ومن على شاكلتهم ال يبالون بسفك الدماء ألجل الحصول على المالألن شهوة المال هي التي دفعتهم إلى ذلك عندما استحكمت في نفوسهم ، وقد يستعجل الولد موت والده فيسقيه السم الزعاف

، ويفعل ذلك القريب بقريبه حتى يستولي على تركته .. هذا كله من أثر شهوة المال ، فعالج هذه الشهوة بما شرع اهللا سبحانه وتعالى من اإلنفاق والبذل ، فإذا اعتاد اإلنسان اإلنفاق حـبب إليه هذا اإلنفاق ، ولذلك جعل اهللا سبحانه وتعالى من

اإلنفاق ما هو منظم بحيث يقوم به العبد في كل عام ، ومنه ما هو موكل إلى النظر في حاجات الناس كسائر النفقات المشروعة في اإلسالم .

Page 18: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

أثر الصوم على اإلنسان

ين آمنوا والصوم أيضا له أثر كبير في نفس الصائم ، واهللا تبارك وتعالى يبين لنا حكمة الصيام في قوله عز وجل : (( يا أيها الذ

كم لعلكم تتقون )) {البقرة/183}. أي لتتقوا ، فالصوم المطلوب من العبد هو ين من قبل

ب على الذ

يام كما كت ب عليكم الص

كت

الصوم الذي يروض به نفسه على األعمال الصالحة واجتناب السيئات فيحمل الصائم نفسه على تقوى اهللا عز وجل وذلك إذا ما أدى الصوم على الطريق المشروع ، فإن الصوم ليس هو مجرد الكف عن األكل والشرب ومباشرة النساء فحسب ، بل أمر

الصوم أكبر من ذلك ، ذلك ألن الصوم المطلوب هو بجانب ما ذكر ضبط النفس وقيد الجوارح عن جميع األعمال السيئة ،ولذلكجاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه اإلمام البخاري عن أبي هريرة رضي اهللا عنه أن النبي صلى اهللا عليه وسلم قال : " من

لم يدع قول الزور والعمل به فليس هللا حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " ، وهذا الكالم ال يخرج إال مخرج التهديد والوعيد. واخرج اإلمام الربيع من طريق ابن عباس رضي اهللا عنهما أن النبي عليه أفضل الصالة والسالم قال: " ال إيمان لمن ال صالة

له ، و ال صالة لمن ال وضوء له ، وال صوم إال بالكف عن محارم اهللا " .

فالذي يصوم عن الطعام والشراب ولكنه مع ذلك ال يتورع عن الولوغ بلسانه في أعراض الناس ليس صيامه بشيء ، وكذلك الذي يقضي سحابة نهاره في معامالت الربا ويخادع الناس ويماطلهم ويتحايل على أموالهم ليس صيامه من عبادة اهللا تعالى في

شيء ، إنما حظه من الصيام الجوع والعطش فحسب.

والذي يتكبر على الناس ويستعلي عليهم ويظن أنه أرفع منهم قدرا ، وأعظمهم شأنا وأولى منهم باإلحترام والتقدير هو أيضا ليسصيامه في شيء من عبادة اهللا ، ألنه خرج عن حقيقة العبادة المطلوبة.

والذي ال يؤدي حق والديه ، ويتنطع عليهما ويؤذيهما بلسانه وبفعله ليس صيامه مقبوال عند اهللا سبحانه و تعالى ، والذي يقطع أرحامه ويسيء الجوار ليس صيامه مقبوال عند اهللا تعالى .. وال يقف أمر الصوم عند هذا الحد ، بل الصوم مدرسة خلقية يتعلم

فيها اإلنسان األدب اإلنساني الرفيع .. كيف يتعامل مع اآلخرين ؟!

فالصوم يفرض على الصائم أن يتحمل األذى من اآلخرين وليس مجرد كف األذى عنهم ، فالنبي صلى اهللا عليه وسلم يقول : " الصوم جـنـــة فإذا كان يوم صوم أحدكم فال يرفث وال يجهل فإن أحدا سابه أو قاتله فليقل إني صائم " ، ما أبلغ هذا األدب

الرباني الذي يؤدب به النبي صلى اهللا عليه وسلم أمته من خالل هذه الفريضة .. فريضة الصيام ، فإنه صلى اهللا عليه وسلم يأمرالصائم باحتمال أذى الغير وال يجيز له رد اإلساءة بمثلها فإذا تعرض لشيء من األذى من الغير سواء كان قوال أم فعال فعليه أن

يقول ( إني صائم ) : تذكيرا لنفسه بعبادة الصوم وقدسيتها وأنها تتنافى مع إرادة التشفي واإلنتقام ومع مقابلة اإلساءة بمثلها ، وتذكيرا لذلك الذي أساء إليه بأنه أيضا في حال صيام وأن صيامه يتنافى مع ما جاء به من اإليذاء ألخيه فعليه أن يكف أذاه وإال

فإن صيامه ليس مقبوال عند اهللا تعالى ، فإذا كان ذلك الغير مؤمنا استشعر الخطأ وثاب إلى رشده وأقلع عن غيه واستغفر ربه وأرضى صاحبه ، وإن لم يكن كذلك ففي هذا الجواب وهو قوله : ( إني صائم ). دعوة له إلى الخير ألن ملتنا اإلسالمية هي هذهوأدبنا اإلسالمي يفرض علينا بأن نتحمل األذى من اآلخرين بجانب كفنا األذى عنهم .. فإذا عود اإلنسان نفسه هذا األدب وهذا

الخلق الكريم مع ضبط النفس وكف الجوارح عن محارم اهللا من المعاصي الظاهرة والباطنة في خالل شهر من شهور العام هانعليه ذلك في سائر العام ..

فما أعظم هذا التأديب الذي يؤدب به اهللا تبارك وتعالى عباده على لسان رسوله صلى اهللا عليه وسلم من خالل فريضة الصوم ..رن الصائم

ولقد جاء في رواية عن أنس رضي اهللا عنه عن النبي صلى اهللا عليه وسلم أنه قال : " خمس ينقضن الوضوء ويفط

يبة والنميمة واليمين الغموس والكذب والنظر بشهوة " ، هذه األفعال تهدم األعمال الصالحة هدما ويهدمن األعمال هدما : الغ

وتقضي على الصوم وتنقض الوضوء ، وهناك األدلة الكثيرة من سنة رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم على أن الصوم هو طهارةنفسية يجب على اإلنسان أن يغتنمها ، وبجانب ذلك فإن الصوم يذكر األغنياء الذين بسط اهللا تبارك وتعالى لهم من فضله وأفاء

عليهم من نعمه فهم يعيشون في رغد العيش وطيبه طوال أيام السنة .. يعيشون تحت الظل والتكييف المريح صيفا وشتاء ويتناولون أفضل أنواع األطعمة وأشهاها .. ففي حال صيامهم شهرا في السنة وشعورهم بالحاجة إلى الطعام والشراب وترقبهم

لوقت األفطار بلهفة وحرارة يتذكرون في هذه الحالة حاجة الفقراء وحالتهم الذين يعيشون طوال العام ال يتناولون من الطعام إال .

Page 19: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

ما يفضل غيرهم أو ما يسد ضرورات أجسامهم على أحسن األحوال .. يتذكرون ذلك الفقير الذي ال مأوى له يقيه لهيب الشمس وشدة الحر في الصيف ، وقساوة البرد وعنته في الشتاء.

يتذكرون ذلك الفقير الذي يضطر للعمل ليال ونهارا ليحصل على قوت يومه فيدفعهم ذلك كله إلى اإلحسان إليه وإلى أمثاله فيسدون حاجتهم ويرضون أنفسهم .. وهكذا يعيش المجتمع اإلسالمي في تعاون وتكافل يشعر غنيهم بفقيرهم ويعين قويهم ضعيفهم فتتحقق حكم الصوم وغيره من العبادات ، وكم هي الحكم العظيمة والمنافع الجليلة التي يجنيها المسلم العابد لربه

حق العبادة ، المتقي لخالقه حق التقوى

أثـــــر الحـــــــج :

لقد ذكر اهللا سبحانه وتعالى الحج في كتابه العزيز مقرونا بالتقوى في أكثر من موضع .. فاهللا سبحانه وتعالى يقول : (( وأتموا الحج والعمرة هللا .. )) إلى أن قال (( .. واتقوا اهللا واعلموا أن اهللا شديد العقاب )) ( البقرة/196). ويقول سبحانه

ي الحج وما تفعلوا من خير يعلمه اهللا يهن الحج فال رفث وال فسوق وال جدال ف

علومات فمن فرض ف (( الحج أشهر م

ي األلباب )) (البقرة/197). يا أول

التقوى واتقون

اد ن خير الز

دوا فإ وتزو

اتقى واتقوا من

لثم عليه

ر فال إ ومن تأخ

ثم عليه

فال إ

ي يومين

ل ف عدودات فمن تعج ي أيام م

ويقول عز وجل ((واذكروا اهللا ف

نها فإ

ر اهللام شعائ تحشرون )) (البقرة/203). ويقول سبحانه وتعالى في أحكام الحج أيضا (( ومن يعظ

ليه

اهللا واعلموا أنكم إ

من تقوى القلوب )) (الحج/32).

فإذا الحج نستفيد منه التقوى كما نستفيد من سائر العبادات ، ذلك ألن حج بيت اهللا الحرام يبدأ باإلحرام ، وذلك هو توديع للحياة السابقة وقلب لصفحاتها إلى ناحية أخرى ؛ تحول من الضالل إلى الهدى ومن الغي إلى الرشد ومن الباطل إلى الحق

ومن المعصية إلى الطاعة ومن التنافر إلى التآلف .. فالحجاج يهجرون بلدانهم وهم يغادرون في هذه الهجرة المعاصي والمفاسد والعادات السيئة ، فهم ينتقلون بأرواحهم قبل أن ينتقلوا بأبدانهم ، وما اجتماع الحجيج في صعيد واحد وعلى زي

واحد قد تجرد كل منهم في ثوبين ، وترك وراء ظهره زيه الخاص الذي يميزه عن غيره إال مظهر من مظاهر هذا التحول الذي يدعو إلى الوحدة والترابط بين هذه األمة بحيث ال يفضــل أبيضها على أسودها وال غنيها على فقيرها وال قويها على ضعيفها وال حاكمها على محكومها ، وإنما الكل عباد هللا سبحانه وتعالى يلتقون في ظل عبادته تعالى ليقولوا بصوت واحد (( لبيك اللهم لبيك ، لبيك ال شريك لك لبيك )) .. فتتجسد المساواة اإلنسانية في اإلسالم في تلك الرحاب المقدسة ، فالناس

كلهم متساوية هناك أقدامهم أمام اهللا سبحانه وتعالى.

وبجانب ذلك فإن الحاج يتزود طاقة روحانية عندما يقف في تلك المشاهد العظام ويتذكر ذلك التاريخ العظيم الذي مر بها فمامن شبر في تلك األرض الطاهرة إال وهو سجل حافل بتاريخ مجيد.

فعندما يطوف المسلم بالبيت الحرام يتذكر مشاعر النبـيين الصالحين إبراهيم وإسماعيل عليهما السالم عندما كانا يرفعان

أركان هذا البيت العتيق وهما ينظرا نظرة المؤمن الموصول باهللا سبحانه وتعالى إلى المستقبل البعيد ، فكانا يرددان ما حكاهاب نك أنت التو

مة لك وأرنا مناسكنا وتب علينآ إ

سل ة م نا أم

يت لك ومن ذر

مين

اهللا سبحانه وتعالى عنهما ((ربنا واجعلنا مسل

يم )) (البقرة يز الحك

نك أنت العز

يهم إ تاب والحكمة ويزك

ك ويعلمهم الك

نهم يتلو عليهم آيات يهم رسوال م

حيم ربنا وابعث ف الر

.(127/128

كذلك يستشعر الحاج أيضا بعثة ذلك الرسول الخاتم عليه أفضل الصالة وأزكى التسليم الذي جعله اهللا تبارك وتعالى إجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السالم ، ويتذكر جهاده في اهللا وصدوعه بالحق في تلك العراص الطاهرة بين ضجيج

الجاهلية وتحديات الكفار المتكاثرة حتى ظهر أمر اهللا عز وجل ووصل إلينا هذا الدين الحنيف.

وعندما يأتي الحاج إلى الصفا يتذكر الوقفة التي وقفها الرسول صلى اهللا عليه وسلم في ذلك المكان ليعلن دعوة الحق بعدما أنزل اهللا سبحانه وتعالى عليه قوله ((وأنذر عشيرتك األقربين )) (الشعراء/214) ، فصعد النبي صلى اهللا عليه وسلم الصفا

ونادى في قريش (واصباحاه) وكانت هذه الكلمة ال تقال عند العرب إال إذا ألم بقائلها أمر فادح عظيم.

Page 20: الخليلي - العبادة وأثرها في حياة المسلم

فقالت قريش: إن بالرجل ألمرا فأسرعت إليه من كل حدب وصوب ، فلما اجتمعوا بين يديه قال لهم : (أرأيتم أن لو أخبرتكمأن خيال وراء هذا الجبل مغيرة عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا له: ما جربنا عليك كذبا. فقال لهم رسول اهللا صلى اهللا عليه

وسلم: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). فقال له أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟! فأنزل اهللا السورة المعروفة التي تحمل وعيدا شديدا ألبي لهب.

ولقي الرسول صلى اهللا عليه وسلم ما لقي بعد ذلك من العنت والمتاعب في سبيل هذه الدعوة وإبالغها للعالمين .. ويتذكر الحاج أيضا في تلك الرحاب الطاهرة المواقف العظيمة التي وقفها صحابة رسول صلى اهللا عليه وسلم ورضي اهللا تعالى

عنهم ، ذلكم الجيل الفريد في تاريخ البشرية ؛ الذين وقفوا مع قدوتهم وإمامهم خاتم األنبياء والمرسلين وقفة صادقة مخلصة ضحوا فيها بكل غال ونفيس في سبيل اهللا تعالى ورفع راية التوحيد وإنقاذ البشرية من ويالت الجاهلية وضالالتها ، وقد

القوا العنت والشدائد المختلفة من زعماء الكفر الذين لم يتهاونوا معهم بل ابتكروا أصنافا شتى من وسائل اإلضطهاد ولتعذيب فصبر أولئك الصحب الكرام وصدقوا ما عاهدوا اهللا عليه ، وبلغوا مع المصطفى عليه السالم الرسالة وأدوا األمانة

رضي اهللا تعالى عنهم وأرضاهم.

وهكذا يتزود الحاج طاقة إيمانية روحانية إيمانية من هناك وترتبط حلقات أجيال هذه األمة جيال بعد جيل متسلسلة في سلسلةواحدة كما ترتبط فئات هذه األمة المعاصرة على اختالف ألوانها وألسنتها ولغاتها ولهجاتها وعاداتها وبلدانها وأماكنها ،

ترتبط كلها برباط اإليمان عندما تلتقي في ظالل البيت الحرام.

الخــاتــمـــــة :

هذه هي أمهات العبادات المشروعة في اإلسالم ، وهذه هي جوانب من أسرارها ، وما هي إال جوانب سطحية تحدثنا عنها وإال فعمق العبادات وأسرارها مما ال يمكن لمثلي أن يحيط به وأن يدرك أبعاده ، فإن العبادات لها مغازي ولها أبعاد عميقة وعلينا ان نستلهم هذه األبعاد من خالل تأملنا لطبيعة هذه العبادات ، ومن مواظبة التفكر النظر والتفكر في كتاب اهللا وحكمه

وأحكامه.

ويجدر بنا أن نحاسب أنفسنا ونزن أعمالنا جميعها بموازين التقوى ، وعلينا أن نجعل عبادتنا خالصة لوجه اهللا سبحانه وتعالى ، حتى نبلغ بذلك درجات المتقين.

اسأل اهللا عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، اللهم إنا نسألك االخالص في القول والعمل ، ونسألك الخالص في الدنيا واآلخرة ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، واجعل

الموت راحة لنا من كل شر ، وال حول وال قوة إال بك ، سبحانك نستغفرك ونتوب إليك ، ونعول في إجابة دعائنا عليك ، ونشهد أن ال إله إال أنت وحدك ال شريك لك ، ونشهد أن محمدا عبدك ورسولك.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وارض عنا أجمعين يا رب

العالمين ، وأدخلنا في رحمتك يا أرحم الراحمين.

والسالم عليكم ورحمة اهللا وبركاته.